ذكر متمم وأخباره وخبر مالك ومقتله

هو متمم بن نويرة بن عمرو بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بنن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار. ويكنى متمم بن نوبرة أبا نهشل.


ويكنى أخوه مالك أبا المغوار. وكان مالك يقال له فارس ذي الخمار، قيل له ذلك بفرس كان عنده يقال له ذو الخمار، وفيه يقول وقد أحمده في بعض وقائعه:

جزاني دوائي ذو الحمار وصنعتي

 

بما بات أطواء بني الأصـاغـر

أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان مالك بن نويرة شريفاً فارساً، وكان فيه خيلاء وتقدم، وكان ذا لمة كبيرة، وكان يقال له الجفول .


وكان مالك قتل في الردة، قتله خالد بن الوليد بالبطاح في خلافة أبي بكر، وكان مقيماً بالبطاح، فلما تنبأت سجاح اتبعها ثم أظهر أنه مسلم، فضرب خالد عنقه صبراً، فطعن عليه في ذلك جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وأبو قتادة الأنصاري، لأنه تزوج امرأة مالك بعده، وقد كان يقال إنه يهواها في الحاهلية واتهم لذلك أنه قتله مسلماً ليتزوج امرأته بعده.


حدثنا بالسبب في مقتل مالك بن نويرة محمد بن جرير الطبري قال: كتب إلي السري بن يحيى، يذكر عن شعيب بن إبراهيم التيمي، عن سيف بن عمر، عن الصقعب بن عطية عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عماله على بني تميم، فكان مالك بن نويرة عامله على بني يربوع. قال: ولما تنبأت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان وسارت من الجزيرة، راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها وقناها عن غزوها، وحملها على أحياء من بني تميم، فأجابته وقالت: نعم فسأنك بمن رأيت، وإنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فهو ملككم. فلما تزوجها مسيلمة الكذاب ودخل بها انصرفت إلى الجزيرة وصالحتهأن يحمل عليها النصف من غلات اليمامة، فارعوى حينئذ مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره، فلحق بالبطاح، ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما بقي من أمر مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح، فهو على حاله متحير ما يدري ما يصنع.


وقال سيف: فحدثني سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد وعمرو بن شعيب قالا: لما أراد خالد بن الوليد المسير خرج من ظفر وقد استبرأ أسداً وغطفان وطيئاً ، فسار يريد البطاح دون الحزن، عليها مالك بن نويرة وقد تردد عليه أمره وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه، وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا؛ فقد عهد إلينا إن نحن فرغنا من البراخة واستبرأنا بلاد القوم، أن يكتب إلينا بما نعمل. فقال خالد: إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إلي أن أمضي، وأنا الأمير وإلي تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر ثم رأيت فرصةً إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها. وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ونعمل به. وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان، ولست أكرههم . ومضى خالد وبرمت الأنصار وتذامروا وقالوا: لئن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه، ولئن أصابتهم مصيبة ليجتنبكم الناس. فأجمعوا على اللحاق بخالد، وجردوا إليه رسولاً، فأقام عليهم حتى لحقوا به، ثم سار حتى لحق البطاح فلم يجد به أحداً.
قال السري عن سعيب، عن سيف عن خزيمة بن شجرة العقفاني عن عثمان بن سويد، عن سويد بن المنعبة الرياحي قال: قدم خالد بن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحداً، ووجد مالك بن نويرة قد فرقهم في أموالهم ونهاهم عن الاجتماع، فبعث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام ، فمن أجاب فسالموه ومن لم يجب وامتنع فاقتلوه. وكان فيما أوصاهم أبو بكر: إذا نزلتم منزلاً فأذنوا وأقيموا، فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة. ولا كلمة. فجادته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع، ومن بني عاصم ، وبيد، وعرين ، وجعفر، واختلفت السيرة فيهم، وفيهم أبو قنادة. وكان ممن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا. فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم، في ليلة باردة لايقوم لها شيء، وجعلت تزدادبرداً، فأمر خالد منادياً فنادى: دافئوا أسراكم. وكان في لغة كنانة إذا قالوا: دافأنا الرجل وأذفئوه، فذلك معنى اقتلوه من الدفء. فظن القوم أنه يريد القتل فقتلوهم . فقتل ضرار بن الأزور مالكاً، فسمع خالد الواعية ، فخرج وقد فرغوا منهم فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه. وقد اختلف القوم فيهم فقال أبو قتادة: هذا عملك.


