أخبار ابراهيم بن سيابة ونسبه

جده حجام وهو ظريف ويرمى بالأبنة: إبراهيم بن سيابة بني هاشم، وكان يقال: إن جده حجام أعتقه بعض الهاشميين. وهو من مقاربي شعراء وقته، ليست له نباهة ولا شعر شريف، وإنما كان يميل بمودته ومدحه إلى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فغنيا في شعره ورفعا منه، وكانا يذكرانه للخلفاء والوزراء ويذكرانهم به إذا غنيا في شعره، فينفعانه بذلك. وكان خليعاً ماجناً، طيب النادرة، وكان يرمى بالأبنة .


شعره في جارية سوداء لامه أهله في عشقه لها: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو زائدة عن جعفر بن زيادٍ قال: عشق ابن سيابة جاريةً سوداء، فلامه أهله على ذلك وعاتبوه؛ فقال:

يكون الخال في وجهٍ قبـيحٍ

 

فيكسوه الملاحة والجمـالا

فكيف يلام معشوق على من

 

يراها كلها في العين خـالا

قصته مع ابن سوار القاضي ودايته رحاص: أخبرني محمد بن مزيدٍ وعيسى بن الحسين والحسين بن يحيى قالوا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: لقي إبراهيم بن سيابة وهو سكران ابناً لسوار بن عبد الله القاضي أمرد، فعانقه وقبله، وكانت معه داية يقال لها رحاص، فقيل لها: إنه لم يقبله تقبيل السلام، إنما قبله قبلةً شهوةٍ فلحقته الداية فشتمته وأسمعته كل ما يكره، وهجره الغلام بعد ذلك. فقال له:

قل للذي ليس لي مـن

 

يدي هـواه خـلاص

أأن لثـمـتـك سـراً

 

فأبصرتني رحـاص

وقال فـي ذاك قـوم

 

على انتقاصي حراص

هجرتنـي وأتـتـنـي

 

شتيمة وانـتـقـاص

فهاك فاقتص مـنـي

 

إن الجروح قصـاص

ويروى أن رحاص هذه مغنية كان الغلام يحبها، وأنه سكر ونام؛ فقبله ابن سيابة. فلما انتبه قال للجارية: ليت شعري ما كان خبرك من ابن سيابة؟ فقالت له: سل عن خبرك أنت معه؛ وحدثته بالقصة؛ فهجره الغلام؛ فقال هذا الشعر .


جوابه لمن عاتبه على مجونه، ولمن سأل عنه وهو سكران محمول في طبق: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهروية قال حدثنا علي بن الصباح قال: عاتبنا ابن سيابة على مجونه، فقال: ويلكم! لأن ألقى الله تبارك وتعالى بذل المعاصي فيرحمني، أحب إلي من ألقاه أتبختر إدلالاً بحسناتي فيمقتني .


قال: ورأيت ابن سيابة يوماً وهو سكران وقد حمل في طبق يعبرون به على الجسر، فسألهم إنسان ما هذا؟ فرفع رأسه من الطبق وقال: هذا بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة يا كشخان .


ولع به أبو الحارث جميز حتى أخجله فهجاه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبو الشبل البرجمي قال: ولع يوماً أبو الحارث جميز بابن سيابة حتى أخجله. فقال عند ذلك ابن سيابة يهجوه:

بنى أبو الحارث الجميز في وسطٍ

 

من ظهره وقريباً من ذراعـين

ديراً لقسٍ إذا ما جـاء يدخـلـه

 

ألقى على باب دير القس خرجين

يعدو على بطنه شداً على عجـلٍ

 

لا ذو يدين ولا يمشي برجـلـين

جوابه لمن اقترض منه فاعتذر: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إبراهيم تينة قال: كتب ابن سيابة إلى صديقٍ له يقترض منه شيئاً؛ فكتب إليه يعتذر له ويحلف أنه ليس عنده ما سأله. فكتب إليه: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً. وإن كنت ملوماً فجعلك الله معذوراً .


ضرط في جماعة فكلم استه: أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان ابن سيابة الشاعر عندنا يوماً مع جماعةٍ نتحدث ونتناشد وهو ينشدنا شيئاً من شعره، فتحرك فضرط، فضرب بيده على استه غير مكترثٍ، ثم قال: إما أن تسكتي حتى أتكلم، وإما أن تتكلمي حتى أسكت.


غمز غلاماً أمرد فأجابه: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب قال حدثني أبو هفان قال: غمز ابن سيابة غلاماً أمرد ذات يوم فأجابه، ومضى به إلى منزله، فأكلا وجلسا يشربان. فقال له الغلام: أنت ابن سيابة الزنديق؟ قال نعم. قال: أحب أن تعلمني الزندقة. قال: أفعل وكرامةً. ثم بطحه على وجهه، فلما تمكن منه أدخل عليه؛ فصاح الغلام أوه! أيشٍ هذا ويحك؟ قال سألتني أن أعلمك الزندقة، وهذا أول بابٍ من شرائعها.


يرى فقدان الدقيق أكبر مصيبة: أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني محرز بن جعفر الكاتب قال: قال لي إبراهيم بن سيابة الشاعر: إذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة، فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم .


سخط عليه الفضل بن الربيع فاستعطفه بشعر فرضي عنه ووصله: أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيدٍ قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سخط الفضل بن الربيع على ابن سيابة، فسألته أن يرضى عنه فامتنع. فكتب إليه ابن سيابة بهذه الأبيات وسألني إيصالها:

إن كان جرمي قد أحاط بحرمتي

 

فأحط بجرمي عفوك المأمـولا

فكم ارتجيتك في التي لا يرتجى

 

في مثلها أحد فنلـت الـسـولا

وضللت عنك فلم أجد لي مذهباً

 

ووجدت حلمك لي عليك دلـيلا

هبني أسـأت ومـا أقـر كـي

 

يزداد عفوك بعد طولك طـولا

فالعفو أجمل والتفضل بامـرئٍ

 

لم يعدم الراجون منه جـمـيلا

فلما قرأها الفضل دمعت عيناه ورضي عن ابن سيابة، وأوصله إليه وأمر إليه بعشرة آلاف درهم .


حواره المقذع مع بشار: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثنا الحسن بن الفضل قال سمعت ابن عائشة يقول: جاء إبراهيم بن سيابة إلى بشار فقال له: ما رأيت أعمى قط إلا وقد عوض من بصره إما الحفظ والذكاء وإما حسن الصوت، فأي شيء عوضت أنت ؟ قال: ألا أرى ثقيلاً مثلك، ثم قال له: من أنت ويحك؟ قال: إبراهيم بن سيابة. فتضاحك ثم قال : لو نكح الأسد في استه لذل . وكان إبراهيم يرمى بذلك. ثم تمثل بشار:

لو نكح االليث في استه خضعا

 

ومات جوعاً ولم ينل شبعـا

كذلك السيف عنـد هـزتـه

 

لو بصق الناس فيه ما قطعا

نزل على سليمان بن يحيى بن معاذ بنيسابور: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي قال حدثني محمد بن عبد الله الطلحي قال حدثني سليمان بن يحيى بن معاذ قال: قدم إبراهيم بن سيابة نيسابور فأنزلته علي؛ فجاءني ليلةً من الليالي وهو مهرب ، فجعل يصيح بي: يا أبا أيوب. فخشيت أن يكون قد غشيه شيء يؤذيه، فقلت: ما تشاء؟ فقال:

أعياني الشادن الربيب

فقلت بماذا؟ فقال:

أكتب أشكو لا يجيب

قال فقلت له: داره وداوه؛ فقال:

من أين أبغي شفاء ما بي

 

وإنما دائي الـطـبـيب

فقلت: لا دواء إذاً إلا أن يفرج الله تعالى. فقال:

يا رب فرج إذاً وعجل

 

