أخبار أحمد بن يحيى المكي

أحمد بن يحيى بن مروزق المكي، ويكنى أبا جعفر. وكان يلقب ظنيناً. وقد تقدم ذكر أبيه وأخباره. وهو أحد المحسنين المبرزين، الرواة للغناء، المحكمي الصنعة. وكان إسحاق يقدمه ويؤثره، ويشيد بذكره، ويجهر بتفضيله، وكتابه المجرد في الأغاني ونسبها أصل من الأصول المعمول عليها، وما أعرف كتاباً بعد كتاب إسحاق الذي ألفه لشبحا، يقارب كتابه، ولا يقاس به، وكان مع جودة غنائه وحسن صنعته، أحد الضراب الموصوفين المتقدمين.


أخبرني عمي قال: حدثني أبو عبد الله الهشامي، عن محمد بن أحمد المكي: أن أباه جمع لمحمد بن عبد الله بن طاهر ديواناً للغناء ونسبه وجنسه، فكان محتوياً على أربعة عشر ألف صوت. أخبرني جحظة قال: حدثني علي بن يحيى، ونسخت من بعض الكتب: حدثني محمد بن أحمد المكي قال: حدثني علي بن يحيى قال: فلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي وقد جرى ذكر أحمد بن يحيى المكي: يا أبا محمد، لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى المكي مملوكاً، كم كان يساوي؟ فقال: أخبرك عن ذلك.


أنصرفت ليلة من دار الواثق، فاجتزت بدار الحسن بن وهب، فدخلت إليه، فإذا أحمد عنده، فلما قام لصلاة العشاء الآخرة، قال لي الحسن بن وهب: كم يساوي أحمد لو كان مملوكاً؟ قلت: يساوي عشرين ألف دينار. قال: ثم رجع فغنى صوتاً، فقال لي الحسن بن وهب: يا أبا محمد، أضعفها. قال: ثم تغنى صوتاً آخر، فقلت للحسن: يا أبا علي أضعفها. ثم أردت الانصراف، فقلت لأحمد: غنني:

لولا الحياء وأن الستر من خلـقـي

 

إذن قعدت إليك الدهـر لـم أقـم

أليس عندك شكر للتـي جـعـلـت

 

ما ابيض من قادمات الرأس كالحمم

الغناء فيه لمعبد، خفيف ثقيل أول في مجرى البنصر، عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أنه لمالك، وليس كما قال، لحن مالك ثقيل أول ذكره الهشامي ودنانير وغيرهما.


قال: فغناه أحمد بن يحيى المكي، فأحسن فيه كل الإحسان. فلما قمت للانصراف قلت للحسن: يا ألا علي، أضعف الجميع. فقال له أحمد: ما هذا الذي أسمعكما تقولانه، ولست أدري ما معناه. قال: نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدري.


وأخبرنا بهذا الخبر يحيى بن علي بن يحيى، عن أخيه أحمد بن علي، عن عافية بن شبيب، عن أبي حاتم، كان إسحاق عندنا في منزل أبي علي الحسن بن وهب، وعندنا ظنين بن المكي، وذكر الحديث مثله، وقال فيه: إنه قومه مئة ألف درهم، وذكر أن الصوت الذي غناه آخراً:

أمن دمن وخـيم بـالـيات

 

وسفع كالحمائم جاثمـات

أرقت لهن شطر الليل حتى

 

طلعن من المناقب منجدات

وأن إسحاق لما سمعه قال: كم كنت قومته؟ قال: مئة ألف درهم. قال: أضعفوا القيمة. قيمته مئتا ألف درهم. في هذين البيتين لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأول، بالسبابة في مجرى الوسطى، ينسب إلى ابن مسجح، وإلى ابن محرز. وفيه لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، عن عمرو. وللغريض خفيف ثقيل عن الهشامي.