فزيره خالد فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه عمر بن الخطاب فيه، فلم يرضى إلا بأن يرجع إليه، فرجع إليه فلم يزل معه حتى قدم المدينة، وقد كان تزوج خالد أم تميم بنت المنهال وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره، فقال عمر لأبي بكر: إن في سيف خالدرهقاً، وحق عليه أن تقيده . وأكثر عليه في ذلك. وكان أبو بكر لايقيد من عماله ولا من زوعته ، فقال: هبه ياعمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكاً، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، ففعل وأخبره خبره فعذره. وقبل منه، وعنفه بالتزوج الذي كانت العرب تعيب عليه من ذلك. فذكر سيف عن هشام بن عروة عن ابيه قال: شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء فتلوا. وقدم أخوه متمم ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم، فكتب له برد السبي، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله وقال: إن في سيفه لرهقاً! فقال له: لا ياعمر، لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين.


حدثنا محمد بن إسحاق قال: كتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن خزيمة عن عثمان عن سويد قال: كان مالك من أكثر الناس شعراً، وإن أهل العسكر أثفوا القدور بروءسهم ، فما منها رأس إلا وصلت النار إلى بشرته، ما خلا مالكاً فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره،ووقى الشعر البشرة من حر النار أن تبلغ منه ذلك.


قال: وأنشد متمم عمر بن الخطاب، ذكر خمسه- يعني قوله:

لقد كفن المنهال تـحـت ردائه

 

فتى غير مبطان العشيات أروعا

فقال: أكذاك كان يا متمم؟ قال: أما ما أعني فنعم.


أخبرني اليزيدي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب. وحدثنيه أحمد بن الجعد قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: أن مالك بن نويرة كان من أكثر الناس شعراً، وأن خالداً لما قتله أمر برأسه فجعل أثفية لقدر، فنضج ما فيها قبل أن تبلغ النار إلى شواته.


أخبرني محمد بن جرير قال: حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.


أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه: أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذاناً للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا، وإذا لم تسمعوا، وإذا لم تسمعوا أذاناً فشنوا الغارة واقتلوا وحرقوا. فكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الأنصاري، واسمه الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وقد كانعاهد الله أنه لا يشهد حرباً بعدها أبداً. وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل، فأخذ القوم السلاح. قال: فقلنا لهم: إنا المسلمون فقالوا: ونحن المسلمون. قلنا : فما بال السلاح معكم؟ فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح. ففعلوا ثم صلينا وصلوا. وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه: ما إخال صاحبكم-يعني النبي صلى الله عليه وسلم- إلا وقد كان يقول كذا وكذا. فقال خالد: أو ما تعده صاحباً؟! ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه، فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر رضي الله عنه، وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته.


وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له، وعليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامة قد غرز فيها أسهماً، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال: أقتلت أمرأً مسلماً ثم نزوتعلى امرأته، والله لأرجمك باحجارك ! ولا يكلمه خالد بن الوليد ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأي غمر فيه، حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه، فعذره أبو بكر وتجاوز له عما كان في حربه تلك.


فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر، وعمر جالس في المسجد الحرام، فقال: هلم إلي يا ابن أم شملة . فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه ودخل بيته. وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدي.


ضرار قاتل مالك وقال محمد بن جرير: قال ابن الكلبي: الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور.


