ذكر مقتل خالد بن جعفر بن كلاب

مقتل خالد بن جعفر وسببه: قتله الحارث بن ظالم المري. قال أبو عبيدة: كان الذي هاج من الأمر بين الحارث بن ظالم وخالد بن جعفر أن خالد بن جعفر أغار على رهط الحارث بن ظالم من بني يربوع بن غيظ ابن مرة وهم في وادٍ يقال له حراض، فقتل الرجال حتى أسرع ، والحارث يومئذٍ غلام، وبقيت النساء. وزعموا أن ظالماً هلك في تلك الوقعة من جراحةٍ أصابته يومئذٍ. وكانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم، فلما بقين بغير رجال طفقن يدعون الحارث، فيشد عصاب الناقة ثم يحلبنها، ويبكين رجالهن ويبكي الحارث معهن، فنشأ على بغض خالد. وأردف ذلك قتل خالدٍ زهير بن جذيمة؛ فاستحق العداوة في غطفان. فقال خالد بن جعفر في تلك الواقعة:

تركت نساء يربوع بن غـيظٍ

 

أرامل يشتكـين إلـى ولـيد

يقلن لحارثٍ جزعـاً عـلـيه

 

لك الخيرات مالك لا تسـود

تركت بني جذيمة في مكـرٍ

 

ونصراً قد تركت لدى الشهود

ومني سوف تأتي قـارعـات

 

تبيد المخـزيات ولا تـبـيد

وقيس ابن المعارك غادرتـه

 

قناتي في فوارس كالأسـود

وحلت بركها ببني جـحـاشٍ

 

وقد مدوا إليها مـن بـعـيد

وحي بني سـبـيعٍ يوم سـاقٍ

 

تركناهـم كـجـارية وبـيد

قال أبو عبيدة: فمكث خالد بن جعفر برهة من دهره، حتى كان من أمره وأمر زهير بن جذيمة ما كان، وخالد يومئذٍ رأس هوازن. فلما استحق عداوة عبسٍ وذبيان أتى النعمان بن المنذر ملك الحيرة لينظر ما قدره عنده، وأتاه بفرس؛ فألفى عنده الحارث بن ظالمٍ قد أهدى له فرساً فقال: أبيت اللعن، نعم صباحك، وأهلي فداؤك! هذا فرس من خيل بني مرة ، فلن تؤتى بفرسٍ يشق غباره، إن لم تنسبه انتسب، كنت ارتبطته لغزو بني عامر بن صعصعة؛ فلما أكرمت خالداً أهديته إليك. وقام الربيع بن زياد العبسي فقال: أبيت اللعن! نعم صباحك، وأهلي فداؤك! هذا فرس من خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنةً لم يخفق في غزوةٍ ولم يعتلك في سفرٍ، وفضله على هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم. قال: فغضب النعمان عند ذلك وقال: يا معشر قيس، أرى خيلكم أشباهاً ! أين اللواتي كأن أذنابها شقاق أعلامٍ وكأن مناخرها وجار الضباع، وكأن عيونها بغايا النساء، رقاق المستطعم تعالك اللجم في أشداقها، تدور على مذاودها كأنما يقضمن حصى. قال خالد: زعم الحارث أبيت اللعن أن تلك الخيل خيله وخيل آبائه. فغضب النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم. فلما أمسوا اجتمعوا عند قينةٍ من أهل الحيرة يقال لها بنت عفزرٍ يشربون. فقال خالد: تغني:

دار لهندٍ والرباب وفرتني

 

ولميس قبل حوادث الأيام

وهن خالات الحارث بن ظالم، فغضب الحارث بن ظالم حتى امتلأ غيظاً وغضباً، وقال: ما تزال تتبع أولى بآخره. قال أبو عبيدة: ثم إن النعمان بن المنذر دعاهم بعد ذلك وقدم لهم تمراً؛ فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي نوى ما يأكل من التمر بين يدي الحارث. فلما فرغ القوم قال خالد بن جعفر: أبيت اللعن! انظر إلى ما بين يدي الحارث بن ظالم من النوى! ما ترك لنا تمراً إلا أكله. فقال الحارث: أما أنا فأكلت التمر وألقيت النوى، وأما أنت فأكلته بنواه . فغضب خالد وكان لا ينازع، فقال: أتنازعني يا حارث وقد قتلت حاضرتك وتركتك يتيماً في حجور النساء! فقال الحارث: ذلك يوم لم أشهده، وأنا مغنٍ اليوم بمكاني. قال خالد: فهلا تشكر لي إذ قتلت زهير بن جذيمة وجعلتك سيد غطفان !. قال: بلى أشكرك على ذلك. فخرج الحارث بن ظالم إلى بنت عفرزٍ، فشرب عندها وقال لها تغني :

تعلم أبيت اللعـن أنـي فـاتـك

 

من اليوم أو من بعده بابن جعفر

أخالد قد نبهتـنـي غـير نـائمٍ

 

فلا تأمنن فتكي يد الدهر واحذر

أعيرتني أن نلت منا فـوارسـاً

 

غداة حراضٍ مثل جنان عبقـر

أصابهم الدهر الختور بخـتـره

 

ومن لا يق الله الحوادث يعثـر

فعلك يوماً أن تنـوء بـضـربةٍ

 

بكف فتًى من قومه غير جيدر

يغص بها عليا هوازن، والمنـى

 

لقاء أبي جزءٍ بأبيض مبـتـر

قال: فبلغ خالد بن جعفر قوله فلم يحفل به. فقال عبد الله بن جعدة وهو ابن أخت خالد، وكان رجل قيس رأياً لابنه: يا بني ائت أبا جزء فأخبره أن الحارث بن ظالم سفيه موتور، فأخف مبيتك الليلة؛ فإنه قد غلبه الشراب. فإن أبيت فاجعل بينك وبينه رجلاً ليحرسك. فوضعوا رجلاً بإزائه، ونام ابن جعدة دون الرجل، وخالد من خلف الرجل. وعرف أن ابن عتبة وابن جعدة يحرسان خالداً. فأقبل الحارث فانتهى إلى ابن جعدة فتعداه، ومضى إلى الرجل وهو يحسبه خالداً فعجنه بكلكله حتى كسره وجعل يكدمه لا يعقل، فخلى عنه والرجل تحته، ومضى إلى خالد وهو نائم، فضربه بالسيف حتى قتله. فقال لعروة : أخبر الناس أني قتلت خالداً. وقال في ذلك:

ألا سائل النعمان إن كنت سـائلاً

 

وحي كلاب هل فتكت بخـالـد

عشوت عليه وابن جعـدة دونـه

 

وعروة يكلا عمه غـير راقـد

وقد نصبا رجلاً فباشرت جـوزه

 

بكلكل مخشي الـعـداوة حـارد

فأضربه بالسيف يأفـوخ رأسـه

 

فصمم حتى نال نوط الـقـلائد

وأفلت عبد الله مـنـي بـذعـره

 

وعروة من بعد ابن جعدة شاهدي

فلما أبت غطفان أن تجيره غضبت لذلك بنو عبس. وبعث إليه قيس بن زهير بن جذيمة بهذه الأبيات: شعر قيس بن زهير للحارث حين قتل خالداً وإجابته له:

جزاك الله خيراً من خـلـيلٍ

 

شفى من ذوي تبولته الخليلا

أزحت بها جوى ودخيل حزنٍ

 

تمخخ أعظمي زمناً طـويلا

كسوت الجعفري أبا جـزيءٍ

 

ولم تحفل به سيفاً صـقـيلا

أبأت به زهير بني بغـيصٍ

 

وكنت لمثلها ولها حـمـولا

كشفت له القناع وكنت ممن

 

يجلي العار والأمر الجلـيلا

فأجابه الحارث بن ظالم:

أتاني عن قييس بني زهيرٍ

 

مقالة كاذبٍ ذكر التبـولا

فلو كنتم كما قلتم لكـنـتـم

 

لقاتل ثأركم حرزاً أصـيلا

ولكن قلتم جـاور سـوانـا

 

فقد جللتنا حدثـاً جـلـيلا

ولو كانوا هم قتلوا أخاكـم

 

لما طردوا الذي قتل القتيلا

إباء غطفان جوار الحارث ولحوقه ببني تميم وطلب بني عامر له: قال أبو عبيدة: فلما منعته غطفان لحق بحاجب بن زرارة، فأجاره ووعده أن يمنعه من بني عامر. وبلغ بني عامر مكانه في بني تميم، فساروا في عليا هوازن. فلما كانوا قريباً من القوم في أول وادٍ من أوديتهم، خرج رجل من بني غنيٍ ببعض البوادي، فإذا هو بامرأةٍ من بني تميم ثم من بني حنظلة تجتني الكمأة، فأخذها فسألها عن الخبر، فأخبرته بمكان الحارث ابن ظالم عند حاجب بن زرارة وما وعده من نصر ومنعه. فانطلق بها الغنوي إلى رحله؛ فانسلت في وسطٍ من الليل، فأتى الغنوي الأحوص بن جعفر، فأخبره أن المرأة قد ذهبت وقال: هي منذرة عليك. فقال له الأحوص: ومتى عهدك بها؟ قال: عهدي بها والمني يقطر من فرجها. قال: وأبيك إن عهدك بها لقريب. وتبع المرأة عامر بن مالك يقص أثرها حتى انتهى إلى بني زرارة والمرأة عند حاجب وهو يقول لها: أخبريني أي قومٍ أخذوك؟ قالت: أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء، ويدبرون بأعجاز النساء. قال: أولئك بنو عامر. قال: فحدثيني من في القوم؟ قالت: رأيتهم يغدون على شيخ كبير لا ينظر بمآقيه حتى يرفعوا له من حاجبيه. قال: ذلك الأحوص بن جعفر. قالت: ورأيت شاباً شديد الخلق، كأن شعر ساعديه حلق الدرع يعذم القوم بلسانه عذم الفرس العضوض. قال: ذلك عتبة بن بشير بن خالد. قالت: ورأيت كهلاً إذا أقبل معه فتيان . يشرف القوم إليه، فإذا نطق أنصتوا. قال: ذلك عمرو بن خويلدٍ، والفتيان ابناه زرعة ويزيد. قالت: ورأيت شاباً طويلاً حسناً، إذا تكلم بكلمةٍ أنصتوا لها ثم يؤلون إليه كما تؤل الشول إلى فحلها. قال: ذلك عامر ابن مالك. قال أبو عبيدة: فدعا حاجب الحارث بن ظالم فأخبره برأيه وخبر القوم وقال: يا ابن ظالم، هؤلاء بنو عامر قد أتوك، فما أنت صانع؟ قال الحارث: ذلك إليك، إن شئت أقمت فقاتلت القوم، وإن شئت تنحيت. قال حاجب: تنح عني غير ملوم. فغضب الحارث من ذلك وقال: شعر الحارث حين أمره حاجب بالتنحي ورد حاجب عليه:

لعمري لقد جاورت في حـي وائلٍ

 

ومن وائلٍ جاورت في حي تغلب

فأصبحت في حي الأراقم لم يقـل

 

لي القوم يا حار بن ظالم اذهـب

وقد كان ظني إذ عقلـت إلـيكـم

 

بني عدسٍ ظني بأصحاب يثـرب

غداة أتاهم تـبـع فـي جـنـوده

 

فلم يسلموا المرين من حي يحصب

فإن تك في عليا هـوازن شـوكة

 

تخاف ففيكم حد نابٍ ومـحـلـب

وإن يمنع المرء الـزراري جـاره

 

فأعجب بها من حاجبٍ ثم أعجـب

فغضب حاجب فقال:

لعمر أبيك الخير يا حـار إنـنـي

 

لأمنع جاراً من كلـيب بـن وائل

وقد علم الحي المـعـدي أنـنـا

 

