الجحاف ونسبه

وقصته يوم البشر:

نسبه: هو الجحاف بن حكيم بن عاصم بن قيس بن سباع بن خزاعي بن محاربي بن فالج بن ذكوان ابن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور .


قصته يوم البشر وسبب ذلك: وكان السبب في ذلك فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيبٍ عن ابن الأعرابي، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصرٍ المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة، وقد جمعت روايتهم. وأكثر اللفظ في الخبر لابن حبيب: أن عمير بن الحباب لما قتلته بنو تغلب بالحشاك وهو إلى جانب الثرثار، وهو قريب من تكريت أتى تميم بن الحباب أخوه زفر بن الحارث فأخبره بمقتل عمير، وسأله الطلب له بثأره، فكره ذلك زفر، فسار تميم بن الحباب بمن تبعه من قيس، وتابعه على ذلك مسلم بن أبي ربيعة العقيلي. فلما توجهوا نحو بني تغلب لقيهم الهذيل في زراعة لهم؛ فقال: أين تريدون؟ فأخبروه بما كان من زفر، فقال: أمهلوني ألق الشيخ. فأقاموا ومضى الهزيل فأتى زفر؛ فقال: ما صنعت! والله لئن ظفر بهذه العصابة إنه لعار عليك، ولئن ظفروا إنه لأشد؛ قال زفر: فاحبس علي القوم؛ وقام زفر في أصحابه، فحرضهم، ثم شخص واستخلف عليهم أخاه أوساً، وسار حتى انتهى إلى الثرثار فدفنوا أصحابهم، ثم وجه زفر بن الحرث يزيد بن حمران في خيل، فأساء إلى بني فدوكس من تغلب، فقتل رجالهم واستباح أموالهم، فلم يبق في ذلك الجو غير امرأة واحدة يقال لها حميدة بنت امرئ القيس عاذت بابن حمران فأعاذها. وبعث الهذيل إلى بني كعب بن زهير فقتل فيهم قتلاً ذريعاً. وبعث مسلم بن ربيعة إلى ناحية أخرى فأسرع في القتل. وبلغ ذلك بني تغلب واليمن، فارتحلوا يريدون عبور دجلة، فلحقهم زفر بالكحيل وهو نهر أسفل الموصل مع المغرب فاقتتلوا قتالاً شديداً، وترجل أصحاب زفر أجمعون، وبقي زفر على بغل له، فقتلوهم من ليلتهم، وبقروا ما وجدوا من النساء. وذكر أن من غرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، وأن الدم كان في دجلة قريباً من رمية سهم. فلم يزالوا يقتلون من وجدوا حتى أصبحوا؛ فذكر أن زفر دخل معهم دجلة وكانت فيه بحة، فجعل ينادي ولا يسمعه أصحابه، ففقدوا صوته وحبسوا أن يكون قتل، فتذامروا وقالوا: لئن قتل شيخنا لما صنعنا شيئاً، فاتبعوه فإذا هو في دجلة يصيح بالناس وتغلب قد رمت بأنفسها تعبر في الماء فخرج من الماء وأقام في موضعه. فهذه الوقعة الحرجية لأنهم أحرجوا فألقوا أنفسهم في الماء. ثم وجه يزيد بن حمران وتميم بن الحباب ومسلم بن ربيعة والهذيل بن زفر في أصحابه، وأمرهم ألا يلقوا أحداً إلا قتلوه، فانصرفوا من ليلتهم، وكل قد أصاب حاجته من القتل والمال، ثم مضى يستقبل الشمال في جماعة من أصحابه، حتى أتى رأس الأثيل، ولم يخل بالكحيل أحداً والكحيل على عشرة فراسخ من الموصل فيما بينها وبين الجنوب فصعد قبل رأس الأثيل، فوجد به عسكراً من اليمن وتغلب، فقاتلهم بقية ليلتهم، فهربت تغلب وصبرت اليمن. وهذه الليلة تسميها تغلب ليلة الهرير. ففي ذلك يقول زفر بن الحارث، وقد ذكر أنها لغيره:

ولما أن نعى الناعي عميراً

 

حسبت سماءهم دهيت بليل

دهيت بليل، أي أظلمت نهاراً كأن ليلاً دهاها.

