عودة إلى: الجزء العشرون أخبار حجية بن المضرب

تجعله عائشة مثلاً في بر صبية لأخيه مات عنهم: حدثني ابن عمار، قال: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، وأخبرنا به وكيع عن إسماعيل بن إسحاق، عن سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثني المحبر بن قحذم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما قدم القاسم بن محمد بن أبي بكر وأخته من مصر -وأخبرني بهذا الخبر محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن عوانة، قال: كان القاسم بن محمد بن أبي بكر يحدث، قال: لما قتل معاوية بن حديج الكندي وعمرو بن العاص أبي -يعني محمد بن أبي بكر بمصر- جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني وأختاً لي من مصر. وقد جمعت الروايتين واللفظ لابن أبي الأزهر، وخبره أتم قال.


فقدم بنا المدينة، فبعثت إلينا عائشة، فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها، فما رأيت والدة قط، ولا والداً أبر منها، فلم نزل في حجرها حتى إذا كان ذات يوم وقد ترعرعنا ألبستنا ثياباً بيضاء، ثم أجلست كل واحد منا على فخذها، ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن، فلما دخل عليها تكلمت فحمدت الله -عز وجل- وأثنت عليه. فما رأيت متكلماً ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها، ثم قالت: يا أخي إني لم أزل أراك معرضاً عني منذ قبضت هذين الصبيين منك، ووالله ما قبضتهما تطاولاً عليك، ولا تهمة لك فيهما، ولا لشيء تكرهه، ولكنك كنت رجلاً ذا نساء، وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئاً، فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرون به من قبيح أمر الصبيان فكنت ألطف لذلك وأحق بولايته، فقد قويا على أنفسهما وشبا، وعرفا ما يأتيان، فها هما هذان فضمهما إليك، وكن لهما كحجية بن المضرب أخي كندة، فإنه كان له أخ يقال له: معدان، فمات وترك أصيبية صغاراً في حجر أخيه، فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم، وكان يؤثرهم على صبيانه، فمكث بذلك ما شاء الله. ثم إنه عرض له سفر لم يجد بداً من الخروج فيه، فخرج وأوصى بهم امرأته، وكانت إحدى بنات عمه، وكان يقال لها: زينب، فقال: اصنعي ببني أخي ما كنت أصنع بهم، ثم مضى لوجهه أشهراً، ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت، فقال لامرأته: ويلك! مالي أرى بني معدان مهازيل، وأرى بني سمانا؟ قالت: قد كنت أواسي بينهم، ولكنهم كانوا يعبثون ويلعبون، فخلا بالصبيان فقال: كيف كانت زينب لكم؟ قالوا: سيئة، ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن -وأروه قدحاً صغيراً- فغضب على امرأته غضباً شديداً وتركها، حتى إذا أراح عليه راعيا إبله قال لهما: اذهبا، فأنتما وإبلكما لبني معدان. فغضبت من ذلك زينب وهجرته، وضربت بينه وبينها حجاباً، فقال: والله لا تذوقين منها صبوحاً ولا غبوقاً أبداً، وقال في ذلك : شعره في امرأته حين عرف سوء معاملتها لصغار أخيه:

لججنا ولجت هذه في الـتـغـضـب

 

ولط الحجاب بينـنـا الـتـجـنـب

وخطت بفردي إثمد جفـن عـينـهـا

 

لتقتلـنـي وشـد مـا حـب زينـب

تلوم على مال شـفـانـي مـكـانـه

 

فلومي حياتي ما بدا لك واغضـبـي

رحمت بني معدان أن قـل مـالـهـم

 

وحق لهم مني ورب المـحـصـب

وكان اليتامى لا يسـد اخـتـلالـهـم

 

هدايا لهم في كل قعـب مـشـعـب

فقلت لعـبـدينـا: أريحـا عـلـيهـم

 

سأجعل بيتي بـيت آخـر مـعـزب

وقلت خذوها واعلمـوا أن عـمـكـم

 

هو اليوم أولى منكم بـالـتـكـسـب

عيالي أحق أن ينـالـوا خـصـاصة

 

وأن يشربوا رنقاً إلى حين مكسـبـي

أحابي بها من لو قصـدت لـمـالـه

 

حريباً لاساني علـى كـل مـوكـب

أخي والـذي إن أدعـه لـعـظـيمة

 

يجبني وإن اغضب إلى السيف يغضب

إلى ها هنا رواية ابن عمار.
تركته زوجته إلى المدينة وأسلمت فراح يطلبها: وفي خبر إسحاق قال: فلما بلغ زينب هذا الشعر وما وهب زوجها خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت، وذلك في ولاية عمر بن الخطاب، فقدم حجية المدينة فطلب زينب أن ترد عليه، وكان نصرانياً، فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته، فقال له: إياك وأن يبلغ هذا عنك عمر فتلقى منه أذى.


يمدح الزبير بن العوام ويرحل كئيباً يائساً: وانتشر خبر حجية وفشا بالمدينة وعلم فيم كان مقدمه، فبلغ ذلك عمر، فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك، ولقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك، فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر، قال حجية في ذلك.

إن الزبير بن عوام تـداركـنـي

 

منه بسيب كريم سيبه عـصـم

نفسي فداؤك مأخوذاً بحجزتـهـا

 

إذ شاط لحمي وإذ زلت بي القدم

إذ لا يقوم بها إلا فـتـى أنـفٌ

 

عاري الأشاجع في عرنينه شمم

ثم انصرف من عنده متوجهاً إلى بلده، آيساً من زينب كئيباً حزيناً، فقال في ذلك:

تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب

الأبيات المذكورة فيها الغناء.

صوت

خليلي هبا نصطبـح بـسـواد

 

ونرو قلوباً هامهـن صـواد

وقولاً لساقينـا زياد يرقـهـا

 

فقد هز بعض القوم سقي زياد

الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر.