أخبار عثعث

نسبه كان عثعث أسود مملوكاً لمحمد بن يحيى بن معاذ، ظهر له منه طبع وحسن أخذ وأداء، فعلمه الغناء، وخرجه وأدبه، فبرع في صناعته، ويكنىأبا دليجة وكان مأبوناً؛ والله أعلم.


أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن ميمون بن هارون قال: حدثني عثعث الأسود، قال: مخارق كناني بأبي دليجة، وكان السبب في ذلك أن أول صوت سمعني أغنيه:

أبا دليجة من توصـي بـأرمـلة

 

أو من لأشعث ذي طمرين ممحال

فقال لي: أحسنت ياأبا دليجة، فقبلها وقبلت يده: أنا يا سيدي أبا المهنا؛ أتشرف بهذه الكنية إذا كانت نحلة منك. قال ميمون: وكان مخارق يشتهي غناؤه ويحزنه إذا سمعه.


ما وقع له في مجلس غناء قال أبو الفرج: نسخت من كتاب علي بن محمد بن نصر بخطه، حدثني يعني ابن حمدون قال: كنا يوماً مجتمعين في منزل أبي عيسى بن المتوكل، وقد عزمنا على الصبوح ومعنا جعفر بن المأمون، وسليمان بن وهب، وإبراهيم بن المدبر، وحضرت عريب وشارية وجواريهما، ونحن في أتم سرور، فغنت بدعة جارية عريب:

أعاذلتي أكثرت جهـلاً مـن الـعـذل

 

على غير شيء من ملامي وفي عذلي

والصنعة لعريب؛ وغنت عرفان:

إذا رام قلبي هجرها حال دونه

 

شفيعان من قلبي لها جـدلان

والغناء لشارية، وكان أهل الظرف والمتعانون في ذلك الوقت صنفين: عريبية وشارية ، فمال كل حزب إلى من يتعصب له منهما من الاستحسان والطرب والاقتراح، وعريب وشارية ساكتتان لا تنطقان، وكل واحدة من جواريهما تغني صنعة ستها لا تتجاوزها، حتى غنت عرفان:

بأبي من زارني في منامي

 

فدنا مني وفـيه نـفـار

فأحسنت ما شاءت، وشربنا جميعاً، فلما أمسكت قالت عريب لشارية: يا أختي لمن هذا اللحن؟ قالت لي، كنت صنعته في حياة سيدي، تعني إبراهيم بن المهدي، وغنيته إياه فاستحسنه، وعرضه على إسحاق فاستحسنوه، فأسكتت عريب، ثم قالت لأبي عيسى: احب يا بني فديتك أن تبعث إلى عثعث فتجيئني به، فوجّه إليه، فحضر وجلس، فلما اطمأن وشرب وغنى، قالت له: ياأبا دليجة أو تذكر صوت زبير بن دحمان عندي وأنت حاضر، فسألته أن يطرحه عليك؟ قال: وهل تنسى العذراءأبا عذرها ، نعم، والله إني لذاكره حتى كأننا أمس افترقنا عنه. قالت: فغنه، فاندفع فغنى الصوت الذي ادعته شارية حتى استوفاه وتضاحكت عريب، ثم قالت لجواريها: خذوا في الحق، ودعونا من الباطل، وغنوا الغناء القديم. فغنت بدعة وسائر جواري عريب، وخجلت شارية وأطرقت وظهر الانكسار فيها، ولم تنتفع هي يومئذ بنفسها، ولا أحد من جواريها ولا متعصبيها أيضا بأنفسهم.


قال: وحدثني يحيى بن حمدون قال: قال لي عثعث الأسود: دخلت يوماً على المتوكل هو مصطبح وابن المارقي يغنيه قوله:

أقاتلتي بالجيد والـقـد والـخـد

 

وباللون في وجه أرق من الورد

وهو على البركة جالس، قد طرب واستعاده الصوت مراراً وأقبل عليه، فجلست ساعة ثم قمت لأبول، فصنعت هزجاً في شعر البحتري الذي يصف فيه البركة:

إذا النجوم تراءت في جوانبهـا

 

ليلا حسبت سماء ركبت فيهـا

وإن علتها الصبا أبدت لها حبكا

 