فإنك السامع المجيب

ثم انصرف .
في هذا الشعر رمل طنبوري لجحظة . من قصيدة أخت الوليد بن طريف في رثائه: قصيدة:

أيا شجر الخابور مال مـورقـاً

 

كأنك لم تحزن على ابن طريف

فتًى لا يحب الزاد إلا من التقى

 

ولا المال إلا من قنا وسـيوف

الشعر لأخت الوليد بن طريف الشاري. والغناء لعبد الله بن طاهر ثقيل أول بالوسطى، من رواية ابنه عبيد الله عنه. وأول هذه الأبيات كما أنشدنا محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد ابن يحيى ثعلب :

بتل بناثا رسـم قـبـرٍ كـأنـه

 

على علمٍ فوق الجبال مـنـيف

تضمن جواداً حاتـمـياً ونـائلاً

 

وسورة مقدامٍ وقلب حصـيف

ألا قاتل الله الجثا حيث أضمرت

 

فتًى كان بالمعروف غير عفيف

فإن يك أراده يزيد بـن مـزيدٍ

 

فيا رب خيلٍ فضها وصفـوف

ألا يا لقومٍ للـنـوائب والـردى

 

ودهرٍ ملح بالكـرام عـنـيف

وللبدر من بين الكواكب إذ هوى

 

وللشمس همت بعده بكسـوف

أيا شجر الخابور مالك مورقـاً

 

كأنك لم تحزن على ابن طريف

فتًى لا يحب الزاد إلا من التقى

 

ولا المال إلا من قناً وسـيوف

ولا الخيل إلا كل جرداء شطـبةٍ

 

وكل حصانٍ بالـيدين غـروف

فلا تجزعا يا ابنا طريفٍ فإننـي

 

أرى الموت نزالاً بكل شـريف

فقدناك فقدان الربيع ولـيتـنـا

 

فديناك من دهمائنـا بـألـوف

وهذه الأبيات تقولها أخت الوليد بن طريفٍ ترثيه، وكان يزيد بن مزيدٍ قتله.

ذكر الخبر في ذلك

مقتل الوليد بن طريف: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد عن عمه عن جماعة من الرواة قال: كان الوليد بن طريفٍ الشيباني رأس الخوارج وأشدهم بأساً وصولةً وأشجعهم؛ فكان من بالشماسية لا يأمن طروقه إياه ، واشتدت شوكته وطالت أيامه. فوجه إليه الرشيد يزيد بن مزيدٍ الشيباني، فجعل يخاتله ويماكره. وكانت البرامكة منحرفةً عن يزيد بن مزيدٍ، فأغروا به أمير المؤمنين، وقالوا: إنما يتجافى عنه للرحم، وإلا فشوكة الوليد يسيرة، وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره. فوجه إليه الرشيد كتاب مغضبٍ يقول فيه: لو وجهت بأحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به، ولكنك مداهن متعصب. وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليوجهن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين. فلقي الوليد عشية خميسٍ في شهر رمضان. فيقال: إن يزيد جهد عطشاً حتى رمه بخاتمه في فيه، فجعل يلوكه ويقول: اللهم إنها شدة شديدة فاسترها. وقال لأصحابه: فداكم أبي وأمي، إنما هي الخوارج ولهم حملة، فاثبتوا لهم تحت التراس ، فإذا انقضت حملتهم فاحملوا؛ فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا. فكان كما قال، حملوا وثبت يزيد ومن معه من عشيرته وأصحابه، ثم حمل عليهم فانكشفوا. ويقال إن أسد بن يزيد كان شبيهاً بأبيه جداً، وكان لا يفصل بينهما إلى المتأمل، وكان أكثر ما يباعده منه ضربةً في وجه يزيد تأخذ من قصاص شعره ومنحرفةً على جبهته؛ فكان أسد يتمنى مثلها. فهوت له ضربة فأخرج وجهه من الترس فأصابته في ذلك الموضع. فيقال: إنه لو خطت على مثال ضربة أبيه ما عدا ، جاءت كأنها هي. واتبع يزيد الوليد بن طريفٍ فلحقه بعد مسافةٍ بعيدةٍ فأخذ رأسه. وكان الوليد خرج إليهم حيث خرج وهو يقول:

أنا الوليد بن طريف الشاري

 

قسورة لا يصطلى بنـاري

جوركم أخرجني من داري

 

 

خرجت أخته لتثأر له فزجرها يزيد بن مزيد: فلما وقع فيهم السيف وأخذ رأس الوليد، صبحتهم أخته ليلى بنت طريفٍ مستعدةً عليها الدرع والجوشن، فجعلت تحمل على الناس فعرفت. فقال يزيد: دعوها، ثم خرج إليها فضرب بالرمح قطاة فرسها، ثم قال اغربي غرب الله عليك ! فقد فضحت العشيرة؛ فاستحيت وانصرفت وهي تقول:

أيا شجر الخابور مالك مورقـاً

 

كأنك لم تحزن على ابن طريف

فتًى لا يحب الزاد إلا من التقى

 

ولا المال إلا من قناً وسـيوف

ولا الذخر إلا كل جرداء صلدمٍ

 

وكل دقيق الشفرتين خـفـيف

فلما انصرف يزيد بالظفر حجب برأي البرامكة، وأظهر الرشيد السخط عليه. فقال: وحق أمير المؤمنين لأصيفن وأشتون على فرسي أو أدخل. فارتفع الخبر بذلك فأذن له فدخل. فلما رآه أمير المؤمنين ضحك وسر وأقبل يصيح: مرحباً بالأعرابي! حتى دخل وأجلس وأكرم وعرف بلاؤه ونقاء صدره .


من قصيد مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد: ومدحه الشعراء بذلك. فكان أحسنهم مدحاً مسلم بن الوليد؛ فقال فيه قصيدته التي أولها:

أجررت حبل خليعٍ في الصبا غـزل

 

وشمرت همم العذال في عـذلـي

هاج البكاء على العين الطموح هوًى

 

مفرق بين تـوديع ومـحـتـمـل

كيف السلو لقلبٍ بات مـخـتـبـلاً

 

يهذي بصاحب قلبٍ غير مختـبـل

وفيها يقول:

يفتر عند افترار الحرب مبتسـمـاً

 

إذا تغير وجه الفارس الـبـطـل

موفٍ على مهج في يوم ذي رهـجٍ

 

كأنه أجـل يسـعـى إلـى أمـل

ينال بالرفق ما يعيا الـرجـال بـه

 

كالموت مستعجلاً يأتي على مهـل

لا يرحل الناس إلا نحو حجـرتـه

 

كالبيت يفضي إليه ملتقى السـبـل

يقري المنية أرواح العـداة كـمـا

 

يقري الضيوف شحوم الكوم والبزل

يكسو السيوف رؤوس الناكثين بـه

 

ويجعل الهام تيجان القنـا الـذبـل

إذا انتضى سيفه كانت مسـالـكـه

 

مسالك الموت في الأبدان والقلـل

لا تكذبن فإن المـجـد مـعـدنـه

 

وراثة في بني شيبـان لـم تـزل

إذا الشريكي لم يفخر عـلـى أحـدٍ

 

تكلم الفخر عنه غير مـنـتـحـل

الزائديون قـوم فـي رمـاحـهـم

 

خوف المخيف وأمن الخائف الوجل

كبيرهم لا تقـوم الـراسـيات لـه

 

حلماً وطفلهم في هدي مكتـهـل

اسلم يزيد فما في الملـك مـن أودٍ

 

إذا سلمت ولا في الدين من خلـل

لولا دفاعك بأس الروم إذ مكـرت

 

عن بيضة الدين لم تأمن من الثكـل

والمارق ابن طريفٍ قد دلفـت لـه

 

بعارضٍ للمنايا مسـبـل هـطـل

لو أن غير شريكـي أطـاف بـه

 

فاز الوليد بقدح الناضل الخـصـل

ما كان جمعهم لما دلـفـت لـهـم

 

