البرامكة

البرامكة أو كما يسمون بالفارسية (برمكيان) هم عائلة ترجع اصولها إلى جدهم الأول برمك المجوسي، وكان من سدنة بيت النار وخدامه الكبار، ولا يذكر له إسلامًا ، كانت للبرامكة مكانة عالية في الدولة العباسية ، فقد كان يحيى بن خالد البرمكي مسؤولاً عن تربية الرشيد ، اما زوجته فقد ارضعت الخليفة هارون الرشيد، وقد قام يحيى بن خالد على امر وزارة الرشيد وقد فوضه الرشيد بكل الأمور. اما الفضل بن يحيى بن خالد فقد كان اخو الرشيد من الرضاعة ووكله على تربية ابنه الأمين بن هارون الرشيد.

البيعة للأمين بولاية العهد:

لم يكد الأمين يبلغ الخامسة من عمره حتى اجتهدت أمه زبيدة وأخواله في أن تؤول إليه ولاية العهد، لتكون الخلافة له من بعد أبيه. وبالرغم من أن الرشيد كان يتوسم النجابة والرجاحة في "عبد الله المأمون"، ويقول: "إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت"- فإنه قدَّم محمدا بن زبيدة على أخيه الأكبر المأمون، مع علمه أن متبع هواه. ولعل رغبة أمراء البيت لعباسي واجتماعهم على تولية الأمين كانت وراء نزول الرشيد على رأيهم، وتحقيق تلك الرغبة التي اجتمعوا عليها. وكانت حجتهم في ذلك أن الأمين هاشمي الأبوين، وأن ذلك لم يجتمع لغيره من خلفاء بني العباس، وكان يؤجج تلك الرغبة كرههم لـ"آل برمك" الذين استأثروا بالرشيد، ونالوا لديه حظوة ومكانة كبيرة. استدعى الرشيد الأمراء والقواد ورجال الحاشية، وطلب الفقهاء ليُشهدهم على قراره الخطير الذي عقد عليه العزم، وهو البيعة لابنه الثاني "محمد الأمين". وفي يوم الخميس (6 من شعبان 175 هـ - 8 من ديسمبر 791 م) عقد الرشيد مجلس البيعة، وأخذت لمحمد البيعة، ولقبه أبوه بـ"الأمين"، وولاه في الحال على بلاد الشام والعراق، وجعل ولايته تحت إدارة مربيه "الفضل بن يحيى البرمكي".

دور البرامكة في ولاية العهد للمأمون

وبالرغم من عدم معارضة البرامكة في مسألة ولاية عهد الرشيد لابنه الأمين وسعيهم - في أول الأمر- إلى تزكية هذا الاختيار وتزيينه للرشيد ودفعهم له إلى إتمامه، فإنهم ما لبثوا أن شعروا بأنهم أساءوا الاختيار، وخصوصًا عندما أصبح الأمين شابًّا يافعًا، وبعد ظهور نفوذ أمه "زبيدة"، التي أصبحت تنقم على البرامكة ما صاروا إليه من النفوذ والسلطان في بلاط الرشيد ، وتسعى إلى استقطاب العنصر العربي في مواجهة تصاعد النفوذ الفارسي ممثلا في البرامكة ، وتفاقم الصراع الذي اتخذ صورة قومية داخل البلاط بين العرب والفرس. عندئذ بدأ البرامكة يعيدون النظر في مسألة ولاية العهد ، فاستخدموا نفوذهم، واستغلوا قربهم من الرشيد ومنزلتهم عنده في إيجاد منافس للأمين وأمه زبيدة، ووجدوا بغيتهم في شخص "المأمون" الأخ الأكبر، خاصة أن أمه فارسية. واستطاع البرامكة أن يجعلوا الرشيد يعقد البيعة لولده "عبد الله المأمون"، على أن تكون ولاية العهد له من بعد أخيه الأمين، وذلك في سنة (182 هـ - 798م)، بعد مضي نحو ثماني سنوات من بيعته الأولى للأمين. وأخذ "الرشيد" على ولديه "الأمين" و"المأمون" المواثيق المؤكدة، وأشهد عليهما، ثم وضع تلك البيعة في حافظة من الفضة، وعلقها في جوف الكعبة ، بعد ذلك بأربعة أعوام في سنة (186 هـ - 802م) عقد الرشيد ولاية العهد لابنه "القاسم" من بعد أخويه ، ولقبه بـ"المؤتمن".

