أخبار المسدود

اسمه وكنيته وموطنه المسدود من أهل بغداد، وكان منزله في ناحية درب المفضل، في الموضع المعروف بخراب المسدود، منسوب إليه.


وأخبرني جحظة أن اسمه الحسن، وكنيته أبو علي، وأن أباه كان قصاباً، وأنه كان مسدود فرد منخر ومفتوح الآخر، وكان يقول: لو كان منخري الآخر مفتوحاً لأذهلت بغنائي أهل الحلوم وذوي الألباب، وشغلت من سمعه عن أمر دينه ودنياه ومعاشه ومعاده.


أشجى الناس صوتاً وأحضرهم بديهة: قال جحظة: وكان أشجى الناس صوتاً وأحضرهم نادرة، ولم يكتسب أحد من المعنين بطنبور ما كسبه، وكان مع يساره وقلة نفقته يقرض بالعينة وكانت له صنعة عجيبة، أكثرها الأهزاج. قال جحظة: قال لي مخارق غلامه: قال لي، وقد صنع هذين البيتين وهما جميعاً هزج: صوت

من رأى العيس عليها الرحال

 

إضم قصد لهـا أم أثـال ؟

لست أدري حيث حلوا ولكن

 

حيثما حلوا فثم الـجـمـال

والآخر:

عج بنا نجن بطرف العين تفاح الخدود

 

ونسل القلب عمن

 

حظـنـا مـنــه الـــكـــدود

ثم قال: والله لا تركت بعدي من يهزج. قال جحظة: والله ما كذب! ينفيه الواثق إلى عمان: أخبرني جحظة، قال: كان الواثق قد أذن لجلسائه ألا يرد أحد نادرة عن أحد يلاعبه ، فغنى الواثق يوماً:

نظرت كأني من وراء زجـاجة

 

إلى الدار من ماء الصبابة انظر

وقد كان النبيذ عمل فيه وفي الجلساء فانبعث إليه المسدود فقال: أنت تنظر أبداً من وراء زجاجة، إن كان في عينيك ماء صبابة أو لم يكن، فغضب الواثق من ذلك وكان في عينيه بياض، ثم قال: خذوا برجل العاض بظر أمه، فسحب من بين يديه. ثم قال: ينفى إلى عمان الساعة، فنفي من وقته وحدر ومعه الموكلون . فلما سلموه إلى صاحب البصرة، سأله أن يقيم عنده يوماً ويغنيه، ففعل.


يأبى الغناء لأمير البصرة فيرسله إلى عمان: فلما جلسوا للشراب ابتدأ فقال: احذروني يا أهل البصرة على حرمكم، فقد دخلت إلى بلدكم وأنا أزنى خلق الله. قال: فقال له الجماز: أما يعني أنه أزنى خلق الله أما، فغضب المسدود، وضرب بطنبوره الأرض وحلف ألا يغني، فسأله الأمير أن يقيم عنده وأمر بإخراج الجماز وكل من حضر، فأبى ولج فأحدره إلى عمان.
يشتاقه الواثق فيكتب في إحضاره: ومكث الواثق لا يسأل عنه سنة، ثم اشتاقه فكتب في إحضاره، فلما جاءه الرسول ووصل إلى الواثق قبل الأرض بين يديه، فاعتذر من هفوته وشكر التفضل عليه. فأمره بالجلوس ثم قال له: حدثني بما رأيت بعدي. فقال: لي حديث ليس في الأرض أظرف منه، وأعاد عليه حديثه بالبصرة. فقال له الواثق: قبحك الله ما أجهلك! ويلك! فأنت سوقة وأنا ملك، وكنت صاحياً وكنت منتشياً وبدأت القوم فأجابوك، فبلغ بك الغضب ما ذكرته وما بدأتك فتجيبني، وبدأتني -من المزح- بما لا يحتمله النظير لنظيره، ويلك! لا تعاود ممازحة خليفة وإن أذن لك في ذلك، فليس كل أحد يحضره حلمه كما حضرني فيك.


يهجو الواثق في رقعة ويقدمها إليه خطأ: أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني عون بن محمد، قال: سمعت حمدون بن إسماعيل يقول: لم يكن في الخلفاء أحد أحلم من الواثق، ولا أصبر على أذى وخلاف. وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المسدود من ذلك، فكان يبلغه عنه ما يكره ويتجاوز عنه . وكان المسدود قد هجاه بيتين، فكانا معه في رقعة، وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه، فغلط بين الرقعتين، فناوله رقعة الشعر وهو يرى أنها رقعة الحاجة، فقرأها وفيها:

من المسدود في الأنف

 

إلى المسدود في العين

أنا طـبـلٌ لـه شـقٌ

 

فيا طبلاً بـشـقـين

فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه، فقال للمسدود: خلطت في الرقعتين، فهات الآخرى وخذ هذه واحترز من مثل هذا، والله ما زاده على هذا القول.


من أجوبته الموجعة: أخبرني جحظة، قال: تحدث المسدود في مجلس المنتصر بحديث، فقال له المنتصر: متى كان ذلك؟ قال: ليلة لا ناه ولا زاجر، يعرض له بليلةٍ قتل فيها المتوكل ، فأغضى المنتصر واحتمله.


قال: وقالت الذكورية يوماً بين يدي المعتمد: إن يا مسدود، قال: نعم يا مفتوحة! وقالت له امرأة: كيف أخذ إلى شجرة بابك؟ قال: قدامك، أطعمك الله من ثمرها.


قال: وغنى بين يدي المتوكل، فسكته وقل لبكران الشيري : تغن أنت، فقال المسدود: أنا أحتاج إلى مستمع، فلم يفهم المتوكل ما قال.


وقدم إليه طباخ المتوكل طبقاً وعليه رغيفان، ثم قال له: أي شيء تشتهي حتى أجيئك به؟ قال: خبزاً، فبلغ ذلك المتوكل، فأمر بالطباخ فضرب مائتي مقرعة.


قال جحظة: وحدثني بعض الجلساء أنه لما وضع الطباخ الرغيفين بين يديه قال له المسدود: هذا حرز فأين النير؟ قال ودعاه بعض الرؤساء فأهدى له برذوناً أشهب ، فارتبطه ليلته، فلما كان من غد نفق، وبعث إليه يدعوه بعد ذلك، فكتب: أنا لا أمضى إلى من يعرف آجال الدواب، فيهب ما قرب أجله منها.
قال: واستوهب من بعض الرؤساء وبراً، فأعطاه سموراً قد قرع بعضه، فرده وقال: ليس هذا سموراً، هذا أشكر .

صوت

أجدك ما تغفو كلـوم مـصـيبة

 

على صاحب إلا فجعت بصاحب

تقطع أحشائي إذا ما ذكرتـهـم

 

وتنهل عيني بالدموع السواكـب

عروضه من الطويل، الشعر لسلمة بن عياش، والغناء لحكم، وله فيه لحنان: رمل بالبنصر، وهزج بالوسطى .