ذكر خبر مضاض بن عمرو

هو مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي. وكان جده مضاض قد زوج ابنته رعلة، إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، فولدت له إثنى عشر رجلاً أكبرهم قيذار ونابت. وكان أبوه إبراهيم عليه السلام أمره بذلك لأنه لما بنى مكة وأنزلها ابنه قدم عليه قدمة من قدماته، فسمع كلام العرب وقد كانت طائفة من جرهم نزلت هنالك مع إسماعيل، فأعجبته لغتهم واستحسنها فأمر إسماعيل عليه السلام أن يتزوج إليهم، فتزوج بنت مضاض بن عمرو، وكان سيدهم.


فأخبرنا محمد بن جرير، قال: حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق. وأخبرني محمد بن جعفر النحوي قال: حدثنا إسحاق بن أحمد الخزاعي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأزرقي قال: حدثني جدي عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج عن محمد بن إسحاق. ورواية إسحاق بن احمد أتم. وقد جمعتها: أن نابت بن إسماعيل ولي البيت بعد أبيه ثم توفي،فولى مكانه جده لأمه مضاض بن عمرو الجرهمي، فضم ولد نابت بن إسماعيل إليه، ونزلت جرهم مع ملكهم مضاض بن عمرو بأعلى مكة، ونزلت قطوراء مع ملكهم السميدع أجياد، أسفل مكة . وكان هذان البطنان خرجا سيارةً من اليمين ، وكذلك كانوا لايخرجون إلا مع ملك يملكونه عليهم، فلما رأوا مكة رأوا بلداً طيباً، وماءً وشجراً، فنزلا ورضي كل واحد منهما بصاحبه ولم ينازعه، فكان مضاض يعشر من جاء مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشر من جاءها من أسفلها ومن كداء لايدخل أحدهما على صاحبه في أمره، ثم إن جرهماً وقطوراء بغى كل واحد منهما على صاحبه، فتنافسوا في الملك حتى نشبت الحرب بينهم؛ وكانت ولاية البيت إلى مضاض دون السميدع، فخرج مضاض من بطن قعيقعان مع كتيبته في سلاح شاك يتقعقع-فيقال: ماسميت قعيقعان إلا بذلك-وخرج السميدع من شعب أجياد، في الخيل الجياد والرجال-ويقال: ماسميت أجياداً إلا بذلك- حتى التقوا بفاضح، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وفضحت قطوراء- ويقال: ماسمي فاضحاً إلا بذلك-ثم تداعى القوم إلى الصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ شعباً بأعلى مكة، وهو الذي يقال له الآن شعب بن عامر فاصطلحوا هناك، وسلموا الأمر إلى مضاض؛ فلما اجتمع له أمرمكة، وصار ملكها دون السميدع نحر للناس فطبخوا هناك الجزر، فأكلوا، وسمي ذلك الموضع المطابخ. فيقال: إن هذا أول بغي بمكة، فقال مضاض بن عمر في تلك الحرب :

نحن قتلنا سيد الحـي عـنـوة

 

فأصبح منها وهو حيران موجع

- يعني أن الحي أصبح حيران موجعا-

وما كان يبغي أن يكون سـواؤنـا

 

بها ملكاً حتى أتانـا الـسـمـيدع

فذاق وبالاً حين حاول مـلـكـنـا

 

وحاول منا غـصة تـتـجـرع

ونحن عمرنا البيت كـنـا ولاتـه

 

نضارب عنه من أتانـا ونـدفـع

وما كان يبغي ذاك في الناس غيرنا

 

ولم يك حي قبلـنـا ثـم يمـنـع

وكنا ملوكا في الدهور التي مضت

 

ورثنا ملوكاً لاترام فـتـوضـع

قال عثمان بن ساج في خبره: وحدثني بعض أهل العلم أن سيلاً جاء فدخل البيت فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم، بناه لهم رجل منهم يقال له أبو الجدرة وأسمه عمر الجارود، وسمي بنوه الجدرة. قال: ثم استخف جرهم بحق البيت، وارتكبوا فيه أموراً عظاماً، وأحدثوا فيه أحداثاً قبيحة، وكان للبيت خزانة، وهي بئر في بطنه، يلقى فيها الحلي والمتاع الذي يهدى له، وهو يومئذ لاسقف عليه، فتواعد عليه خمسة من جرهم أن يسرقوا كل مافيه، فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم واقتحم الخامس، فجعل الله عز وجل أعلاه أسفله، وسقط منكساً فهلك، وفر الأربعة الآخرون.