أخبرني جحظة قال: حدثني محمد بن أحمد المكي قال: ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم، وطال تلاحيهما في الغناء، فقال أبي للمعتصم، يا أمير المؤمنين، من شاء منهم فليغن عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة، وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة، لا يعرف أحد منهم صوتاً منها. فقال إسحاق: صدق يا أمير المؤمنين. واتبعه ابن بسخنر وعلويه، فقالا: صدق يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله. فأمر له بعشرين ألف درهم.


قال محمد: ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظته يوماً، فقال له: قد دعوتك إلى النصفة، فلم تقبل، وأنا أدعوك وأبدأ بما دعوتك إليه، فاندفع فغنى عشرة أصوات، فلم يعرف أحد منهم منها صوتاً واحداً، كلها من الغناء القديم، والغناء اللاحق به من صنعة المكيين الحذاق الخاملي الذكر، فاستحسن المعتصم منها صوتاً، وأسكت المغنين له، واستعاده مرات عدة، ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه، وأمر ألا يراجع أحداً من المغنين كلاماً، ولا يعارضه أحد منهم، إذ كان قد أبر عليهم، وأوضح الحجة في انقطاعهم، وإدحاض حججهم.


كان الصوت الذي اختاره المعتصم عليه، وأمر له لما سمعه بألفي دينار:

لعن الله من يلـوم مـحـبـاً

 

ولحى الله من يحب فـيابـى

رب إلفين أضمرا الحب دهرا

 

فعفا الله عنهما حـين تـابـا

الغناء ليحيى المكي رمل.
قال محمد، قال أبي: وكان المعتصم قد خلع علينا في ذلك اليوم مماطر لها شأن من ألوان شتى، فسألني عبد الوهاب بن علي أن أرد عليه هذا الصوت، وجعل لي ممطره، فغنته إياه، فلما خرجنا للانصراف إلى منازلنا، أمر غلمانه بدفع الممطر إلى غلماني، فسلموه إليهم. أخبرني عبد الله بن الربيع، عن أبيه، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال: سألني إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوماً: من بقي من المغنين؟ قلت: وجه القرعة محمد بن عيسى، مولى عيسى بن جعفر. فقال: صالح كيس. ومن أيضاً؟ قلت: أحمد بن يحيى المكي. قال بخ بخ! ذاك المحسن المجمل الضارب المغني القائم بمجلسه، لا يحوج أهل المجلس إلى غيره. ومن بأبي أنت؟ قلت: ابن مقامرة. قال: لا والله ما سمعت بهذا قط. فمن مقامره هذه؟ زامرة أم نائحة أم مغنية؟ قلت: لا. ولكنها من الناس، وليست من أهل صناعته. قال: ومن أيضاً بأبي أنت؟ قلت: يحيى بن القاسم ابن أخي سلمة. قال: الذي كان له أخ يغني مرتجلاً؟ قلت: نعم. قال: لم يحسن ذاك ولا أبوه شيئاً قط، ولا أشك أن هذا كذلك، لأنهما مؤدباه.


وذكر ابن المكي عن أبيه قال: قال المعتصم يوماً لجلسائه ونحن عنده: خلعت اليوم على فتى شريف ظريف نظيف، حسن الوجه، شجاع القلب، ووليته المصيصة ونواحيها. فقلنا: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: خالد بن يزيد بن مزيد. فقال علونه: يا أحمد غن أمير المؤمنين صوتك في مدح خالد، فأمسكت عنه. فقال المعتصم: مالك لا تجيبه؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس هو مما يغنى بحضرة الخليفة. فقال: ما من أن تغنيه بد. قال: فغنيته صنعة لي في هذا الشعر:

علم الناس خالد بـن يزيد

 

كل حلم وكل بأس وجود

فترى الناس هيبة حين يبدو

 

من قيام وركع وسجـود

فقال المعتصم: يا سمانة، خذ أحمد بإلقاء هذا الصوت على الجواري في غد، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
قال: وغنى أبي يوماً محمداً الأمين:

فعش عمر نوح في سرور وغبـطة

 

وفي خفض عيش ليس في طوله إثم

تساعدك الأقدار فـيه وتـنـثـنـي

 

إليك وترعى فضلك العرب والعجم

فأمر له بخمس مئة دينار.
وتوفى أحمد بن يحيى المكي في خلافة المستعين في أولها. أخبرني بذلك جحظة البرمكي، عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي: أن أباه توفي في هذا الوقت. انقضت أخباره.

