أخبار عزة الميلاء

كانت عزة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز، وماتت قبل جميلة، وكانت من أجمل النساء وجهاً، وأحسنهن جسماً، وسميت الميلاء؛ لتمايلها في مشيها.

سبب تسميتها الميلاء

وقيل: بل كانت تلبس الملاء، وتشبه بالرجال، فسميت بذلك. وقيل: بل كانت مغرمة بالشراب، وكانت تقول: خذ ملئاً واردد فارغاً - ذكر ذلك حماد بن إسحاق، عن أبيه.


والصحيح أنها سميت الميلاء لميلها في مشيتها.

مكانتها في الموسيقى والغناء

قال إسحاق: ذكر لي ابن جامع، عن يونس الكاتب، عن معبد، قال: كانت عزة الميلاء ممن أحسن ضرباً بعود، وكانت مطبوعة على الغناء، لا يعيبها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني القيان من القدائم، مثل سيرين ، وزرنب، وخولة، والرباب، وسلمى، ورائقة، وكانت رائقة أستاذتها. فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية، فلقنت عزة عنهما نغماً، وألفت عليها ألحاناً عجيبة، فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء، وحرض نساءهم ورجالهم عليه.

رأي مشايخ أهل المدينة فيها

قال إسحاق: وقال الزبير: إنه وجد مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله درها! ما كان أحسن غناءها، ومد صوتها، وأندى حلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها.


قال إسحاق: وحدثني أبي، عن سياط، عن معبد، عن جميلة، بمثل ذلك من القول فيها.


أخذ عنها ابن سريج وابن محرز قال إسحاق: وحدثني أبي، عن يونس، قال: كان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة، فيسمع من عزة ويتعلم غناءها، ويأخذ عنها، وكان بها معجباً، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المفضلة على كل من غنى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء.
قال: وحدثني هشام بن المرية أن ابن محرز كان يقيم بمكة ثلاثة أشهر، ويأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزة، وكان يأخذ عنها.


رأي طويس فيها قال إسحاق: وحدثني الجمحي، عن جرير المغني المديني، أن طويساً كان أكثر ما يأوي إلى منزل عزة الميلاء، وكان في جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هي سيدة من غنى من النساء، مع جمال بارع، وخلق فاضل وإسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له، فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها!.


ثم قال: كانت إذا جلست جلوساً عاماً فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها، من تكلم أو تحرك نقر رأسه.

 

قال ابن سلام: فما ظنك بمن يقول: فيه طويس هذا القول! ومن ذلك الذي سلم من طويس!.

سمعها معبد وقد أسنت فأعجب بها

قال إسحاق: وحدثني أبو عبد الله الأسلمي، عن معبد: أنه أتى عزة يوماً وهي عند جميلة وقد أسنت، وهي تغني على معرفة في شعر ابن الإطنابة، قال:

عللاني وعللا صاحـبـيا

 

واسقياني من المروق ريا

قال: فما سمع السامعون قط بشيء أحسن من ذلك. قال معبد: هذا غناؤها، وقد أسنت، فكيف بها وهي شابة!.

ابن أبي ربيعة يغشى عليه حين سمعها

قال إسحاق: وذكر لي عن صالح بن حسان الأنصاري، قال: كانت عزة مولاة لنا، وكانت عفيفة جميلة، وكان عبد الله بن جعفر، وابن أبي عتيق، وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم. وغنت يوماً عمر بن أبي ربيعة لحناً لها في شيء من شعره، فشق ثيابه، وصاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب! قال: إني سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي.


وقال إسحاق: وحدثني أبو عبد الله الأسلمي المدني، قال: كان حسان بن ثابت معجباً بعزة الميلاء، وكان يقدمها على سائر قيان المدينة.

غنت شعراً لحسان بن ثابت فبكى

أخبرني حرمي، عن الزبير، عن محمد بن الحسن المخزومي، عن محرز بن جعفر، قال: ختن زيد بن ثابت الأنصاري بنته، فأولم؛ فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامة أهل المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كف بصره يومئذ، وثقل سمعه، وكان يقول إذا دعي: أعرس أم عذار ؟ فحضر ووضع بين يديه خوان ليس عليه إلا عبد الرحمن ابنه، فكان يسأله: أطعام يد أم يدين؟ فلم يزل يأكل حتى جاءوا بالشواء، فقال: طعام يدين؛ فأمسك يده حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة، وأقبلت الميلاء، وهي يومئذ شابة، فوضع في حجرها مزهر، فضربت به، ثم تغنت، فكان أول ما ابتدأت به شعر حسان، قال:

فلا زال قبر بين بصرى وجلق

 

عليه من الوسمي جود ووابل

فطرب حسان، وجعلت عيناه تنضحان، وهو مصغ لها.