قالوا: ودخل إساف ونائلة البيت ففجرا فيه، فمسخهما الله حجرين، فأخرجا من البيت. وقيل إنه لم يفجر بها في البيت، ولكنه قبلها في البيت.


وذكر عثمان بن ساج عن أبي الزناد، أنه إساف بن سهيل، وأنها نائلة بنت عمرو بن ذئب. وقال غيره: إنها نائلة بنت ذئب. فأخرجا من الكعبة، ونصبا ليعتبر بهما من رآهما، ويزدجر الناس عن مثل ما راتكبا، فلما غلبت خزاعة على مكة ونسي حديثهما، وحولهما عمرو بن لحي بن كلاب بعد ذلك؛ فجعلهما تجاه الكعبة يذبح عندهما عند موضع زمزم.


قالوا: فلما كثر بغي جرهم بمكة قام فيهم مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض فقال: يا قوم احذروا البغي، فإنه لا بقاء لأهله، وقد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفوا بالحرم ولم يعظموه وتنازعوا بينهم واختلفوا، حتى سلطكم الله عليهم فاجتحتموهم فتفرقوا في البلاد، فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة بيت الله، ولا تظلموا من دخله وجاءه معظماً لحرماته، أو خائفاً، أو رغب في جواره، فإنكم إن فعلتم ذلكم تخوفت أن تخرجوا منه خرج ذل وصغار، حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم، ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز وأمن، والطير تأمن فيه. فقال قائل منهم يقال له مجدع: ومن الذي يخرجنا منه؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم مالاً وسلاحاً؟فقال مضاض: إذا جاء الأمر بطل ما تذكرون؛ فقد رأيتم ما صنع الله بالعماليق! قالوا: وقد كانت العماليق بغت في الحرم، فسلط الله عز وجل عليهم الذر فأخرجهم منه، ثم رموا بالجدب من خلفهم حتى ردهم الله إلى مساقط رؤوسهم، ثم أرسل عليهم الطوفان- قال: والطوفان: الموت- قال: فلما رأى مضاض بن عمرو بغيهم ومقامهم عليه، عمد إلى كنوز الكعبة، وهي غزالان من ذهب، وأسياف قلعية ، فحفرلها ليلا في موضع زمزم ، ودفنها.


فبيناهم على ذلك إذ سارت القبائل من أهل مأرب، ومعهم طريقة الكاهنة، حين خافوا سيل العرم، وعليهم مزيقياء وهو عمرو بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الزد بين الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فقالت لهم طريقة لما قاربوا مكة:وحق ما أقول ، وما علمني ما أقول إلا الحكيم المحكم، رب جميع الأمم، من عرب وعجم. قالوا لها: ما شانك ياطريقة؟ قالت:خذوا البعير الشدقم ، فخضبوه بالدم، تكن لكم أرض جرهم، جيران بيته المحرم. فلما انتهوا إلى مكة وأهلها أرسل إليهم عمرو ابنه ثعلبة، فقال لهم: ياقوم، إنا قد خرجنا من بلادنا فلم ننزل بلدةً إلا أفسح أهلها لنا،وتزحزحوا عنا، فنقيم معهم حتى نرسل رواداً فيرتادوا لنا بلدا يحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قدر ما نستريح، نرسل روادنا إلى الشأم وإلى الشرق، فحيثما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجوا أن يكون مقامنا معكم يسيراً، فأبت ذلك جرهم إباءً شديداً، واستكبروا في أنفسهم، وقالوا: لا والله؛ ما نحب أن تنزلوا فتضيفوا علينا مرابعنا ومواردنا، فارحلوا عنا حيث أحببتم، فلا حاجة لنا بجواركم. فأرسل إليهم: إنه لابد من المقام بهذا البلد حولاً، حتى ترجع إلي رسلي التي أرسلت، فإن أنزلتموني طوعاً نزلت وحمدتكم وآسيتكم في الرعي والماء، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلا فضلاً ، ولم تشربوا إلا رنقا ، وإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء وقتلت الرجال، ولم أترك منكم أحداً ينزل الحرم أبداً! فأبت جرهم أن تنزله طوعاً وتعبت لقتاله ، فاقتتلوا ثلاثة أيام أفرغ عليهم فيها الصبر، ومنعوا النصر ، ثم انهزمت جرهم فلم يفلت منهم إلا الشريد. وكان مضاض بن عمرو قد اعتزل حربهم ولم يعنهم في ذلك، وقال: قد كنت أحذركم هذا. ثم رحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا قنونى وما حوله، فبقايا جرهم به إلى اليوم ، وفني الباقون؛ أفناهم السيف في تلك الحروب.


