الدولة الخوارزمية

نشأت الدولة الخوارزمية بين أحضان دولة السلاجقة التي حكمت مناطق واسعة في الشرق الإسلامي، فقد ظهر في عهد السلطان السلجوقي "ملكشاه" مملوك نابه في بلاطه، يسمى "أنوشتكين" نجح في أن يحظى بتقدير السلطان ونيل ثقته، فجعله واليًا على إقليم خوارزم، وظل على ولايته حتى وفاته سنة (490هـ =1097م)، فخلفه ابنه محمد وكان على مقدرة وكفاية مثل أبيه، فظل يحكم باسم الدولة السلجوقية ثلاثين عامًا، نجح في أثنائها في تثبيت سلطانه، ومد نفوذه، وتأسيس دولته وعُرف باسم خوارزم شاه، أي أمير خوارزم، والتصق به اللقب وعُرف به.

وبعد وفاته سنة (522هـ =1128م) خلفه ابنه "أتسز" بموافقة السلطان السلجوقي سنجر، وكان أتسز واليًا طموحًا مد بصره فرأى دولة السلاجقة توشك على الانهيار، فتطلع إلى بسط نفوذه على حسابها، واقتطاع أراضيها وإخضاعها لحكمه، ودخل في حروب مع السلطان سنجر الذي وقف بالمرصاد لطموحات أتسز، ولم يمكنه من تحقيق أطماعه، وأجبره على الاعتراف بتبعيته له، وظل يحكم خوارزم تحت سيادة السلاجقة حتى وفاته في سنة (551هـ=1156م).

وفي الوقت الذي بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة السلجوقية كانت الدولة الخوارزمية تزداد قوة حتى تمكنت من إزاحة دولة السلاجقة والاستيلاء على ما كان تحت يديها من بلاد، وكان السلطان "تكش" بطل هذه المرحلة، وتعد فترة حكمه التي امتدت أكثر من ربع قرن (568-596هـ=1173-1200م) العصر الذهبي للدولة الخوارزمية.

ولما توفي "تكش" سنة (596هـ=1199م) خلفه ابنه "علاء الدين محمد"، وكان كأبيه طموحًا يتطلع إلى توسيع دولته وبسط نفوذها، فدخل في حروب مع جيرانه، فاستولى على معظم إقليم خراسان، وقضى على دولة الخطا سنة (606هـ=1209م)، واستولى على بلاد ما وراء النهر، وأخضع لسلطانه مكران وكرمان والأقاليم الواقعة غربي نهر السند، وسيطر على ممتلكات دولة الغور في أفغانستان، وبلغت بذلك الدولة أقصى اتساعها في عهده، حيث امتدت من حدود العراق العربي غربًا إلى حدود الهند شرقًا، ومن شمال بحر قزوين وبحر آرال شمالاً إلى الخليج العربي والمحيط الهندي جنوبًا.

وتزامن مع اتساع الدولة الخوارزمية وازدياد نفوذها ظهور المغول وبروز دولتهم على يد "تيموجين" المعروف بجنكيزخان الذي نجح في السيطرة على قبائل المغول، وإحكام قبضته عليهم، وما كاد يهل عام (602هـ=1206م) حتى كان قد أخضع لسلطانه كل بدو صحراء جوبي، واتخذ من مدينة "قراقورم" مقرًا له، ووضع للقبائل الخاضعة لها نظامًا يحكمها وقوانين يحتكمون إليها، سميت بالياسا، وهو دستور اجتماعي وعسكري صارم، أساسه الطاعة العمياء للسلطان.

وبعد أن رسخت أقدام جنكيزخان ووثق من قوته تطلع إلى توسيع رقعة دولته، ومد بصره إلى بلاد الصين، حيث الخصب والنماء، فشن حملات عليها، واستولى على مساحات شاسعة من بلاد الصين وتوج جهوده بالسيطرة على العاصمة بكين سنة (612هـ=1215م).

تجاورت الدولتان القويتان، ولم يكن هناك مفر من الصدام بينهما، وكان كل منهما ينتظر الفرصة للانقضاض على الآخر، وحدث ما لم يكن منه بد، فالتقى السلطان محمد خوارزم وهو في طريقه إلى إحدى الغزوات بفرقة من الجيش المغولي كان يقودها "جوجي بن جنكيزخان"، وعلى الرغم من ضخامة جيش الخوارزميين، فإنه لم يفلح في تحقيق نصر حاسم على تلك الفرقة لمهارتها في القتال وأساليبها المبتكرة في الحرب التي اندهش لها الجيش الخورازمي.

وكان لهذا اللقاء أثر في نفس السلطان الخوارزمي، فاستشعر الخوف من هؤلاء الجيران الجدد، ولم يأمن غدرهم، فبدأ يتابع أخبارهم، ولما وصلت إليه أنباء استيلاء جنكيزخان على بكين لم يصدق هذه الأخبار، وأرسل وفدًا إلى بكين للوقوف على جلية الأمر، ومقابلة جنكيزخان، فلما وصل إلى هناك استقبلهم وأحسن وفادتهم وبعث معهم برسالة ودية إلى السلطان الخوارزمي.

