بـيـروت

تحتضن بيروت ما يزيد عن مليون نسمة وتذخر بحيوية قلّ نظيرها بشكل لا يخفى على من يزورها للمرة الأولى. وبسبب موقعها الفريد فإن صدى حيويتها تلك يتردد بين البحر والجبل المحيطين بها. وبيروت أيضاً مدينة قديمة ذات تاريخ عريق يعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، عندما كانت تشكل إحدى مدن الساحل الكنعاني- الفينيقي المزدهرة.

استقطبت بيروت الزائرين منذ القدم، وكان لاعتدال مناخها وانفتاح أهلها وأسلوب عيشها الجذاب النصيب الأكبر في جعلها مركزاً مرموقاً للأعمال الناجحة.

مدينة تأبى أن تزول

اجتازت بيروت المحنة التي ألمت بها طيلة عقد ونصف من الزمن واستحقت عن جدارة لقب "المدينة التي تأبى أن تزول". ولكي يثبت اللبنانيون تلك الحيوية التي ميزتهم طوال تاريخهم، أطلقوا حركة بناء واسعة نشطة تهدف إلى إعادة إنشاء البنى التحتية الخدماتية. وبدأ العمل في وسط المدينة المدمر على تحقيق مخطط إعمار عملاق يلحظ، من جملة ما يلحظ، إقامة مراكز تجارية وسكنية خليقة بالقرن الواحد والعشرين.

تشكل التجارة جزءاً من طبيعة البيروتيين الذين اكتشفوا منذ القدم أهمية موقع مدينتهم المرفئية، كمجال التقاء بين الشرق والغرب يتمتع بيمزات تسهم في إنجاح المبادرات التجارية على اختلافها. فغدت بيروت مركزاً مالياً وتجارياً وصناعياً مرموقاً يتعاطى جميع النشاطات المالية والخدمات المصرفية بالإضافة إلى نشاطات أخرى متعددة في قطاعات البناء والتجارة والإستيراد والتصدير والصناعة.

وتمتاز العاصمة اللبنانية بصحافة نشطة تنشر مجموعة لا يستهان بها من الصحف والمجلات التي تصدر بلغات مختلفة، كالعربية والفرنسية والإنكليزية والأرمنية. وفيها أيضاً خمس جامعات تسهم في تحفيز الإنتاج العلمي وفي نشر الأفكار والابتكارات. وقد أدى تطور الإنتاج الفني فيها، من مسرح وسينما وموسيقى وفنون تشكيلية، إلى توطيد الشعور السائد بأنها مدينة في نمو مستمر. وبفضل التسهيلات التي تقدمها مؤسساتها الكبرى، أضحت بيروت ملتقى الندوات والمؤتمرات الإقليمية والدولية. وقد تم تهجيز مرفأ بيروت، بشكل يسمح له باستقبال عشرات سفن الشحن ومراكب السفر. ويسهم موقعه الملائم في جعله من المرافئ الأكثر أماناً. وقد تم إدراج مسألة تحديثه وتجهيزه في سياق خطة إعمار لبنان. أما مطار بيروت الدولي الذي يستقبل طائرات شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية بالإضافة إلى طائرات الشركات الأجنبية المتعددة، فقد أعدت له خطة توسيع وإعادة تجهيز وتنظيم شاملة.

نبذة عن تراث بيروت التاريخي

يخبئ موقع بيروت في جوفه تاريخاً يرقى إلى أكثر من خمسة آلاف سنة. فقد ورد اسمها في نصوص مكتوبة بالخط المسماري تعود إلى القرن الرابع عشر ق.م. ثم دخلت في غضون القرن الأول ق.م. في فلك السيطرة الرومانية وكانت تعرف آنذاك باسم "بيريتوس" وأصبحت بعد فترة قصيرة من الزمن مقراً لمدرسة فقه دامت شهرتها حتى العصر البيزنطي.

