أخبار أبي العباس الأعمى

هو السائب بن فروخ مولى بني ليث. وقيل إنه مولى بني الذيل، وهذا القول هو الصحيح.


ذكر محمد بن معاوية الأسدي، عن المدائني والواقدي: أن أبا العباس الأعمى الذي يروي عنه حبيب بن أبي ثابت، مولى جذيمة بن علي بن الديل بن بكر بن عبد مناة، وكان من شعراء بني أمية المعدودين، المقدمين في مدحهم والتشيع لهم، وانصباب الهوى إليهم، وهو الذي يقول في أبي الطفيل عامر بن واثلة، صاحب على بن أبي طالب عليه السلام:

لعمرك إنني وأبا طفيل

 

لمختلفان، والله الشهـيد

أرى عثمان مهتدياً ويأبى

 

متابعتي وآبى مـا يريد

أخبرني بذلك وكيع عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي سعد.


وقد روى أبو العباس الأعمى عن صدر من الصحابة الحديث، وروى عنه عطاء، وعمرو بن دينار، وحبيب بن أبي ثابت. أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء عن أبي العباس الأعمى الشاعر، عن عبد الله بن عمر، قال: إنما جمع منزل تدلج منه إذا شئت.


قال: حدثنا أحمد بن محمد بن دلان الخيشي، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو ضمرة قال: حدثني أبو الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي ذئب، عن أبي العباس، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي بن أبي طالب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، يغسل الخطايا غسلاً.


حدثني: أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي قال: حدثنا أبو قلابة قال: حدثنا بشر بن عمر قال: حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس السائب بن فروخ الأعمى الشاعر يحدث عن عبد الله بن عمر، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: فيهما فجاهد.


أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال: حدثنا الفضل بن عبد الله الخلنجي بجرجان قال: حدثني مسلم بن الوليد الأنصاري قال: سمعت يزيد بن مزيد يقول: سمعت هارون الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: خرجت أريد الشأم أيام مروان بن محمد، فصحبني في الطريق رجل ضرير، فسألته عن مقصده، فأخبرني أنه يريد مروان بشعر امتدحه به، فاستنشدته إياه، فأنشدني:

ليت شعري أفاح رائحة المس

 

ك وما إن إخال بالخيف إنسي

حين غابت بنو أمـية عـنـه

 

والبهاليل من بني عبد شمس

خطباء على المنابر فـرسـا

 

ن عليها وقالة غير خـرس

لا يعابون صامتـين وإن قـا

 

لوا أصابوا ولم يقولوا بلبـس

بحلوم إذا الحلوم تـقـضـت

 

ووجوه مثل الدنانير مـلـس

ويروى مكان تقضت: اضمحلت. قال: فوالله ما فرغ من إنشاده حتى توهمت أن العمى قد أدركني، وافترقنا.
فلما أفضت الخلافة إلي خرجت حاجاً، فنزلت أمشي بجبلي زرود، فبصرت بالضرير، ففرقت من كان معي، ثم دنوت منه فقلت: أتعرفني؟ قال: لا. فقلت: أنا رفيقك وأنت تريد الشام أيام مروان. فقال: أوه:

آمت نساء بني أمية منـهـم

 

وبناتهم بمـضـيعة أيتـام

نامت جدودهم وأسقط نجمهم

 

والنجم يسقط والجدود تنـام

خلت المنابر والأسرة منهـم

 

فعليهم حتى الممات سـلام

فقلت: وكم كان مروان أعطاك بأبي أنت؟ قال: أغناني أن أسأل أحداً بعده. فهممت بقتله، ثم ذكرت حق الاسترسال والصحبة، فأمسكت عنه، وغاب عن عيني، فبدا لي فيه، فأمرت بطلبه، فكأنما البيداء بادت به.


أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثني عمر بن شبة قال: قال أبو عبيدة: هوي أبو العباس الأعمى امرأة ذات بعل، فراسلها، فأعلمت زوجها، فقال: أطمعيه. فأطمعته. ثم قال: أرسلي إليه فليأتك. فأرسلت إليه، فأتاها، وجلس زوجها إلى جانبها، فقال لها أبو العباس: إنك قد وصفت لنا وما نراك، فألمسينا. فأخذت يده، فوضعتها على أير زوجها، فنفر، وعلم أن قد كيد، فنهض من عندها، وقال:

علي ألـية مـادمـت حـيا

 

أمسك طائعـاً إلا بـعـود

ولا أهدي لأرض أنت فيهـا

 

سلام الله إلا مـن بـعـيد

رجوت غنيمة فوضعت كفي

 

على أيبر أشد من الحـديد

فخير منك من لا خير فـيه

 

وخير من زيارتكم قعـودي

وقرأت هذه الحكاية مروية عن الأصمعي غير مذكور راويها عنه. وزعم أن بشاراً صاحب القصة، وأنه كان له مجلس يسميه البردان، يجتمع إليه فيه النساء، فعشق هذه المرأة وقد سمع كلامها. ثم ذكر الخبر بطوله، وقال فيه: فلما وصل إليها أنشأ يقول:

مليكة قد وصفت لنا بحسن

 

وإنا لا نراك فألمسـينـا

فأخذ زوجها يده، فوضعها على أيره.