على ذاك كنا في الخطوب الأوائل

وأنا إذا ما خـاف جـار ظـلامةً

 

لبسنا له ثـوبـي وفـاءٍ ونـائل

وأن تميماً لم تـحـارب قـبـيلةً

 

من الناس إلا أولعت بالكـواهـل

ولو حار بتنا عامر يا بن ظـالـمٍ

 

لعضت علينا عامر بـالأنـامـل

ولاستيقنت علـيا هـوازن أنـنـا

 

سنوطئها في دارها بالقـنـابـل

ولكنني لا أبعث الحرب ظالـمـاً

 

ولو هجتها لم ألف شحـمة آكـل

قال: فتنحى الحارث بن ظالم عن بني زرارة فلحق بعروض اليمامة. ودعا معبداً ولقيطاً ابني زرارة فقال: سيرا في الظعن، فموعدكما رحرحان؛ فإنا مقيمون في حامية الخيل حتى تأتينا بنو عامر. وخرج عامر بن مالك إلى قومه بالخبر .فقالوا: ما ترى؟ قال: أن ندعهم بمكانهم ونسبقهم إلى الظعن. قال: فلقوها برحرحان، فاقتتلوا قتالاً شديداً فأصابوها، وأسر معبد وجرح لقيط. فبعثوا بمعبد إلى رجلٍ بالطائف كان يعذب الأسرى. فقطعه إرباً إرباً حتى قتله. وقال عامر بن مالك يرد على حاجب: شعر لعامر بن مالك يرد به على حاجب:

ألكني إلى المرء الزراري حاجبٍ

 

رئيس تميمٍ في الخطوب الأوائل

وفارسها فـي كـل يوم كـريهةٍ

 

وخير تميم بين حافٍ ونـاعـل

لعمري لقد دافعت عن حي مالكٍ

 

شآبيب من حربٍ تلقـح حـائل

على كل جرداء السراة طمـرةٍ

 

وأجدر خوار العنان مـنـاقـل

نصحت له إن كـنـت لاحـقـاً

 

بقومٍ فلا تعـدل بـأبـنـاء وائل

ولو ألجأته عصـبة تـغـلـبـية

 

لسرنا إليهم بالقنا والـقـنـابـل

ولو رمتم أن تمـنـعـوه رأيتـم

 

هناك أموراً غيها غـير طـائل

لشاب وليد الحي قبل مـشـيبـه

 

وعضت تميم كلها بـالأنـامـل

وقامت رجال منكم خـنـدقـية

 

ينادون جهراً ليتنا لم نـقـاتـل

قتل الحارث لابن النعمان: قال: فخرج الحارث بن ظالم من فوره ذلك حتى اتى سلمى بنت ظالم وفي حجرها ابن النعمان، فقال لها: إنه لن يجيرني من النعمان إلا تحرمي بابنه، فادفعيه إلي. وقد كان النعمان بعث إلى جاراتٍ للحارث بن ظالم فسباهن؛ فدعاه ذلك إلى قتل الغلام فقتله .
أخذ النعمان عم الحارث فاعتذر إليه فخلى عنه، وقال شعراً: فوثب النعمان على عم الحارث بن ظالم فقال له: لأقتلنك أو لتأتيني بابن أخيك. فاعتذر إليه فخلى عنه. فأقبل ينطلق فقال:

يا حار إني أحيا مـن مـخـبـأةٍ

 

وانت أجرأ من ذي لبدةٍ ضـاري

قد كان بيتي فيكم بالعـلاء فـقـد

 

أحللت بيتي بين السـيل والـنـار

مهما أخفك على شيءٍ تجيء بـه

 

فلم أخفك على أمثالـهـا حـار

ولم أخفك على ليثٍ لن تخاتـلـه

 

عبل الذراعين للأقران هـصـار

وقد علمت بأني لـن ينـجـينـي

 

مما فعلت سوى الإقرار بالعـار

فقد عدوت على النعمان ظـالـمةً

 

في قتل طفلٍ كمثل البدر ومعطار

فاعلم بأنك منه غير مـنـفـلـتٍ

 

وقد عدوت على ضرغامةٍ شاري

شعر للحارث في قتله ابن النعمان: وقال الحارث بن ظالم في ذلك:

قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتـمـا

 

محارب مولاه، وثكـلان نـادم

حسبت أبا قابوس أنك سابـقـي

 

ولما تذق فتكي وأنفـك راغـم

أخصي حمارٍ بات يكدم نـحـمةً

 

أتؤكل جاراتي وجارك سـالـم

تمنيته جهراً علـى غـير ريبةٍ

 

أحاديث طسمٍ، إنما أنت حـالـم

فإن تك أذواداً أصبت ونـسـوةً

 

فهذا ابن سلمى أمره متفـاقـم

علوت بذي الحيات مفرق رأسه

 

وكان سلاحي تجتويه الجماجـم

فتكت به فتكاً كفتكي بـخـالـدٍ

 

وهل يركب المكروه إلا الأكارم

بدأت بهذي ثم أثني بمـثـلـهـا

 

وثالثةٍ تبيض منها الـمـقـادم

شفيت غليل الصدر منه بضربةٍ

 

كذلك يأبى المغضبون القماقـم

فقال النعمان بن المنذر: ما يعني بالثالثة غيري. قال سنان بن أبي حارثة المري وهو يومئذٍ رأس غطفان: أبيت اللعن! والله ما ذمة الحارث لنا بذمة، ولا جاره لنا بجار، ولو أمنته ما أمناه. فبلغ ابن ظالم قول سنان بن أبي حارثة، فقال في ذلك: شعر للحارث يخاطب به النعمان:

ألا أبلغ النعمان عـنـي رسـالةً

فكيف بخطاب الحطوب الأعاظم

وأنت طويل البغي أبلخ مـعـور

فزوع إذا ما خيف إحدى العظائم

فما غره والمـرء يدرك وتـره

بأروع ماضي الهم من آل ظالم

أخي ثقةٍ ماضي الجنان مـشـيعٍ

كميش التوالي عند صدق العزائم

فأقسم لولا من تعـرض دونـه

لعولي بهندي الحـديدة صـارم

فأقتـل أقـوامـاً لـئامـاً أذلةً

يعضون من غيظٍ أصول الأباهم

تمنى سنان ضلة أن يخيفـنـي

ويأمن، ما هذا بفعل المسـالـم

تمنيت جهداً أن تضيع ظلامتـي

كذبت ورب الراقصات الرواسم

يمين امرئ لم يرضع اللؤم ثديه

ولم تتكنـفـه عـروق الألائم

           

أخذ مصدق للنعمان إبلاً لديهث فاستجارت بالحارث فردها إليها: قال: فأمنه النعمان، وأقام حيناً. ثم إن مصدقاً للنعمان أخذ إبلاً لامرأة من بني مرة يقال لها ديهث؛ فأتت الحارث فعلقت دلوها بدلوه ومعها بني لها، فقالت: أبا ليلى! إني أتيتك مضافةً . فقال الحارث: إذا أورد القوم النعم فنادي بأعلى صوتك:

دعوت بالله ولم تـراعـي

 

ذلك راعيك فنعم الراعي

وتلك ذود الحارث الكساع

 

يمشي لها بصارمٍ قطـاع

يشفي به مجامع الصداع

 

 

وخرج الحارث في أثرها يقول:

أنا أبو ليلى وسيفي المـعـلـوب

 

كم قد أجرنا من حريبٍ محروب

وكم رددنا من سليبٍ مسـلـوب

 

وطعنةٍ طعنتها بالمـنـصـوب

ذاك جهيز الموت عند المكروب

 

 

ثم قال لها: لا تردن عليك ناقة ولا بعير تعرفينه إلا أخذتيه ففعلت؛ فاتت على لقوحٍ لها يحلبها حبشي، فقالت: يا أبا ليلى! هذه لي. فقال الحبشي: كذبت. فقال الحارث: أرسلها لا أم لك! فضرط الحبشي. فقال الحارث: است الحالب أعلم، فسارت مثلاً. قال أبو عبيدة: ففي ذلك يقول في الإسلام الفرزدق:

كما كان أوفى إذ ينادي ابن ديهـثٍ

 

وصرمته كالمغنم المـتـنـهـب

فقام أبو ليلى إلـيه ابـن ظـالـمٍ

 

وكان متى ما يسلل السيف يضرب

وما كان جاراً غير دلوٍ تعلـقـت

 

بحبلين في مستحصد القد مكـرب

خروج الحارث إلى صديق من كندة: قال أبو عبيدة حدثني أبو محمد عصام العجلي قال: فلما قتل الحارث بن ظالمٍ خالد بن جعفر في جوار الملك خرج هارباً حتى أتى صديقاً له من كندة يحل شعبي قال: شعبي غير ممدود فلما ألح الأسود في طلب الحارث قال له الكندي: ما أرى لك نجاةً إلا أن ألحقك بحضرموت ببلاد اليمن فلا يوصل إليك. فسار معه يوماً وليلةً ،فلما غربه قال: إنني أنقطع ببلاد اليمن فاغترب بها، وقد برئت منك خفارتي .


لجوءه إلى بني عجل بن لجيم: فرجع حتى أتى أرض بكر بن وائل، فلجأ إلى بني عجل بن لجيم، فنزل على زبان فأجاره وضرب عليه قبة. وفي ذلك يقول العجلي:

ونحن منعنا بالرماح ابن ظالمٍ

 

فظل يغني آمناً في خبائنـا

قال أبو عبيدة: فجاءته بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا: أخرج هذا المشؤوم من بين أظهرنا، لا يعرنا بشر، فإنا لا طاقة بالملحاء والملحاء كتيبة الأسود فأبت عجل أن تخفره ، فقاتلوه فامتنعت بنو عجلٍ. فقال الحارث بن ظالمٍ في الكندي وفيهم:

يكلفني الكندي سير تـنـوفةٍ

 

أكابد فيها كل ذي صبةٍ مثري

الصبة: قطعة من الغنم أو بقية منها

وأقبل دوني جمـع ذهـلٍ كـأنـنـي

 

خلاة لذهلٍ والزعانف من عـمـرو

ودوني ركب من لجـيمٍ مـصـمـم

 

وزبان جاري والخفير علـى بـكـر

لعمري لا أخشـى ظـلامة ظـالـمٍ

 

وسعد بن عجلٍ مجمعون على نصري

لحوقه بطيء: قال أبو عبيدة: ثم قال لهم الحارث: إني قد اشتهر أمري فيكم ومكاني، وأنا راحل عنكم. فارتحل فلحق بطيئ. فقال الحارث في ذلك:

لعمري لقد حلت بي اليوم ناقتي

 

إلى ناصرٍ من طيئٍ غير خاذل

فأصبحت جاراً للمجرة منهـم

 

على باذخٍ يعلو على المتطاول

أخذ الأسود أموال جارات له فردها هو إليهن: قال أبو عبيدة وحدثني أبو حية أن الأسود حين قتل الحارث خالداً سأل عن أمرٍ يبلغ منه. فقال له عروة بن عتبة: إن له جاراتٍ من بلي بن عمرو، ولا أراك تنال منه شيئاً أغيظ له من أخذهن وأخذ أموالهن، فبعث الأسود فأخذهن واستاق أموالهن. فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الحين فأنساب في غمار الناس حتى عرف موضع جاراته ومرعى إبلهن، فأتى الإبل فوجد حالبين يحلبان ناقة يقال لها اللفاع، وكانت لبوناً كأغزر الإبل، إذا حلبت اجترت، ودمعت عيناها، وأصغت برأسها ، وتفاجت تفاج البائل، وهجمت في المخلب هجماً حتى تسنمه ، وتجاوبت أحاليلها بالشخب هثاً وهثيماً حتى تصف بين ثلاثة محالب . فصاح الحارث بهما ورجز فقال:

إذا سمعت حنة اللـفـاع

 

فادعابا ليلى ولا تراعـي

ذلك راعيك فنعم الراعـي

 

يجبك رحب الباع والذراع

منطقاً بصارمٍ قـطـاع

 

 

خليا عنها! فعرفاه فضرط البائن. فقال الحارث: است الضارط أعلم، فذهبت مثلاً قال الأثرم: البائن الحالب الأيمن، والمستعلي الحالب الأيسر ثم عمد إلى أموال جاراته وإلى جاراته فجمعهن ورد أموالهن وسار معهن حتى اشتلاهن أي أنقذهم .
رواية أخرى في قتله ابن الملك: قال أبو عبيدة ولحق الحارث ببلاد قومه مختفياً. وكانت أخته سلمى بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المري. قال أبو عبيدة: وكان الأسود بن المنذر قد تبنى سنان بن أبي حارثة المري ابنه شرحبيل، فكانت سلمى بنت كثير بن ربيعة من بني غنم بن دودان امرأة سنان ابن أبي حارثة المري ترضعه وهي أم هرمٍ، وكان هرم غنياً يقدر على ما يعطي سائليه. فجاء الحارث، وقد كان اندس في بلاد غطفان، فاستعار سرج سنانٍ، ولا يعلم سنان، وهم نزول بالشربة، فأتى به سلمى ابنة ظالم فقال: يقول لك بعلك: ابعثي بابن الملك مع الحارث حتى أستأمن له ويتخفر به، وهذا سرجه آية إليك. فزينته ثم دفعته إلى الحارث، فأتى بالغلام، ناحيةً من الشربة فقتله، ثم أنشأ يقول:

قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما

 

محارب مولاه، وثكلان نادم

ثكلان نادم: يعني الأسود لأنه قتل ابنه شرحبيل. محارب مولاه: يعني الحارث نفسه. مولاه: سنان

أخصيي حمارٍ بات يكدم نجـمةً

 

أتؤكل جاراتي وجارك سالـم

حسبت أبيت اللعن أنـك فـائت

 

ولما تذق ثكلاً وأنفـك راغـم

فإن تك أذواداً أصبت ونـسـوةً

 

فهذا ابن سلمى رأسه متفاقـم

علوت بذي الحيات مفرق رأسه

 

وكان سلاحي تجتويه الجماجم

فتكت به كما فتكت بـخـالـدٍ

 

ولا يركب المكروه إلا الأكارم

بدأت بتلك وانثـنـيت بـهـذه

 

وثالثةٍ تبيض منها الـمـقـادم

قال: ففي ذلك يقول عقيل بن علفة في الإسلام وهو من بني يربوع بن غيظ بن مرة لما هاجى شبيب بن البرصاء، وأبوه يزيد، وهو من بني نشبة بن غيظ بن مرة ابن عم سنان بن أبي حارثة، فعيره بقتل الحارث بن ظالمٍ شرحبيل لأنه ربيب بني حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ رهط شبيب، ففي ذلك يقول عقيل:

قتلنا شرحبيلاً ربـيب لأبـيكـم

 

بناصية المعلوب ضاحية غصبا

فلم تنكروا أن يغمز القوم جاركم

 

بإحدى الدواهي ثم لم تطلعوا نقبا

قال أبو عبيدة: وهرب الحارث، فغزا الأسود بني ذبيان إذ نقضوا العهد وبني أسدٍ بشط أريكٍ. قال أبو عبيدة: وسألته عنه فقال: هما أريكان الأسود والأبيض، ولا أدري بأيهما كانت الوقعة. قال أبو عبيدة وقال آخرون: إن سلمى امرأة سنانٍ التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسدٍ. قال: فإنما غزا الأسود بني أسدٍ لدفع الأسدية سلمى ابنه إلى الحارث، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وسبى واستاق أموالهم. وفي ذلك يقول الأعشى ميمون:

وشيوخٍ صرعى بشطـي أريكٍ

 

ونساء كأنهـن الـسـعـالـي

من نواصي دودان إذ نقضوا العه

 

د وذبيان والهجان الـغـوالـي

رب رفدٍ هرقـتـه ذلـك الـيو

 

م وأسرى من معشـرٍ أقـتـال

هؤلاء هـم كــلا احـــذي

 

ت نعالاً مـحـذوةً بـمـثـال

ورأى من عصاك أصبح مخـذو

 

لاً وكعب الذي يطيعك عـالـي

وجود نعل شرحبيل بن الأسود في بني محارب وتعذيب الأسود لهم: قال: ووجد نعل شرحبيل عند أضاخ. وهو من الشربة في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان. قال: فاحمي لهم الأسود الصفا التي بصحراء أضاخٍ وقال لهم: إني أحذيكم نعالاً، فأمشاهم على الصفا المحمى فتساقط لحم أقدامهم. فلما كان الإسلام قتل جوشن الكندي رجلاً من بني محارب فأقيد به جوشن بالمدينة. وكان الكندي من رهط عباس بن يزيد الكندي فهجا بني محاربٍ فعيرهم بتحريق الأسود أقدامهم فقال:

على عهد كسرى نعلتكم ملوكنا

 

صفاً من أضاخٍ حامياً يتلهب

قال أبو عبيدة: وصار ذلك مثلاً يتوعد به الشعراء من هجوه ويحذرونهم مثل ذلك. ومن ذلك أن ابن عتابٍ الكلبي ورد على بني النوس من جديلة طيئ، فسرقوا سهاماً له؛ فقال يحذرهم:

بني النوس ردوا أسهمي إن أسهمي

 

كنعل شرحبيل التي في محـارب

وقال في الجاهلية ابن أم كهف الطائي في مدحه لمالك بن حمارٍ الشمخي، فذكر نعل شرحبيل فقال:

ومولاك الذي قتل ابن سلمى

 

علانيةً شرحبيل ابن نعـل

لأنه لولا النعل لم يعرف، وإنما عرف بما صنع أبو ببني محاربٍ من أجل نعله التي وجدت في بني محاربٍ .