قالوا: فلما حازت خزاعة أمر مكة وصاروا وأهلها جاءهم بنو إسماعيل وقد كانوا اعتزلو حرب جرهم وخزاعة، فلم يدخلوا في ذلك، فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم، فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن الحارث وقد كان أصابه من الصبابة إلى مكة أمر عظيم، أرسل إلى خزاعة يستأذنها، ومت إليهم برأيه وتوريعه قومه عن القتال ، وسوء العشرة في الحرم، واعتزاله الحرب، فأبت خزاعة أن يقروهم ونفوهم عن الحرم كله، وقال عمرو بن لحي لقومه: من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر ! فنزعت إبل لمضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو، من قنونى تريد مكة، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة، فمضى على الجبال نحو أجياد، حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن واديمكة، فأبصرالإبل تنحر وتؤكل ولا سبيل له إليها، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فولى منصرفا إلى أهله وانشأ يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفـا

 

أنيس ولم يسمر بـمـكة سـامـر

ولم يتربع واسـطـا فـجـنـوبـه

 

إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر

بلى نحن كنا أهـلـهـا فـأبـادنـا

 

صروف الليالي والجود العـواثـر

وأبدلنـا ربـي بـهـا دار غـربة

 

بها الذئب يعوي والعدو المخـامـر

أقول إذا نام الـخـلـي ولـم أنـم

 

أذا العرش لايبعد سهيل وعـامـر

قد ابدلت منهم أوجـهـا لاأريدهـا

 

وحمير قد بدلتـهـا والـيحـابـر

فإن تمل الدنيا علـينـا بـكـلـهـا

 

ويصبح شر بينـنـا وتـشـاجـر

فنحن ولاة البيت من بعـد نـابـت

 

نمشي به والخير إذ ذاك ظـاهـر

وأنكح جدي خير شخص علمته

 

فأبناؤه منا ونحن الأصـاهـر

وأخرجنا منها الملـيك بـقـدرة

 

كذلك ياللناس تجري المـقـادر

فصرنا أحاديثاً وكنا بـغـبـطة

 

كذلك عضتنا السنون الغوابـر

وسحت دموع العين تبكي لبلـدة

 

بها حرم أمن وفيها المشاعـر

وياليت شعري من بأجياد بعدنـا

 

أقام بمفضى سيله والظواهـر

فبطن منى أمس كأن لم يكن به

 

مضاض ومن حيى عدي عمائر

فهل فرج آت بشيء نـحـبـه

 

وهل جزع منجيك مما تحـاذر

       

قالوا: وقال أيضاً:

ياأيها الحي سيروا إن قصـركـم

 

أن تصبحوا ذات يوم لاتسيرونـا

إنا كما أنتـم كـنـا فـغـيرنـا

 

دهر بصرف كما صرنا تصيرونا

أزجوا المطي وأرخوا من أزمتها

 

قبل الممات وقضوا ما تقضونـا

قد مال دهر علينا ثم أهلـكـنـا

 

بالبغي فيه فقد صرنا أفـانـينـا

كنا زماناً ملوك الناس قبـلـكـم

 

نأوي بلاداً حراماً كان مسكونـا

قال الأزرقي: فحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني عبد العزيز بن عمران قال: وخرج أبو سلمة بن عبد أسد المخزومي قبيل الإسلام في نفر من قريش يريدون اليمن فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق، وأمسوا على غير الطريق، فتشاوروا جميعاً، فقال لهم أبو سلمة: إني أرى ناقتي تنازعني شقاً ؛ أفلا أرسلها وأتبعها؟ قالوا: فافعل. فأرسل ناقته وتبعها فأضحوا على ماء وحاضر ، فاستقوا وسقوا، فإنهم لعلى ذلك إذ أقبل إليهم رجل فقال: من القوم؟ قالوا: من قريش. فرجع إلى شجرة أمام الماء فتكلم عندها بشيء ثم رجع إلينا، فقال: أينطلق معي أحدكم إلى رجل ندعوه . قال أبو سلمة: فانطلقت معه فوقف بي تحت شجرة، فإذا وكر معلق فصوت: يا أبت! فزعزع شيخ رأسه ، فأجابه فقال: هذا الرجل. فقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من قريش. قال: من أيها؟ قلت: من بني مخزوم بن يقظة. قال: من أيهم؟ قلت: أنا أبو سلمة بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة. قال: أيهات منك ! أنا ويقظة سن ، أتدري من يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