 

ذكر إسحاق أن في البيتين الأولين والرابع من هذه الأبيات، لحنا من خفيف الثقيل، بالسبابة في مجرى الوسطى، ولم ينسبه إلى أحد. ووجدته في غناء عمرو بن بانة في هذه الطريقة منسوباً إليه، فلا أدري هو ذلك اللحن أو غيره.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أيوب بن عمر أبو سلمة قال: قال أبو العباس الأعمى، مولى بني الديل بن بكر، يحض بني أمية على عبد الله بن الزبير:

أبني أمـية لا أرى لـكـم

 

شبهاً إذا ما التفت الشـيع

سعة وأحلاماً إذا نـزعـت

 

أهل الحلوم فضرها النزع

وحفيظة فـي كـل نـائبة

 

شهباء لا ينهى لها الربـع

الله أعطاكم وإن رغـمـت

 

من ذاك أنف معاشر رتعوا

أبني أمـية غـير أنـكـم

 

والناس فيما أطمعوا طمعوا

أطمعتم فـيكـم عـدوكـم

 

فسما بهم في ذاكم الطمـع

فلو أنكم كنتم لـقـولـكـم

 

مثل الذي كانوا لكم رجعوا

عما كرهتـم أو لـردهـم

 

حذر العقوبة إنهـا تـزع

وله أشعار كثيرة في مدائح بني أمية، وهجاء آل الزبير، وأكثرها في هجاء عمرو بن الزبير، ليس ذكرها مما قصدنا له.


ونسخت من كتاب قعنب بن المحرز قال: حدثنا المدائني، عن جويرية بن أسماء: أن ابن الزبير رأى رجلاً من حلفاء بني أسد بن عبد العزى في حالة رثة، فكساه ثوبين، وأمر له ببر وتمر، فقال أبو العباس الأعمى في ذلك:

كست أسد إخوانها ولو أننـي

 

ببلدة إخواني إذاً لـكـسـيت

فلم تر عيني مثل حي تحملوا

 

إلى الشأم مظلومين منذ بريت

غنى في هذين البيتين دحمان ثقيل أول بالبنصر، من رواية ابن المكي، ورأيت في بعض الكتب لزرزور غلام المارقي فيهما صنعة أيضاً.


وقال محمد بن معاوية: حدثني المدائني قال: قدم البعيث المجاشعي مكة، وكان أبو العباس الأعمى الشاعر لا يكاد يفارقها، وكانت جوائز أمية تأتيه من الشام، وكانت قريش كلها تبره للسانه، وتقرباً إلى بني أمية ببره. قال: فصلى البعيث مع الناس، وسأل في حمالة كانت عليه، وكان سؤولاً ملحاً شديد الطمع، وكان الرجل من قريش يأتيه بالشيء يتحمله عنه، فيقول: لا أقبله إلا أن تجيء معي إلى الصراف حتى ينقده ويزنه، فإن لم يفعل ذمه وهجاه. فشكوه إلى أبي العباس الأعمى، فقال: قودوني إليه، ففعلوا. فلما عرف مجلسه رفع عصاه، فضرب بها رأسه، ثم قال له:

فهل أنت إلا ملصق في مجاشـع

 

نفاك جرير فاضطررت إلى نجد

نفاك جرير بالهجاء إلى نـجـد

 

 

ويروى:

تظل إذا أعطيت شيئاً سـألـتـه

 

تطالب من أعطاك بالوزن والنقد

فلا تطمعن من بعد ذا في عطية

 

وثق بقبيح المنع والدفع والـرد

فلست بمبق في قـريش خـزاية

 

تذم ولو أبعدت فيه مدى الجهـد

قال فتضاحك به من حضر، واستحيا ولم يحر جواباً. فلما جن الليل عليه هرب من مكة.
وقال قعنب بن المحرز: حدثني المدائني قال: قال عبد الملك بن مروان لأبي العباس الأعمى مولى بني الديل: أنشدني مديحك مصعباً. فاستعفاه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما رثيته بذلك لأنه كان صديقي، وقد علمت أن هواي أموي. قال: صدقت، ولكن أنشدني ما قلته. فانشده:

يرحم الله مصعباً فلقـد مـا

 

ت كريماً ورام أمراً جسيماً

فقال عبد الملك: أجل، لقد مات كريماً، ثم تمثل:

ولكنه رام التي لا يرومـهـا

 

من الناس إلا كل خرق معمم

أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان. قال حدثني إسحاق بن محمد الأموي قال: لما حج عبد الملك بن مروان جلس للناس بمكة، فدخلوا إليه على مراتبهم، وقامت الشعراء والخطباء فتكلموا، ودخل أبو العباس الأعمى، فلما رآه عبد الملك قال: مرحباً مرحباً بك يا أبا العباس، أخبرني بخبر الملحد المحل حيث كسا أشياعه ولم يكسك، وأنشدني ما قلت في ذلك.

فأخبره بخبر ابن الزبير، وأنه كسا بني أسد وأحلافها ولم يكسه، وأنشده الأبيات. فقال عبد الملك: أقسم على كل من حضرني من بني أمية وأحلافهم ومواليهم، ثم على كل من حضرني من أوليائي وشيعتي على دعوتهم، إلا كسا أبا العباس.

فخلعت والله حلل الوشي والخز والقوهي، وجعلت ترمى عليه، حتى إذا غطته نهض فجلس فوق ما اجتمع منها وطرح عليه، قال: حتى رأيت في الدار من الثياب ما ستر عني عبد الملك وجلساءه، وأمر له عبد الملك بمئة ألف درهم.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي. قال: حدثني أبي وأهلي: أن عبد الله بن الزبير لما غلب على الحجاز، جعل يتتبع شيعة بني مروان، فينفيهم عن المدينة ومكة، حتى لم يبق بهما أحد منهم، ثم بلغه عن أبي العباس الأعمى الشاعر نبذ من كلام، وأنه يكاتب بني مروان بعوراته، ويمدح عبد الملك، وتجيئه جوائزه وصلاته، فدعا به، ثم أغلظ له، وهم به، ثم كلم فيه، وقيل له: رجل مضرور. فعفا عنه، ونفاه إلى الطائف، فأنشأ يقول يهجوه ويهجو آل الزبير:

بني أسد لا تذكروا الفخر إنـكـم

 

متى تذكروه تكذبوا وتحمـقـوا

بعيدات بين خيركم لصـديقـكـم

 

وشركم يغدو عـلـيه ويطـرق

متى تسألوا فضلاً تضنوا وتبخلوا

 

ونيرانكم بالشر فيهـا تـحـرق

إذا استبقت يوماً قريش خرجتـم

 

بني أسد سكتا وذو المجد يسبـق

تجيئون خلف القوم سوداً وجوهكم

 

إذا ما قريش للأضاميم أصفقوا

وما ذاك إلا أن للؤم طـابـعـاً

 

يلوح عليكم وسمه ليس يخلـق

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني عمي مصعب قال: قال عمر بن أبي ربيعة لأبي العباس الأعمى الشاعر مولى بني الديل بن بكر:

أفتني إن كنت ثقـفـاً شـاعـراً

 

عن فتى أعرج أعمى مختلـف

سيء السـحـنة كـاب لـونـه

 

مثل عود الخروع البالي القصف

فقال أبو العباس يرد عليه:

أنت الفتى وابن الفتى وأخو الفتى

 

وسيدنـا لـولا خـلائق أربـع

نكولك في الهيجا وتقوالك الخنـا

 

وشتمك للمولى وأنـك تـبـع

قال الزبير: يقال رجل تبع نساء وتبع نساء: إذا كان كلفاً بهن. أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني عمي قال: حدثني المكيون: أن عمر بن أبي ربيعة كان يرامي جارية لأبي العباس الأعمى ببنادق الغالية، فبلغ ذلك أبا العباس، فقال لقائده: قفني على باب بني مخزوم، فإذا مر عمر بن أبي ربيعة، فضع يدي عليه، فلما مر عمر وضع يده عليه فأخذ بحجزته، وقال:

ألا من يشتري جاراً لئوماً

 

بجـار لا ينـام ولا ينـيم

ويلبس بالنهار ثياب نـاس

 

وشطر الليل شيطان رجيم

فنهضت إليه بنو مخزوم، فأمسكو فمه، وضمنوا له عن عمر أن لا يعاود ما يكرهه.

ألا حي من أجل الحبيب المغانبا

 

لبسن البلى لما لبسن اللـيالـيا

إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة

 

تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا

الشعر لأبي حية النميري. والغناء لأحمد بن يحيى المكي، خفيف رمل بالبنصر، عن الهشامي.