وكان النجم يطلع في قـتـامٍ

 

وخاف الذل من يمن سهـيل

وكنت قبيلها يا أم عـمـروٍ

 

أرجل لمتي وأجـر ذيلـي

فلو نبش المقابر عن عمـير

 

فيخبر من بلاء أبي الهـذيل

غداة يقارع الأبطال حـتـى

 

جرى منهم دماً مرج الكحيل

قبيل ينهـدون إلـى قـبـيل

 

تساقى الموت كيلاً بعد كيل

وفي ذلك يقول جرير يعير الأخطل:

أنسيت يومك بالجزيرة بعدمـا

 

كانت عواقبه علـيك وبـالا !

حملت عليك حماة قيسٍ خيلهـا

 

شعثاً عوابس تحمل الأبطـالا

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم

 

خيلاً تكر علـيكـم ورجـالا

زفر الرئيس أبو الهذيل أبادكـم

 

فسبى النساء وأحرز الأمـوالا

أغراه الأخطل بشعره بأخذ الثأر من تغلب ففعل وفر إلى الروم: فلما أن كانت سنة ثلاث وسبعين، وقتل عبد الله بن الزبير هدأت الفتنة واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وتكافت قيس وتغلب عن المغازي بالشام والجزيرة، وظن كل واحد من الفريقين أن عنده فضلاً لصاحبه، وتكلم عبد الملك في ذلك ولم يحكم الصلح فيه، فبينا هم على تلك الحال إذ أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان وعنده وجوه قيس قوله:

ألا سائل الجحاف هل هو ثـائر

 

بقتلى أصيبت من سليم وعامر !

أجحاف أن نهبط عليك فتلتـقـي

 

عليك بحور طاميات الزواخـر

تكن مثل أبداء الحباب الذي جرى

 

به البحر تزهاه رياح الصراصر

فوثب الجحاف يجر مطرفه وما يعلم من الغضب، فقال عبد الملك للأخطل: ما أحسبك إلا وقد كسبت قومك شراً. فافتعل الجحاف عهداً من عبد الملك على صدقات بكرٍ وتغلب، وصحبه من قومه نحو من ألف فارسٍ، فثار بهم حتى بلغ الرصافة قال: وبينها وبين شط الفرات ليلة، وهي في قبلة الفرات ثم كشف لهم أمره، وأنشدهم شعر الأخطل، وقال لهم: إنما هي النار أو العار، فمن صبر فليقدم ومن كره فليرجع، قالوا: ما بأنفسنا عن نفسك رغبة، فأخبرهم بما يريد، فقالوا: نحن معك فيما كنت فيه من خيرٍ وشر، فارتحلوا فطرقوا صهين بعد رؤبة من الليل وهي في قبلة الرصافة وبينهما ميل ثم صبحوا عاجنة الرحوب في قبلةٍ صهين والبشر وهو وادٍ لبني تغلب فأغاروا على بني تغلب ليلاً فقتلوهم، وبقروا من النساء من كانت حاملاً، ومن كانت غير حامل قتلوها. فقال عمر بن شبة في خبره: سمعت أبي يقول: صعد الجحاف الجبل فهو يوم البشر، ويقال له أيضاً يوم عاجنة الرحوب، يوم مخاشن، وهو جبل إلى جنب البشر، وهو مرج السلوطح لأنه بالرحوب وقتل في تلك الليلة ابناً للأخطل يقال له أبو غياثٍ، ففي ذلك يقول جرير له:

شربت الخمر بعد أبي غياثٍ

 

فلا نعمت لك السوءات بالا

قال عمر بن شبة في خبره خاصة: ووقع الأخطل في أيديهم، وعليه عباءة دنسة، فسألوه فذكر أنه عبد من عبيدهم، فأطلقوه، فقال ابن صفار في ذلك:

لم تنج إلا بالتعبـد نـفـسـه

 