بيد أن أمجاد بيروت وعظمتها ما لبثت أن انهارت بفعل الكوارث التي حلت بها عام 551 ب.م.، عندما ضربها زلزال عنيف رافقه مد بحري جارف واشتعال عدد لا يحصى من الحرائق. ثم فتحها المسلمون بعد نحو قرن من الزمن فاستمرت تحت سلطتهم حتى عام 1110 حين سقطت في أيدي الصليبيين الذين حكموها زهاء قرنين من الزمن إلى أن انتقلت في العام 1291 إلى أيدي المماليك. وبعد أن قضى الأتراك العثمانيون على المماليك عام 1516 دخلت بيروت في فلك امبراطوريتهم التي دامت 400 سنة، أي حتى سقوطها في نهاية الحرب العالمية الأولى. وجاءت بعد ذلك فترة الانتداب الفرنسي التي استمرت حتى عام 1943، وهي السنة التي حصل فيها لبنان على استقلاله.

الكشف عن الماضي

حتى الماضي القريب، وعلى الرغم من أن تاريخ بيروت يعود إلى آلف السنين، فإن معظم الاكتشافات الأثرية التي حصلت في المدينة إنما جاءت من طريق الصدفة. غير أنه مع انتهاء الحرب الأخيرة، عام 1999، وجدت بيروت نفسها أمام فرصة فريدة للبحث عن ماضيها من خلال حفريات أثرية علمية واسعة.

ويحتضن وسط بيروت التجاري الذي أعد له مخطط إعمار شامل كنوزاً تاريخية جليلة تتمثل ببقايا بيروت العثمانية والمملوكية والصليبية والعباسية والأموية والبيزنطية والرومانية والفارسية والفينيقية والكنعانية.. وإذا ساعدت الظروف على ذلك، فإن قسماً كبيراً من تاريخ المدينة سيكون جاهزاً للتدوين بعد انتهاء أعمال الإعمار.

لقد بدأ الأثريون والمتعهدون تنفيذ هذا المشروع منذ العام 1993. وقد عمل عدد من الفرق اللبنانية والأجنبية على اكتشاف بقايا أثرية تعود إلى فترات تاريخ بيروت المختلفة. ويعمل المنقبون على تسجيل هذه المكتشفات لعرضها في يوم من الأيام في خزائن المتحف الوطني أو في حدائق عامة أو داخل المنشآت الحديثة المزمع بناؤها.

الإعمـار

إن مشروع إعمار وسط بيروت الذي تقوم به شركة سوليدير يشمل نحو مليون وثمانماية ألف متر مربع، وهي مساحة سيتم توزيعها بين الفنادق والمكاتب والمجمعات السكنية. وقد تم ردم البحر على مساحة تزيد عن نصف مليون متر مربع لإنشاء مرفأين سياحيين ورصيف للمشاة بمحاذاة الشاطئ وحديقة عامة. ويلحظ المشروع كذلك إنشاء بنية تحتية عصرية تمتد على مدى خمس وعشرين سنة وتتمثل بشبكة طرقات وخدمات وفسحات عامة وأعمال بحرية. كما يلحظ المشروع الإبقاع على عدد من الأبنية والأسواق القديمة التي سيجري ترميمها.

مشاهد من بيروت

البنى الرومانية والبيزنطية

مجموعة من خمسة أعمدة: تقع بقرب ما كان يعرف بدرج الأربعين إلى يسار الداخل إلى كنيسة مار جرجس المارونية. تم العثور عليها وترميمها عام 1963. وقد كانت هذه الأعمدة جزءاً من طريق رومانية رئيسية.

بنية نصف دائرية: تم اكتشافها عام 1963 في أثناء حفر أساسات مبنى اللعازارية، مقابل كنيسة مار جرجس المارونية، وقد نقلت أجزاؤها المتبقية ورممت بالشكل التي هي عليه الآن عند مدخل المرفأ الشرقي إلى جانب جادة الرئيس شارل حلو.