نكبة البرامكة والطريق إلى العرش

نكبة البرامكة مصطلح يشير إلى ما وقع للبرامكة على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد من قتل وتشريد، ومصادرة أموال، وقد كانوا وزراء الدولة وأصحاب الأمر والسلطان. و النكبة من أهم الأحداث السياسية المؤثرة في حكم هارون الرشيد، وفي التاريخ السياسي الإسلامي بشكل عام، إذ أنها كانت حلقة في سلسلة نكبات طالت وزراء الدولة العباسية منذ قتل أبي مسلم الخراساني بتدبير الخليفة أبو جعفر المنصور، وقتل معظم المقربين من الخلفاء العباسيين، كآل سهل فيما بعد أيضاً، كان للنكبة أثر كبير، من حيث توصيفها للعلاقة بين العرب والفرس في السلطان. وإزاء تعاظم نفوذ البرامكة، واحتدام الصراع بين الفريقين، بدأت الأمور تتخذ منحىً جديدًا، بعد أن نجحت الدسائس والوشايات في إيغار صدر الرشيد على البرامكة، وذلك بتصويره بمظهر العاجز أمام استبداد البرامكة بالأمر دونه، والمبالغة في إظهار ما بلغه هؤلاء من الجرأة على الخليفة، وتحكُّمِهم في أمور الدولة؛ حتى قرر الرشيد التخلص من البرامكة ووضع حد لنفوذهم. ولم يكن ذلك بالأمر الهين أو المهمة السهلة؛ فقد تغلغل البرامكة في كل أمور الدولة، وصار لهم كثير من الأنصار والأعوان، فاتبع الرشيد سياسة الكتمان، واستخدم عنصر المفاجأة؛ حتى يلحق بهم الضربة القاضية. وفي ليلة السبت (أول صفر 187 هـ - 29 من يناير 803م)، أمر رجاله بالقبض على البرامكة جميعًا، وأعلن ألا أمان لمن آواهم، وأخذ أموالهم وصادر دورهم وضياعهم. وفي ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم، وتبدت سطوة تلك الأسرة التي انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان، تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ"نكبة البرامكة".

وكان لتلك النكبة أكبر الأثر في إثارة شجون القومية الفارسية، فعمدت إلى تشويه صورة الرشيد ووصفه بأبشع الصفات، وتصويره في صورة الحاكم الماجن المستهتر الذي لا همّ له إلا شرب الخمر ومجالسة الجواري، والإغراق في مجالس اللهو والمجون؛ حتى طغت تلك الصورة الظالمة على ما عُرف عنه من شدة تقواه وحرصه على الجهاد والحج عامًا بعد عام، وأنه كان يحج ماشيًا ويصلي في كل يوم مائة ركعة. وفي أواخر سنة (192 هـ - 808م) خرج الرشيد لحرب "رافع بن الليث"، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وفي الطريق مرض الرشيد، وما لبث أن اشتد عليه المرض، وفاضت روحه في (3 من جمادى الآخرة 193م - 24 من مارس 809م)، فتولى الخلافة من بعده ابنه "محمد الأمين.

جاء في كتاب "تاريخ ابن خلدون" لابن خلدون قوله:

" قد تقدم لنا أن خالد بن برمك كان من كبار الشيعة، وكان له قدم راسخ في الدولة وكان يلي الولايات العظام، وولاه المنصور على الموصل وعلى أذربيجان، وولىّ  ابنه يحيى على أرمينية، ووكله المهدي بكفالة الرشيد فأحسن تربيته ودفع عنه أخاه الهادي أراده على الخلع، وتولية العهد ابنه وحبسه الهادي لذلك. فلما ولي الرشيد استوزر يحيى وفوض إليه أمور ملكه وكان أولاً يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد، ثم استبد بالدولة. ولما ماتت وكان بيتهم مشهوراً بالرجال من العمومة والقرابة، وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد شابهوا آباءهم في عمل الدولة واستولوا على حظ من تقريب السلطان واستخلا صه. وكان الفضل أخاه من الرضاع أرضعت أمه الرشيد وأرضعته الخيزران، وكان يخاطب يحيى يا أبت، واستوزر الفضل وجعفراً وولىّ جعفراً على مصر وعلى خراسان وبعثه إلي الشام عندما وقعت الفتنة بين المضرية واليمانية فسكن الأمور، ورجع. وولىّ الفضل أيضاً على مصر وعلى خراسان وبعثه لاستنزال يحيى بن عَبْد الله العلوي من الديلم. ودفع المأمون لمّا ولاه العهد إلي كفالة جعفر بن يحيى، فحسنت آثارهم في دلك كله، ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولة، وكثرت السعاية فيهم. وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم، يقال بسبب أنه دفع إليه يحيى بن عَبْد الله لمّا استنزله أخوه الفضل من الديلم وجعل حبسه عنده، فأطلقه استبداداً على السلطان ودالة وأنهى الفضل بن الربيع ذلك إلي الرشيد فسأله فصدقه الخبر فأظهر له التصويب وحقدها عليه، وكثرت السعاية فيهم فتنكر له الرشيد.ودخل عليه يوماً يحيى بن خالد بغير إذن فنكر ذلك منه، وخاطب به طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفاً به من مواجهته وكان حاضراً، فقال يحيى: هو عادتي يا أمير المؤمنين، وإذ قد نكرت مني فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها! فاستحيى هرون وقال: ما أردت ما يكره. وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد ليحيى إذا دخل، فتقدم لهم مسرور الخادم بالنهي عن ذلك فصاروا يعرضون عنه إذا أقبل، وأقاموا على ذلك زماناً. فلما حج الرشيد سنة سبع وثمانين ورجع من حجه ونزل الأنبار أرسل مسروراً الخادم في جماعة من الجند ليلاً فأحضر جعفراً بباب الفسطاط، وأعلم الرشيد فقال: إئتني برأسه، فطفق جعفر يتذلل ويسأله المراجعة في أمره حتى قذفه الرشيد بعصا كانت في يده وتهدده فخرج وأتاه برأسه، وحبس الفضل من ليلته وبعث من احتياط على منازل يحيى وولده وجميع موجودهم وحبسه في منزله. وكتب من ليلته إلي سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم، وبعث من الغد بشلو جعفر وأمر أن يقسم قطعتين وينصبان على الجسر، وأعفى محمد بن خالد من النكبة ولم يضيق على يحيى ولا بنيه الفضل ومحمد وموسى. ثم تجردت عنه التهمة بعبد الملك بن صالح بن علي وكانوا أصدقاء له، فسعى فيه إبنه عَبْد الرحمن بأنه يطلب الخلافة فحبسه عنه الفضل بن الربيع ثم أحضره من الغداة وقرعه ووبخه فأنكر وحلف واعترف لحقوق الرشيد وسلفه عليه، فأحضر كاتبه شاهداً عليه فكذبه عَبْد الملك، فأحضر ابنه عَبْد الرحمن فقال: هو مأمور معذور، أو عاق فاجر، فنهض الرشيد من مجلسه وهو يقول سأصبر حتى أعلم ما يرضي الله فيك، فإنه الحكم بيني وبينك، فقال عَبْد الملك: رضيت بالله حكماً وبأمير المؤمنين حاكماً فإنه لا يؤثر هواه على رضا ربه.ثم أحضره الرشيد يوماً آخر فأرعد له وأبرق، وجعل عَبْد الملك يعدد وسائله ومقاماته في طاعته ومناصحته، فقال له الرشيد لولا إبقائي على بني هاشم لقتلتك ورده إلي محبسه، وكلمه عَبْد الله بن مالك فيه وشهد له بنصحه فقال: أطلقه إذا قال: أمَّا في هذا القرب فلا! ولكن سهل حبسه ففعل وأجرى عليه مؤنه حتى مات الرشيد وأطلقه الأمين. وعظم حقده على البرامكة بسبب ذلك، فضيق عليهم وبعث إلي يحيى يلومه فيما سترعنه من أمر عَبْد الملك. فقال: يا أمير المؤمنين كيف يطلعني عَبْد الملك على ذلك وأنا كنت صاحب الدولة، وهل إذا فعلت ذلك يجازيني بأكثر من فعلك؟ أعيذك بالله أن تظن هذا الظن ألا أنه كان رجلاً متجملاً يسرني أن يكون في بيتك مثله، فوليته ولا خصصته. فعاد إليه الرسول يقول: إن لم تقر قتلت الفضل إبنك. فقال: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت.وجذب الرسول الفضل وأخرجه، فودع أباه وسأله في الرضا عنه فقال: رضي الله عنك. وفرق بينهما ثلاثة أيام ولم يجد عندهما شيئاً فجمعهما واحتفظ إبراهيم بن عثمان بن نهيك لقتل جعفر فكان يبكيه ويبكي قومه حزناً عليهم. ثم انتهى به إلي طلب الثأر بهم، فكان يشرب النبيذ مع جواريه ويأخذ سيفه وينادي واجعفراه واسيداه والله لأثأرن بك ولأقتلن قاتلك، فجاء إبنه وحفص كان مولاه إلي الرشيد فأطلعاه على أمره، فأحضر إبراهيم وأظهر له الندم على قتله جعفراً والأسف عليه، فبكى إبراهيم وقال: والله يا سيدي لقد أخطات في قتله فانتهره الرشيد وأقامه. ثم دخل عليه إبنه بعد ليال قلائل فقتله، يقال بأمر الرشيد. وكان يحيى بن خالد محبوساً بالكوفه ولم يزل بها كذلك إلي أن مات سنة تسعين ومائة، ومات بعده ابنه الفضل سنة ثلاث وتسعين. وكانت البرامكة من محاسن العالم، ودولتهم من أعظم الدول، وهم كانوا نكتة محاسن الملة وعنوان دولتها".