أخبرني ابن عبد العزيز الجوهري، عن ابن شبة، عن الأصمعي، عن أبي الزناد، قال: قلت لخارجة بن زيد: أكان يكون هذا الغناء عندكم؟ قال: كان يكون في العرسات ولم يكن يشهد بما يشهد به اليوم من السعة. وكان في إخواننا بني نبيط مأدبة، فدعينا، وثم قينة أو قينتان تنشدان شعر حسان بن ثابت، قال :

انظر خليلي بباب جلق هـل

 

تبصر دون البلقاء من أحد؟ ؟

قال: وحسان يبكي، وابنه يومىء إليهما أن زيداً؛ فإذا زادتا بكى حسان، فأعجبني ما يعجبه من أن تبكيا أباه، وقد كف بصر حسان بن ثابت يومئذ.


أخبرنا وكيع، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: سمعت خارجة بن زيد يقول: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط، قال خارجة: فحضرتها، وحسان بن ثابت قد حضرها، فجلسنا جميعاً على مائدة واحدة، وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكان إذا أتى طعام سأل ابنه: أطعام يد أم يدين؟ يعني باليد الثريد وباليدين الشواء؛ لأنه ينهش نهشاً، فإذا قال: طعام يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين: إحداهما رائقة والأخرى عزة، فجلستا وأخذتا مزهريهما، وضربتا ضرباً عجيباً، وغنتا بقول حسان:

انظر خليلي بباب جلق هل

 

تبصر دون البلقاء من أحد

فأسمع حساناً يقول:

قد أراني بها سميعاً بصيراً

وعيناه تدمعان، فإذا سكنتا سكت عنه البكاء، وإذا غنتا بكى، فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنيا، فيبكي أبوه، فأقول: ما حاجته إلى إبكاء أبيه!.


قال الواقدي: فحدثت بهذا الحديث يعقوب بن محمد الظفري، فقال: سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان يقول: لما انقلب حسان من مأدبة بني نبيط إلى منزله استلقى على فراشه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمراً ما سمعته أذناي بعيد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم! فقلت: يا أبا الوليد! أكان القيان يكن عند جبلة؟، فتبسم ثم جلس، فقال: لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، وأهداهن إليه إياس بن قبيصة، وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها، وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب، وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندى إن كان شاتياً، وإن كان صائفاً بطن بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكساً صيفية يتفضل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء الفراء الفنك ، وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يوماً قط إلا خلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم، وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة، مع حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خنى قط ولا عربدة، ونحن يومئذ على الشرك، فجاء الله بالإسلام فمحا بل كل كفر، وتركنا الخمر وما كره، وأنتم اليوم مسلمون تشربون هذا النبيذ من التمر، والفضيخ من الزهر والرطب، فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى يصاحب صاحبته ويفارقها، وتضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون!.


أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن أبي أيوب المديني، عن مصعب الزبيري، عن الضحاك، عن عثمان بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد مثله، وزاد فيه: فلما فرغنا من الطعام ثقل علينا جلوس حسان، فأومأ ابنه إلى عزة الميلاء فغنت:

انظر خليلي بباب جلق هل

 

تبصر دون البلقاء من أحد

فبكى حسان حتى سدر ، ثم قال: هذا عمل الفاسق، أما لقد كرهتم مجالستي، فقبح الله مجلسكم سائر اليوم، وقام فانصرف.