الحمامات الرومانية: تم اكتشاف بقايا هذه الحمامات عامي 1968-1969 خلف شارع المصارف. وبين عام 1995 و1997 أعيد كشفها كما أجريت فيها بعض أعمال الحفر الإضافية بعد أن كانت الردميات قد غمرت معالمها في أثناء الحرب اللبنانية الأخيرة.

أربعة أعمدة بتيجانها وتعتيباتها: وقد عثر عليها عام 1968-1969 عند نقل ساعة العبد من وسط ساحة النجمة تجاه مبنى مجلس النواب.

أعمدة ذات تعتيبات مزخرفة: كانت تشكل جزءاً من رواق البازيليكة الرومانية التي تم تعرفها في الأربعينات بين ساحة النجمة والجامع العمري الكبير. وقد تم نقلها من موضعها إلى حديقة الجندي المجهول تجاه المتحف الوطني.

أرضية من الفسيفساء: تقع خلف أعمدة البازيلية تجاه المتحف الوطني. وتعود إلى بقايا كنيسة بيزنطية عثر عليها في الخمسينات في خلدة أثناء إنشاء مطار بيروت الدولي.

البنى الصليبية والمملوكية والعثمانية

سور من القرون الوسطى: جزء من السور الذي كان يحيط ببيروت في عصري الصليبيين والمماليك وقد تم اكتشافه في أثناء الحفريات الأثرية التي أجريت على طول شارع البطريرك الحويك إلى الشمال من شارع ريغن.

قلعة صليبية: جزء من القلعة التي كانت تشرف على المرفأ في أيام الصليبيين. وكان معظمها قد هدم عام 1860 في أثناء العمل على توسيع المرفأ القديم. بيد أن الحفريات الأثرية التي أجريت عام 1995 مكنت من كشف بعض أجزائها التي تظهر بنية ضخمة أدخلت في بنائها أعمدة رومانية بمثابة مرابط.

السراي الكبير: بني عام 1853 ليكون ثكنة عسكرية للحامية التركية. ثم أصبح في أيام الانتداب الفرنسي مقراً للمفوض السامي إلى أن أصبح مقراً لرئاسة الوزراء في عهد الاستقلال.

المستشفى العسكري التركي: أقيم عام 1860 في مقابل السراي الكبير، ثم تحول منذ عهد الاستقلال وحتى الستينات إلى قصر للعدل. ويشغله حالياً مجلس الإنماء والإعمار.

بـرج السـاعة: بني عام 1897 على مقربة من السراي الكبير، ثم جرى ترميمه عام 1994.

المساجد والجوامع

الجامع العمري الكبير: وهو في الأصل كنسة القديس مار يوحنا الصليبية التي أقيمت بين عام 1113 و1150، وتحولت بعد سقوط المدينة في أيدي المماليك عام 1291 إلى أكبر جامع في وسط المدينة. غير أن تاريخ الموقع يعود إلى تاريخ سحيق إذ أقيمت الكنيسة الصليبية على أنقاض كنيسة بيزنطية بنيت بدورها على أنقاض معبد قديم.

زاوية ابن العراق: أقامها محمد بن العراق الدمشقي عام 1517. وقد تم إبرازها عام 1991 بعد إزالة ما أحاط بها من أبنية وحوانيت تسببت بطمسها لسنين خلت.

جامع الأمير عساف: وقد عرف أيضاً باسم جامع باب السراي، ويقع تجاه مبنى القصر البلدي. وقد أقامه الأمير منصور عساف (1572-1580) على أنقاض كنيسة بيزنطية كانت تعرف باسم كنيسة المخلص.

جامع الأمير منذر التنوخي: أو جامع النوفرة، بسبب الفسقية التي كانت تزين صحنه، وقد أقيم عام 1620 على أنقاض بنية رومانية ما تزال بعض أعمدتها في جواره.

جامع المجيدية: أقيم في أواسط القرن التاسع عشر في أيام السلطان عبد المجيد الأول (1839-1861).

الكنائس

كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس: أقيمت عام 1767 على أنقاض عدد من البنى الدينية الأقدم عهداً. وكانت حتى عشية الحرب اللبنانية التي اتت على رسومها الجدرانية أقدم كنائس بيروت على الإطلاق.