وهكذا روى أبو زيد عمر بن شبة عن أصحابه، وأبو خليفة عن محمد بن سلام قال: قدم مالك بن نويرة على النيب صالى الله عليه وسلم فيمن قدم من أمثاله من العرب، فولاه صدقات قومه بني يربوع، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم اضطرب فيها فلم يحمد أمره، وفرق ما في يده من إيل الصدقة، فكلمه الأقرع بن حابس المجاشعي، والقعقاع بن معبد بن زرارة الدرامي فقال له: إن لهذا الأمر قائماً وطالباً، فلا تعجل بتفرقة ما في يدك. فقال:

أراني الله بالنعم المـنـدى

 

ببرقة رحرحان وقد أراني

تمشى يا بن عوذة في تميم

 

وصاحبك الأقيرع تلحياني

حميت جميعها بالسيف صلتاً

 

ولم ترعش يداي ولا بناني

يعني أم القعقاع، وهي معاذة بنت ضرار بن عمرو. وقال أيضاً:

وقلت خذوا أموالكم غير خائف

 

ولا ناظر فيما يجيء من الغد

فإن قام بالأمر المخوف قـائم

 

منعنا وقلنا الدين دين محمـد

قال ابن سلام : فمن لا يعذر خالداً يقول: إنه قال لخاد: ويهذا أمرك صاحبك- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- وانه أراد بهذه القرشية. ومن يعذر خالداً يقول: إنه أراد انتفاء من النبوة، ويحتج بشعريه المذكورين آنفاً. ويذكر خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلا ابن جلندى قال له: يا أبا سليمان، إن رأت عينك مالكاً فلا تزايله أو تقتله.


قال محمد بن سلام: وسمعني يوماً يونس وأنا أراد التميمية في خالد وأعذره، فقال لي: يا أباعبد الله، أما سمعت بساقي أن تميم؟ يعني زوجة مالك التي تزوجها خالد لما قتله-وكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها. قال وأحسن ما سمعت من عذر خالد قول متمم بان أخاه لم يستشهد. ففيه دليل على غدر خالد.


أخبرنا اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثني محمد بن الحكم البجلي عن الأنصاري قال: صلى متمم بن نويرة مع أبي بكر الصبح، ثم أنشده قوله:

نعم القتيل إذا الرياح تنـاوحـت

 

تحت الإزار قتلت يا ابن الأزور

أدعوته بالـلـه ثـم قـتـلـتـه

 

لو هو دعاك بـذمة لـم يغـدر

فقال أبو بكر: والله ما دعوته ولا قتلته. فقال:

لايضمر الفحشاء تحـت ردائه

 

حلو شمائله عفيف الـمـئزر

ولنعم حشو الدرع أنت وحاسراً

 

ولنعم مأوى الطارق المتنور

قال: ثم بكى حتى سالت عينه، ثم انخرط على سية قوسه متكئاً . يعني مغشياً عليه.


أخبرني اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني محمد بن صخر بن خلخلة قال: ذكر متمم بن نويرة أخاه في المدينة فقيل له: إنك لتذكر اخاك، فما كانت صفته، او صفه لنا؟ فقال: كان يركب الجمل الثفا في الليلة الباردة، يرتوي لأهله بين المزادتين المضرجتين ، عليه الشملة الفلوت ، يقود الفرس الجرور ، ثم يصبح ضاحكاً.


أخبرني اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن زهير، عن الزبير بن حبيب بن بدر الطائي وغيره: ان المنهال: رجلاً من بني يربوع، مر على أشلاء مالك بن نويرة لما قتله خالد، فأخذ ثوباً وكفنه فيه ودفنه، فقيه يقول متمم:

لعمري وما دهري بتأبين مالـك

 

ولا جزع مما أصاب فأوجعـا

لقد كفن المنهال تـحـت ردائه

 

فتى غير مبطان العشيات أروعا

غناه عمرو بن أبي الكنات، ثقيل أول بالوسطى عن حبش.


أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا الحسن بن محمد البصري، قال: حدثنا الحسن بن إسماعيل القضاعي قال حدثني أحمد بن عمار العبدي ، وكان من العلم بموضع قال: حدثني أبي عن جدي قال: صليت مع عمر بن الخطاب الصبح، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكباً قوساً ، وبيده هرواة، فقال: من هذا؟ فقال: متمم بن نويرة. فاستنشده قوله في أخيه، فأنشده:

لعمري وما دهري بتأبين مالـك

 

ولا جزع مما أصاب فأوجعـا

لقد كفن المنهال تحـت ثـيابـه

 

فتى غير مبطان العشيات أروعا

حتى بلغ إلى قوله:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبةً

 

من الدهر حتى قيل بن يتصدعا

فلما تفرقنا كأنـي ومـالـكـاً

 

لطول اجتماع لم نبت ليلةً معاً

فقال عمر: هذا والله التابين، و لوددت أني أحسن الشعر فأرثى أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك. فقال متمم: لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته-وكان قتل باليمامة شهيداً، وأمير الجيش خالد بن الوليد- فقال عمر: ما عزاني أحد عن اخي بمثل ما عزاني به متمم.