أخبرني حرمي، عن الزبير، عن عمه مصعب، قال: ذكر هشام بن عروة، عن أبيه: أنه دعي إلى مأدبة في زمن عثمان، ودعي حسان ومعه ابنه عبد الرحمن، ثم ذكر نحو ما ذكره عمر بن شبة عن الأصمعي في الحديث الأول، قال : نسبة هذا الصوت

انظر خليلي بباب جـلـق هـل

 

تؤنس دون البلـقـاء مـن أحـد

أجمال شعثاً إن هبطـن مـن ال

 

محبس بين الكثبان فـالـسـنـد

يملن حوراً حور المدامع فـي ال

 

ريط وبيض الوجوه كـالـبـرد

من دون بصرى ودونها جبل الثل

 

ج عليه السـحـاب كـالـقـرد

إني وأيدي المـخـيسـات ومـا

 

يقطعن من كل سـربـخ جـدد

أهوى حديث الندمـان فـي فـل

 

ق الصبح وصوت المسامر الغرد

تقول شعثاً بعد ما هـبـطـت

 

بصور حسنى من احتدى بلدي

لا أخدش الخدش بالحبـيب ولا

 

يخشى نديمي إذا انتشيت يدي

الشعر لحسان بن ثابت، والغناء لعزة الميلاء، رمل بالبنصر، وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن محرز، وإلى عزة الميلاء. وإلى الهذلي في:

تقول شعثاء بعد ما هبطت

وما بعده من الأبيات، ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيها لعبد الرحيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.


نسب شعثاء التي شبب بها حسان بن ثابت وشعثاء هذه التي شبب بها حسان - فيما ذكر الواقدي ومصعب الزبيري - امرأة من أسلم، تزوجها حسان، وولدت منه بنتاً يقال لها أم فراس تزوجها عبد الرحمن بن أم الحكم. وذكر أبو عمرو الشيباني مثل ما ذكره في نسبهان ووصف أنه خطبها إلى قومها من أسلم فردوه، فقال يهجوهم :

لقـد أتـى عـن بـنـي الـجـربـاء قــولـــهـــم

 

ودونـهـم قـف جـمـــدان فـــمـــوضـــوع

قد عـلـمــت أســـلـــم الأرذال أن لـــهـــا

 

جاراً سـيقـتــلـــه فـــي داره الـــجـــوع

وأن سيمنعهم مما نووا حسب لن يبلغ المجد والعلياء مقطوع

 

 

وقد علوا زعموا عنى بأختهموفي الذرا حسبي والمجد مرفوع

 

 

ويل أم شعثاء شيئاً تستغيث به

 

إذا تـجـلـلـهـا الــنـــعـــظ الأفـــاقـــيع

كأنــه فـــي صـــلاهـــا وهـــي بـــاركةٌ

 

ذراع بـكـر مـــن الـــنـــياط مـــنـــزوع

وكانت بنت رئيس اليهود

أخبرني حرمي، عن الزبير، عن إبراهيم بن المنذر، عن أبي القاسم بن أبي الزناد، عن أخيه عبد الرحمن، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، قال: شعثاء هذه بنت عمرو، من بني ماسكة من يهود، وكانت مساكن بني ماسكة بناحية القف، وكان أبو شعثاء قد رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة، وكان ذا قدر فيهم، فقال حسان يذكر ذلك:

من شعر حسان في شعثاء

هل في تصابي الكريم من فند

 

أم هل لمدى الأيام من نفـد

تقول شعثاء: لو أفقت عن الكا

 

س لألفيت مثـري الـعـدد

يأبى لي السيف واللسان وقـو

 

م لم يضاموا كـبـدة الأسـد

وذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء.
ومما قاله حسان بن ثابت في شعثاء، وغني به قوله :

ما هاج حسان رسوم المـقـام

 

ومظعن الحي ومبنى الخـيام

والنؤي قـد هـدم أعـضـاده

 

تقادم العهـد بـوادي تـهـام

قد أدرك الواشون ما حاولـوا

 

والحبل من شعثاء رث رمـام

جنـية أرقـنـي طـيفـهـا

 

يذهب صبحاً ويرى في المنام

هل هي إلا ظبية مـطـفـل

 

مألفها السدر بنعـفـي بـرام

ترعى غزالاً فاتراً طـرفـه

 

مقارب الخطو ضعيف البغام

كأن فـاهـا ثـغـب بــارد

 

في رصف تحت ظلال الغمام

شج بصهبـاء لـهـا سـورة

 

من بنت كرم عتقت في الخيام

تدب في الكأس دبيبـاً كـمـا

 

دب دبى وسط رفـاق هـيام

من خمر بيسان تخـيرتـهـا

 

درياقة توشك فتر العـظـام

يسعى بها أحمر ذو بـرنـس

 

محتلق الذفرى شديد الحـزام

يقول فيها :

قومي بنو النجار إذ أقبـلـت

 

شهباء ترمي أهلها بالقـتـام

لا تخذل الجار ولا تسلم المول

 

ى ولا تخصم يوم الخصـام

الشعر لحسان، والغناء لمعبد، خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى في البيت الأول من الأبيات، والرابع والتاسع والحادي عشر. وذكر الهشامي أن فيه لحناً لابن سريج من الرمل بالوسطى.