كاتدرائية النبي الياس للروم الكاثوليك: بنيت في أواسط القرن التاسع عشر، وكانت تتميز بزخارفها الرخامية الدقيقة.

كنيسة القديس لويس للآباء الكبوشيين: أقيمت عام 1863 لخدمة أبناء الجاليات الأجنبية من أبتاع الطقس اللاتيني.

الكنيسة الإنجيلية: أقامها المبشرون الأنكلو- أميركيون لخدمة أبناء الطائفة الإنجيلية.

كاتدرائية القديس جاورجيوس المارونية: وقد أقامها المطران يوسف الدبس عام 1888 على أنقاض كنيسة تحمل الاسم عينه.

المتاحف

المتحف الوطني: تم افتتاح هذا الصرح الثقافي عام 1942، وهو اليوم مقفل بانتظار الانتهاء من أعمال ترميمه وإعادة تأهيله.

متحف نقولا إبراهيم سرسق: وهو متحف خاضع لوصاية بلدية بيروت وتقام فيه معارض فنية تتناول الفنون التشكيلية على اختلافها بالإضافة إلى مجموعته الخاصة الدائمة.

متحف الجامعة الأميركية في بيروت: وهو متحف يحتوي مجموعة أثرية متنوعة، يفتح أبوابه للزائرين يومياً بين الساعة  العاشرة صباحاً والرابعة بعد الظهر ما عدا أيام العطل الجامعية.

كيف تمضي وقتك في بيروت؟

تشكل المتاحف وصالات عرض الفنون التشكيلية والقاعات الجامعية أماكن مفضلة لإحياء النشاطات الثقافية على اختلافها. كما أنه هناك عدد لا بأس به من شركات السياحة والسفر التي تؤمن للزائر عدداً من الجولات السياحية ضمن الأراضي البنانية بشكل عام وضمن بيروت بشكل خاص.

هناك الكثير من المطاعم المتخصصة التي تمكنك من تذوق أطباق لبنانية صرفة تم تحضيرها بحسب الطرق التقليدية، ومن أشهرها تلك الأطباق الصغيرة المتنوعة التي يطلق عليها اللبنانيون اسم المازات، وهناك أيضاً الكثير من المآكل العالمية وألوانها. أما الحياة الليلية فتتوزع بين المقاهي والملاهي والمراقص التي تقدم للزائر ما يسمح له بتمضية أوقات ممتعة.

ما زال حمام النزهة يشكل حزءاً هاماً من التقاليد البيروتية العريقة. وعلى الرغم من أن بناءه لا يعتبر من الأبنية القديمة المميزة، فإن الخدمة التي يوفرها تغوص جذورها في التراث. ويفتح هذا الحمام أبوابه نهار الإثنين صباحاً للنساء وسائر أيام الأسبوع للرجال.

جميع أنواع الرياضة متوافرة في بيروت. فهناك ميدان سباق الخيل حيث تتبارى أجود أنواع الخيول العربية بعد ظهر كل يوم أحد. وهناك نادي الغولف، بمسابحه وملاعب الغولف والتنس فيه. وكذلك المسابح المنتشرة على الشاطئ وما تقدمه من تسهيلات لممارسة جميع الهوايات الرياضية. أضف إلى ذلك نوادي الكمال الجسماني التي انتشرت في معظم أنحاء العاصمة.

إن أفضل ما يمكنك القيام به لتتعرف على المدينة هو أن تسير على قدميك، وإذا قصدت منطقة الروشة تطالعك صخور عملاقة عند طرف بيروت الغربي.

وقد شهد هذا الشاطئ الصخري أولى نشاطات الإنسان في بقعة بيروت، إذ عثر فيه على أدوات صوانية تعود إلى مئات ألوف السنين. وتعج منطقة الروشة بالمطاعم التي تقدم المآكل اللبنانية والأجنبية، وبالمقاهي التي تقدم المشروبات المبردة وبعض المأكولات السريعة.