وجاء في "تـاريخ الأمم والملوك" للطبري عن إيقاع الرشيد بالبرامكة قوله:

" ذكر الخبر عن إيقاع الرشيد بالبرامكة فمما كان فيها من ذلك قتل الرشيد جعفر بن يحي بن خالد وإيقاعه بالبرامكة .

ذكر الخبر عن قتله إياه وكيف كان قتله وما فعل به وبأهل بيته: أما سبب غضبه عليه الذي قتله عنده، فإنه مختلف، فمن ذلك ما ذكر عن بختيشوع بن جبريل، عن أبيه أنه قال: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحي بن خالد - وكان فيما مضى يدخلان بلا إذن - قلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم رد عليه رداً ضعيفاً، فعلم يحي أن أمرهم قد تغير.

قال: ثم أقبل على الرشيد، فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك! فقام يحي، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك؛ والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري؛ حتى أن كنت لأدخل وهو في فراشه مجرداً حينا، وحينا في بعض إزاره؛ وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب؛ وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الأذن، أو الثالثة إن أمرني سيدي بذلك. قال: فاستحيا - قال: وكان من أرق الخلفاء وجهاً - وعيناه في الأرض، ما يرفع إليه طرفه، ثم قال: ما أردت ما تكره؛ ولكن الناس يقولون. قال: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه فأجاب بهذا القول ثم أمسك عنه، وخرج يحيى.

وذكر عن أحمد بن يوسف أن ثمامة بن أشرس؛ قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله؛ فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إني استكفيت يحيى أمور عبادك! أتراك تحتج بحجة يرضى بها! مع كلام فيه توبيخ وتقريع. فدعا الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة - فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام، فأمر به فوضع في المطبق دهراً؛ فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: تقول هذا! قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله؛ فكيف أحبك! قال: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين؛ ولكن قد ذهب ما في قلبي، فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم؛ قد أنعمت علي وأحسنت إلي. قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك. قال: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغيير حالهم. قال: وحدثني محمد بن الفضل بن سفيان، مولى سليمان بن أبي جعفر، قال: دخل يحيى بن خالد بعد ذلك على الرشيد، فقام الغلمان إليه، قال: فدخل فلم يقم إليه أحد، فأربد لونه. قال: وكان الغلمان والحجاب بعد أن رأوه أعرضوا عنه. قال: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلم يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعوا بها مراراً.