مثل الجواشن مصقولاً حواشيهم

وزادها زينة من بعد زينتـهـا

 

أن اسمه يوم يدعى من أساميها

فما سكت ابن المارقي سكوتاً مستوجباً حتى اندفعت أغني هذا الصوت، فاقبل علي وقال لي : أحسنت وحياتي، أعد، فأعدت، فشرب قدحاً، ولم يزل يستعيدنيه ويشرب حتى اتكأ، ثم قال للفتح: بحياتي ادفع إليه الساعة ألف دينار وخلعة تامة واحمله على شهري فاره بسرجه ولجامه، فانصرفت بذلك أجمع.
نسبه ما في هذه الأخبار من الغناء صوت

أعاذلتي أكثرت جهلاً مـن الـعـذل

 

على غير شيء من ملامي ولا عذلي

نأيت فلم يحدث لي الناس سـلـوةً

 

ولم ألف طول النأي عن خلة يسلي

         

عروضه من الطويل، الشعر لجميل، والغناء لعريب، ثقيل أول بالبنصر، ومنها: صوت

إذا رام قلبي هجيرها حال دونه

 

شفيعان من قلبي لها جـدلان

إذا قلت لا، قالا بلى، ثم أصبحا

 

جميعاً على الرأي الذي يريان

عروضه من الطويل، والناس ينسبون هذا الشعر إلى عروة بن حزام، وليس له.


الشعر لعليّ بن عمرو الأنصاري، رجل من أهل الأدب والرواية، كان بسرّ من رأى كالمنقطع إلى إبراهيم بن المهدي، والغناء لشارية، ثقيل أول بالوسطى، وقيل إنه من صنعة إبراهيم، ونحلها إياه، وفيه لعريب خفيف رمل بالبنصر.
ومنها: صوت

بأبي من زارني في منامـي

 

فدنا مـنـي وفـيه نـفـار

ليلة بـعـد طـوع الـثـريا

 

وليالي الصيف بتر قصـار

قلت هلكي أم صلاحي فعطفاً

 

دون هذا منك فيه الـدمـار

فدنا مني وأعطى وأرضـى

 

وشفى سقمي ولذّ الـمـزار

لم يقع إلينا لمن الشعر، والغناء لزبير بن دحمان، ثقيل أول بالوسطى، وهو من جيّد صنعته وصدور أغانيه.


غناؤه في شعر أخبرني ابن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا أحمد بن طيفور قال: كتب صديق لأحمد بن يوسف الكاتب في يوم دجن: يومنا يومٌ ظريف النواة، رقيق الحواشي، قد رعدت سماؤه وبرقت، وحنت وارجحنّت ، وأنت قطب السرور، ونظام الأمور، فلا تفردنا منك فنقلّ، ولا تنفرد عنا فنذلّ، فإن المرء بأخيه كثير، وبمساعدته جدير. قال: فصار أحمد بن يوسف إلى الرجل، وحضرهم عثعث بن الأسود، فقال أحمد: صوت

أرى غيماً يؤلّفه جـنـوب

 

وأحسبه سيأتينا بهـطـل

فعين الرأي أن تأتي برطلٍ

 

فتشربه وتدعو لي برطل

وتسقيه ندامانا جـمـعـياً

 

فينصرفون عنه بغير عقل

فيوم الغيم يوم الغم إن لـم

 

تبادر بالمدامة كل شغـل

ولا تكره محرمها عليهـا

 

فإني لا أراه لها بـأهـل

قال: وغنى فيه عثعث اللحن المشهور الذي يغنى به اليوم صوت

ترى الجند والأعراب يغشون بابه

 

كما وردت ماء الكلاب هوامله

إذا ما أتوا أبوابه قال: مرحـبـاً

 

لجوا الدار حتى يقتل الجوع قاتله

عروضه من الطويل. الهوامل: التي لا رعاء لها، ولجوا: أدخلوا، يقال: ولج يلج ولجاً. وقوله: حتى يقتل الجوع قاتله: أي يطعمكم فيذهب جوعكم، جعل الشبع قاتلاً للجوع.

الشعر لعبد الله بن الزبير الأسدي، والغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.