لما تيقن أنـهـم قـوم عـدا

وتشابهت برق العباء عليهـم

 

فنجا ولو عرفوا عباءته هوى

وجعل ينادي: من كانت حاملاً فإلي، فصعدن إليه، فجعل يبقر بطونهن. ثم إن الجحاف هرب بعد فعله، وفرق عنه أصحابه ولحق بالروم، فلحق الجحاف عبيدة بن همامٍ التغلبي دون الدرب، فكر عليه الجحاف فهزمه، وهزم أصحابه وقتلهم، ومكث زمناً في الروم، وقال في ذلك:

فإن تطردوني تطردوني وقد مضى

 

من الورد يوم في دمـاء الأراقـم

لدن ذر قرن الشمس حتى تلبسـت

 

ظلاماً بركض المقربات الصلادم

رجع بعد عفو عبد الملك عنه وتمثل بشعر الأخطل: حتى سكن غضب عبد الملك، وكلمته القيسية في أن يؤمنه، فلان وتلكأ، فقيل له: إنا والله لا نأمنه على المسلمين إن طال مقامه بالروم؛ فأمنه، فأقبل فلما قدم على عبد الملك لقيه الأخطل فقال له الجحاف:

أبا مالكٍ هل لمتني إذ حضضتنـي

 

على القتل أم هل لامني لك لائمي

أبا مالكٍ إني أطعتك فـي الـتـي

 

حضضت عليها فعل حران حازم

فإن تدعني أخرى أجبك بمثلـهـا

 

وإني لطب بالوغى جـد عـالـم

قال ابن حبيب: فزعموا أن الأخطل قال له: أراك والله شيخ سوءٍ. وقال فيه جرير:

فإنك والجحاف يوم تـحـضـه

 

أردت بذاك المكث والورد أعجل

بكى دوبل لا يرقئ اللـه دمـعة

 

ألا إنما يبكي مـن الـذل دوبـا

وما زالت القتلى تمور دماؤهـم

 

بدجلة حتى ماء دجلة أشـكـل

فقال الأخطل: ما لجرير لعنه الله! والله ما سمتني أمي دوبلاً إلا وأنا صبي صغير ثم ذهب ذلك عني لما كبرت. وقال الأخطل:

لقد أوقع الجحاف بالبشر وقـعةً

 

إلى الله منها المشتكى والمعول

فسائل بني مروان ما بـال ذمةٍ

 

وحبلٍ ضعيفٍ لا يزال يوصـل

فإلا تغيرها قريش بملـكـهـا

 

يكن عن قريشٍ مستراد ومزحل

حمله الوليد دية قتلى البشر فاستطاع أن يأخذها من الحجاج: فقال عبد الملك حين أنشده هذا: فإلى أين يابن النصرانية؟ قال: إلى النار قال: أولى لك لو قلت غيرها! قال: ورأى عبد الملك أنه إن تركهم على حالهم لم يحكم الأمر، فأمر الوليد بن عبد الملك، فحمل الدماء التي كانت قبل ذلك بين قيس وتغلب، وضمن الجحاف قتلى البشر، وألزمه إياها عقوبةً له، فأدى الوليد الحمالات، ولم يكن عند الجحاف ما حمل، فلحق بالحجاج بالعراق يسأله ما حمل لأنه من هوازن، فسأل الإذن على الحجاج، فمنعه. فلقي أسماء بن خارجة؛ فعصب حاجته به فقال: إني لا أقدر لك على منفعةٍ، قد علم الأمير بمكانك وأبى أن يأذن لك؛ فقال: لا والله لا ألزمها غيرك أنجحت أو أكدت ، فلما بلغ ذلك الحجاج قال: ما له عندي شيء، فأبلغه ذلك؛ قال: وما عليك أن تكون أنت الذي توئسه فإنه قد أبى، فأذن له فلما رآه قال: أعهدتني خائناً لا أبا لك! قال: أنت سيد هوازن، وقد بدأنا بك، وأنت أمير العراقين ، وابن عظيم القريتين ، وعمالتك في كل سنة خمسمائة ألف درهم، وما بك بعدها حاجة إلى خيانةٍ ؛ فقال: أشهد أن الله تعالى وفقك، وأنك نظرت بنور الله، فإذا صدقت فلك نصفها العام، فأعطاه وأدوا البقية .