وهذه الأبيات يقولها حسان في حرب كانت بينهم وبين الأوس، تعرف بحرب مزاحم، وهو حصن من حصونهم.

شعر لحسان في حرب بين الأوس والخزرج

أخبرني بخبره حرمي عن الزبير، عن عمه مصعب، قال: جمعت الأوس وحشدت بأحلافها، ورأسوا عليهم أبا قيس بن الأسلت يومئذ، فسار بهم حتى كان قريباً من مزاحم. وبلغ ذلك الخزرج، فخرجوا يومئذ وعليهم سعد بن عبادة؛ وذلك أن عبد الله بن أبي كان مريضاً أو متمارضاً، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتلت بينهم قتلى كثيرة، وكان الطول يومئذ للأوس؛ فقال حسان في ذلك:

ما هاج حسان رسوم المقام

 

ومظعن الحي ومبنى الخيام

وذكر الأبيات كلها.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن عمر بن القاسم بن الحسن، عن محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي، قال: قال رجل من أهل المدينة: ما ذكر بيت حسان بن ثابت :

أهوى حديث الندمـان فـي فـل

 

ق الصبح وصوت المسامر الغرد

إلا عدت في الفتوة كما كنت. قال: وهذا البيت من قصيدته التي يقول فيها:

أنظر خليلي بباب جلق هل

 

تؤنس البلقاء مـن أحـد

وقد روى أيضاً في هذا الخبر غير الروايتين اللتين ذكرتهما.

عبد الرحمن يحتال لإبعاد أبيه

عن مجلس أصحابه

أخبرني بذلك حرمي، عن الزبير، عن وهب بن جريرن عن جويرية بن أسماء، عن عبد الوهاب بن يحيى، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن شيخ من قريش، قال: إني وفتية من قريش عند قينة من قيان المدينة، ومعنا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت إذ استأذن حسان، فكرهنا دخوله، وشق ذلك علينا؛ فقال لنا عبد الرحمن: أيسركم ألا يجلس؟ قلنا: نعم. قال: فمروها إذا نظرت إليه أن ترفع عقيرتها وتغني:

أولاد جفنة عند قبـر أبـيهـم

 

قبر ابن مارية الكريم المفضل

يغشون حتى ما تهر كلابـهـم

 

لا يسألون عن السواد المقبـل

قال: فوالله لقد بكى حتى ظننا أنه سقطت نفسه، ثم قال: أفيكم الفاسق! لعمري لقد كرهتم مجلسي سائر اليوم، وقام فانصرف، والله تعالى أعلم.


نسبة هذا الصوت وسائر ما يغنى فيه من القصيدة التي هو منها.


صوت

أولاد جفنة عند قبـر أبـيهـم

 

قبر ابن مارية الجواد المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم

 

كأساً تصفق بالرحيق السلسل

البريص: موضع بدمشق.

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

 

شم الأنوف من الطراز الأول

يغشون حتى ما تهر كلابهـم

 

لا يسألون عن السواد المقبل

ذكر حبش أن فيه لسيرين قينة حسان بن ثابت لحناً ثقيلاً أول ابتداؤه نشيد ، وفيه لعريب ثقيل أول لا يشك فيه.


ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله : صوت

كلتاهما حلب العصير فعاطنـي

 

بزجاجة أرخاهما للمـفـصـل

بزجاجة رقصت بما في قعرهـا

 

رقص القلوص براكب مستعجل

غناه إبراهيم الموصلي رملاً مطلقاً في مجرى الوسطى، عن إسحاق وعمرو وغيرهما، ويروى: "كلتاهما حلب العصير"، بجعل الفعل للعصير. ويروى للمفصل، بكسر الميم وفتح الصاد، وللمفصل، بفتح الميم وكسر الصاد، وهو اللسان.


أخبرنا بذل علي بن سليمان الأخفش، عن المبرد، حكاية عن أصحابه، عن الأصمعي.

