أخبار علي بن الخليل

هو رجل من أهل الكوفة مولًى لمعن بن زائدة الشيباني، ويكنى أبا الحسن، وكان يعاشر صالح بن عبد القدوس لا يكاد يفارقه، فاتهم بالزندقة، وأخذ مع صالح ثم أطلق لما انكشف أمره.


قال محمد بن داود بن الجراح: حدثني محمد بن الأزهر عن زياد بن الخطاب عن الرشيد، أنه جلس بالرافقة للمظالم، فدخل عليه علي بن الخليل وهو متوكىء على عصا، وعليه ثياب نظاف، وهو جميل الوجه حسن الثياب، في يده قصة، فلما رآه أمر بأخذ قصته، فقال له يا أمير المؤمنين: أنا أحسن عبارة لها، فإن رأيت أن تأذن لي في قراءتها فعلت. قال: اقرأها، فاندفع ينشده فيها قصيدته:

يا خير من وخدت بأرحله

 

نجب الركاب بمهمه جلس

فاستحسنها الرشيد وقال له: من أنت؟ قال: أنا علي بن الخليل الذي يقال فيه إنه زنديق، فضحك وقال له: أنت آمن، وأمر له بخمسة آلاف درهم، وخص به بعد ذلك وأكثر مدحه.


أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان الرشيد قد أخذ صالح بن عبد القدوس وعلي بن الخليل في الزندقة وكان علي بن الخليل استأذن أبا نواس في الشعر فأنشده علي بن الخليل:

يا خير من وخدت بأرحـلـه

 

نجبٌ تخبٌّ بمهمهٍ جـلـس

تطوي السباسب في أزمتهـا

 

طي التجار عمائم الـبـرس

لما رأتك الشمس إذ طلعـت

 

كسفت بوجهك طلعة الشمس

خير البرية أنـت كـلـهـم

 

في يومك الغادي وفي أمس

وكذاك لن تنفـك خـيرهـم

 

تمسي وتصبح فوق ما تمسي

لله ما هـرون مـن مـلـك

 

بر السريرة طاهر النفـس

ملك علـيه لـربـه نـعـمٌ

 

تزداد جدتها على اللـبـس

تحكي خلافته ببهـجـتـهـا

 

أنق السرور صبيحة العرس

من عترةٍ طابت أرومتـهـم

 

أهل العفاف ومنتهى القدس

نطقٍ إذا احتضرت مجالسهم

 

وعن السفاهة والخنا خرس

إني إليك لجأت مـن هـربٍ

 

قد كان شردني ومن لبـس

واخترت حكمك لا أجـاوزه

 

حتى أوسد في ثرى رمسي

لما استخرت الله في مـهـلٍ

 

يممت نحوك رحلة العنـس

كم قد قطعت إليك مـدرعـاً

 

ليلاً بهيم اللون كالـنـقـس

إن هاجني من هاجسٍ جـزعٌ

 

كان التوكل عنده تـرسـي

ما ذاك إلا أنـنـي رجــل

 

أصبو إلى بقر مـن الإنـس

بقرٍ أوانس لا قـرون لـهـا

 

نجل العيون نواعمٍ لـعـس

ردع العبير على تـرائبـهـا

 

يقبلن بالترحيب والخـلـس

وأشاهد الفـتـيان بـينـهـم

 

صفراء عند المزج كالورس

للماء في حافاتهـا حـبـبٌ

 

نظم كرقم صحائف الفـرس

والله يعلـم فـي بـقـيتـه

 

ما إن أضعت إقامة الخمس

فأطلقه للرشيد، وقتل صالح بن عبد القدوس، واحتج عليه في أنه لا يقبل له توبة بقوله:

والشيخ لا يتـرك أخـلاقـه

 

حتى يوارى في ثرى رمسه

وقال: إنما زعمت ألا تترك الزندقة ولا تحول عنها أبداً.


أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أحمد بن زهير بن حرب، قال: كان عافية بن يزيد يصحب ابن علاثة، فأدخله على المهدي، فاستقضاه معه بعسكر المهدي وكانت قصة يعقوب مع أبي عبيد الله كذلك، أدخله إلى المهدي ليعرض عليه، فغلب عليه، علي بن الخليل في ذلك:

عجباً لتصـريف الأمـو

 

ر مسـرةً وكـراهـيه

رثت ليعـقـوب بـن دا

 

ودٍ حـبـال مـعـاويه

وعدت على ابن علاثة ال

 

قاضي بوائق عـافـيه

أدخلته فـعـلا عـلـي

 

ك كذاك شؤم الناصـية

وأخذت حتفك جـاهـداً

 

بيمينك الـمـتـراخـيه

يعقوب ينظر في الأمـو

 

ر وأنت تنظر نـاحـيه

أخبرني عمي الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عمرو بن فراس الذهلي عن أبيه قال: قال لي محمد بن الجهم البرمكي: قال لي المأمون يوماً: يا محمد: أنشدني بيتاً من المديح جيداً فاخراً عربياً لمحدث حتى أوليك كورةً تختارها. قال قلت: قول علي بن الخليل:

فمع السماء فروع نبعـتـهـم

 

ومع الحضيض منابت الغرس

متهللين عـلـى أسـرتـهـم

 

ولدى الهياج مصاعبٍ شمس

فقال: أحسنت، وقد وليتك الدينور، فأنشدني بيت هجاء على هذه الصفة حتى أوليك كورةً أخرى، فقلت: قول الذي يقول:

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم

 

حسنت مناظرهم لقبح المخبر

فقال: قد أحسنت، قد وليتك همذان، فأنشدني مرثيةً على هذا حتى أزيدك كورة أخرى، فقلت: قول الذي يقول:

أرادوا ليخفوا قبره عـن عـدوه

 

فطيب تراب القبر دل على القبر

فقال: وقد أحسنت، قد وليتك نهاوند، فأنشدني بيتاً من الغزل على هذا الشرط حتى أوليك كورة أخرى، فقلت: قول الذي يقول:

تعالي نجدد دارس العلم بيننـا

 

كلانا على طول الجفاء ملوم

فقال: قد أحسنت، قد جعلت الخيار إليك فاختر، فاخترت السوس من كور الأهواز، فولاني ذلك أجمع ووجهت إلى السوس بعض أهلي.


أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد، عن التوزي، قال: نزل أبو دلامة بدهقان يكنى أبا بشر، فسقاه شراباً أعجبه، فقال في ذلك:

سقاني أبو بشر من الراح شربةً

 

لها لذةٌ ما ذقـتـا لـشـراب

وما طبخوها غير أن غلامهـم

 

سعى في نواحي كرمها بشهاب

قال: فأنشد علي بن الخليل هذين البيتين فقال: أحرقه العبد أحرقه الله.


أخبرني الحسن بن علي، وعمي الحسن بن محمد، قالا: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن عمران الضبي عن علي بن يزيد قال: ولد ليزيد بن مزيد ابن، فأتاه علي بن الخليل فقال: اسمع أيها الأمير تهنئةً بالفارس الوارد، فتبسم وقال: هات، فأنشده:

يزيد يا بن الصـيد مـن وائلٍ

 

أهل الرياسات وأهل المعال

يا خير من أنـجـبـه والـد

 

ليهنك الفارس ليث الـنـزال

جاءت به غـراء مـيمـونة

 

والسعد يبدو في طلوع الهلال

عليه من مـعـن ومـن وائلٍ

 

سيما تباشيرٍ وسيمـا جـلال

واللـه يبـقـيه لـنـا سـيدا

 

مدافعاً عنا صروف الـلـيال

حتى نراه قد علا مـنـبـرا

 

وفاض في سؤاله بالـنـوال

وسد ثغراً فـكـفـى شـره

 

وقارع الأبطال تحت العوال

كمـا كـفـانـا ذاك آبـاؤه

 

فيحتذي أفعالهم عن مـثـال

فأمر له عن كل بيت بألف دينار.


أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني ابن الأعرابي المنجم الشيباني، عن علي بن عمرو الأنصاري، قال: دخل علي بن الخليل على المهدي فقال له: يا علي، أنت على معاقرتك الخمر وشربك لها؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: وكيف ذاك؟ قال: تبت منها، قال: فأين قولك؟

أولعت نفسي بلـذتـهـا

 

ما ترى عن ذاك إقصارا

وأين قولك:

إذا ما كنت شاربها فـسـرًّا

 

ودع قول العواذل واللواحي

قال: هذا شيء قلته في شبابي، وأنا القائل بعد ذلك:

على اللذات والراح الـسـلام

 

تقضى العهد وانقطع الذمـام

مضى عهد الصبا وخرجت منه

 

كما من غمده خرج الحسـام

وقرت على المشيب فليس مني

 

وصال الغانيات ولا الـمـدام

وولى اللهو والقينـات عـنـي

 

كما ولى عن الصبح الظـلام

حلبت الدهر أشطره فعـنـدي

 

لصرف الدهر محمـودٌ وذام

أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني محمد بن الحسن بن الحرون، عن علي بن عبيدة الشيباني، قال: دخل علي بن الخليل ذات يوم إلى معن بن زائدة فحادثه وناشده، ثم قال له معن: هل لك في الطعام؟ قال: إذا نشط الأمير، فأتيا بالطعام، فأكلا، ثم قال: هل لك في الشراب؟ قال: إن سقيتني ما أريد شربت، وإن سقيتني من شرابك فلا حاجة لي فيه، فضحك ثم قال: قد عرفت الذي تريد، وأنا أسقيك منه، فأتي بشراب عتيق، فلما شرب منه وطابت نفسه أنشأ يقول:

يا صاح قد أنعمت إصباحي

 

ببارد السلسـال والـراح

قد دارت الكأس برقـراقةٍ

 