قال: وكان عمر يقول: ما هبت الصبا من نحو اليمامة إلا خيل إلي أنى أشم ريح أخي زيد .


قال: وقيل لمتمم: ما بلغ من وجدك على أخيك؟ فقال أصبت بإحدى عيني فما قطرت منها دمعة عشرين سنة، فلما قتل أخي استهلت فما ترقأ .


أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو أحمد الزبير قال: حدثنا عبد الله بن لاحق، عن ابن أبي مليكة قال: مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشي خارج مكة ، فحمل فدفن بمكة، فقدمت عائشة فوقفت على قبره وقالت متمثلة:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبةً

 

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومـالـكـاً

 

لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً

أما والله لو حضرتك لدفنت حيث مت، ولو شهدتك مازرتك.


أخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن سملم بن قنيبة: أن متمم بن نويرة دخل على عمر بن الخطاب فقال له عمر: ما أرى في أصحابك مثلك. فقال: يا أمير المؤمنين أما والله إني مع ذلك لأركب الجمل الثفال، وأعتقل الرمح الشطون ، وألبس الشملة الفلوت. ولقد أسترني بنو تغلب في الجاهلية فبلغ ذلك أخي مالكاً فجاء ليفديني منهم ، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدثهم فأعجبهم حديثه، فأطلقوني له بغير فداء.


أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني النوقلي عن أبيه وأهله قالوا: لما أنشد بن نويرة عمر بن الخطاب قوله يرثي أخاه مالكاً:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبةً

 

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأنـي ومـالـكـاً

 

لطول اجتماع لم نبت ليلةً معاً

قال له عمر: هل كان مالك يحبك مثل محبتك إياه، أم هل كان مثلك؟ فقال: وأين أنا من مالك، وهل أبلغ مالكاً، والله يا أمير المؤمنين لقد أسرني حي من العرب فشدوني وثاقاً بالقد، وألقوني بفنائهم، فبلغه خبري فأقبل على رحلته حتى انتهى إلى القوم وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إلي أرعض عني، ونظر القوم إليه فعدل إليهم وعرفت ما أراد، فسلم عليهم وحادثهم وضاحكهم وأنشدهم، فوالله إن زال كذلك حتى ملأهم سروراً، وحضر غداؤهم فسأله ليتغدى معهم فنزل وأكل، ثم نظر إلي وقال: إنه لقبيح بنا أن نأكل ورجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا! وأمسك يده عن الطعام. فلما رأى ذلك القوم نهضوا وصبوا الماء على قدى حتى لان وخلوني، ثم جاءوا فأجلسوني معهم على الغداء، فلما أكلنا قال لهم: أما ترون تحرم هذا بنا وأكله معنا، إنه لقبيح بكم أن تردوه إلى القد، فخلوا سبيلي فكان كما وصفت. وما كذبت في شيء من صفته إلا أني وصفته خميص البطن، وكان ذا بطن.


أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن نصر العتيقي قال: حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي، عن أبيه عن مروان بن موسى. ووجدت هذا الخبر أيضاً في كتاب محمد بن علي بن حمزة العلوي، عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قال لمتمم بن نويرة: إنكم أهل بيت قد تفانيتم، فلو تزوجت عسى أن ترزق ولداً يكون فيه بقية منكم. فتزوج امرأة بالمدينة فلم ترضى أخلاقه لشدة حزنه على أخيه، وقلة حفله بها، فكانت تماظه وتؤذيه، فطلقها وقال:

أقول لهند حين لم أرض فعلهـا

 