وبدلاً من أن ينصرف السلطان إلى تقوية دولته والقضاء على المغول الذين يهددون دولته أو مسالمتهم، انصرف إلى النزاع مع الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وطمع في أن يكون له الهيمنة على بغداد والخلافة العباسية كما كانت لسلاطين السلاجقة، فحرك جيوشه الجرارة تجاه بغداد، لكن الأمطار الغزيرة والعواصف الشديدة تكفلت بالأمر وتصدت له، فمات عدد كبير من جند الخوارزميين وهلكت خيولهم، واضطر السلطان إلى العودة إلى بلاده سنة (614هـ=1217م)، يجر أذيال الخيبة والفشل وكانت هذه أول صدمة قاتلة قابلته منذ أن ولي الحكم في سنة (596هـ-1199م)

رجع السلطان بعد فشل أمله في السيطرة على بغداد إلى بلاد ما وراء النهر، واستقبل هناك وفدًا من تجار المغول المسلمين يحملون رسالة من جنكيزخان إلى السلطان يعرض عليه إبرام معاهدة تجارية بين البلدين فوافق السلطان على مضض، بعد أن شعر أن الرسالة تحمل في طياتها التهديد والوعيد، وكان في السلطان أنفة وكبرياء، فأسّرها في نفسه وإن لم يبدها في الحال.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد قدم جماعة من التجار من رعايا جنكيزخان إلى مدينة "أترار" التابعة للدولة الخوارزمية، فارتاب فيهم "ينال خان" حاكم المدينة دون تثبت، وبعث إلى السلطان الخوارزمي يخبره بالأمر، وبشكوكه فيهم، فبعث إليه يأمره بالقبض عليهم وقتلهم؛ باعتبارهم جواسيس من قبل جنكيزخان.

فكان قتل الرسل يعني إعلان الحرب بين الدولتين وقطع كل أمل لحسن الجوار وحدوث السلام، فأخذ كل فريق يستعد للآخر، وشرع السلطان الخوارزمي يستطلع أخبار المغول، ويجهز الجيوش، ويبني الأسوار حول المدن، ويفكر في رسم الخطط الحربية، حتى صار لا يتكلم إلا في موضوع الحرب الذي شغل قلبه، وفي الوقت نفسه كان جنكيزخان يستعد للصدام المرتقب بينهما، فجهز جيوشه، وأعد أسلحته، وحشد كل ما يمكن حشده.

وبعد أن أكمل جنكيزخان استعداداته انطلق بجيشه نحو بلاد ما وراء النهر في خريف سنة (616هـ= 1219م) وهو يعتقد أنه سيقابل خصمًا قويًا، يحسب له ألف حساب، وبدلاً من أن يخرج الجيش الخوارزمي لملاقاة المغول استقر رأي قادته على ترك المغول يعبرون نهر سيحون، واصطيادهم بعد ذلك في بلاد ما وراء النهر التي لا يعرفون مسالكها، بحيث تنقطع الإمدادات عنهم.

بلغ جنكيزخان وجيشه نهر سيحون على مقربة من مدينة أترار في رجب (616هـ=1219م) ولم يشأ أن يهاجم الخوارزميين من جهة واحدة، بل من جهات متعددة تربك استعداداتهم، وتشتت وحدتهم، فقسم جيشه الذي يبلغ ما بين مائة وخمسين ألفًا إلى مائتي ألف جندي إلى أربعة جيوش:

-  الأول بقيادة ابنيه جغتاي وأوكتاي ومهمته فتح مدينة أترار.

-  والثاني بقيادة ابنه جوجي وهو الابن الأكبر لجنكيز خان، ووجهته البلاد الواقعة على ساحل نهر جيجون.

-  أما الثالث فمهمته الاستيلاء على مدينتي بنكات وخسجند على نهر سيحون.

-  والجيش الرابع كان تحت قيادة جنكيزخان، ويتألف من معظم الجيش المغولي ويضم القوى الضاربة، وكانت وجهته مدينة بخارى الواقعة في قلب إقليم ما وراء النهر، وكانت مهمة هذا الجيش هي التصدي لقوات الخوارزميين، والحيلولة دون وصولهم إلى المدن المحاصرة على نهر سيحون من ناحية الشرق.

وقد نجحت الجيوش الثلاثة فيما وكل إليها من مهام، فسقطت مدينة أترار، بعد أن صمدت للحصار شهرًا كاملاً، وأبلى حاكمها بلاءً حسنًا في الدفاع حتى فقد معظم رجاله، ونفدت المؤن والأقوات، ولم تكن المدن الأخرى بأسعد حالا من أترار فسقطت هي الأخرى أمام الجيشين الثاني والثالث.

