أخبار ماني الموسوس

هو رجل من أهل مصر، يكنى أبا الحسن واسمه محمد بن القاسم ، شاعر لين الشعر رقيقه، لم يقل شيئاً إلا في الغزل، وماني لقب غلب عليه، وكان قدم مدينة السلام، ولقيه جماعة من شيوخنا، منهم أبو العباس محمد بن عمار وأبو الحسن الأسدي وغيرهما، فحدثني أبو العباس بن عمار، قال: كان ماني يألفني، وكان مليح الإنشاد حلوه، رقيق الشعر غزله، فكان ينشدني الشيء، ثم يخالط، فيقطعه، واكن يوماً جالساً إلى جنبي، فأنشدني للعريان البصري:

ما أنصفتك العيون لـم تـكـف

 

وقد رأيت الحبـيب لـم يقـف

فابك دياراً حل الحبـيب بـهـا

 

فباع منها الجفاء بـالـلـطـف

ثم استعارت مسامعاً كسـد الـل

 

وم عليها من عاشـق كـلـف

كأنها إذ تـقـنـعـت بـبـلـى

 

شمطاء ما تستقل مـن خـرف

يا عين إما أريتـنـي سـكـنـاً

 

غضبان يزوي بوجه منصـرف

فمثليه للقـلـب مـبـتـسـمـاً

 

في شخص راض علي منعطف

إن تصفيه للقلب منـقـبـضـاً

 

فأنت أشقى منه به فـصـفـي

يقال بالصبر قتـل ذي كـلـف

 

كيف وصبري يموت من كلفي

إذا دعا الشوق عبـرة لـهـوى

 

فأي جفن يقـول لا تـكـفـي

ومستراد للهو تـنـفـسـح الـم

 

قلة في حافـتـيه مـؤتـلـف

قصرت أيامـه عـلـى نـفـر

 

لا منن بـالـنـدى ولا أسـف

بحيث إن شئت أن ترى قـمـراً

 

يسعى عليهم بالكأس ذا نطـف

قال: فسألته أن يمليها علي، ثم قال: اكتب، فعارضه أبو الحسن المصري: يعني " ماني " نفسه فقال:

أقفر مغني الديار بالـنـجـف

 

وحلت عما عهدت من لطـف

طويت عنها الرضا مـذمـمة

 

لما انطوى غض عيشها الأنف

حللت عن سكرة الصبابة مـن

 

خوف إلهي بمعـزل قـذف

سئمت ورد الصبا فقـد يئسـت

 

مني بنات الخدور والـخـزف

سلوت عن نهد نـسـبـن إلـى

 

حسن قوام واللحظ في وطـف

يمددن حبل الصبا لمن ألـفـت

 

رجلاه قد المحـول والـدنـف

ومدنف عاد في النحول مـن ال

 

وجد إلى مـثـل رقة الألـف

يشارك الطير في النـحـيب ولا

 

يشركنه في النحول والقضـف

ومسمعات نهكـن أعـظـمـه

 

فهو من الضيم غير منتصـف

مفتخرات بالجور عجبـاً كـمـا

 

يفخر أهل السفاه بالـجـنـف

وقهوة من نـتـاج قـطـربـل

 

تخطف عقل الفتى بلا عـنـف

ترجع شرخ الشباب للخرف الف

 

اني وتدني الفتى من الشـغـف

قال: فبينا هو ينشد إذ نظر إلى إمام المسجد الذي كنا إزائه قد صعد المئذنة ليؤذن فأمسك عن الإنشاد، ونظر إليه - وكان شيخاً ضعيف الجسم والصوت - فأذن أذاناً ضعيفاً بصوت مرتعش، فصعد إليه ماني مسرعاً، حتى صار معه في رأس الصومعة، ثم أخذ بلحيته، فصفعه في صلعته ظننت أنه قد قلع رأسه، وجاء لها صوت منكر شديد، ثم قال له: إذا صعدت المنارة لتؤذن، فعطعط ، ولا تمطمط ، ثم نزل ومضى يعدو على وجهه. ولقيت عنتاً عن عتب الشيخ وشكواه إياي إلى أبي ومشايخ الجيران، يقول لهم: هذا ابن عمار يجيء بالمجانين، فيكتب هذيانهم، ويسلطهم على المشايخ فيصفعونهم في الصوامع إذا أذنوا، حتى صرت إلى منزله، فاعتذرت وحلفت أني إنما أكتب شيئاً من شعره، وما عرفت ما عمله ولا أحيط به علماً.


ونسخت من كتاب لابن البراء: حدثني أبي قال: عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الصبوح، وعنده الحسن بن محمد بن طالوت، فقال: له محمد: كنا نحتاج أن يكون معنا ثالث نأنس به ونلذ في مجاورته فمن ترى أن يكون! فقال ابن طالوت : لقد خطر ببالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل، قد خلا من إبرام المجالسين، وبرئ من ثقل المؤانسين، خفيف الوطأة إذا أدنيته، سريع الوثبة إذا أمرته، قال: من هو؟ قال: ماني الموسوس، قال: ما أسأت الاختيار، ثم تقدم إلى صاحب الشرطة يطلبه وإحضاره، فما كان بأسرع من أن قبض عليه صاحب الشرطة بربع الكوخ فوافى به باب محمد بن عبد الله، فأدخل، ونظف وأخذ من شعره، وألبس ثياباً نظافاً، وأدخل على محمد بن عبد الله، فلما مثل بين يديه سلم، فرد عليه، وقال له: أما حان لك أن تزورنا مع شوقنا إليك؟ فقال له ماني: أعز الله الأمير: الشوق شديد، والود عتيد، والحجاب صعب، والبواب فظ، ولو تسهل لنا الإذن لسهلت علينا الزيارة، فقال له محمد: لقد لطفت في الاستئذان، وأمره بالجلوس. فجلس، وقد كان أطعم قبل أن يدخل، فأتى محمد بن عبد الله بجارية لإحدى بنات المهدي، يقال لها: منوسة، وكان يحب السماع منها، وكانت تكثر أن تكون عنده، فكان أول ما غنته:

