أخبار محمد بن الحرث

مولى المنصور، وأصله من الري من أولاد المرازبة، وكان الحارث بن بسخنر أبوه رفيع القدر عند السلطان، ومن وجوه قواده، وولاه الهادي - ويقال الرشيد - الحرب والخراج بكور الأهواز كلها.


فأخبرني حبيب المهلبي: قال: حدثني النوفلي عن محمد بن الحارث بن بسخنر: قال: كنت بالدير، وكان رجل من أهلها يعرض علي الحوائج ويخدمني فيكرمني، ويذكر قديمنا، ويترحم على أبي، فقال لي رجل من أهل تلك الناحية: أتعرف سبب شكر هذا لأبيك؟ قلت: لا، قال: فإن أباه حدثني - وكان يعرف بابن بانة - بأن أباك الحارث بن بسخنر اجتز بهم يريد الأهواز فتلقاه بدجلة العوراء، وأهدى له صقوراً وبواشق صائدة، فقال له: الحق بي بالأهواز، فقال له يوماً: إني نظرت في أمور الأعمال بالأهواز، فلم أجد شيئاً منها يرتفق منه بما قدرت أن أبرك به، وقد ساومني التجار بالأهواز بالأرز، وقد جعلته لك بالسعر الذي بذلوه ، وسيأتونني، فأعلمهم بذلك، فقلت: نعم، فجاءوا، وخلصوه منه بأربعين ألف دينار، فصرت إلى الحارث فأعلمته، فقال لي: أرضيت بذلك؟ فقلت: نعم، قال: فانصرف.


ولما قفل الحارث من الأهواز مر بالمدائن، فلقيه الحسين بن محرز المدائني المغني فغناه:

قد علم الله علا عرشـه

 

أني إلى الحارث مشتاق

فقال له: دعني من شوقك إلي، وسلني حاجة فإني مبادر، فقال له: علي دين مائة ألف درهم، فقال: هي علي، وأمر له بها، وأصعد.


وكان محمد بن الحارث من أصحاب إبراهيم بن المهدي والمتعصبين له على إسحاق، وعن إبراهيم بن المهدي أخذ الغناء، ومن بحره استقى، وعلى منهاجه جرى.


أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، عن محمد بن هارون الهاشمي، عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: قال: كان المأمون قد ألزم أبي رجلاً ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظ جداً هزلاً شعراً وغناء، ثم لم يثق به، فألزمه مكانه محمد بن الحارث بن بسخنر، فقال له: أيها الأمير، قل ما شئت واصنع ما أحببت، فوالله لا بلغت عنك أبداً إلا ما تحب، وطالت صحبته له، حتى أمنه وأنس به، وكان محمد يغني بالمعزفة فنقله أبي إلى العود، وواظب عليه حتى حذقه، ثم قال له محمد بن الحارث يوماً: أنا عبدك وخريجك وصنيعتك، فاخصصني بأن أروي عنك صنعتك، ففعل، وألقى عليه غناءه أجمع، فأخذه عنه، فما ذهب عليه شيء منه ولا شد.


وقال العتابي: حدثني محمد بن أحمد بن المكي: قال: حدثني أبي: قال: كان محمد بن الحارث قليل الصنعة، وسمعته يغني الواثق في صنعته في شعر له مدحه به وهو:

أمنت بإذن اللـه مـن كـل حـادث

 

بقربك من خير الورى يا بن حارث

فأمر له بألفي دينار.
وذكر علي بن محمد الهشامي، عن حمدون بن إسماعيل، قال: كان محمد بن الحارث قد صنع هزجاً في هذا الشعر:

أصبحت عبداً مستـرقـاً

 

أبكي الألى سكنوا دمشقا

أعطيتهم قلبـي فـمـن

 

يبقى بلا قلب فأبـقـى

وطرحه على المسدود ، فغناه، فاستحسنه محمد بن الحارث منه لطيب مسموع المسدود، ثم قال: يا مسدود، أتحب أن أهبه لك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، فكان يغنيه، ويدعيه، وهو لمحمد بن الحارث.


وقال العتابي: حدثني شروين المغني المدادي . أن صنعة محمد بن الحارث بلغت عشرة أصوات، وأنه أخذها كلها عنه، وأن منها في طريقه الرمل، قال: وهو أحسن ما صنعه.

أيا من دعاني فلـبـيتـه

 

ببذل الهوى وهو لا يبذل

يدل علي بحـبـي لـه

 

فمن ذاك يفعل ما يفعل

لحن محمد بن الحارث في هذا الصوت رمل مطلق، وفيه ليزيد حوراء ثقيل أول وفيه لسليم لحن وجدته في جميع أغانيه غير مجنس.


أخبرني الحسن بن علي: قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد: قال: حدثني أبو توبة صالح بن محمد، عن عمرو بن بانة: قال: كنت عند محمد بن الحارث بن بسخنر في منزله، ونحن مصطبحون في يوم غيم، فبينا نحن كذلك إذ جاءتنا رقعة عبد الله بن العباس الربيعي، وقد اجتاز بنا مصعداً إلى سر من رأى، وهو في سفينة، ففضها محمد، وقرأها، وإذا فيها:

محمد قد جادت علينـا بـودقـهـا

 

سحائب مزن برقهـا يتـهـلـل

ونحن من القاطول في سبه مربـع

 

له مسرح سهل المحلة مـبـقـل

فمر فائزاً تفديك نفسي يغـنـنـي

 

أعن ظعن الحي الألى كنت تسأل؟

ولا تسقني إلا حـلالاً فـإنـنـي

 

أعاف من الأشياء ما لا يحـلـل

فقام محمد بن الحارث مستعجلاً حافياً، حتى نزل إليه فتلقاه، وحلف عليه حتى خرج معه، وسار به إلى منزله، فاصطحبا يومئذ، وغناه فائز غلامه هذا الصوت، وكان صوته عليه، وغناه محمد بن الحارث وجواريه وكل من حضر يومئذ، وغنانا عبد الله بن العباس الربيعي أيضاً أصواتاً وصنع يومئذ هذا الهزج، فقال:

يا طيب يومي بالمطيرة معملاً

 

للكأس عند محمد بن الحارث

في فتية لا يسمعون لـعـاذل

 

قولاً ولا لمـسـف أو رائث

حدثني وسواسه : قال: حدثني حماد بن إسحاق: قال: كان أبي يستحسن غناء جواري الحارث بن بسخنر، ويعتمد على تعليمهن لجواريه، وكان إذا اضطرب على واحدة منهن أو على غيرهن صوت، أو وقع فيه اختلاف، اعتمد على الرجوع فيه إليهن. ولقد غنى مخارق يوماً بين يديه صوتاً، فتزايد فيه الزوائد التي كان يستعملها، حتى اضطرب. فضحك أبي، وقال: يا أبا المهنأ، قد ساء بعدي أدبك في غنائك فالزم عجائز الحارث بن بسخنر يقومن أودك.

بنان يد تشير إلـى بـنـان

 

تجاوبتا وما يتـكـلـمـان

جرى الإيماء بينهما رسـولاً

 

فأحكم وحيه المتنـاجـيان

فلو أبصرته لغضضت طرفاً

 

عن المتناجيين بلا لـسـان

الشعر لماني الموسوس، والغناء لعمر الميداني هرج، وفيه لعريب لحن من الهزج أيضاً.