أهذا دلال الحب أم فعل فارك

أم الصرم ما تبغي، وكل مفارق

 

يسير علينا فقده بعـد مـالـك

أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أحمد بن معاوية، عن سلمويه بن أبي صالح ، عن عبد الله بن المبارك عن نعيم بن أبي عمرو الرازي قال: بينا طلحة والزبير يسيران بين مكة والمدينة إذ عرض لهما أعرابي، فوقفا ليمضي فوقف فتعجلا ليسبقاه فتعجل، فقالا: ما أثقلك يا أعرابي تعجلنا لنسبقك فتعجلت ، فوقفنا لتمضي فوقفت؟ فقال: لا إله إلا الله مفني أغدر الناس ، أغدر بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ هباني خفت الضلال فأحببت أن أستدل بكما؛ أو خفت الوحشة فأحببت أن أستأنس بكما. فقال طلحة: من أنت؟ قال: أنا متمم بن نويرة. فقال طلحة: واسوأتاه، لقد مللنا غير مملول.


هات بعض ما ذكرت في أخيك من البكاء. فزوجوه أم خالد، فبينا هو واضع رأسه على فخذها إذ بكى فقالت: لا إله إلا الله، أما تنسى أخاك. فأنشأ يقول:

أقول لها لما نهتني عن البـكـا

 

أفي مالك تلحيننـي أم خـالـد

فإن كان إخواني أصيبوا وأخطأت

 

بني أمك اليوم الحتوف الرواصد

فكل بـنـي أم سـيمـون لـيلةً

 

ولم يبق من أعيانهم غير واحـد

أما معنى قول متمم: وكنا كندماني جذيمة حقبة فإنه يعني نديمي جذيمة الأبرش الملك، وهو جذيمة بن مالك بن فهم بن دوس بن عدثان الأسدي . وكان الخبر في ذلك ما اخبرنا به علي بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السكري، عن محمد بن حبيب. وذكر ابن الكلبي عن أبيه والشرقي وغيره من الواة أن جذيمة الأبرش-وأصله من الأزد، وكان أول من ملك قضاعة بالحيرة، وأول من حدا النعال، وأدلج من الملوك، ورفع له الشمع -قال يوماً لجلسائه: قد ذكر لي عن غلام من لخم، مقيم في أخواله من إياد، له ظرف ولب، فلو بعثت إليه يكون في ندماني، ووليته كأسي والقيام بمجلسي، وكان الرأي. فقالوا: الرأي ما رأى الملك، فليبعث إليه. ففعل فلما قدم فعل به ما أراد له، فمكث كذلك مدة كويلةً ثم أشرفت عليه يوماً رقاش ابنة الملك، أخت جذيمة، فلم تزل تراسله حتى اتصل بينهما، ثم قالت له: ياعدي، إذا سقيت القوم فامزج لهم واسق الملك صرفاً، فإذا أخذت منه الخمر فاخطبني إليه فإنه يزوجك، وأشهد القوم عليه إن هو فعل. ففعل الغلام ذلك فخطبها فزوجه، وانصرف الغلام بالخبر إليها فقالت: عرش بأهلك ففعل فلما أصبح غدا مضرجاً بالخلوق، فقال له جذيمة: ما هذه الآثار يا عدي؟ قال آثار العرس. قال: أي عرس؟ قال: عرس رقاس. قال: فنخر وأكب على الأرض، ورفع عدي جراميزه، فأسرع جذيمة في طلبه فلم يحسسه ، وقيل إنه قتله وكتب إلى أخته:

حَدّثيني رَقاشِ لاتَكذبيني

 

أبحُرٍّ زنيتِ أم بهجـينِ

أم بعبدٍ فأنتِ أهلٌ لعبـدٍ

 

أم بدُوٍن فأنت أهلٌ لدونِ

قالت: بل زوجتني أمرأً عربياً. فنقلها جذيمة وحصنها في قصره، واشتملت على حمل فولدت منه غلاماً وسمته عمراً وربته، فلما ترعرع حلته وعطرته وألبسته كسوة مثله ، ثم أرته خاله فأعجب به، وألفيت عليه منه محبة ومودة، حتى إذا وصف خرج الغلمان خرج الغلمان يجتنون الكمأة في سنة قد أكمات، فخرج معهم، وقد خرج جذيمة فبسط له في روضة، فكان الغلمان إذا أصابوا الكمأة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها، ثم أقبلوا يتعادون وهو معهم يقدمهم ويقول:

هذا جنايَ وخياره فـيه

 

إذا كلُّ جانٍ يده إلى فيه

فالتزمه جذيمة وحباه وقرب من قبله، وحل منه بكل مكان. ثم إن الجن استطارته، فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه فلم يسمع له بخبر، فكف عنه. ثم أقيل رجلان يقال لأحدهما عيقيل والآخر مالك، ابنا فالج، وهما يريدان الملك بهدية، فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها أم عمرو، فتصبت قدراً وأصلحت طعاماً، فينما هما يأكلان إذا أقبل رجل أشعث أغبر، قد طالت أظفاره وساءت حاله، حتى جلس مزجر الكلب، فمد يده فناولته شيئاً فأكاه، ثم مد يده فقالت: إن يعط العبد كراعاً يتسع ذراعاً فأرسلتها مثلاً. ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكات دنها، فقال عمرو بن عدي:

صَددتِ الكأسَ عنا ام عمرو

 

وكان المأس مَجراها اليمينا

وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمـرو

 

بصاحبِك الذي لا تَصبَحينـا

غناه معبد فيما ذكر عن إسحاق في كتابه الكبير. وقد زعم بعض الرواة أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب .
وأخبرنا اليزيدي قال: حدثنا الخليل بن أسد التوشجاني قال: حدثنا حفص بن عمرو، عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش ، أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب في ربيعة بن نصر اللخمي.

رجع الحديث إلى سياقه

فقال: الرجلان: ومن أنت؟ فقال: إن تنكراني أو تنكرا نيبي، فإنني عمرو وعدي أبي ، فقاما إليه فلثماه، وغسلا رأسه وقلما أظفاره، وقصرا من لمته، وألبساه من طرائف قيابهما وقالا: ما كنا لنهدي إلى الملك هدية أنفس عنده ولا هو عليها أحسن صفدا من ابن أخته، فقد رده الله عز وجل إليه. فخرجا حتى إذا دفعا إلى باب الملك بشراه به، فصرفه إلى أمه، فألبسته ثياباً من ثياب الملوك، وجعلت في عنقه طوقاً كانت تلبسه إيادوهو صغير، وأمرته بالدخول على خاله، فلما رآه قال: شب عمرو عن الطوق فأرسلها مثلاً. وقال للرجلين اللذين قدما به: احكما فلكما حكمكما. قالا: منادمتك مابقيت وبقينا. قال: ذلك لكما. فهما نديما جذيمة اللذان ذكرهما متمم، وضربت بهما الشعراء المثل. قال أبو خراش الهذلي:

ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا

 