إلا كمثل جرادٍ ريع مـنـجـفـل

كم آمنٍ لك نائي الدار مـمـتـنـعٍ

 

أخرجته من حصون الملك والخول

تراه في الأمن في درعٍ مضاعـفةٍ

 

لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل

لا يعبق الطيب خديه ومـفـرقـه

 

ولا يمسح عينيه مـن الـكـحـل

يأبى لك الذم في يومـيك إن ذكـرا

 

عضب حسام وعرض غير مبتـذل

فافخر فما لك في شيبان من مثـلٍ

 

كذاك ما لبني شيبان مـن مـثـل

وقال محمد بن يزيد: يعني بقوله:

تراه في الأمن في درعٍ مضاعفةٍ

كان معن يقدمه على بنيه فعاتبته امرأته فأراها حالهم وحاله: خبر يزيد بن مزيدٍ. وذاك أن امرأة معن بن زائدة عاتبت معناً في يزيد وقالت: إنك لتقدمه وتؤخر بنيك، وتشيد بذكره وتحمل ذكرهم، ولو نبهتهم لانتبهوا، ولو رفعتهم لارتفعوا. فقال معن: إن يزيد قريب لم تبعد رحمه، وله علي حكم الولد إذ كنت عمه. وبعد فإنهم ألوط بقلبي وأدنى من نفسي على ما توجبه واجبة الولادة للأبوة في تقديمهم ، ولكني لا أجد عندهم ما أجده عنده. ولو كان ما يضطلع به يزيد في بعيدٍ لصار قريباً، وفي عدوٍ لصار حبيباً. وسأريك في ليلتي هذه ما ينفسح به اللوم عني ويتبين به عذري. يا غلام اذهب فادع جساساً وزائدة وعبد الله فلاناً وفلاناً، حتى أتى على أسماء ولده؛ فلم يلبث أن جاؤوا في الغلائل المطيبة والنعال السندية، وذلك بعد هدأةٍ من الليل، فسلموا وجلسوا. ثم قال: يا غلام ادع لي يزيد وقد أسبل ستراً بينه وبين المرأة، وإذا به قد دخل عجلاً وعليه السلاح كله، فوضع رمحه بباب المجلس ثم أتى يحضر . فلما رآه معن قال: ما هذه الهيئة أبا الزبير؟ وكان يزيد يكنى أبا الزبير وأبا خالد فقال: جاءني رسول الأمير فسبق إلى نفسي أنه يريدني لوجهٍ، فقلت: إن كان مضيت ولم أعرج، وإن يكن الأمر على خلاف ذلك فنزع هذه الآلة أيسر الخطب. فقال لهم: انصرفوا في حفظ الله. فقالت المرأة: قد تبين عذرك. فأنشد معن متمثلاً:

نفس عصامٍ سودت عصاما

 

وعودته الكر والإقدامـا

وصيرته ملكاً همـامـا

 

 

من شعر أخته في رثائه: وأخبرني محمد بن الحسن الكندي قال حدثنا الرياشي قال: أنشدني الأصمعي لأخت الوليد بن طريف ترثيه:

ذكـرت الـولـيد وأيامـه

 

إذ الأرض من شخصه بلقع

فأقبلت أطلبه في السـمـاء

 

كما يبتغي أنفـه الأجـدع

أضاعك قومك فليطلـبـوا

 

إفادة مثل الذي ضـيعـوا

لو أن السيوف التي حدهـا

 

يصيبك تعلم ما تـصـنـع

نبت عنك أو جعلـت هـيبةً

 

وخوفاً لصولك لا تقـطـع

بعض أخلاق عبد الله بن طاهر: فأما خبر عبد الله بن طاهر في صنعته هذا الصوت، فإن عبد الله كان بمحل من علو المنزلة وعظم القدر ولطف مكانٍ من الخلفاء، يستغني به عن التقريظ له والدلالة عليه. وأمره في ذلك مشهور عند الخاصة والعامة، وله في الأدب مع ذلك المحل الذي لا يدفع، وفي السماحة والشجاعة ما لا يقاربه فيه كبير أحدٍ .


فرق خراج مصر وقال أبياته أرضى بها المأمون: أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد المبرد أن المأمون أعطى عبد الله بن طاهر مال مصر لسنةٍ خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرقه في الناس، ورجع صفراً من ذلك، فغاظ المأمون فعله. فدخل إليه يوم مقدمه فأنشده أبياتاً قالها في هذا المعنى، وهي:

نفسي فداؤك والأعناق خاضـعةً

 

للنائبات أبيا غير مـتـهـضـم

إليك أقبلت من أرضٍ أقمت بهـا

 

حولين بعدك في شوقٍ وفي ألـم

أقفو مساعيك اللاتي خصصت بها

 

حذو الشراك على مثلٍ من الأدم

فكان فضلي فيها أنـنـي تـبـع

 

لما سننت من الإنعام والـنـعـم

ولو وكلت إلى نفسي غنيت بهـا

 

لكن بدأت فلم أعجـز ولـم ألـم

فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك مكرمةً نلتها ولا أحدوثةً حسن عنك ذكرها، ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افترقت ولم تقدر على لم شعثك وإصلاح حالك. وزال ما كان في نفسه .


أتاه معلى الطائي ومدحه فأجازه: أخبرني وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ قال حدثني عبد الله بن فرقدٍ قال أخبرني محمد ابن الفضل محمد بن منصور قال: لما افتتح عبد الله بن طاهر مصر ونحن معه، سوغه المأمون خراجها. فصعد المنبر فلم يزل حتى أجاز بها كلها ثلاثة آلاف دينارٍ أو نحوها. فأتاه معلىً الطائي وقد أعلموه ما قد صنع عبد الله بن طاهر بالناس في الجوائز، وكان عليه واحداً، فوقف بين يديه تحت المنبر فقال: أصلح الله الأمير! أنا معلىً الطائي، وقد بلغ مني ما كان منك إلي من جفاءٍ وغلظٍ. فلا يغلظن علي قبلك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول:

يا أعظم الناس عفواً عند مقدرةٍ

 

وأظلم الناس عند الجود للمال

لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهباً

 

لما أشرت إلى خزنٍ بمثقـال

تغلى بما فيه رق الحمد تمـلـكـه

 

وليس شيء أعاض الحمد بالغالـي

تفك باليسر كف العسر من زمـنٍ

 

إذا استطال على قـوم بـإقـلال

لم تخل كفك من جودٍ لمخـتـبـطٍ

 

أ ومرهفٍ قاتلٍ في رأس قـتـال

وما بثثت رعيل الخيل فـي بـلـدٍ

 

إلا عصـفـن بـأرزاقٍ وآجـال

إن كنت على بـالٍ مـنـنـت بـه

 

فإن شكرك من قلبي علـى بـال

ما زلت منقضباً لولا مـجـاهـرة

 

من ألسنٍ خضن في صدري بأقوال

قال فضحك عبد الله وسر بما كان منه، وقال: يا أبا السمراء أقرضني عشرة آلاف دينار، فما أمسيت أملكها؛ فأقرضه فدفعها إليه .
أحسن إلى موسى بن خاقان ثم جفاه، فمدح موسى المأمون وعرض به: أخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال: كان موسى بن خاقان مع عبد الله بن طاهر بمصر، وكان نديمه وجليسه، وكان له مؤثراً مقدماً؛ فأصاب منه معروفاً كثيراً وأجازه بجوائز سنية هناك وقبل ذلك. ثم إنه وجد عليه في بعض الأمر، فجفاه وظهر له منه بعض ما لم يحبه، فرجع حينئذ إلى بغداد وقال: صوت:

إن كان عبد الله خلانا

 

لا مبدئاً عرفاً وإحسانا

فحسبنا الله رضينا بـه

 

ثم بعبد الله مـولانـا

يعني بعبد الله الثاني المأمون، وغنت فيه جاريته ضعف لحناً من الثقيل الأول، وسمعه المأمون فاستحسنه ووصله وإياها. فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فغاظه ذلك وقال: أجل! صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع .
وكانت ضعف إحدى المحسنات. ومن أوائل صنعتها وصدور أغانيها وما برزت فيه وقدمت فاختيرت، صنعتها في شعر جميلٍ:

أمنك سرى يا بثـن طـيف تـأوبـا

 

هدوءاً فهاج القلب شوقاً وأنصـبـا

عجبت له أن زار في النوم مضجعي

 

ولو زارني مستيقظاً كان أعجـبـا

الشعر لجميل، والغناء لضعف ثقيل أول بالبنصر .