 

أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلـهـا فـأبـادنـا

 

صروف الليالي والجدود العواثر

قلت: لا.قال: أنا قائلها، أنا عمروبن الحارث بن مضاض الجرهمي. أتدري لم سمى أجياد أجياداً؟ قلت:لا.قال: جادت بالدماء يوم التقينا نحن وقطوراء؛ أتدري لم سمي قبعقا،؟ قلت:لا. قال:لتقعقع السلاح علىظهورنا لما طلعنا عليهم منه.
أخبرني بهذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء؛قال حدثنا الزبيربن بكار قال: حدثني إبراهيم بن المنذرالحزامي؛ قال حدثنا عبد العزيز بن عمران؛ قال حدثني راشد بن حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال أيو سلمة بن عوف : وخرجت في نفر من قريش يريدون اليمن. وذكر الخبر مثل حديث الأزرقي. والله أعلم.


أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا غسان بن عبد العزيز بن عبد الحميد أن ربيعة بن أمية بن خلف كان قد أدمن الشراب، وشرب في شهر رمضان، فضربه عمر رضي الله عنه وغربه إلى ذي المروة، فلم يززل بها حتى توفي واستخلف عثمان رضي الله عنه؛ فقيل له: قد توفي عمر واستخلف عثمان فلو دخلت المدينة ماردك أحد. قال:لا والله لاأدخل المدينة فتقول قريش قد غربه رجل من بني عدي بن كعب. فلحق بالروم وتنصر، فكان قيصر يحبوه ويكرمه، فأعقب بها.


قال غسان: حدثني أبي قال: قدم رسول يزيد بن معاوية على معاوية من بلاد الروم؛ فقال له معاوية: هل كان للناس خبر؟ قال: بينا نحن محاصرون مدينة كذا وكذا إذ سمعنا رجلا فصيح اللسان مشرفاً من بين شرفتين من شرف الحصن، وهو ينشد:

كأن لم يكن بن الحجون إلى الصفا

 

أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

فقال معاوية: ويحك، ذاك الربيع بن أمية يتغنى بشعر عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي. أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال؛ حدثني إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي أبي: مر بالدواب تسرج سحراً حتى نغدو إلى ابن جامع نستقبله بالياسرية بسحرة لا تأخذنا الشمس قال: فأمرت بذلك. وركبنا في السحر فأصبحنا دون الياسرية، وقد طلعت علينا الشمس. قال: فجئنا إلى ابن جامع وإذا به مختضب وعلى رأسه ولحيته خرق الخضاب، وغذا بقدر تطبخ في الشمس؛ فلما نظر إلينا رحب بنا، وقام إلينا فسلم علينا، ثم دعا الماء فغسل رأسه ولحيته، ثم دعا بالغداء فأتي بغدائه، فغرف لنا من تلك القدر التي في الشمس، فتقززت وبشعت من ذلك الطعام الذي طبخ، فأشار إلي أبي: بأن كل. فأكلنا حتى فرغنا من غدائنا، فلما غسلنا أيدينا نادى ابن جامع: يا غلام هات شرابنا! فأتي بنبيذ في زكرة قد كانت الزكرة في الشمس ، فكرهت ذلك، فأشار إلي أبي، أن لاتمتنع، ثم أتوا بقدح جيشاني ملء الكف، فصب النبيذ فيه وهويشبه ماء قد أغلي بالنار، ثم غنى ابن جامع فقال:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

 

أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلهـا فـأزالـنـا

 

صروف الليالي والجدود العواثر

ثم غنى للعرجي :

لو أن سلمى رأتنا لايراع لنـا

 

لما هبطنا جميعا أبطن السوق

وكشرنا وكبول القين تنكـؤنـا

 

كالأسد تكثر عن أنيابها الروق

ثم تغنى:

أجرر في الجوامع كل يوم

 

فيا لله مظلمتي وصبـري

ثم أمر بالرحيل. وقد غنى هذه الثلاثة الأصوات. فقال لي أبي: يابني بشعت لما رأيت من طعام ابن جامع وشرابه؛ فعلي عتق ما أملك إن لم يكن شرب الدم مع هذا طيباً. ثم قال: أسمعت بني غناءً قط أحسن من هذا؟ فقلت: لا والله ما سمعت. قال: ثم خرج ابن جامع حتى نزل بباب أميرالمؤمنين الرشيد ليلاً، واجتمع المغنون على الباب، وخرج الرسول إليهم فأذن لهم؛ والرشيد خلف الستارة، فغنوا إلى السحر؛ فأعطاهم ألف دينار إلا ابن جامع فلم يعطه شيئاً، وانصرفوا متوجهين له، وعرضوا عليه جميعاً فلم يقبل، وانصرفوا، فلما كان في الليلة الثانية دعوا فغنوا ساعة، ثم كشفت الستارة، وغنى جامع صوتا عرض فيه بحاله وهو:

تقول أقم فينا فقيراً ومـا الـذي

 

ترى فيه ليلي أن أقيم فـقـيرا

ذريني أمت ياليل أو أكسب الغنى

 

فإني أرى غير الغني حـقـيرا

يدفع في النادي ويرفض قولـه

 

وإن كان بالرأي السدسد جـديرا

ويلزم ما يجني سواه وإن يطـف

 

بذنب يكن منه الصغير كبـيرا

قالوا: فأعجب الرشيد ذلك الشعر واللحن فيه، وأمال رأسه نحوه كالمستدعي له. وغناه أيضا:

لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي

 

واخلفني منها الذي كنـت آمـل

فما كل ما يخشى الفتى نازل به

 

ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل

ووالله مافرطت في وجه حـيلة

 

ولكن ما قد قدر الـلـه نـازل

وقد يسلم الإنسان من حيث يتقـي

 

ويؤتى الفتى من أمنه وهو غافل

ثم أمر بالانصراف فانصرفوا، فلما بلغوا الستر صاح به الخادم: ياقرشي مكانك. فوقف مكانه فخرج إليه بخلع وسبعة آلاف دينار، وأمر إن شاء أن يقيم، وإن شاء أن ينصرف.


أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: ذكر الكلبي عن أبيه: أن الناس بيناهم في ليلة مقمررة في المسجد الحرام، إذ بصروا بشخص قد أقبل كأن قامته رمح، فهربوا من بين يديه وهابوه؛ فأقبل حتى طاف بالبيت الحرام سبعا ثم وقف فتمثل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

 

أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

قال: فأتاه رجل من أهل مكة؛ فوقف بعيداً منه ثم قال: سألتك بالذي خلقك أجني أنت أم إنسي ؟ فقال:بل إنسي، انا امرأة من جرهم، كنا سكان هذه الأرض وأهلها، فأزالناعنها هذا الزمان الذي يبلي كل جديد ويغيره ثم انصرفت خارجة عن المسجد حتى غابت عنهم، ورجعوا إلى مواضعهم. أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي عن جدي قال: قال لي يحيى بن خالد يوماً: أخبرك برؤيا رأيتها؟ قلت: خيراً رأيت. قال: رأيت كأني خرجت من داري راكباً، ثم التفت يميناً وشمالاً فلم أر معي أحداً، حتى صرت إلى الجسر، فإذا بصائح يصيح من ذلك الجانب:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

 

أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

فأجبته بقوله:

بلى نحن كنا أهلهـا فـأبـادنـا

 

صروف الليالي والجدود العواثر

فانصرفت إلى الرشيد فغنيته الصوت، وخبرته الخبر، فعجب منه. وما مضت الأيام حتى أوقع بهم

شافني الزائرات قصر نفيس

 

مثقلات الأعجاز قب البطون

يتربعنـه الـربـيع وينـزل

 

ن إذا صفن منزل الماجشون

يتربعنه: ينزلنه في أيام الربيع. قال لمنزل القوم في أيام الربيع: متربعهم. قال الشاعر:

أمن آل ليلى بالملا مـتـربـع

 

كما لاح وشم في الذراع مرجع

والماجشون: رجل من أهل المدينة يروى عنه الحديث. والماجشون لقب به سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب- عليهم السلام-وهو اسم لون من الصبغ أصفر تخالطه حمرة، وكذلك كان لونه. ويقال: إنها ما لقبت أحداً قط بلقب إلا لصق به.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا مصعب الزبيري، قال: حدثني ابن الماجشون، قال: نظرت سكينة إلى أبي، فقالت: كأن هذا الرجل الماجشون-وهو صبغ أصفر تخالطه حمرة-فلقب بذلك.

قال عبد العزيز: ونظرت إلى رجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت فيه غلظة، فقالت: هذا الرجل في قريش كالشيرج في الأدهان! فكان ذلك الرجل يسمى: فلان شيرج حتى مات.

الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لإبراهيم الموصلي. خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر، وفيه لبصبص جارية ابن نفيس التي قيل هذا الشعر فيها: رمل. وذكر حبش أن لها فيه أيضاً ثقيل أول بالوسطى.