أخذ الأسود لسنان بن أبي حارثة الذي قتل ابنه عنده واعتذار الحارث بن سفيان عنه: قال أبو عبيدة: وأخذ الأسود سنان بن أبي حارثة؛ فأتاه الحارث بن سفيان أحد بني الصارد ، وهو الحارث بن سفيان بن مرة بن عوف بن الحارث بن سفيان أخو سيار بن عمرو بن جابر الفزاري لأمه، فاعتذر إلى الأسود أن يكون سنان بن أبي حارثة أو اطلع، ولقد كان أطرد الحارث من بلاد غطفان، وقال: علي دية ابنك ألف بعيرٍ دية الملوك، فحملها إياه وخلى عن سنانٍ، فأدى إلى الأسود منها ثمانمائة بعير ثم مات. فقال سيار بن عمرو أخوه لأمه: أنا أقوم فيما بقي مقام الحارث بن سفيان. فلم يرض به الأسود. فرهنه سيار قوسه، فأدى البقية. فلما مدح قراد بن حنشٍ الصاردي بني فزارة جعل الحمالة كلها لسيار بن عمرو فقال:

ونحن رهنا القوس تمت فـوديت

 

بألفٍ على ظهر الفزاري أقرعا

بعشر مئينٍ للملوك سعى بـهـا

 

ليوفي سيار بن عمرٍو فأسرعـا

رمينا صفاه بالمئين فأصبـحـت

 

ثناياه للساعين في المجد مهيعـا

قال ويقال: بل قالها ربيع بن قعنبٍ، فرد عليه قراد فقال:

ما كان ثعلب ذي عاجٍ ليحملها

 

ولا الفزاري جوفان بن جوفان

ولكن تضمنها ألفاً فأخرجـهـا

 

على تكاليفها حار بن سفـيان

وقال عويف القوافي بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدرٍ في الإسلام يفخر على أبي منظور الوبري حين هاجاه أحد بني وبرٍ بن كلابٍ:

فهل وجدتم حاملاً كحاملـي

 

إذ رهن القوس بألفٍ كامل

بدية ابن الملك الحـلاحـل

 

فافتكها من قبل عامٍ قابـل

سيار الموفي بها ذو السائل

 

 

لحوق الحارث ببني دارم: قال أبو عبيدة: فلما قتل الحارث شرحبيل لحق ببني دارمٍ فلجأ إلى بني ضمرة. قال: وبنو عبد الله بن دارم يقولون: بل جاور معبد بن زرارة فأجاره، فجر جواره يوم رحرحان، وجر يوم رحران يوم جبلة. وطلبه الأسود بن المنذر بخفرته .


فلما بلغه نزوله ببني دارمٍ أرسل فيه إليهم أن يسلموه فأبوا. فقال يمن على بني قطن بن نهشل بن دارمٍ بما كان النعمان بن المنذر في أمر بني رشية وهي رميلة حين طلبهم من لقيط ابن زرارة حتى استنقذهم. ورشية أمة كانت لزرارة بن عدس بن زيدٍ المجاشعي، فوطئها رجل من بني نهشلٍ فأولدها؛ وكان زرارة يأتي بني نهشلٍ يطلب الغلمة التي ولدت، وولدت الأشهب بن رميلة والرباب بن رميلة وغيرهما، وكانوا يسمعونه ما يكره، فيرجع إلى ولده فيقول: أسمعني بنو عمي خيراً وقالوا: سنبعث بهم إليك عاجلاً، حتى مات زرارة. فقام لقيط ابنه بأمرهم؛ فلما أتاهم أسمعوه ما كره، ووقع بينهم شر. فذهب النهشلي إلى الملك فقال: أبيت اللعن! لا تصلني وتصل قومي بأفضل من طلبتك إلى لقيطٍ الغلمة ليكف عني. فدعاه فشرب معه، ثم استوهبهم منه فوهبهم له. فقال الأسود بن المنذر في ذلك:

كأين لنا من نعمةٍ في رقابكم

 

بني قطنٍ فضلاً عليكم وأنعما

 

وكم منةٍ كانت لنا في بيوتـكـم

 

وقتل كريم لم تعدوه مغـرمـا

فإنكم لا تمنعـون ابـن ظـالـمٍ

 

ولم يمس بالأيدي الوشيج المقوما

           

فأجابه ضمرة بن ضمرة فقال:

سنمنع جاراً عائذاً في بيوتـكـم

 

بأسيافنا حتى يؤوب مسـلـمـا

إذا ما دعونا دارماً ما حال دونه

 

عوابس يعلكن الشكيم المعجمـا

ولو كنت حرباً ما وردت طويلعاً

 

ولا حوفه إلا خميساً عرمرمـا

تركت بني ماء السماء وفعلهـم

 

وأشبهت تيساً بالحجاز مزنمـا

ولن أذكر النعمان إلا بصـالـحٍ

 

فإن له فضلاً علينا وأنـعـمـا

قال: وبلغ ذلك بني عامر، فخرج الأحوص عازياً لبني دارمٍ طالباً بدم أخيه خالد بن جعفر حين انطووا على الحارث وقاموا دونه، فغزاهم فالتقوا برحرحان، فهزمت بنو دارمٍ، وأسر معبد بن زرارة، فانطلقوا به حتى مات في أيديهم، وحديثه في يوم رحرحان يأتي بعد .