وذكر أبو محمد اليزيدي - وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم - قال: من قال أن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه؛ وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قال: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غداً محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوالله ما أحدثت حدثاً ولا آويت محدثاً، فرق عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك! فوجه معه من أداه إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر، فوجده حقاً، وانكشف عنده؛ فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره، وقال: وما أنت وهذا لا أم لك! فلعل ذلك عن أمري؛ فانكسر الفضل؛ وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والضيق والأكبال. قال: بحياتي! فأحجم جعفر - وكان من أدق الخلق ذهناً، وأصحهم فكراً - وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. قال: نعم ما فعلت؛ ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه، ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان.

وحدث إدريس بن بدر، قال: عرض رجل شديد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة؛ فادع بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسله عن نصيحة هذه، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمة الرشيد بقوله، قال: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قال: فلما كان في الهاجرة انصرف من كان عنده، ودعا به، فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان؛ فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه؛ فنظر إليهما الرجل، فقال الرشيد: تنحيا عني، ففعلا، ثم أقبل على الرجل، فقال: هات ما عندك، قال: على أن تؤمنني! قال: على أن أؤمنك وأحسن إليك. قال: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه بصدد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم من أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن به إن عرض له. قال: أوتعرف يحيى بن عبد الله؟ قال: أعرفه قديماً،وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس، قال: فصفه لي، قال: مربوع أسمر رقيق السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن. قال: صدقت؛ هو ذاك. قال: فما سمعته يقول؟ قال: ما سمعته يقول شيئاً؛ غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلاماً من غلمانه أعرفه قديماً جالساً على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوبٍ غسيل، فألقاه في عنقه ونزع جبة الصوف،فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، وأنا أرمقه؛ أطال في الأوليين، وخفف في الأخريين، فقال: لله أبوك! لجاد ما حفظت عليه، نعم تلك صلاة العصر؛ وذاك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك! فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أعقاب أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام، قال: فمنزلك بها؟ قال: نعم؛ فأطرق ملياً ثم قال: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي! قال: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى أرجع. فطفر في حجرة كانت خلف ظهره، فأخرج كيساً فيه ألفا دينار، فقال: خذ هذه، ودعني ما أدبر فيك، فأخذها، وضم عليها ثيابه، ثم قال: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحواً من مائة صفعة، ثم قال: أخرجاه إلى من بقي في الدار، وعمامته في عنقه، وقولا: هذا جزاء من يسعى بباطنة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا ذلك؛ وتحثوا بخبره؛ ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما كان ألقى إلى الرشيد؛ حتى كان من أمر البرامكة ما كان.

وذكر يعقوب بن إسحاق أن إبراهيم بن المهدي حدثه. قال: أتيت جعفر بن يحيى في داره التي ابتناها، فقال لي: أما تعجب من منصور بن زياد؟ قال: قلت فبماذا؟ قال: سألته: هل ترى في داري عيباً؟ قال: نعم؛ ليس فيها لبنة ولا صنوبرة، قال إبراهيم: فقلت: الذي يعيبها عندي أنك أنفقت عليها نحواً من عشرين ألف ألف درهم، وهو شيء لا آمنه عليك غداً بين يدي أمير المؤمنين، قال: هو يعلم أنه قد وصلني بأكثر من ذلك وضعف ذلك، سوى ما عرضني له. قال: قلت: إن العدو إنما يأتيه في هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف درهم، فأين نفقاته! وأين صلاته! وأين النوائب التي تنوبه! ما أظنك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك! وهذه جملة سريعة إلى القلب، والموقف على الحاصل منها صعب. قال: إن سمع مني قلت: إن أمير المؤمنين نعماً على وم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها؛ وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي، فوضعتها في رأس جبل، ثم قلت للناس: تعالوا فانظروا.