قصته مع محمد بن يزيد الأموي: أخبرني عمي قال حدثني أبو جعفر بن الدهقانة النديم قال حدثنا العباس بن الفضل الخراساني، وكان من وجوه قواد طاهر وابنه عبد الله، وكان أديباً عاقلاً فاضلاً، قال: لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وأهله ويفخر بقتلهم المخلوع، عارضه محمد بن يزيد الأموي الحصني، وكان رجلاً من ولد مسلمة بن عبد الملك، فأفرط في السب وتجاوز الحد في قبح الرد، وتوسط بين القوم وبين بني هاشم فأربى في التوسط والتعصب. فكان مما قال فيه:

يا بن بيت النار موقدهـا

 

ما لـحـاذيه سـراويل

من حسين من أبوك ومن

 

مصعب! غالتكم غـول

نسب في الفخر مؤتشب

 

وأبــــوات أراذيل

قاتل المخلوع مقـتـول

 

ودم المقتول مطـلـول

وهي قصيدة طويلة. فلما ولي عبد الله مصر ورد إليه تدبير أمر الشام، علم الحصني أنه لا يفلت منه إن هرب ولا ينجو من يده حيث حل، وأحرز حرمه، وترك أمواله ودوابه وكل ما كان يملكه في موضعه، وفتح باب حصنه وجلس عليه، ونحن نتوقع من عبد الله بن طاهر أن يوقع به. فلما شارفنا بلده وكنا على أن نصبحه ، دعاني عبد الله في الليل فقال لي: بت عندي الليلة، وليكن فرسك معداً عندك لا يرد، ففعلت. فلما كان في السحر أمر غلمانه وأصحابه الأ يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب في السحر وأنا وخمسة من خواص غلمانه معه ، فسار حتى صبح الحصني، فرأى بابه مفتوحاً ورآه جالساً مفتوحاً مسترسلاً، فقصده وسلم عليه ونزل عنده وقال له: ما أجلسك ها هنا وحملك على أن فتحت بابك ولم تتحصن من هذا الجيش المقبل ولم تتنح عن عبد الله بن طاهر مع ما في نفسه عليك وما بلغه عنك؟ فقال: إن ما قلت لم يذهب علي، ولكني تأملت أمري، وعلمت أني أخطأت خطيئةً حملني عليها نزق الشباب وغرة الحداثة، وأني هربت منه لم أفته، فباعدت البنات والحرم، واستسلمت بنفسي وكل ما أملك؛ فأنا أهل بيتٍ قد أسرع القتل فينا، ولي بمن مضى أسوة؛ فإني أثق بأن الرجل إذا قتلني وأخذ مالي شفى غيظه ولم يتجاوز ذلك إلى الحرم ولا له فيهن أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته. قال: فوالله ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته. ثم قال له: أتعرفني؟ قال: لا والله! قال: أنا عبد الله بن طاهر، وقد أمن الله تعالى روعتك، وحقن دمك، وصان حرمك، وحرس نعمتك، وعفا عن ذنبك. وما تعجلت إليك وحدي إلا لتأمن من قبل هجوم الجيش، ولئلا يخالط عفوي عنك روعة تلحقك. فبكى الحصني وقام فقبل رأسه؛ وضمه إليه عبد الله وأدناه، ثم قال له: إما لا فلا بد من عتاب. يا أخي جعلني الله فداك! قلت شعراً في قومي أفخر بهم لم أطعن فيه على حسبك ولا ادعيت فضلاً عليك. وفخرت بقتل رجلٍ هو وإن كان من قومك، فهم القوم الذين ثأرك عندهم؛ فكان يسعك السكوت، أو إن لم تسكت لا تغرق ولا تسرف. فقال: أيها الأمير، قد عفوت، فاجعله العفو الذي لا يخلطه تثريب، ولا يكدر صفوه تأنيب. قال: قد فعلت، فقم بنا ندخل إلى منزلك حتى نوجب عليك حقاً بالضيافة. فقام مسروراً فأدخلنا، فأتى بطعام كان قد أعده، فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرفٍ له. وأقبل الجيش، فأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحلهم، ولا ينزل أحد منهم إلا في المنزل، وهو على ثلاثة فراسخ؛ فنزلت فرحلتهم. وأقام عنده إلى العصر . ثم دعا بدواةٍ فكتب له بتسويغه خراجه ثلاث سنين، وقال له: إن نشطت لنا فالحق بنا، وإلا فأقم بمكانك. فقال: فأنا أتجهز بالأمير. ففعل فلحق بنا بمصر ولم يزل مع عبد الله لا يفارقه حتى رحل إلى العراق، فودعه وأقام ببلده .


بعض الأشعار التي غنى فيها وذكر بعض أخبار استدعاها بيانها: فأما الأصوات التي غنى فيها عبد الله بن طاهر فكثيرة . وكان عبيد الله بن عبد الله إذا ذكر شيئاً منها قال: الغناء للدار الكبيرة، وإذا ذكر شيئاً من صنعته قال: الغناء للدار الصغيرة فمنها ومن مختارها وصدورها ومقدمها لحنه من شعر أخت عمرو بن عاصية وقيل: إنه لأخت مسعود بن شداد فإنه صوت نادر جيد. قال أبو العبيس بن حمدون وقد ذكره ففضله: جاء به عبد الله بن طاهر صحيح العمل مزدوج النغم بين لينٍ وشدةٍ على رسم الحذاق من القدماء، وهو: صوت:

هلا سقيتم بني سهـمٍ أسـيركـم

 

نفسي فداؤك من ذي غلةٍ صادي

الطاعن الطعنة النجلاء يتبعـهـا

 

مضرج بعد ما جادت بـإزبـاد

الشعر لأخت عمرو بن عاصية السلمي ترثيه . وكان بنو سهم، وهم بطن من هذيل، أسروه في حربٍ كانت بينهم ولم يعرفوه، فلما عرفوه قتلوه. وكان قد عطش فاستسقاهم، فمنعوه وقتلوه على عطشه. وقيل: إن هذا الشعر للفارغة أخت مسعود بن شداد. ولحن عبد الله بن طاهر خفيف ثقيل أول بالوسطى ابتداؤه استهلال .


أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قتلت بنو سهمٍ، وهم بطن من هذيل، عمرو بن عاصية السلمي، وكان رجلان منهم أخذاه أخذاً، فاستسقاهما ماء فمنعاه ذلك، ثم قتلاه. فقالت أخته ترثيه، وتذكر ما صنعوا به:

شبت هذيل وبهز بينها إرةً

 

فلا تبوخ ولا يرتد صاليها

ويروى: شبت هذيل وسهم، وهو الصحيح، ولكن كذا قال عمر بن شبة .