رجع الحديث إلى أخبار عزة الميلاء

عبد الله بن جعفر وناسك بالمدينة قال إسحاق: حدثني مصعب الزبيري، عن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، عن جده، قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني:

بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا

فاستهتر بها وهام، وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء وطاووس فلاماه؛ فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر:

يلومني فيك أقوام أجالسهـم

 

فما أبالي أطار اللوم أم وقعا

وبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إلى النخاس، فاعترض الجارية، وسمع غناءها بهذا الصوت، وقال لها: ممن أخذته؟ قالت: من عزة الميلاء. فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره، فأعلمه إياه وصدقه عنه، فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال: نعم، فدعا بعزة وقال لها: غنيه إياه، فغنته؛ فصعق الرجل، وخر مغشياً عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء، الماء! فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: أكل هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفي عنك أكثر. قال: أفتحب أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها، وأنا لا أحبها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها، وأنا لا أقدر على ملكها! قال: أفتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها! فأمر بها فأخرجت، وقال: خذها فهي لك، والله ما نظرت إليها إلا عن عرض. فقبل الرجل يديه ورجليه، وقال: أنمت عيني، وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إلي عقلي، ودعا له دعاء كثيراً. فقال: ما أرضى أن أعطيكها هكذا، يا غلام احمل معها مثل ثمنها لكيلا تهتم به ويهتم بها.

نسبة هذا الصوت

صوت

بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا

 

واحتلت الغور فالجدين فالفرعا

وأنكرتني وما كان الذي نكـرت

 

من الحوادث إلا الشيب والصلعا

عروضه من البسيط، والشعر للأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة.

الأصمعي ينحل الأعشى بيتاً من الشعر

وزعم الأصمعي أن البيت الثاني هو صنعه ونحله الأعشى.


أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، عن عمه، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: ما نحلت أحداً من الشعراء شيئاً قط لم يقله إلا بيتاً واحداً نحلته الأعشى، وهو:

وأنكرتني وما كان الذي نكـرت

 

من الحوادث إلا الشيب والصلعا

الغناء لعزة الميلاء، خفيف ثقيل أول بالوسطى؛ وذكر عمور بن بانة أنه لمعبد، وأنكر إسحاق ذلك ودفعه، وفيه للغريض ثقيل أول بالبنصر، وقيل: إنه لجميلة.

ابن جعفر يطلب ألا تمنع عزة من الغناء

قال إسحاق: وحدثني ابن سلام، عن ابن جعدبة، قال: كان ابن أبي عتيق معجباً بعزة الميلاء، فأتى يوماً عند عبد الله بن جعفر، فقال له: بأبي أنت وأمي! هل لك في عزة، فقد اشتقت إليها! قال: لا، أنا اليوم مشغول. فقال: بأبي أنت وأمي! إنها لا تنشط إلا بحضورك، فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك، ففعل، فأتياها ورسول الأمير على بابها يقول لها: دعي الغناء، فقد ضج أهل المدينة منك، وذكروا أنك قد فتنت رجالهم ونساءهم. فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عني: أقسم عليك إلا ناديت في المدينة: أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه، ويظهر لنا ولك أمره. فنادى الرسول بذلك، فما أظهر أحد نفسه. ودخل ابن جعفر إليها وابن أبي عتيق معه، فقال لها: لا يهولنك ما سمعت، وهاتي فغنينا، فغنته بشعر القطامي :

إنا محيوك فاسلم أيها الطـلـل

 

وإن بليت، وإن طالت بك الطيل

فاهتز ابن أبي عتيق طرباً، فقال عبد الله بن جعفر: ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزة.
وقد مضت نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني في مواضع أخر.

صوت

من كان مسروراً بمقتل مالك

 

فليأت نسوتنا بوجه نـهـار

يجد النساء حواسراً يندبـنـه

 

قد قمن قبل تبلج الأسحـار

عروضه من الكامل. قوله:

قد قمن قبل تبلج الأسحار

يعني أنهن يندبنه في ذلك الوقت؛ وإنما خصه بالندبة لأنه وقت الغارة. يقول: فهن يذكرنه حينئذ؛ لأنه من الأوقات التي ينهض فيها للحرب والغارات. قال الله تبارك وتعالى: (فالمغيرات صبحاً) . وأما قول الخنساء :

ذكرني طلوع الشمس صخراً

 

وأذكره لكل غروب شمس

فإنما ذكرته عند طلوع الشمس للغارة، وعند غروبها للضيف.

الشعر للربيع بن زياد العبسي، والغناء لابن سريج، رمل بالخنصر في مجرى البنصر، عن إسحاق، والله أعلم.