وذكر زيد بن علي بن حسين بن زيد أن إبراهيم بن المهدي حدثه أن جعفر بن يحيى، قال له يوماً - وكان جعفر بن يحيى صاحبه عند الرشيد، وهو الذي قربه منه: إني استربت بأمر هذا الرجل - يعني الرشيد - وقد ظننت أن ذلك لسابق سبق في نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت؛ فارمق ذلك في يومك هذا وأعلمني ما ترى منه. قال: ففعلت ذلك في يومي؛ فلما نهض الرشيد من مجاسه كنت أول أصحابه نهض عنه، حتى صرت إلى شجر في طريقي، فدخلتها ومن معي، وأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرون بي واحداً واحداً، فأراهم ولا يروني؛ حتى إذا لم يبق منهم أحد؛ إذا أنا بجعفر قد طلع، فلما جاوز الشجر قال: أخرج يا حبيبي، قال: فخرجت، فقال: ما عندك؟ فقلت: حتى تعلمني كيف علمت أني ها هنا؛ قال: عرفت عنايتك بما أعني به، وأنك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه؛ وعلمت أنك تكره أن ترى واقفاً في مثل هذا الوقت، وليس في طريقك موضع أستر من هذا الموضع، فقضيت بأنك فيه، قلت: نعم؛ قال: فهات ما عندك، قلت: رأيت الرجل يهزل إذا هزلت.

قال: كذا هو عندي، فانصرف يا حبيبي. قال: فانصرفت. قال: وحدثني علي بن سليمان أنه سمع جعفر بن يحيى يوماً يقول: ليس لدارنا هذه عيب؛ إلا أن صاحبها فيها قليل البقاء - يعني نفسه.

وذكر عن موسى بن يحيى، قال: خرج أبي إلى الطواف في السنة التي أصيب فيها، وأنا معه من بين ولده، فجعل يتعلق بأستار الكعبة، ويردد الدعاء، ويقول: اللهم ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، ولا يعرفها سواك. اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا؛ وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري، ومالي وولدي، حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة.

قال: وحدثني أحمد بن الحسن بن حرب، قال: اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي فاسلبني، اللهم إن رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، اللهم إلا الفضل. قال: ثم ولى ليمضي؛ فلما قرب من باب المسجد كر مسرعاً، ففعل مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يرغب إليك ثم يستثني عليك... اللهم والفضل. قال: فلما انصرفوا من الحج نزلوا الأنبار،ونزل الرشيد بالعمر ومعه وليا العهد؛ الأمين والمأمون، ونزل الفضل مع الأمين، وجعفر مع المأمون، ويحيى في منزل خالد بن عيسى كاتبه، ومحمد بن يحيى في منزل ابن نوح صاحب الطراز، ونزل محمد بن خالد مع المأمون بالعمر مع الرشيد، قال: وخلا الرشيد بالفضل ليلاً، ثم خلع عليه وقلده، وأمره أن ينصرف مع محمد الأمين، ودعا بموسى بن يحيى فرضي عنه وكان غضب عليه بالحيرة في بدأته، لان على عيسى بن ماهان اتهمه عند الرشيد في أمر خراسان واعلمه طاعة أهلها له، ومحبتهم إياه، وإنه يكاتبهم ويعمل على الانسلال إليهم والوثوب به معهم؛ فوقر ذلك في نفس الرشيد عليه وأوحشه منه؛ وكان موسى أحد الفرسان الشجعان، فلما قدح علي بن عيسى فيه أسرع ذلك في الرشيد،وعمل فيه القليل منه، ثم ركب موسى دين، اختفى من غرمائه، فتوهم الرشيد عليه أنه صار إلى خراسان؛ كما قيل له، فلما صار إلى الحيرة في هذه الحجة وافاه موسى من بغداد، فحبسه الرشيد عند العباس بن موسى بالكوفة؛ فكان ذلك أول ثلمة ثلموا بها؛ فركبت أم الفضل بن يحيى في أمره، ولم يكن يردها في شيء، فقال: يضمنه أبوه فقد رفع إلى فيه، فضمنه يحيى ودفعه إليه، ثم رضي عنه، وخلع عليه، وكان الرشيد قد عتب على الفضل بن يحيى، وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه؛ فكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته؛ وكان مشغوفاً بالسماع. قال: وكان جعفر يدخل في منادمة الرشيد؛ حتى كان أبوه ينهاه عن منادمته، ويأمره بترك الأنس به، فيترك أمر أبيه، ويدخل معه فيما يدعوه إليه.