تنسك وخرج إلى الحج في زي عجيب: قال ثم تأله الجحاف بعد ذلك، واستأذن في الحج، فأذن له، فخرج في المشيخة الذين شهدوا معه، قد لبسوا الصوف وأحرموا، وأبروا أنوفهم أي خزموها وجعلوا فيها البرى ، ومشوا إلى مكة فلما قدموا المدينة ومكة جعل الناس يخرجون فينظرون إليهم، ويعجبون منهم، قال: وسمع ابن عمر الجحاف وقد تعلق بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم اغفر لي وما أراك تفعل! فقال له ابن عمر: يا هذا، لو كنت الجحاف ما زدت على هذا القول، قال: فأنا الجحاف، فسكت. وسمعت محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو يقول ذلك؛ فقال: يا عبد الله، قنوطك من عفو الله أعظم من ذنبك! قال عمر بن شبة في خبره: كان مولد الجحاف بالبصرة .


دخل على عبد الملك بعد أن أمنه فأنشده شعراً: قال عبد الله بن إسحاق النحوي: كان الجحاف معي في الكتاب، قال أبو زيد في خبره أيضاً: ولما أمنه عبد الملك دخل عليه في جبة صوف، فلبث قائماً، فقال له عبد الملك: أنشدني بعض ما قلت في غزوتك هذه وفجرتك، فأنشده قوله:

صبرت سليم للطعان وعامر

 

وإذا جزعنا لم نجد من يصبر

فقال له عبد الملك بن مروان: كذبت، ما أكثر من يصبر! ثم أنشده:

نحن الذين إذا علوا لم يفخـروا

 

يوم اللقا وإذا علوا لم يضجروا

فقال عبد الملك: صدقت، حدثني أبي عن أبي سفيان بن حرب أنكم كنتم كما وصفت يوم فتح مكة .
عود إلى قصة يوم البشر: حدثت عن الدمشقي عن الزبير بن بكار، وأخبرني وكيع عن عبد الله بن شبيب عن الزبير ابن بكارٍ عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عمرو بن عبد العزيز بن مروان: أنه حضر الجحاف عند عبد الملك بن مروان يوماً والأخطل حاضر في مجلسه ينشد:

ألا سائل الجحاف هل هو ثائر

 

بقتلى أصيبت من سليم وعامر

قال: فتقبض وجهه في وجه الأخطل. ثم إن الأخطل لما قال له ذلك قال له:

نعم سوف نبكيهم بكل مـهـنـدٍ

 

ونبكي عميراً بالرماح الخواطر

ثم قال: ظننت أنك يابن النصرانية لم تكن تجترئ علي ولو رأيتني لك مأسوراً. وأوعده، فما برح الأخطل حتى حم، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه؛ قال: هذا أجرتني منه يقظان، فمن يجيرني منه نائماً؟ قال: فجعل عبد الملك يضحك. قال: فأما قول الأخطل:

ألا سائل الجحاف هل هو ثائر

 

بقتلى أصيبت من سليم وعامر

فإنه يعني اليوم الذي قتلت فيه بنو تغلب عمير بن الحباب السلمي .


وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن الأعرابي عن المفضل: أن قيساً وتغلب تحاشدوا لما كان بينهم من الوقائع منذ ابتداء الحرب بمرج راهطٍ، فكانوا يتغاورون . وكانت بنو مالك بن بكر جامعةً بالتوباذ وما حوله، وجلبت إليها طوائف تغلب وجميع بطونها، إلا أن بكر بن جشم لم تجتمع أحلافهم من النمر بن قاسط. وحشدت بكر فلم يأت الجمع منهم على قدر عددهم. وكانت تغلب بدواً بالجزيرة لا حاضرة لها إلا قليل بالكوفة، وكانت حاضرة الجزيرة لقيسٍ وقضاعة وأخلاط مضر، ففارقتهم قضاعة قبل حرب تغلب، وأرسلت تغلب إلى مهاجريها وهم بأذربيجان، فأتاهم شعيب بن مليل في ألفي فارس. واستنصر عمير تميماً وأسداً فلم يأته منهم أحد؛ فقال:

أيا أخوينا من تمـيم هـديتـمـا

 

ومن أسدٍ هل تسمعان المنـاديا

ألم تعلما مذ جاء بكر بـن وائل

 

وتغلب ألفافاً تهز الـعـوالـيا

إلى قومكم قد تعلمون مكانهـم

 

وهم قرب أدنى حاضرين وباديا

وكان من حضر ذلك من وجوه بكر بن وائلٍ المجشر بن الحارث بن عامر بن مرة بن عبد الله بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وكان من سادات شيبان بالجزيرة فأتاهم في جمع كثيرٍ من بني أبي ربيعة. وفي ذلك يقول تميم بن الحباب بعد يوم الحشاك:

فإن تحتجز بالماء بكـر بـن وائلٍ

 

بنيعمنا فالـدهـر ذو مـتـغـير

فسوف نخيض الماء أو سوف نلتقي

 

فنقتص من أبناء عم المـجـشـر

وأتاهم زمام بن مالك بن الحصين من بني عمرو بن هاشم بن مرة في جمعٍ كبيرٍ فشهدوا يوم الثرثار، فقتل .
وكان فيمن أتاهم من العراق من بكر بن وائل عبيد الله بن زياد بن ظبيان، ورهصة بن النعمان بن سويد بن خالد من بني أسعد بن همام، فلذلك تحامل المصعب بن الزبير على أبان ابن زياد أخي عبيد الله بن زياد فقتله. وفي هذا السبب كانت فرقة عبيد الله لمصعبٍ، وجمعت تغلب فأكثرت فلما أتى عميراً كثرة من أتى من بني تغلب وأبطأ عنه أصحابه قال يستبطئهم:

أناديهم وقد خذلـت كـلاب

 

وحولي من ربيعة كالجبـال

أقاتلهم بحي بـنـي سـلـيمٍ

 

ويعصر كالمصاعيب النهال

فدًى لفوارس الثرثار قومي

 

وما جمعت من أهلي ومالي

فإما أمس قد حانت وفاتـي

 

فقد فارقت أعصر غير قال

أبعد فوارس الثرثار أرجـو

 

ثراء المال أو عدد الرجال !

ثم زحف العسكران، فأتت قيس وتغلب الثرثار، بين رأس الأثيل والكحيل، فشاهدوا القتال يوم الخميس. وكان شعيب بن مليلٍ وثعلبه بن نياطٍ التغلبيان قدماً في ألفي فارس في الحديد، فعبروا على قرية يقال لها لبى على شاطئ دجلة بين تكريت وبين الموصل، ثم توجهوا إلى الثرثار، فنظر شعيب إلى دواخن قيس، فقال لثعلبة بن نياط: سر بنا إليهم، فقال له: الرأي أن نسير إلى جماعة قومنا فيكون مقاتلنا واحداً، فقال شعيب: والله لا تحدث تغلب أني نظرت إلى دواخنهم ثم انصرفت عنهم، فأرسل ناساً من أصحابه قدامه وعمير يقاتل بني تغلب. وذلك يوم الخميس، وعلى تغلب حنظلة بن هوبرٍ، أحد بني كنانة بن تميم، فجاء رجل من أصحاب عميرٍ إليه فأخبره أن طلائع شعيب قد أتته، وأنه قد عدل إليه، فقال عمير لأصحابه: أكفوني قتال ابن هوبرٍ، ومضى هو في جماعة من أصحابه، فأخذ الذين قدمهم شعيب، فقتلهم كلهم غير رجل من بني كعب بن زهير يقال له: قتب بن عبيد، فقال عمير: يا قتب، أخبرني ما وراءك؟ قال: قد أتاك شعيب بن مليل في أصحابه. وفارق ثعلبة بن نياط شعيباً، فمضى إلى حنظلة بن هوبرٍ، فقاتل معه القيسية، فقتل، فالتقى عمير وشعيب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فما صليت العصر حتى قتل شعيب وأصحابه أجمعون، وقطعت رجل شعيب يومئذ، فجعل يقاتل القوم وهو يقول:

قد علمت قيس ونحن نعلم

 

أن الفتى يفتك وهو أجذم

فلما قتل نزل أصحابه، فعقروا دوابهم، ثم قاتلوا حتى قتلوا، فلما رآه عمير قتيلاً قال: من سره أن ينظر إلى الأسد عقيراً فها هو ذا. وجعلت تغلب يومئذ ترتجز وتقاتل وهي تقول:

انعوا إياساً واندبوا مجاشعاً

 

كلاهما كان كريماً فاجعا

ويه تغلب ضرباً ناقعـا

 

 

وانصرف عمير إلى عسكره، وأبلغ بني تغلب مقتل شعيب، فحميت على القتال، وتذامرت على الصبر، فقال محصن بن حصين بن جنجور أحد الأبناء: مضيت أنا ومن أفلت من أصحاب شعيب بعد العصر، فأتينا راهباً في صومعته، فسألنا عن حالنا، فأخبرناه، فأمر تلميذاً له، فجاء بخرق فداوى جراحنا، وذلك غداةً يوم الجمعة. فلما كان آخر ذلك اليوم أتانا خبر مقتل عمير وأصحابه، وهرب من أفلت منهم .
صوت:

إن جنبي على الفراش لنـاب

 

كتجافي الأسر فوق الظراب

من حديثٍ نمى إلي فمـا أط

 

عم غمضاً ولا أسيغ شرابي

لشرحبيل إذ تـعـاوره الأر

 

ماح في حال شدة وشبـاب

فارس يطعن الكماة جـريء

 

تحته قارح كلون الغـراب

عروضه من الخفيف. الأسر: البعير الذي يكون به السرر، وهي قرحة تخرج في كركرته، لا يقدر أن يبرك إلا على موضع مستوٍ من الأرض، والظراب: النشوز والجبال الصغار، واحدها ظرب. والشعر لغلفاء، وهو معد يكرب بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي يرثي أخاه شرحبيل قتيل يوم الكلاب الأول، والغناء للغريض ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وعمرو .


وكان السبب في مقتله وقصة يوم الكلاب فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد قال أخبرنا محمد بن حبيبٍ عن أبي عبيدة قال أخبرني إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قال أخبرني دماذ عن أبي عبيدة قال: كان من حديث الكلاب الأول أن قباذ ملك فارس لما ملك كان ضعيف الملك، فوثبت ربيعة على المنذر الأكبر بن ماء السماء وهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة فأخرجوه؛ وإنما سمي ذا القرنين لأنه كانت له ذؤابتان، فخرج هارباً منهم حتى مات في إيادٍ، وترك ابنه المنذر الأصغر فيهم وكان أذكى ولده فانطلقت ربيعة إلى كندة، فجاؤوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، فملكوه على بكر بن وائلٍ، واحتشدوا له؛ فقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيشٍ، فلما رأى ذلك المنذر كتب إلى الحارث بن عمروٍ: إني في غير قومي، وأنت أحق من ضمني، وأنا متحول إليك، فحوله إليه وزوجه ابنته هنداً. ففرق الحارث بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بني بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني أسيد ، وطوائف من بني عمرو بن تميمٍ والرباب، وصار معد يكرب بن الحارث وهو غلفاء في قيس، وصار سلمة بن الحارث في بني تغلب والنمر بن قاسطٍ وسعد بن زيد مناة. فلما هلك الحارث تشتت أمر بنيه، وتفرقت كلمتهم ومشت الرجال بينهم، وكانت المغاورة بين الحياء الذين معهم، وتفاقم الأمر حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع؛ فسار شرحبيل ومن معه من بني تميم والقبائل، فنزلوا الكلاب وهو فيما بين الكوفة والبصرة على سبع ليالٍ من اليمامة وأقبل سلمة بن الحارث في تغلب والنمر ومن معه، وفي الصنائع وهم الذين يقال لهم بنو رقية، وهي أم لهم ينتسبون إليها. وكانوا يكونون مع الملوك يريدون الكلاب. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة قد نهوهما عن الحرب والفساد والتحاسد، وحذروهما عثرات الحرب وسوء مغبتها، فلم يقبلا ولم يبرحا، وأبيا إلا التتايع واللجاجة في أمرهم، فقال امرؤ القيس بن حجر في ذلك:

أنى علي استتب لومكـمـا

 

ولم تلوما عمراً ولا عصما

كلا يمين الإله يجمـعـنـا

 

شيء وأخوالنا بني جشمـا

حتى تزور السباع ملحـمةً

 

كأنها من ثمـود أو إرمـا

وكان أول من ورد كلاب من جمع سلمة سفيان بن مجاشع بن دارم، وكان نازلاً في بني تغلب مع إخوته لأمه، فقتلت بكر بن وائلٍ بنين له، فيهم مرة بن سفيان، قتله سالم بن كعب بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان؛ فقال سفيان وهو يرتجز:

الشيخ شيخ ثـكـلان

 

والجوف جوف حران

والورد ورد عجـلان

 

أنعى مرة بن سفـيان

وفي ذلك يقول الفرزدق:

شيوخ منهم عدس بن زيد

 

وسفيان الذي ورد الكلابا

وأول من ورد الماء من بني تغلب رجل من بني عبد بن جشم يقال له النعمان بن قريع بن حارثة بن معاوية بن عبد بن جشم، وعبد يغوث بن دوسٍ، وهو عم الأخطل دوس والفدوكس أخوان على فرس له يقال له الحرون، وبه كان يعرف ثم ورد سلمة، بيني تغلب وسعد جماعة الناس، وعلى بني تغلب يومئذ السفاح واسمه سملة بن خالد بن كعب ابن زهير بن تميم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب وهو يقول:

إن الكلاب ماؤنا فخلوه

 

وساجراً والله لن تحلوه

فاقتتل القوم قتالاً شديداً، وثبت بعضهم لبعض؛ حتى إذا كان في آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب، وصبر ابنا وائلٍ: بكر وتغلب ليس معهم غيرهم، حتى إذا غشيهم الليل نادى منادي سلمة: من أتى برأس شرحبيل فله مائة من الإبل، وكان شرحبيل نازلاً في بني حنظلة وعمر بن تميم، ففروا عنه، وعرف مكانه أبو حنش وهو عصم بن النعمان بن مالك بن غياث بن سعدٍ بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيبٍ فصمد نحوه، فلما انتهى إليه رآه جالساً وطوائف الناس يقاتلون حوله، فطعنه بالرمح، ثم نزل إليه فاحتز رأسه وألقاه إليه. ويقال إن بني حنظلة وبني عمرو بن تميم والرباب لما انهزموا خرج معهم شرحبيل، فلحقه ذو السنينة واسمه حبيب بن عتبة بن حبيب بن بعج بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر وكانت له سن زائدة فالتفت شرحبيل فضرب ذا السنينة على ركبته، فأطن رجله، وكان ذو السنينة أخا أبي حنشٍ لأمه، أمهما سلمى بنت عدي بن ربيعة بنت أخي كليبٍ ومهلهلٍ، فقال ذو السنينة: قتلني الرجل! فقال أبو حنش: قتلني الله إن لم أقتله، فحمل عليه، فلما غشيه قال: يا أبا حنش، أملكاً بسوقه؟ قال: إنه كان ملكي، فطعنه أبو حنش، فأصاب رادفة السرج، فورعت عنه، ثم تناوله فألقاه عن فرسه، ونزل إليه فاحتز رأسه، فبعث به إلى سلمة مع ابن عم له يقال له أبو أجأ بن كعب بن مالك بن غياث، فألقاه بين يديه؛ فقال له سلمة: لو كنت ألقيته إلقاء رفيقاً! فقال: ما صنع بي وهو حي أشد من هذا، وعرف أبو أجأ الندامة في وجهه والجزع على أخيه، فهرب وهرب أبو حنش فتنحى عنه، فقال سعد يكرب أخو شرحبيل، وكان صاحب سلامةٍ معتزلاً عن جميع هذه الحروب:

ألا أبلغ أبا حـنـشٍ رسـولاً

 

فمالك لا تجيء إلى الثواب !