خليلا صفاء مالك وعقيل

قال ابن حبيب في خبره : وكان جذيمة من أفضل الملوك رأيا، وأبعدهم مغاراً، واشدهم نكاية، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق، وكانت منازله مابين الأنبار وبقة وهيت وعين التمر، وأطراف البر والقطقطانة والحيرة فقصد في جموعه عمرو بن الظرب حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي، من عاملة العماليق ، فجمع عمرو جموعه ولقيه، فقتله جذيمة وفض جموعه، فتفلوا وملكوا عليهم ابنته الزباء، وكانت من أحزم الناس، فخافت أن تغزوها ملوك العرب فاتخذت لنفسها نفقاً في حصن كان لها على شاطئ الفرات، وسكرت الفرات في وقت قلة الماء، وبنت أزجا من الآجر والكلس، متصلا بذلك النفق، وجعلت نفقاً آخر في البرية متصلاً بمدينة لأختها، ثم أجرت الماء عليه، فكانت إذا خافت عدوا دخلت النفق. فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثاثرة بأبيها، فقالت لها أختها وكانت ذات رأي وحزم: إنك إن غزوت جذيمة فإنه امرؤ له ما يصده، فإن ظفرت أصبت ثأرك، وإن ظفر بك فلا بقية لك، والحرب سجال، ولا تدرين كيف تكون ألك أم عليك، ولكن ابعثي إليك فأعلميه أنك قد رغبت في أن تتزوجيه وتجمعي ملكك إلى ملكه، وسليه أن يجيبك إلى ذلك، لأنهإن اغتر ففعل ظفرت به بلا مخاطرة. فكتبت الزباء في ذلك إلى جذيمة تقول له: إنها قد رغبت في صلة لدها ببلده، وإنها في ضعف من سلطانها، وقلة ضبط لمملكتها، وإنها لم تجد كفئاً غيره، وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه. فلما وصل ذلك إليه استخفه وطمع فيه، فشاور أصحابه فكل صوب رأيه في قصدها وإجابتها، إلا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة بن لخم، فقال: هذا رأي فاتر، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا فلا تمكنها من نفسك فتقع في حبالها وقد وترتها في أبيها. فلم يوافق جذيمة ما قال وقال لهك أنت أمرؤ رأيك في الكن لا في الضح . ورحل فقال له قصير في طريقة: انصرف ودمك في وجهك. فقال جذيمة: ببقة قضي الأمر فأرسلها مثلاً. ومضى حتى إذا شارف مدينتها قال لقصير: ما الرأي؟ قال: ببقة تركت الرأي. قال: فما ظنك بالزباء؟ قال: القول وداف، والحزم عيرانة لا تخاف . واستقبله رسلها بالهدايا والأ لطاف فقال: يا قصير، كيف ترى؟ خطر يسير في خطب كبير ، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون. فلقيته الخيول فأحاطت به، فقال له قصير: اركب العصا قإنها لا تدرك ولا تسبق - يعني فرساً له كانت تجنب - قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك. فلم يفعل، فجال قصير في ظهرها فمرت به تعدو في أول أصحاب جذيمة. ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيراً على فرسه العصا في أول القوم، فقال: لحازم من يجري العصا في أول القوم. فذكر أبو عبيدة والأصمعي أنها لم تكن تقف، حتى جرت ثلاثين ميلاً، ثم وقفت فبالت هناك فبني على ذلك الموضع برج يسمى العصا- وأخذ جذيمة فأدخل على الزباء فاستقبلته قد كشفت عن فرجها، فإذا هي قد ضفرت الشعر عليه، فقالت: يا جذيم أذات عروس ترى؟ قال: بل أرى متاع أمة لكعاء غير ذات خفر. ثم قال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى. قالت: والله ما ذلك من عدم مواس ، ولا قلة أواس ، ولكنها شيمة ما أناس . ثم قالت لجواريها: خذن بعضد سيدكن. ففعلن ثم دعت بنطع فأجلسته عليه، وأمرت برواهشه فقطعت في طست من ذهب يسيل دمه فيه، وقالت له: يا جذيم لا يضعن من دمك شيء فإني أريده للخبل فقال ها: وما يحزنك من دم اضاعه أهله. وإنما كان بعض الكهان قال لها: إن نقط من دمه شيء في غير الطست أدرك بثأره. فلم يزل دمه يجري في الطست حتى ضعف، فتحرك فنقطت من دمه نقطة على أسطوانة رخام ومات.
قال: والعرب تتحدث في أن دماء الملوك شفاء من الخبل. قال المتلمس :

من الدارميين الذين دماؤهـم

 