إن ابن عاصية المقتول بينكما

 

خلى علي فجاجاً كان يحميها

وقالت أيضاً ترثيه:

يا لهف نفسي لهفـاً دائمـاً أبـداً

 

على ابن عاصية المقتول بالوادي

هلا سقيتم بنس سهـمٍ أسـيركـم

 

نفسي فداؤك من ذي غلة صادي

قال: فغزا عرعرة بن عاصية هذيلاً يطلبهم بدم أخيه، فقتل منهم نفراً وسبى امرأةً فجردها، ثم ساقها معه عارية إلى بلاد بني سليم؛ فقالت عند ذلك :

ألامت سليم في السياق وأفحـشـت

 

وأفرط في السوق العنيف إسارها

لعل فتاةً مـنـهـم أن يسـوقـهـا

 

فوارس منها وهي بادٍ شـوارهـا

فإن سبقت عليا سليم بـذحـلـهـا

 

هذيلاً فقد باءت فكيف اعتذارهـا

ألا ليت شعري هل أرى الخيل شزباً

 

تثير عجاجاً مستطيراً غـبـارهـا

فترقا عيون بعد طـول بـكـائهـا

 

ويغسل ما قد كان بالأمس عارهـا

هذه رواية عمر بن شبة. فأما رواية أبو عبيدة فإنه خالفه في ذلك، وذكر في مقتله، فيما أخبرني به محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج عمرو بن عاصيةٍ السلمي ثم البهزي في جماعةٍ من قومه، فأغاروا على هذيل بن مدركة، فصادفوا حياً من هذيلٍ يقال لهم بنو سهم بن معاوية. وكانت امرأة من هذيل تحت رجل من بني بهزٍ، فقالت لابن لها معه : أي بني انطلق إلى أخوالك فأنذرهم بأن ابن عاصية قد أمسى يريدهم، وذلك حين عزم ابن عاصية على غزوهم وأراد المسير إليهم. فانطلق الغلام من تحت ليلته حتى أتى أخواله فأنذرهم، فقال: ابن عاصية السلمي يريدكم، فخذوا حذركم؛ فبدر القوم واستعدوا. وأصبح عمرو بن عاصية قريباً من الحي، فنزل فربأ لأصحابه على جبلٍ مشرف على القوم ، فإذا هم حذرون. فقال لأصحابه: أرى القوم حذرين إن لهم لشأناً، ولقد أنذروا علينا. فكمن في الجبل يطلب غفلتهم، فأصابه وأصحابه عطش شديد، فقال ابن عاصية لأصحابه: هل فيكم من يرتوي لأصحابه؟ فقال أصحابه: نخاف القوم، وأبى أحد منهم أن يجيبه إلى ذلك. قال: فخرج على فرسٍ له ومعه قربته. وقد وضعت هذيل على الماء منهم رصداً، وعلموا أنهم لا بد لهم من أن يردوا الماء. فمر بهم عمرو بن عاصية وقد كمن له شيخ وفتيان من هذيل، فلما نظروا إليه هم الفتيان أن يثاوراه . فقال الشيخ مهلاً! فإنه لم يركما. فكفا. فانتهى ابن عاصية إلى البئر، فنظر يميناً وشمالاً فلم ير أحداً والآخرون يرمقونه من حيث لا يراهم. فوثب نحو قربته فأخذها ثم دخل البئر فطفق يملأ القربة ويشرب. وأقبل الفتيان والشيخ معهم حتى أشرفوا عليه وهو في البئر، فرفع رأسه فأبصر القوم؛ فقالوا: قد أخزاك الله يا بن عاصية وأمكن منك! قال: ورمى الشيخ بسهم فأصاب أخمصه فأنفذه فصرعه، وشغل الفتيان بنزع السهم من قدم الشيخ، ووثب ابن عاصية من البئر شداً نحو أصحابه، وأدركه الفتيان قبل وصوله فأسراه. فقال لهما حين أخذاه: أروياني من الماء ثم اصنعا ما بدا لكما. فلم يسقياه وتعاوراه بأسيافهما حتى قتلاه. فقالت أخت عمرو بن عاصية ترثي أخاها:

يا لهف نفسي يوماً ضلةً جزعـاً

 

على ابن عاصية المقتول بالوادي

إذ جاء ينفض عن أصحابه طفلاً

 

مشي السبنتي أمام الأيكة العادي

هلا سقيتم بني سهـمٍ أسـيركـم

 

نفسي فداؤك من مستوردٍ صادي

قال أبو عبيدة: وآب غزي بني سليم بعد مقتل ابن عاصم. قال: فبلغ أخاه عرعرة بن عاصية قتل هذيلٍ أخاه وكيف صنع به، فجمع لهم جمعاً من قومه فيهم فوارس من بني سليم منهم عبيدة بن حكيم الشريدي وعمر بن الحارث الشريدي وأبو مالك البهزي وقيس بن عمرو أحد بني مطرود من بني سليم وفوارس من بني رعلٍ. قال: فسرى إليهم عرعرة، فالتقوا بموضع يقال له الجرف فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت بهم بنو سليم فأوجعوا فيهم وقتلوا منهم قتلى عظيمةً، وأسروا أسرى، وأصابوا امرأةً من هذيل فعروها من ثيابها واستاقوها مجردة فأفحشوا في ذلك. وقال عرعرة بن عاصية في ذلك يذكر من قتل:

ألا أبلغ هذيلاً حيث حلـت

 

مغلغلةً تخب مع الشفـيق

مقامكم غداة الجرف لمـا

 

تواقفت الفوارس بالمضيق

غداة رأيتم فرسان بـهـزٍ

 

ورعلٍ ألبدت فوق الطريق

تراميتم قلـيلاً ثـم ولـت

 

فوارسكم توقل كـل نـيق

بضربٍ تسقط الهامات منه

 

وطعنٍ مثل إشعال الحريق

وقال لي: إن هذا الشعر الذي فيه صنعة عبد الله بن طاهر لمسعود بن شداد يرثي أخاه، وزعم أن جرماً كانت قتلته وهو عطشان، فقال:

يا عين جودي لمسعود بن شـدادٍ

 

بكل ذي عبراتٍ شجـوه بـادي

هلا سقيتم بني جـرمٍ أسـيركـم

 

نفسي فداؤك من ذي غلةٍ صادي

فأنشدنيها بعض أصحابنا قال أنشدني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال أنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة لفارعة المرية أخت مسعود بن شداد ترثيه، فذكر من الأبيات البيت الأول، وبعده:

يا من رأى بارقاً قد بت أرمقـه

 

جوداً على الحرة السوداء بالوادي

أسقي به قبر من أعني وحب بـه

 

قبراً إلي ولو لـم يفـده فـادي

شهـاد أنـديةٍ رفـاع أبـنــيةٍ

 

شداد ألـويةٍ فـتـاح أســداد

نحار راغـيةٍ قـتـال طـاغـيةٍ

 

حلال رابـيةٍ فـكـاك أقــياد

قوال محكمةٍ نقـاض مـبـرمةٍ

 

فراج مبهـمةٍ حـبـاس أوراد

حلال ممرعةٍ حمال مضـلـعةٍ

 

قراع مفظعةٍ طـلاع أنـجـاد

جماع كل خصال الخير قد علموا

 

زين القرين وخطم الظالم العادي

أبا زرارة لا تبعد فكـل فـتًـى

 

يوماً رهين صفيحـاتٍ وأعـواد

والغناء في هذا الشعر لعبد الله بن طاهر خفيف ثقيلٍ أول بالبنصر. قال عبيد الله بن عبد الله ابن طاهر: لما صنع أبي هذا الصوت لم يحب أن يشيع عنه شيء من هذا ولا ينسب إليه؛ لأنه كان يترفع عن الغناء، وما جس بيده وتراً قط ولا تعاطاه، ولكنه كان يعلم من هذا الشأن بطول الدربة وحسن الثقافة ما لا يعرفه كبير أحدٍ. وبلغ من علم ذلك إلى أن صنع أصواتاً كثيرة، فألقاها على جواريه، فأخذنها عنه وغنين بها، وسمعها الناس منهن وممن أخذ عنهن. فلما أن صنع هذا الصوت:

هلا سقيتم بني جـرمٍ أسـيركـم

 

نفسي فداؤك من ذي غلةٍ صادي

نسبه إلى مالك بن أبي السمح. وكان لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها داحة، فكانت ترغب إلى عبد الله بن طاهر لما ندبه المأمون إلى مصر في أن يأخذها معه ، وكانت تغنيه، وأخذت هذا الصوت عن جواريه، وأخذه المغنون عنها ورووه لمالك مدة. ثم قدم عبد الله العراق فحضر مجلس المأمون، وغني الصوت بحضرته ونسب إلى مالك، فضحك عبد الله ضحكاً كثيراً. فسئل عن القصة فصدق فيها واعترف بصنعة الصوت. فكشف المأمون عن ذلك. فلم يزل كل من سئل عنه يخبر عمن أخذه عنه، فتنتهي القصة إلى داحة ثم تقف ولا تعدوها. فأحضرت داحة وسئلت فأخبرت بقصته؛ فعلم أنه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق وطبقته أنه لمالك. ويقال: إن إسحاق لم يعجب من شيءٍ عجبه من عبد الله وحذقه بمذاهب الأوائل وحكاياتهم .
قال: ومن غنائه أيضاً: صوت:

راح صحبي وعاود القلب داء

 

من حبيبٍ طلابه لي عنـاء

حسن الرأي والمواعيد لا يل

 

فى لشيءٍ مما يقول وفـاء

من تعزى عمن يحب فإنـي

 

ليس لي ما حييت عنه عزاء

الغناء لابن طنبورة خفيف ثقيلٍ أول بالسبابة في مجرى الوسطى. ولحن عبد الله بن طاهر ثاني ثقيلٍ بالبنصر. ومنها:

فمن يفرح ببينـهـم

 

فغيري إذ غدوا فرحا

شعر لعمر بن أبي ربيعة وسببه: صوت:

يا خليلي قد مـلـلـت ثـوائي

 

بالمصلى وقد شنئت البقـيعـا

بلغاني ديار هنـدٍ وسـلـمـى

 

وارجعا بي فقد هويت الرجوعا

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء للغريض خفيف ثقيلٍ بالوسطى في مجراها عن إسحاق ، وذكر الهشامي أنه لابن سريح. وذكر حبش أن فيه رملاً بالبنصر لإبراهيم. وفيه لحن لمعبدٍ ذكره حماد بن إسحاق عن أبيه ولم يجنسه . أخبرني بخبر عمر بن أبي ربيعة في هذا الشعر وقوله إياه الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا سليمان بن عياش السعدي قال أخبرني السائب بن ذكوان راوية كثير قال : قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص قال، وأخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن عثمان بن حفص والزبيري والمسيبي، وأخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة موقوفاً عليه. وجمعت رواياتهم، وأكثر اللفظ للزبير بن بكار وخبره أتم: أن عمر بن أبي ربيعة قدم المدينة، فزعموا أنه قدمها من أجل امرأةٍ من أهلها، فأقام بها شهراً؛ فذلك قوله:

يا خليلي قد مللت ثـوائي

 

بالمصلى وقد شنئت البقيعا

خرج هو والأحوص إلى مكة فمرا بنصيب وكثير وتحاوروا: قال: ثم خرج إلى مكة، فخرج معه الأحوص واعتمرا .


قال الزبير في خبره عن سائب راوية كثيرٍ إنه قال: لما مرا بالروحاء استتلياني فخرجت أتلوهما، حتى لحقتهما بالعرج عند رواحهما. فخرجنا جميعاً حتى وردنا ودان ، فحبسهما النصيب وذبح لهما وأكرمهما، وخرجنا وخرج معنا النصيب. فلما جئنا كلية عدلنا جميعاً إلى منزل كثيرٍ، فقيل لنا: هبط قديداً ، فذكر لنا أنه في خيمةٍ من خيامها. فقال لي ابن أبي ربيعة: اذهب فادعه لي. فقال النصيب: هو أحمق وأشد كبراً من أن يأتيك. فقال لي عمر: اذهب كما أقول لك فادعه لي. فجئته، فهش لي وقال: اذكر غائباً تره، لقد جئت وأنا أذكرك. فأبلغه رسالة عمر؛ فحدد إلي نظرةً وقال: أما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذه الرسالة! قلت: بلى والله! ولكني سترت عليك فأبى الله إلا أن يهتك سترك. فقال لي: إنك والله يا بن ذكوان ما أنت من شكلي؛ فقل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشياً فأنا قرشي. فقلت له: لا تترك هذا التلصق وأنت تقرف عنهم كما تقرف الصمغة! فقال: والله لأنا أثبت فيهم منك في سدوس. ثم قال: وقل له: إن كنت شاعراً فأنا أشعر منك. فقلت له: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: وإلى من هو ومن أولى بالحكم مني! وبعد هذا يا بن ذكوان فاحمد الله على لومك ؛ فقد منعك مني اليوم؟ فرجعت إلى عمر، فقال: ما وراءك؟ فقلت: ما قال لك نصيب. فقال: وإن. فأخبرته فضحك وضحك صاحباه ظهراً لبطنٍ، ثم نهضوا معي إليه. فدخلنا عليه في خيمةٍ، فوجدناه جالساً على جلد كبشٍ، فوالله ما أوسع للقرشي. فلما تحدثوا ملياً فأفاضوا في ذكر الشعر ، أقبل على عمر فقال له: أنت تنعت المرأة فتنسب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك. أخبرني يا هذا عن قولك:

قالت تصدى له ليعرفـنـا

 

ثم اغمزيه يا أخت في خفر

قالت لها وقد غمزته فأبـى

 

ثم اسبطرت تشتد في أثري

وقولها والدموع تسبـقـهـا

 

لنفسدن الطواف في عمـر

أتراك لو وصفت بهذا هرة أهلك ألم تكن قد قبحت وأسأت وقلت الهجر. إنما توصف الحرة بالحياء والإباء والالتواء والبخل والامتناع، كما يقال هذا وأشار إلى الأحوص:

أدور ولولا أن أرى أم جعفـرٍ

 

بأبياتكم ما درت حـيث أدور

وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى

 

إذا لم يزر لا بد أن سـيزور

لقد منعت معروفها أم جعفـرٍ

 

وإني إلى معروفها لفـقـير

قال: فدخلت الأحوص أبهة وعرفت الخيلاء فيه. فلما استبان كثير ذلك فيه قال: أبطل آخرك أولك. أخبرني عن قولك:

فإن تصلي أصلك وإن تبينـي

 

بصرمك بعد وصلك لا أبالي

ولا ألفى كمن إن سيم صرماً

 

تعرض كي يرد إلى الوصال

أما والله لو كنت فحلاً لباليت ولو كسرت أنفك. ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

 

وقل إن تملينا فما ملك القلـب

قال: فانكسر الأحوص، ودخلت النصيب أبهة. فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته، قال له: يا ابن السوداء، فأخبرني عن قولك:

أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت

 

فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي

أهمك من ينيكها بعدك! فقال نصيب: استوت القوق ، قال: وهي لعبة مثل المنقلة. ومن هذا الموضع ينفرد الزبير بروايته دون الباقين. قال سائب: فلما أمسك كثير أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبوب إلي أخبرني عن تخيرك لنفسك لمن تحب حيث تقول:

ألا ليتنا يا عز كنا لـذي غـنًـى

 

بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عر فـمـن يرنـا يقـل

 

على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منهلاً صاح أهـلـه

 

علينا فما ننفك نرمى ونضـرب

وددت وبيت اللـه أنـك بـكـرة

 

خجان وأني مصعب ثم نهـرب

نكون بعيري ذي غنًى فيضيعـنـا

 

فلا هو يرعانا ولا نحن نطلـب

وقال: تمنيت لها ولنفسك الرق والطرد والمسخ، فأي مكروهٍ لم تمن لها ولنفسك! لقد أصابها منك قول القائل: معاداة عاقلٍ خير من مودة أحمق. قال؛ فجعل يختلج جسده كله. ثم أقبل عليه الأحوص فقال: إلي يا بن استها أخبرك بخبرك وتعرضك للشر وعجزك عنه وإهدافك لمن رماك. أخبرني عن قولك:

وقلن وقد يكذبن فـيك تـعـيف

 

وشؤم إذا ما لم تطع صاح ناعقه

وأعييتـنـا لا راضـياً بـكـرامةٍ

 

ولا تاركاً شكوى الذي أنت صادقه

فأدركت صفو الود منا فلمـتـنـا

 

وليس لنا ذنب فنحـن مـواذقـه

وألفيتنا سلماً فصدعـت بـينـنـا

 

كما صدعت بين الأديم خوالـقـه

والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على نفسك. قال: فخفق كما يخفق الطائر. ثم أقبل عليه النصيب فقال: أقبل علي يا زب الذباب! فقد تمنيت معرفة غائبٍ عندي علمه فيك حيث تقول:

وددت وما تغني الودادة أنني

 

بما في ضمير الحاجبية عالم

فإن كان خيراً سرني وعلمته

 

وإن كان شراً لم تلمني اللوائم

انظر في مرآتك واطلع في جيبك واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها لك . فاضطرب اضطراب العصفور، وقال القوم يضحكون. وجلست عنده؛ فلما هدأ شأوه قال لي: أرضيتك فيهم؟ فقلت له: أما في نفسك فنعم! فقد نحس يومك معهم، وقد بقيت أنا عليك. فما عذرك ولا عذر لك في قولك:

سقى دمنتين لم نجد لهما أهلاً

 

بحقلٍ لكم يا عز قد رابنا حقلا

نجاء الثريا كـل آخـر لـيلةٍ

 

يجودهما جوداً ويتبعه وبـلا

ثم قلت في آخرها:

وما حسبـت ضـمـرية حـدرية

 

سوى التيس ذي القرنين أن لها بعلا

أهكذا يقول الناس ويحك! ثم تظن أن ذلك قد خفي ولم يعلم به أحد، فتسب الرجال وتعيبهم! فقال: وما أنت وهذا؟ وما علمك بمعنى ما أردت؟ فقلت: هذا عجب من ذاك. أتذكر امرأة تنسب بها في شعرك وتستغزر لها الغيث في أول شعرك، وتحمل عليها التيس في آخره! قال: فأطرق وذل وسكن. فعدت إلى أصحابي فأعلمتهم ما كان من خبره بعدهم. فقالوا: ما أنت بأهون حجارته التي رمي بها اليوم منا. قال فقلت لهم: إنه لم يترني فأطلبه بذحلٍ، ولكني نصحته لئلا يخل هذا الإخلال الشديد، ويركب هذه العروض التي ركب في الطعن على الأحرار والعيب لهم .


شدد والي مكة في الغناء، فخرج فتية إلى وادي محسر وبعثوا لابن سريج فغناهم: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني ابن جامع عن السعيدي عن سهل بن بركة وكان يحمل عود ابن سريج قال: كان على مكة نافع بن علقمة الكناني، فشدد في الغناء والمغنين والنبيذ، ونادى في المخنثين. فخرج فتية من قريش إلى بطنٍ محسرٍ وبعثوا برسولٍ لهم فأتاهم برواية من الشراب الطائفي. فلما شربوا وطربوا قالوا: لو كان معنا ابن سريج تم سرورنا. فقلت: هو علي لكم. فقال لي بعضهم: دونك تلك البغلة فاركبها وامض إليه. فأتيته فأخبرته بمكان القوم وطلبهم إياه. فقال لي: ويحك! وكيف لي بذاك مع شدة السلطان في الغناء وندائه فيه؟ فقلت له: أفتردهم؟ قال: لا والله! فكيف لي بالعود؟ فقلت له: أنا أخبؤه لك فشأنك. فركب وسترت العود وأردفني فلما كنا ببعض الطريق إذا أنا بنافع بن علقمة قد أقبل، فقال لي: يابن بركة هذا الأمير! فقلت: لا بأس عليك، أرسل عنان البغلة وامض ولا تخف، ففعل. فلما حاذيناه عرفني ولم يعرف ابن سريج، فقال لي يابن بركة: من هذا أمامك؟ فقلت: ومن ينبغي أن يكون! هذا ابن سريج. فتبسم ابن علقمة ثم تمثل:

فإن تنج منها يا أبان مسلمـاً

 

فقد أفلت الحجاج خيل شبيب

ثم مضى ومضينا. فلما كنا قريباً من القوم نزلنا إلى شجرةٍ نستريح، فقلت له: غن مرتجلاً؛ فرفع صوته فخيل إلي أن الشجرة تنطق معه، فغنى: صوت:

كيف الثواء ببطن مكة بعد ما

 

هم الذين تحب بـالإنـجـاد

أم كيف قلبك إذ ثويت مخمراً

 

سقماً خلافهم وكربك بـادي

هل أنت إن ظعن الأحبة غادي

 

أم قبل ذلك مدلـج بـسـواد

الشعر للعرجي. وذكر إسحاق في مجردة أن الغناء فيه لابن عائشة ثاني ثقيلٍ مطلق في مجرى الوسطى. وحكى حماد ابنه أن اللحن لابن سريج قال سهل: فقلت: أحسنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولو أن كنانة كلها سمعتك لاستحسنتك فكيف بنافع بن علقمة! المغرور من غره نافع. ثم قلت: زدني وإن كان القوم متعلقةً قلوبهم بك. فغنى وتناول عوداً من الشجرة فأوقع به على الشجرة؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضأن على العيدان إذا أخذتها قضبان الدفلى. قال: والصوت الذي غنى: صوت:

لا تجمعي هجراً علي وغـربةً

 

فالهجر في تلف الغريب سريع

من ذا فديتك يستطيع لحـبـه

 

دفعاً إذا اشتملت عليه ضلـوع

فقلت: بنفسي أنت والله من لا يمل ولا يكد، والله ما جهل من فهمك! اركب فدتك نفسي بنا. فقال: أمهلني كما أمهلتك اقض بعض شأني. فقلت: وهل عما تريد مدفع! فقام فصلى ركعتين، ثم ضرب بيده على الشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: يا حبيبتي إذا شهدت بذاك الشيء فاشهدي بهذا. ثم مضينا والقوم متشوقون. فلما دنونا أحست الدواب بالبغلة فصهلت، وشحجت البغلة، وإذا الغريض يغنيهم لحنه:

من خيل حيٍ ما تـزال مـغـيرةً

 

سمعت على شرفٍ صهيل حصان

فبكى ابن سريج حتى ظننت أن نفسه قد خرجت، فقلت: ما يبكيك يا أبا يحيى؟ جعلت فداك لا يسوءك الله ولا يريك سوءاً ! قال: أبكاني هذا المخنث بحسن غنائه وشجا صوته؛ والله ما ينبغي لأحدٍ أن يغني وهذا الصبي حي . ثم نزل فاستراح وركب. فلما سار هنيهة اندفع الغريض فغناهم لحنه:

يا خليلي قد مللت ثـوائي

 

بالمصلى وقد شنئت البقيعا

قال: ولصوته دوي في تلك الجبال. فقال ابن سريج: ويلك يابن بركة! أسمعت أحسن من هذا الغناء والشعر قط؟ قال: ونظروا إلينا فأقبلوا نشاوى يحبون أعطافهم، وجعلوا يقبلون وجه ابن سريج. فنزل فأقام عندهم ثلاثاً والغريض لا ينطق بحرف واحد ، وأخذوا في شرابهم وقالوا: يا حبيب النفس وشقيقها أعطها بعض مناها؛ فضرب بيده إلى جيبه فأخرج منه مضراباً، ثم أخذه بيده ووضع العود في حجره، فما رأيت يداً أحسن من يده، ولا خشبةً تخيلت إلي أنها جوهرة إلا هي، ثم ضرب فلقد سبح القوم جميعاً ثم غنى فكل قال: لبيك لبيك! فكان مما غنى فيه واللحن له هزج: صوت:

لبـيك يا سـيدتــي

 

لبـيك ألـفـاً عـددا

لبيك مـن ظـالـمةٍ

 

أحببتها مجـتـهـدا

قوموا إلى ملعـبـنـا

 

نحك الجواري الخردا

وضـع يدٍ فــوق يدٍ

 

ترفـعـهــا يداً يدا

فكل قال: نفعل ذاك. فلقد رأيتنا نستبق أينا تقع يده على يده. ثم غنى: صوت:

ما هاج شوقك بالصرائم

 

ربع أحال لأم عاصـم

ربع تـقـادم عـهـده

 

هاج المحب على التقادم

فيه النواعم والـشـبـا

 

ب الناعمون مع النواعم

من كل واضحة الجبـي

 

ن عيميةٍ ريا المعصـم

ثم إنه غنى: صوت:

شجاني مغاني الحي وانشقت العصا

 

وصاح غراب البين أنت مـريض

ففاضت دموعي عند ذاك صبـابةً

 

وفيهن خود كالمهاة غـضـيض

ووليت الغناء محزون الفؤاد مروعاً

 

كتيباً ودمعي في الـرداء يفـيض

الغناء لابن محرز خفيف ثقيلٍ مطلق في مجرى البنصر، وفيه خفيف ثقيلٍ آخر لابن جندب قال: فلقد رأيت جماعة طيرٍ وقعن بقربنا وما نحس قبل ذلك منها شيئاً؛ فقالت الجماعة: يا تمام السرور وكمال المجلس! لقد سعد من أخذ بحظه منك، وخاب من حرمك، يا حياة القلوب ونسيم النفوس جعلنا الله فداءك! غننا؛ فغنى واللحن له .
صوت:

يا هند إنك لو علم

 

ت بعاذلين تتابعا

وهذا الصوت يأتي خبره مفرداً لأن فيه طولاً فبدرت من بينهم فقبلت بين عينيه، فتهافت القوم عليه يقبلونه؛ فلقد رأيتني وأنا أرفعهم عنه شفقةً عليه .
ما في الأشعار التي تناشدها عمر وأصحابه من أغان: وفي هذه الأشعار التي تناشدها كثير وعمر ونصيب والأحوص أغان. منها: صوت:

أبصرتها ليلةً ونسـوتـهـا

 

يمشين بين المقام والحجـر

ما إن طمعنا بها ولا طمعت

 

حتى التقينا ليلاً على قـدر

بيضاً حساناً خرائداً قطـفـاً

 

يمشين هوناً كمشية البقـر

الشعر لعمر. والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشامي وحبشٍ. وذكر عمرو أن فيه لابن سريجٍ خفيف ثقيلٍ أول بالبنصر. ولأبي سعيدٍ مولى فائد ثقيل أول، وقيل: إنه لسنان الكاتب. ومن هذه القصيدة أيضاً، وهذا أولها: صوت:

يا من لقـلـبٍ مـتـيمٍ كـمـدٍ

 

بهذي بخودٍ مريضة الـنـظـر

تمشي رويداً إذا مشت فـضـلاً

 

وهي كمثل العسلوج مِ البـسـر

ما إن زال طرفي يحار إذ برزت

 

حتى عرفت النقصان في بصري

غناه ابن محرز، ولحنه من خفيف ثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. ومنها: صوت:

قالت لتربٍ لها تحـدثـهـا

 

لنفسدن الطواف في عمـر

قالت تصدي له ليعرفـنـا

 

ثم اغمزيه يا أخت في خفر

قالت لها قد غمزته فـأبـى

 

ثم استطيرت تشتد في أثري

غناء يونس خفيف ثقيلٍ أول بالبنصر عن حبشٍ. وقيل: إن فيه لعبد الله بن العباس لحناً جيداً .
ومنها ما لم يمض ذكره في الكتاب: صوت:

ألا ليتنا يا عز من غير بـغـضةٍ

 

بعيرين ترعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عر فـمـن يرنـا يقـل

 

على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منهلاً صاح أهـلـه

 

علينا فما ننفك نرمى ونضـرب

الغناء لإبراهيم، رمل بالوسطى عن حبشٍ .


فضلت عزة الأحوص في الشعر على كثير، فأنشدها فنقدته: أخبرنا محمد بن خلفٍ وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة عن عوانة وعيسى بن يزيد: أن كثيراً دخل على عزة ذات يومٍ، فقالت له: ما ينبغي لنا أن نأذن لك في الجلوس. قال: ولم؟ قالت: لأني رأيت الأحوص ألين جانباً في شعره منك وأضرع خداً للنساء، وإنه لأشعر منك حين يقول:

يأيها اللائمي فيها لأصرمـهـا

 

أكثرت لو كان يغني منك إكثار

ارجع فلست مطاعاً إذ وشيت بها

 

لا القلب سال ولا في حبها عار

وإني استرققت قوله:

وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى

 

إذا لم يزر لا بد أن سـيزور

وأعجبني قوله:

كم من دنيٍ لها قد صرت أتبعـه

 

ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا

وزادني كلفاً بالحب أن منـعـت

 

أحب شيءٍ إلى الإنسان ما منعـا

وقوله أيضاً:

وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي

 

وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

فقال كثير: قد والله أجاد! فما الذي استجفيت من قولي؟ قالت: أخزاك الله! أما استحييت حين تقول:

يحاذرن مني غيرةً قد عرفنها

 

لدي فما يضحكن إلا تبسمـا

فقال كثير:

وددت وبيت اللـه أنـك بـكـرةً

 

وأني مصعـب ثـم نـهـرب

كلانا به عر فمـن يرنـا يقـل

 

على حسنها جرباء تعدي وأجري

تكون لذي مالٍ كثيرٍ مـغـفـلٍ

 

فلا هو يرعانا ولا نحن نطلـب

فقالت لي: ويحك! لقد أردت بي الشقاء الطويل، ومن المنى ما هو أعفى من هذا وأطيب .
أبيات من شعر أبي زبيد وبيان ألحانه: صوت:

قد كنت في منظرٍ ومستـمـعٍ

 

عن نصر بهراء غير ذي فرس

لا ترة عندهم فتـطـلـبـهـا

 

ولا هم نهزة لـمـخـتـلـس

بكـف حـران ثـائرٍ بـــدم

 

طلاب وترٍ في الموت منغمس

إما تقارش بك الـرمـاح فـلا

 

أبكيك إلا للـدلـو والـمـرس

تذب عنه كـف بـهـا رمـق

 

طيراً عكوفاً كزور الـعـرس

عما قليلٍ يصبحن مـهـجـتـه

 

فهن من والغٍ ومـنـتـهـس

الشعر لأبي زبيد الطائي. والغناء لابن محرز في الأول والثاني خفيف ثقيلٍ الأول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر عمر بن بانة أن في الأربعة الأول خفيفي ثقيلٍ كلاهما بالبنصر لمعبد وابن محرز، ووافقه الهشامي في لحن معبدٍ في الأول والثاني وذكر أنه بالوسطى. وفي كتاب ابن مسجحٍ عن حماد له، فيه لحن يقال إنه لابن محرز. ولابن سريج في الأول والخامس والسادس والسابع رمل بالوسطى عن عمرو. وذكر لنا حبش أن الرمل لمعبد وذكر إسحاق أنه لابن سريج أيضاً، وأوله:

تذب عنه كف بها رمق

وفيه لمالك في السادس والسابع خفيف صقيل آخر. وفيه لابن عائشة رمل. وفيه لحنينٍ ثاني ثقيل. هذه الحكايات الثلاث عن يونس، وطرائقها عن الهشامي. ولمخارقٍ في الرابع والأول خفيف رملٍ. ولمتيم في الأول والثاني خفيف رملٍ آخر. وذكر حبش أن لإبراهيم في الأول والثاني ثاني ثقيل بالوسطى، ولابن مسجحٍ خفيف ثقيل بالوسطى .