وذكر عن سعيد بن هريم أن يحيى كتب إلى جعفر حين أعيته حيلته فيه: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة تعرف بها أمرك؛ وإن كنت لأخشى أن تكون التي لا شوى لها. قال: وقد كان يحيى قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك؛ ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك، كان ذلك واقعاً بموافقتي، وآمن لك علي. قال الرشيد: يا أبت ليس بك هذا؛ ولكنك إنما تريد أن تقدم عليه الفضل.

وقد حدثني أحمد بن زهير - أحسبه عن عمه زاهر بن حرب - أن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرههما إذا جاس للشرب؛ وذلك بعد أن أعلم جعفراً قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي، وتقدم إليه ألا يمسها، ولايكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته؛ فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها،فحملت منه وولدت غلاماً، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستوراً عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه؛ ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه؛ فلما حج هارون هذه الحجة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد - فيما زعم - قتل الصبي، ثم تحوب من ذلك.

وكان جعفر يتخذ للرشيد طعاماً كلما حج بعسفان فيقريه إذا انصرف شاخصاً من مكة إلى العراق؛ فلما كان في هذا العام، اتخذ الطعام جعفر كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد، ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار؛ فكان من أمره وأمر أبيه ما أنا ذاكره إن شاء الله تعالى.

ذكر الخبر عن مقتل جعفر

ذكر الفضل بن سليمان بن علي أن الرشيد حج في سنة ست وثمانين ومائة وأنه انصرف من مكة، فوافى الحيرة في المحرم من سنة سبع وثمانين ومائة عند انصرافه من الحج، فأقام في قصر عون العبادي أياماً، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت لانسلاخ المحرم أرسل مسروراً الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجفر بن يحيى ليلاً، فدخل عليه مسرور وعنده بختيشوع المتطبب وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في لهوه، فأخرجه إخراجاً عنيفاً يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بأخذه إياه ومجيئه به، فأمر بضرب عنقه، ففعل ذلك.

وذكر عن علي بن أبي سعيد أن مسروراً الخادم، حدثه قال: أرسلني الرشيد لآتيه بجعفر بن يحيى لما أراد قتله، فأتيته وعنده أبو زكار الأعمى المغني وهو يغنيه:  

فلا تبعد فكل فتىً سـيأتـي           عليه الموت يطرق أو يغادي

قال: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين. قال: فرفع يديه، ووقع على رجلي يقبلهما، وقال: حتى أدخل فأوصي، قلت: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت، فتقدم في وصيته بما أراد، وأعتق مماليكه، ثم أتتني رسل أمير المؤمنين تستحثني به، قال: فمضيت إليه فأعلمته، فقال لي وهو في فراشه: ائتني برأسه، فأتيت جعفراً فأخبرته، فقال: يا أبا هاشم، الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران؛ فدافع بأمري حتى أصبح أؤامره في ثانية، فعدت لأؤامره، فلما سمع حسي، قال:  ائتني برأس جعفر! فعدت إلى جعفر، فأخبرته، فقال: عاوده في ثالثة، فأتيته، فحذفني بعمود ثم قال: نفيت من المهدي إن أنت جئتني ولم تأتني برأسه، لأرسلن إليك من يأتيني برأسك أولاً، ثم برأسه آخراً. قال: فخرت فأتيته برأسه.

قال: وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه، ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضراً، وحول الفضل بن يحيى ليلاً فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلتهرجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم؛ وأخذ كل ما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وولاه أمورهم، وفرق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، وأخذ وكلائهم.

فلما أصبح بعث بجثة جعفر بن يحيى مع شعبة الخفتاني وهرثمة بن أعين وإبراهيم بن حميد المروروذي، وأتبعهم عدة من خدمه وثقاته؛ منهم مسرور الخادم إلى منزل جعفر بن يحيى، وإبراهيم بن حميد وحسين الخادم إلى منزل الفضل بن يحيى، ويحيى بن عبد الرحمن ورشيد الخادم إلى منزل يحيى ومحمد بن يحيى، وجعل معه هرثمة بن أعين، وأمر بقبض جميع ما لهم، وكتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جيفة جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته، وصلب كل قطعة منها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل. ففعل السندي ذلك، وأضى الخدم ما كانوا وجهوا فيه، وحمل عدة من أولاد الفضل وجعفر ومحمد الأصاغر إلى الرشيد، فأمر بإطلاقهم، وأمر بالنداءفي جميع البرامكة: ألا أمان آواهمإلا محمد بن خالد وولده وأهله وحشمه؛ فإنه استثناهم؛ لما ظهر من نصيحة محمد له، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة. وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه من العمر، ووكل بالفضل ومحمد وموسى بني يحيى، وبأبي المهدي صهرهم حفظةً من قبل هرثمة بن أعين، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بن عثمان بن نهيك، ثم صلب. وحبس يحيى بن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم. ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم.

وذكر الزبير بن بكار أن جعفر بن الحسين اللهبي حدثه أن الرشيد أتى بأنس بن أبي شيخ صبح الليلة التي قتل فيها جعفر بن يحيى، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج الرشيد سيفاً من تحت فراشه، وأمر بضرب عنقه، وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك:

تلمظ السيف من شوق إلى أنس        فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر

قال: فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب. وقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بن العوام.

وذكر بعضهم أن عبد الله بن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة.

وذكر محمد بن إسحاق أن جعفر بن محمد بن حكيم الكوفي، حدثه قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: إني لجالس يوماً، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتاباً صغيراً، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم": يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعداً فقم، وإن كنت قائماً فلا تقعد حتى تصير إلي. قال السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت. وكان الرشيد بالعمر؛ فحدثني العباس بن الفضل بن الربيع، قال: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي: يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبهه أن يكون هو! قال: فطلعت. قال السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قال للعباس:

اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيما أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟ قلت: هرثمة، قال: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قال: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج - خلا باب محمد بن خالد - حتى يأتيك أمري. قال: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت. قال السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به. قال: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة بن أعين، ومعه جعفر بن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين؛ وأن أصلبه على ثلاثة جسور. قال: ففعلت ما أمرني به.

قال محمد بن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوباً حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بن خازم، دعا بالوليد بن جثم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بن الجنيد الختلي - وكان سيافه - فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال: ينبغي أن يحرق هذا - يعني جعفراً - فلما مضى، جمع السندي له شوكاً وحطباً وقال محمد بن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بن يحيى،قيل ليحيى بن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفراً، قال: كذلك يقتل ابنه، قال: فقيل له: خربت ديارك، قال: كذلك تخرب دورهم.

وذكر الكرماني أن بشاراً التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفراً في آخره؛ فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر بن يحيى معه، قد خلا به دون ولاة العهد؛ وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه؛ وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه؛ ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني علي الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضاً واطرب؛ لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت؛ فانصرف عنه إلى منزله؛ فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعة تأتيه بالأنفال والأبخرة والرياحين؛ حتى ذهب الليل. ثم بعث إليه مسروراً فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلاماً الأبرش بباب يحيى بن خالد، ولم يعترض لمحمد بن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه.

قال: فحدثني العباس بن بزيع عن سلام، قال: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت - وقد هتكت الستور وجمع المتاع - قال لي: يا أبا مسلمة؛ هكذا تقوم الساعة! قال سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه؛ فأطرق مفكراً.

قال وحدثني أيوب بن هارون بن سليمان بن علي، قال: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى أبي صالح بن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم. قال: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي: أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما ربك بظلام للعبيد. وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد.

قال: قتل جعفر بن يحيى ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة - وفي ذلك يقول الرشاقي:

أيا سبت يا شر السبوت صبحـيةً             ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما

أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا            وفي صفرٍ جاء البلاء مصممـا

قال: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفراً سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم أقتله