ولست بناس إذا غدوا فتحـمـلـوا

 

دموعي على الخدين من شدة الوجد

وقولي وقد زالت بعيني حمولـهـم

 

بواكر تحدى لا يكن آخر العـهـد

فقال ماني: أيأذن لي الأمير؟ قال: في ماذا؟ قال: في استحسان ما أسمع، قال: نعم، قال: أحسنت والله، فإن رأيت أن تزيدي مع هذا الشعر هذين البيتين:

وقمت أداري الدمع والقلب حـائر

 

بمقلة موقوف على الضر والجهد

ولم يعدني هذا الأمـير بـعـدلـه

 

على ظالم قد لج في الهجر والصد

فقال له محمد: ومن أي شيء استعديت يا ماني؟ فاستحيا، وقال: لا من ظلم أيها الأمير، ولكن الطرب حرك شوقاً كان كامناً، فظهر. ثم غنت:

حجبوها عن الـرياح لأنـي

 

قلت: يا ريح بلغيها السلامـا

لو رضوا بالحجاب هان ولكن

 

منعوها يوم الرياح الكلامـا

قال: فطرب محمد، ودعا برطل فشربه فقال ماني: ما كان علة قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما هذين:

فتنفست ثم قلت لطـيفـي:

 

ويك إن زرت طيفها إلماما

حيها بالـسـلام سـراً وإلا

 

منعوها لشقوتي أن تنامـا

فقال محمد: أحسنت يا ماني، ثم غنت:

يا خليلي ساعة لا تـريمـا

 

وعلى ذي صبابة فأقـيمـا

ما مررنا بصر زينـب إلا

 

فضح الدمع سرك المكتوما

قال ماني: لولا رهبة الأمير لأضفت هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع سامع ذي لب فيصدران إلا عن استحسان لهما، فقال محمد: الرغبة في حسن ما تأتى به حائلة عن كل رهبة، فهات ما عندك، فقال:

ظبية كالهلال لو تلحظ الص

 

خر بطرف لغادرته هشيما

وإذا ما تبسمت خلت مـا ي

 

بدو من الثغر لؤلؤاً منظوما

فقال محمد: إن أحسن الشعر ما دام الإنسان يشرب ما كان مكسواً لحناً حسناً تغني به منوسة وأشباهها، فإن كسيت شعرك من الألحان مثل ما غنت قبله طاب، فقال: ذلك إليها.
فقال له ابن طالوت: يا أبا الحسين ، كيف هي عندك في حسنها وجمالها وغنائها وأدبها؟ قال: هي غاية ينتهي إليها الوصف، ثم يقف، قال: قل في ذلك شعراً، فقال:

وكيف صبر النفس عن غادة

 

تظلمها إن قلت طاووسـه

وجرت إن شبهتـهـا بـانة

 

في جنة الفردوس مغروسه

وغير عدل إن عدلنا بـهـا

 

لؤلؤة في البحر منفوسـه

جلت عن الوصف فما فكرة

 

تلحقها بالنعت محـسـوس

فقال له ابن طالوت: وجب شكرك يا ماني، فساعدك دهرك، وعطف عليك إلفك، ونلت سرورك، وفارقت محذورك، والله يديم لنا ولك بقاء من ببقائه اجتمع شملنا، وطاب يومنا.
فقال ماني:

مدمن التخفيف موصول

 

ومطيل اللبث مملـول

فأنا أستودعكم الله، ثم قام فانصرف، فأمر له محمد بن عبد الله بصلة، ثم كان كثيراً ما يبعث بطلبه إذا شرب، فيبره، ويصله، ويقيم عنده.


أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني المبرد، قال: حدثني بعض الكتاب ممن كان ماني يلزمه ، ويكثر عنده، قال: لقيني يوماً ماني بعد انقطاع طويل عني، فقال: ما قطعني عنك إلا أني هائم، قلت: بمن؟ قال بمن إن شئت أن تراه الساعة رأيته فعذرتني، قلت: فأنا معك، فمضى، حتى وافى باب الطاق، فأراني غلاماً جميل الوجه بين يدي بزاز في حانوته، فلما رآه الغلام عدا، فدخل الحانوت، ووقف ماني طويلاً ينتظره، فلم يخرج، فأنشأ يقول:

ذنبي إليه خضوعي حين أبصره

 

وطول شوقي إليه حين أذكـره

وما جرحت بطرف العين مهجته

 

إلا ومن كبدي يقتص محجـره

نفسي على بخله تفديه من قمـر

 

وإن رماني بذنب ليس يغفـره

وعاذل باصطبار القلب يأمرنـي

 

فقلت: من أين لي قلب أصبره

ومضى يعدو ويصيح: الموت مخبوء في للكتب .

وشادن قلبي به معـمـود

 

شيمته الهجران والصدود

لا أسأم الحرص ولا يجود

 

والصبر عن رؤيته مفقود

زناره في خصره معقود

 

كأنه من كبدي مـقـدود

عروضه من الرجز، والشعر لبكر بن خارجة، والغناء لقاسم بن زرزور، خفيف رمل بالوسطى.