تعلم أن خير الـنـاس طـراً

 

قتيل بين أحجار الـكـلاب

تداعت حوله جشم بن بـكـر

 

وأسلمه جعاسيس الـربـاب

قتيل ما قتيلك يابن سلـمـى

 

تضربه صديقك أو تحابـي

فقال أبو حنش مجيباً له:

أحاذر أن أجيئكم فتحبـو

 

حباء أبيك يوم صنيبعات

فكانت غدرةً شنعاء تهفو

 

تقلدها أبواك إلى الممات

ويقال: إن الشعر الأول لسلمة بن الحارث .


وقال معد يكرب المعروف بغلفاء يرثي أخاه شرحبيل بن الحارث:

إن جنبي عن الفراش لنابـي

 

كتجافي الأسر فوق الظراب

من حديثٍ نمى إلي فـلا تـر

 

قأعيني ولا أسيغ شـرابـي

مرة كالذعاف أكتمهـا الـنـا

 

س على حر ملةٍ كالشهـاب

من شرحبيل إذ تعـاوره الأر

 

ماح في حال لذة وشـبـاب

يابن أمي ولو شهدتـك إذ تـد

 

عو تميماً، وأنت غير مجاب

لتركت الحسام تجري ظـبـاه

 

من دماء الأعداء يوم الكلاب

ثم طاعنت من ورائك حتـى

 

تبلغ الرحب أو تبز ثـيابـي

يوم ثارت بنو تـمـيم وولـت

 

خيلهم يتـقـين بـالأذنـاب

ويحكم يا بـنـي أسـيد إنـي

 

ويحكم ربكم ورب الربـاب

أين معطيكم الجزيل وحابـي

 

كم على الفقر بالمئين الكباب

فارس يضرب الكتيبة بالسـي

 

ف على نحره كنضح الملاب

فارس يطعن الكماة جـريء

 

تحته قارح كلون الـغـراب

قال: ولما قتل شرحبيل قامت بنو سعد بن زياد مناة بن تميم دون عياله، فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم، ودفعوا عنهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم. ولي ذلك منهم عوف بن شجنة بن الحارث بن عطارد بن عوف بن سعد بن كعبٍ، وحشد له فيه رهطه ونهضوا معه، فأثنى عليهم في ذلك امرؤ القيس بن حجرٍ، ومدحهم به في شعره فقال:

ألا إن قوماً كنتم أمس دونـهـم

 

عن استنقذوا جاراتكم آل غدران

عوير ومن مثل العوير ورهطه

 

وأسعد في يوم الهزاهز صفوان

وهي قصيدة معروفة طويلة: صوت:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

 

ولكن عين السخط تبدي المساويا

وأنت أخي ما لم تكن لي حـاجة

 

فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا

الشعر لعبد الله بن معاوية بن عبد الله الجعفري، يقوله للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس؛ هكذا ذكر مصعب الزبيري. وذكر مؤرج فيما أخبرنا به اليزيدي عن عمه أبي جعفر عن مؤرجٍ وهو الصحيح أن عبد الله بن معاوية قال هذا الشعر في صديقٍ له يقال له قصي بن ذكوان، وكان قد عتب عليه. وأول الشعر:

رأيات قصياً كان شيئاً ملففـاً

 

فكشفه التمحيص حتى بدا ليا

فلا زاد ما بيني وبينك بعدما

 

بلوتك في الحاجات إلا تنائيا

والغناء لبنان بن عمرون رمل بالوسطى. وفيه الثقيل الأول لعريب من رواية أبي العنبس وغيره .