حياة أبــــدانٍ وأرواح

تجري على أغيد ذي رونقٍ

 

مهذب الأخلاق جحجـاح

ليس بفحاش على صاحـب

 

ولا على الراح بفضـاح

تسره الكأس إذا أقـبـلـت

 

بريح أتـرجٍّ وتـفــاح

يسعى بها أزهر في قرطق

 

مقلد الـجـيد بـأوضـاح

كأنها الزهرة فـي كـفـه

 

أو شعلة في ضوء مصباح

حدثنا علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان لعلي بن الخليل الكوفي صديق من الدهاقين يعاشره ويبره، فغاب عنه مدةً طويلة وعاد إلى الكوفة وقد أصاب مالاً ورفعةً، وقويت حاله، فادعى أنه من بني تميم، فجاءه علي بن الخليل فلم يأذن له، ولقيه فلم يسلم عليه، فقال يهجوه:

يروح بنسبة المولـى

 

ويصبح يدعي العربا

فلا هـذا ولا هــذا

 

ك يدركه إذا طلـبـا

أتـينـاه بـشـبـوطٍ

 

ترى في ظهره حدبا

فقال أما لبخلـك مـن

 

طعامٍ يذهب السغبـا

فصد لأخيك يربوعـاً

 

وضبًّا واترك اللعبـا

فرشت له قريح المس

 

ك والنسرين والغربا

فأمسك أنفه عـنـهـا

 

وقام مولـياً هـربـا

يشم الشيح والقيصـو

 

م كي يستوجب النسبا

وقام إلـيه سـاقـينـا

 

بكأسٍ تنظم الحبـبـا

معـتـقةٍ مــروقةٍ

 

تسلي هم من شربـا

فآلى لا يسلسـلـهـا

 

وقال اصبب لنا حلبـا

وقد أبصرتـه دهـراً

 

طويلاً يشتهي الأدبـا

فصار تشبهاً بالـقـو

 

م جلفاً جافياً جشـبـا

إذا ذكر البرير بكـى

 

وأبدى الشوق والطربا

وليس ضميره في القو

 

م إلا التين والعنـبـا

جحدت أباك نسبـتـه

 

وأرجو أن تفـيد أبـا

قال علي بن سليمان: وأنشدني محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى جميعاً لعلي بن الخليل في هذا الذكر، وذكر ثعلب أن إسحاق بن إبراهيم أنشد هذه الأبيات لعلي، قال:

يأيها الراغـب عـن أصـلـه

 

ما كنت في موضع تهـجـين

متى تعربت وكـنـت امـرأً

 

من الموالى صـالـح الـدين

لو كنت إذ صرت إلى دعـوة

 

فزت من القوم بـتـمـكـين

لكف من وجدي ولـكـنـنـي

 

أراك بين الضـب والـنـون

فلو تـراه صـارفـاً أنـفـه

 

من ريح خـيريٍّ ونـسـرين

لقلت جلفٌ مـن بـنـي دارمٍ

 

حن إلى الـشـيح بـيبـرين

دعموص رمل زل عن صخرةٍ

 

يعاف أرواح الـبـسـاتـين

تنبو عن الناعـم أعـطـافـه

 

والخز والسنجـاب والـلـين

أخبرني جحظة ومحمد بن مزيد جميعاً، قالا: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه قال: كان علي بن الخليل جالساً مع بعض ولد المنصور، وكان الفتى يهوى جارية لعتبة مولاة المهدي، فمرت به عتبة في موكبها والجارية معها، فوقفت عليه وسلمت، وسألت عن خبره، فلم يوفها حق الجواب، لشغل قلبه بالجارية، فلما انصرفت أقبل عليه علي بن الخليل، فقال له:

راقب بطرفك من تـخـا

 

ف إذا نظرت إلى الخليل

فإذا أمنت لـحـاظـهـم

 

فعليك بالنظر الجـمـيل

إن العيون تـدل بـالـن

 

ظر المليح على الدخـيل

إما علـى حـبٍّ شـدي

 

دٍ أو على بغضٍ أصـيل

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال: كان علي بن الخليل يصحب بعض ولد جعفر بن المنصور، فكتب إليه والبة بن الحباب يدعوه، ويسأله ألا يشتغل بالهاشمي يومه ذلك عنه، ويصف له طيب مجلسه وغناءً حصله وغلاماً دعاه، فكتب إليه علي بن الخليل:

أما ولـحـاظ جـارية

 

تذيب حشاشة المـهـج

وسحر جفونها المضني

 

ك بين الفتر والـدعـج

مليحة كـل شـيء مـا

 

خلا من خلقها السمـج

وحرمة دنك المـبـزو

 

ل والصهباء منه تجـي

كأن مجيئها في الـكـأ

 

س حين تصب من ودج

لو انعرج الأنـام إلـى

 

بشاشة مجلسٍ بـهـج

وكنت بجـانـب جـدبٍ

 

لكان إليك منعـرجـي

وصار إليه في إثر الرقعة.