شفاء من الداء المجنة والخبل

قال: وجمعت دمه في برنية وجعلته في خزانتها، ومضى قصير إلى عمرو بن عبد الحر التنوخي فقال اطلب بدم ابن عمك وإلا سبتك به العرب. فلم يحفل بذلك فخرج قصير إلى عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فقال: هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بثأر خالك؟ فجعل ذلك له، فأتى القادة والأعلام فقال لهم: أنتم القادة والرؤساء، وعندنا الأموال والكنوز. فانصرف إليه منهم بشر كثير، فالتقى بعمرو التنوخي فلما صافوا القتال تابعه التوخي ومالك بن عمرو بن عدي، فقال له قصير: انظر ما وعدتني في الزباء. فقال: وكيف وهي أمنع من عقاب الجو؟ فقال: أما إذا أبيت فإني جادع أنفي وأذني، ومحتال لقتالها، فأعني وخلاك ذم. فقال له عمرو: وأنت أبصر. فجدع قصير أنفه ثم انطلق حتى دخل على الزباء فقالت: من أنت؟ قال: انا قصير، لا ورب البشر ما كان على ظهر الأرض أحد أنصح لخدمته مني ولا أغش لك حتى جدع عمرو بن عدي أنفي وأذني، فعرفت أني لن اكون مع احد أثقل عليه منك. فقالت: اي قصير نقبل ذلك منك، ونصر لك في بضاعتنا. وأعطته مالا للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها، وانصرف إليها به، فلما رأت ما جاء به فرحت وزادته، ولم يزل حتى أنست به فقال لها: إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقا يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها. فقالت: اما أني قد فعلت واتخذت نفقاً تحت سريري هذا، يخرج إلى نفق تحت سرير أختي. وأرته إياه، فأظهر لها سروراً بذلك، وخرج في تجارته كما كان يفعل، وعرف عمرو بن عدي ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل ودخل على الزباء فقال لها: اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك، وتقدمي إلى بوابك فلا يعرض لشيء من أعكامنا ، فإني قد جئت بمال صامت. وقد كانت امنته فلم تكن تتهمه ولا تخافه، فصعدت كما أمرها فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت- وقيل مصنوع منسوب إليها-:

ما للجمال مشيها وئيدا

 

أجندلاً يحملن أم حديداً

أم صرفناً بارداً شديدا

 

أم الرجال جثما قعودا

فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكماً من الأعكام بمنخسة معه، فأصابت خاصرة رجل فضرط، فقال البواب: شر والله عكمتم به في الجوالقات . فثاروا بأهل المدينة ضرباً بالسيف، فانصرفت راجعة فاستقلها عمرو بن عدي فضربها فقتلها، وقيل بل مصت خاتمها وقالت: بيدي لا بيد عمرو، وخرجت المدينة وسبيت الذراري، وغنم عمرو كل شيء كان لها ولأبيها وأختها، وقال الشعراء في ذلك تذكر ما كان من قصير في مشورته على جذيمة، وفي حدعه انفه، فأكثروا. قال عدي بن زبد:

ألا يأيها المثري الـمـرجـى

 

ألم تسمع بخطب الـولـينـا

دعا بالبـقة الأمـراء يومـا

 

جذيمة ينتحي عصبا ثبـينـا

فطاوع أمرهم وعصى قصيراً

 

وكان يقول لو سمع اليقـينـا

وهي طويلة. وقال المتلمس يذكر جدع قصير أنفه:

ومن حذر الأيام مـا حـز أنـفـه

 

قصير وخاض الموت بالسيف بيهس

وفي هذا المعنى أشعار كثيرة يطول ذكرها.


وكان جذيمة الملك شاعراً، وإنما قيل له الوضاح لبرص كان به، وكان يعظم أن يسمى بذلك، فجعل مكانه الأبرش والوضاح. وهو الذي يقول:

والملك كان لـذي نـوا

 

س حولة تردي يحابـر

بالسابغات وبـالـقـنـا

 

والبيض تبرق والمغافر

أزمان لا ملـك يجـي

 

ر ولا ذمام لمن يجاور

أودى بهم غير الـزمـا

 

ن فمنجد منهم وغـائر

وهو الذي يقول:

ربما أوفيت فـي عـلـم

 

ترفعن ثوبي شـمـالات

في شباب أنـا رابـئهـم

 

هم لذي العورة صمـات

ليست شعري ما أطاف بهم

 

نحن أدلجنا وهم بـاتـوا

ثم ابنا غـانـمـين وكـم

 

كرناس قبلـنـا مـاتـوا

فيه غناء يقال إنه ليمان، ويقال إنه لمعبد، ولم يصح.

في كفه خيزران ريحه عبـق

 

من كف أروع في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

 

فما يكلم إلا حـين يبـتـسـم

الشعر لحزين بن سليمان الديلي، والغناء لإسحاق، ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش، وفيه لعريب رمل عمله على لحن ابن سريج.