إن الذين غدوا بلبك غـادروا

 

وشلا بعينك ما يزال معينـا

غيضن من عبراتهن وقلن لي:

 

ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟

غادروا: تركوا. والوشل: الماء القليل. والمعين: الماء الصافي الجاري. وغيضن من عبراتهن: أي كففنها ومسحنها حتى تغيض.
الشعر لجرير، والغناء لإسحاق، رمل بالوسطى، عن عمرو. وهو من طريف أرمال إسحاق وعيونها. وفيه لابن سريج ثقيل أول بالبنصر، عن الهشامي وعمرو. وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج رملاً آخر. وذكر عيسى أن الثقيل الأول لإبراهيم، وأن فيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى، ولإبراهيم أيضاً ماخوري بالبنصر.???? وقد أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب الصائغ قال: حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أن هذين البيتين للمعلوط، وأن جريراً سرقهما منه، وأدخلهما في شعره.


أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي وغيره قالوا: غدا عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي على أبي السائب المخزومي في منزله، فلما خرج إليه أبو السائب أنشده قول جرير:

إن الذين غدوا بلبك غادروا

 

وشلا بعينك لا يزال معينا

البيتين. فحلف أبو السائب ألا يرد على أحد سلاماً، ولا يكلمه إلا بهذين البيتين، حتى يرجع إلى منزله. فخرجا، فلقيهما عبد العزيز بن المطلب وهو قاض، وكانا يدعيان القرينين لملازمتهما، فلما رآهما قال: كيف أصبح القرينان؟ فغمز أبو السائب بن جندب: أن أخبره بالقصة، وابن جندب يتغافل، فقال لابن جندب: ما لأبي السائب؟ فجعل أبو السائب يغمزه، أي أخبره بيميني. قال ابن جندب: أحمد الله إليك، ما زلت منكراً لفعله منذ خرجنا. فانصرف ابن المطلب إلى منزله والخصوم ينتظرونه، فصرفهم ودخل منزله مغتماً. فلما أتى أبو السائب منزله، وبزت يمينه، خرج إلى ابن جندب فقال: اذهب بنا إلى ابن المطلب، فإني أخاف أن يرد شهادتي. فاستأذنا عليه، فأذن لهما فقال له أبو السائب: قد علمت أعزك الله غرامي بالشعر، وإن هذا الضال جاءني حين خرجت من منزلي، فأنشدني بيتين، فحلفت ألا أرد على أحد سلاماً، ولا أكلمه إلا بهما. حتى أرجع إلى منزلي. فقال ابن المطلب: اللهم غفراً! ألا تترك المجون يا أبا السائب. أخبرني: الحرمي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد المطلب بن عبد العزيز قال: أنشدت أبا السائب قول جرير:

غيضن من عبراتهن وقلن لي

 

ماذا لقيت من الهوى ولقينـا

فقال: يا بن أخي، أتدري ما التغييض؟ قلت: لا. قال: هكذا، وأشار بأصبعه إلى جفنه، كأنه يأخذ الدمع ثم ينضحه.
أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا المدائني. وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، عن أحمد بن زهير، عن الزبير بن بكار قال: عن المدائني قال: شهد رجل عند قاض بشهادة، فقيل له: من يعرفك؟ قال: ابن أبي عتيق. فبعث إليه يسأله عنه. فقال: عدل رضا. فقيل له: أكنت تعرفه قبل اليوم؟ قال: لا. ولكني سمعته ينشد:

غيضن من عبراتهن وقلن لي:

 

ماذا لقيت من الهوى ولقينـا

فعلمت أن هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن، فشهدت له بالعدالة.


أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثنا محمد بن الحسن ومحمد بن الضحاك قالا: كان أبو السائب المخزومي واقفاً على رأس بئر، فأنشده ابن جندب:

إن الذين غدوا بلبك غادروا

 

وشلا بعينك لا يزال معينا

فرمى بنفسه في البئر بثيابه، فبعد لأي ما أخرجوه.


أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا محمد بن الحسن الزرقي قال: حدثنا العلاء بن عمرو الزبيري، من ولد عمرو بن الزبير، قال: حدثنا يحيى بن أبي قتيلة قال: حدثني إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي عليهم السلام، عن أشعب قال: جاءني فتية من قريش، فقالوا لي: نحب أن تسمع سالم بن عبد الله بن عمر صوتاً من الغناء، وتعلمنا ما يقول لك، وجعلوا لي في ذلك جعلاً. فدخلت عليه، فقلت: يا أبا عمروا، لي مجالسة وحرمة، ومودة وسن، وأنا مولع بالترنم. قال: وما الترنم؟ قلت: الغناء. قال: وفي أي وقت؟ قلت: في الخلوة، ومع الإخوان في الخارج. وأحب أن أسمعك، فإن كرهته أمسكت عنه. ثم غنيته، فقال: ما أرى بأساً. فخرجت إليهم، فأعلمتهم، فقالوا: وما غنيته؟ فقلت: غنيته:

قربا مربط النعامة مـنـي

 

لقحت حرب وائل عن حيال

قالوا: هذا بارد لا حركة فيه، ولسنا نرضى. فلما رأيت دفعهم أياي، وخفت ذهاب ما جعلوا لي، رجعت إليه، فقلت: يا أبا عمرو، آخر. قال: مالي ولك؟ ولم أملكه أمره حتى غنيت، فقال: ما أرى بأساً. فخرجت إليهم فأعلمتهم. قالوا: وما غنيته؟ قلت:

لم يطيقوا أن ينزلوا ونـزلـنـا

 

وأخو الحرب من أطاق النزولا

قالوا: وليس هذا بشيء. فرجعت إليه، فقلت: آخر. فاستكفني، فلم أملكه القول حتى غنيته:

غيضن من عبراتهن وقلن لي:

 

ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟

فقال: مهلا مهلا. قلت: لا والله إلا بذاك الذي فيه تمر عجوة من صدقة عمر. فقال: هو لك. فخرجت عليهم به، وأنا أخطر. فقالوا: مه. فقلت: أطربت الشيخ حتى أعطاني هذا، وقال مرة أخرى: حتى فرض لي هذا. قال: ووالله ما فعل، وإنما كان فدية لأصمت، وأخذت منهم الجعل.


أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال: حدثت عن حماد بن إسحاق قال: حدثني علويه الأعسر قال: أتيت أباك في داره هذه يوماً وقد بنى إيوانها وسائرها خراب، فجلسنا على تل من تراب، فغناني لحنه في:

غيضن من عبراتهن وقلن لي:

 

ماذا لقيت من الهوى ولقينـا

فسألته أن يعيده عليّ، ففعل. وأتانا رسول أبيه بطبق رطب، فقال للرسول: قل له: سأرسل إليك برطب أطيب من الرطب الذي بعثت به إلي، فأبلغه الرسول ذلك، فقال له: ومن عنده؟ فأخبره أنني عنده. فقال: ما أخلقه أن يكون قد أتانا بآبدة، ثم أتانا رسوله بعد ساعة فقال: ما آن لرطبكم أن يأتينا؟ فأرسلني إليه وقد أخذت الصوت، فغنيته إياه، فقال: أجاد والله. أألام على هذا وحبه، والله لو لم يكن بيني وبينه قرابة لأحببته، فكيف وهو ابني؟

ألست ترى يا ضب بالله أنني

 

مصاحبة نحو المدينة أركبا

إذا قطعوا حزنا نخب ركابهم

 

كما حركت ريح يراعاً مثقبا

عروضه من الطويل. والشعر لنائله بنت الفرافصة. والغناء لابن عائشة، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى. ووجدت في كتاب بخط عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أنه مما نحله يحيى المكي لابن عائشة.