أسر بني قيس وبني هزان للحارث وحديثه معهم: ثم أسر بنو هزان الحارث بن ظالم. وقال أبو عبيدة: خرج الحارث من عندهم، فجعل يطوف في البلاد حتى سقط في ناحيةٍ من بلاد ربيعة، ووضع سلاحه وهو في فلاةٍ ليس فيها أثر ونام، فمر به نفر من بني قيس بن ثعلبة ومعهم قوم من بني هزان من عنزة وهو نائم، فأخذوا فرسه وسلاحه ثم أوثقوه، فانتبه وقد شدوه فلا يملك من نفسه شيئاً. فسألوه من انت؟ فلم يخبرهم وطوى عنهم الخبر، فضربوه ليقتلوه على تأن يخبرهم من هو فلم يفعل. فاشتراه القيسيون من الهزانيين بزق خمرٍ وشاة ويقال: اشتراه رجل من بني سعد بإغلاق بكرةٍ وعشرين من الشاء ثم انطلقوا به إلى بلادهم. فقالوا له: من أنت؟ وما حالك؟ فلم يخبرهم. فضربوه ليموت فأبى. قال: وهو قريب من اليمامة. قال: فبينما هم على تلك الحال وهم يريغونه ضرباً مرةً وتهدداً أخرى وليناً مرةً ليخبرهم بحاله وهو يأبى، حتى ملوه، فتركوه في قيد حتى انفلت ليلاً، فتوجه نحو اليمامة وهي قريب منه، فلقي غلمةً يلعبون، فنظر إلى غلامٍ منهم أخلقهم للخير عنده فقال: من أنت؟ قال: أنا بجير بن أبجر العجلي، وله ذؤابةً يومئذٍ وأمه امرأة قتادة بن مسلمة الحنفي. فأتاه وأخذ بحقويه والتزمه وقال: أنا لك جار. فيقال: إن عجلاً أجارته في هذا اليوم لا في اليوم الأول الذي ذكرناه في أول الحديث. فأتى الغلام أباه فأخبره وأجاره وقال: ائت عمك قتادة بن مسلمة الحنفي فأخبره؛ فأتى قتادة فأخبره فأجاره .


قال أبو عبيدة: وأما فراس فزعم أنه أفلت من بني قيس فأقبل شداً حتى أتى اليمامة، واتبعوه حتى انتهى إلى نادي بني حنيفة وفيه قتادة بن مسلمة. فلما رأوه يهوي نحوهم قال: إن هذا لخائف، وبصر بالقوم خلفه فصاح به: الحصن الحصن! فأقبل حتى ولج الحصن. وجاءت بنو قيسٍ، فحال دونه وقال: لو أخذتموه قبل دخوله الحصن لأسلمته إليكم، فأما إذ تحرم بي فلا سبيل إليه. قال فقالوا: أسيرنا اشتريناه بأموالنا، وما هو لك بجارٍ ولا تعرفه، وإنما أتاك هارباً من أيدينا، ونحن قومك وجيرانك. قال: أما أن أسلمه أبداً فلا يكون ذلك، ولكن اختاروا مني: إن شئتم فانظروا ما اشتريتموه به فخذوه مني، وإن شئتم أعطيته سلاحاً كاملاً وحملته على فرس ودعوه حتى يقطع الوادي بينكم وبينه ثم دونكموه. فقالوا: رضينا. فقال ذلك للحارث فقال نعم. فألبسه سلاحاً كاملاً وحمله على فرسه وقال له: إن أفلتهم فرد إلي الفرس والسلاح لك. قال: فخرج، وتركوه حتى جاز الوادي، ثم اتبعوه ليأخذوه، فلم يزل يقاتلهم ويطاردهم حتى ورد بلاد بني قشيرٍ، وهو قريب من اليمامة أيضاً بينهما أقل من يومٍ. فلما صار إلى بلاد بني قشير يئسوا منه فرجعوا عنه. وعرفه بنو قشيرٍ فانطووا عليه وأكرموه. ورد إلى قتادة بن مسلمة فرسه وأرسل إليه بمائة من الإبل، لا أدري أأعطاه إياها بنو قشيرٍ من أموالهم ليكافئ بها قتادة أم كانت له، لم يفسر أبو عبيدة أمرها ولا سألته عنها. فقال الحارث بن ظالم في ابني حلاكة وهما من الذين باعوه من القيسيين وفيما كان من أمره قال أبو عبيدة: ويقال أسره راعيان من بني هزان يقال لهما ابنا حلاكة:

أبلغ لديك بني قيسٍ مغلغلةً

 

أني أقسم في هزان أرباعا

 

ابنا حلاكة باعاني بـلا ثـمـنٍ

 

وباع ذو آل هزانٍ بما بـاعـا

يا بني حلاكة لما تأخذا ثمـنـي

 

حتى أقسم أفراسـاً وأدراعـا

قتادة الخير نالتـنـي حـذيتـه

 

وكان قدماً إلى الخيرات طلاعا

           

وقال في ذلك أيضاً:

همت عكابة أن تضيم لجيمـا

 

فأبت لجيم ما تقول عـكـابة

فأسقي بجيراً من رحيق مدامةٍ

 

وأسقي الخفير وطهري أثوابه

جاءت حنيفة قبل جيئة يشكـرٍ

 

كلاً وجدنـا أوفـياء ذؤابـه

مروره برجل من بني أسد: وزعم أبو عبيدة أن الحارث لما هزمت بنو تميم يوم رحرحان مر برجلٍ من بني أسد بن خزيمة؛ فقال: يا حار إنك مشؤوم وقد فعلت ما فعلت، فانظر إذا كنت بمكان كذا وكذا من برقة رحرحان فإن لي به جملاً أحمر فلا تعرض له. وإنما يعرض له ويكره أن يصرح فيبلغ الأسود فيأخذه. فلما كان الحارث بذلك المكان أخذ الجمل فنجا عليه، وإذا هو لا يساير من أمامه ولا يسبق من ورائه. فبلغ ذلك الأسود، فأخذ الأسود الأسدي وناساً من قومه. وبلغ ذلك الحارث بن ظالمٍ فقال كأنه يهجوهم لئلا يتهمهم الأسود:

أراني الله بالنعم المـنـدى

 

ببرقة رحرحان وقد أراني

لحي الأنكدين وحي عبـسٍ

 

وحي نعامةٍ وبني غـدان

لحوقه بمكة وانتماؤه إلى قريش: قال: فلما بلغ قوله الأسود خلى عنهم. ولحق الحارث بمكة وانتمى إلى قريش؛ وذلك قوله:

وما قومي بثعلبة بن سعـدٍ

 

ولا بفزارة الشعر الرقابـا

وقومي إن سألت بنو لـؤيٍ

 

بمكة علموا مضر الضرابا

قال: فزوده وحمله رواحة الجمحي على ناقة؛ فذلك قوله:

وهش رواحة الجمحي رحلي

 

بناجيةٍ ولم يطلـب ثـوابـا

كأن الرحل والأنساع منـهـا

 

وميثرتي كسين أقب جـابـا

لحوقه بالشام عند ملك من غسان ومقتله: يروى: حش، و هش، وهما لغتان. وحش سوى قال: فلحق الحارث بالشام بملك من ملوك غسان يقال هو النعمان، ويقال بل هو يزيد بن عمرو الغساني فأجاره. وكانت للملك ناقة محماة في عنقها مدية وزناد وصرة ملح، وإنما يختبر بذلك رعيته هل يجترئ عليه أحد منهم. ومع الحارث امرأتان، فوحمت إحدى امرأتيه قال أبو عبيدة: وأصابت الناس سنة شديدة فطلبت الشحم إليه. قال: ويحك! وأنى لي بالشحم والوداء! فألحت عليه، فعمد إلى الناقة فأدخلها بطن وادٍ فلب في سبلتها أي طعن . فأكلت امرأته ورفعت ما بقي من الشحم في عكتها. قال: وفقدت الناقة فوجدت نحيراً لم يؤخذ منها إلا السنام، فأعلموا ذلك الملك، وخفي عليهم من فعله. فأرسل إلى الخمس التغلبي وكان كاهناً فقال: من نحر الناقة؟ فذكر أن الحارث نحرها. فتذمم الملك وكذب عنه. فقال: إن أردت أن تعلم علم ذلك فدس امرأة تطلب إلى امرأته شحماً، ففعل. فدخل الحارث وقد أخرجت امرأته إليها شحماً، فعرف الداء فقتلها ودفنها في بيته. فلما فقدت المرأة قال الخمس: غالها ما غال الناقة، فإن كره الملك أن يفتشه عن ذلك فليأمر بالرحيل، فإذا ارتحل بحث بيته، ففعل. واستثار الخمس مكان بيته؛ فوثب عليه الحارث فقتله؛ فأخذ الحارث فحبس. فاستسقى ماءٍ فأتاه رجل بماء فقال: أتشرب؟ فأنشأ الحارث يقول:

لقد قال لي عند المجاهد صاحـبـي

 

وقد حيل دون العيش هل أنت شارب

وددت باطراف البنـان لـو أنـنـي

 

بدى أروني ترمي ورائي الثعالـب

الثعالب: من مرة وهم رماة. أرونى: مكان. وقال مرةً أخرى: الثعالب بنو ثعلبة. يقول: كانوا يرمون عني ويقومون بأمري قال: فأمر الملك بقتله. فقال: إنك قد أجرتني فلا تغدرني . فقال: لا ضير! إن غدرت بك مرةً فقد غدرت بي مراراً. فأمر مالك بن الخمس التغلبي أن يقتله بأبيه. فقال: يا بن شر الأظماء أنت تقتلني! فقتله. وقال ابن الكلبي: لما قام ابن الخمس إلى الحارث ليقتله قال: من أنت؟ قال: ابن الخمس. قال: أنت ابن شر الأسماء؛ فقتله فقال رجل من ضري وهم حي من جرهم يرثي الحارث بن ظالمٍ:

يا حـار حـنـيا

 

حراً قطـامـيا

ما كنت تـرعـيا

 

في البيت ضجعيا

أدعى لـبـاخـيا

 

ممـلأ عـــيا

وأخذ ابن الخمس سيف الحارث بن ظالم المعلوب، فأتى به سوق عكاظ في الحرم، فجعل يعرضه على البيع ويقول: هذا سيف الحارث بن ظالم. فاسترآه إياه قيس بن زهير بن جذيمة فأراه إياه، فعلاه به حتى قتله في الحرم. فقال قيس بن زهيرٍ يرثي الحارث بن ظالم:

ما قصرت من حاضنٍ ستر بيتها

 

أبر وأوفى منك حار بن ظالـم

أعز وأحمى عنـد جـارٍ وذمة

 

وأضرب في كاب من النقع قاتم

هذه رواية أبي عبيدة والبصريين. وأما الكوفيين فإنهم يذكرون أن النعمان بن المنذر هو الذي قتله. أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: لما هرب الحارث إلى مكة أسف النعمان بن المنذر على فوته إياه، فلطف له وراسله وأعطاه الأمان، وأشهد على نفسه وجوه العرب من ربيعة ومضر واليمن أنه لا يطلبه بذحلٍ ولا يسوءه في حال، وأرسل به مع جماعةٍ ليسكن الحارث إليهم، وأمرهم أن يتكلفوا له بالوفاء ويضمنوا له عنه أنه لا يهجيه، ففعلوا ذلك. وسكن إليه الحارث، فأتى النعمان وهو في قصر بني مقاتل، فقال للحاجب: استأذن لي، والناس يومئذٍ عند النعمان متوافرون، فاستأذن له، فقال النعمان: ائذن له وخذ سيفه. فقال له: ضع سيفك وادخل. فقال الحارث: ولم أضعه؟ قال: ضعه، فلا بأس عليك. فلما ألح عليه وضعه ودخل ومعه الأمان. فلما دخل قال: أنعم صباحاً أبيت اللعن. قال: لا أنعم الله صباحك !. فقال الحارث: هذا كتابك !. قال النعمان: كتابي والله ما أنكره، أنا كتبته لك، وقد غدرت وفتكت مراراً، فلا ضير أن غدرت بك مرة. ثم نادى: من يقتل هذا؟ فقام ابن الخمس التغلبي وكان الحارث فتك بأبيه فقال: أنا أقتله. وذكر باقي الخبر في قصته مع ابن الخمس مثل ما ذكر أبو عبيدة .