أما الجيش الرابع الذي ضم معظم قوات المغول، فقد تحرك إلى بخارى تلك الحاضرة العظيمة، وهاجم المدينة بضراوة شديدة، ودارت معارك عنيفة بين الجيش الموكل بالدفاع عن المدينة وقوات المغول لمدة ثلاثة أيام، انهارت بعدها قوى الخوارزميين ولم يكونوا قليلي العدد، بل كانوا عشرين ألف مقاتل، وشعروا باليأس، فقرروا الانسحاب ليلاً، وتمكنوا من اختراق الجيش المغولي الذي يحاصر المدينة، وأجبروه على الارتداد، ولو أنهم صبروا وتابعوا عدوهم المتقهقر لكان خيرًا لهم، ولكنهم آثروا السلامة تاركين المدينة المنكوبة لقدرها المحتوم أمام المغول الهمج، فاجتاح المغول المدينة الآمنة كالجراد المنتشر في (ذي الحجة 616هـ= فبراير 1219م)، وقاتلوا من اعتصم بقلعتها، وطردوا أهلها بعد أن سلبوا ما في المدينة من أموال، ثم أعملوا السيف فيمن بقي بداخل المدينة، وأنهوا عملهم الوحشي بإحراق المدينة فأصبحت قاعًا صفصفًا بعد أن كانت درة متلألئة بين حواضر العالم الإسلامي.

وبعد أن أجهز جنكيزخان على بخارى اتجه إلى سمرقند حاضرة إقليم ما وراء النهر، وضرب حولها حصارًا شديدًا، ودار قتال عنيف هلك فيه أكثر الجند الخوارزمي؛ ما أضعف مقاومة أهل سمرقند فطلبوا الأمان نظير تسليم المدينة، فأجابهم المغول، وما إن دخلوا المدينة التعسة حتى أعملوا فيها السيف بعد أن جردوهم من أسلحتهم، وأحرقوا المدينة ومسجدها على من فيه من الناس.

كانت الهزائم التي لقيها السلطان الخوارزمي قاسية، ولم تكن من قلة في العدد والعتاد، ولكن كانت من سوء قيادة، وفرقة في الصف، وحب للدنيا، وتقاعس عن الجهاد، وخور في العزيمة، ووهن في النفس، فانهار البناء الضخم، وسقطت الدولة المترامية في سنوات قليلة، ولم يعد أمام السلطان سوى التوجه إلى مكان آمن يعيد فيه تنظيم جيشه ويعاود الجهاد حتى يسترد ما فقده، لكنها كانت أحلام بددها إصرار جنكيزخان على تتبع السلطان الفار من بلد إلى آخر، وجند المغول تطارده، حتى انتهى به المطاف إلى همدان في نحو عشرين ألفا من جنوده.

وفي هذه الأثناء تمكن المغول من السيطرة على إقليم خوارزم، أهم ولايات الدولة، وأسروا تركان خان والدة السلطان ومن معها من أبنائه وبناته، فلما قُدّموا إلى جنكيزخان أمر بقتل أبناء السلطان محمد خوارزم وكانوا صغار السن، وزوّج أبناءه وبعض رجاله من بنات السلطان.

وما كادت تصل هذه الأنباء المفجعة إلى السلطان حتى ازداد غمًا وانتهى به الفرار إلى جزيرة في بحر قزوين، فحلت به الأمراض حتى توفي في (13 من شوال 617هـ =9 من ديسمبر 1220م).

ورد في "تاريخ ابن خلدون" المجلد الخامس:

" كان أبو شكين مملوكاً لبعض أمراء السلجوقية، واشتراه من بعض أهل غرشقان فدعي أبا شكين غرشه، ونشأ على حال مرضية، وكان مقدماً. وولد له ابنه محمد فاحسن تأديبه، وتقدم هو بنفسه. ولما سار الأمير داود الحبشي إلى خراسان كما مر سار محمد في جملته فلما مهد خراسان، وأزال الخوارج نظر فيمن يوليه خوارزم ، و كان نائبها أكنجي قد قتله كما مر، فوقع اختياره على محمد بن أبي شكين فولاه، ولقبه خوارزم شاه فحسنت سيرته، وارتفع محله. وأقره السلطان سنجر وزاده عناية بقدر كفايته واضطلاعه. وغاب في بعض الايام عن خوارزم فقصدها بعض ملوك الأتراك. وكان طغرلتكين محمد الذي كان أبوه أكنجي نائباً بخوارزم، وبادر محمد بن أبي شكين إلى خوارزم بعد ان استمد السلطان سنجر، وسار بالعساكر مدداً له. وتقدم محمد بن ابي شكين فتأخر الأتراك إلى منقشلاع. ورحل طغرلتكين إلى جرجان، وازداد محمد بذلك عناية عند سنجر. ولما توفي ولي ابنه بعده أقسز ، وأحسن السيرة. وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه ، وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاع. ولما توفي اختصه السلطان سنجر، وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه. واتصل الملك في بني محمد بن أبي شكين خوارزم، وكانت لهم الدولة. وتمت دولة بني ملك شاه، وعليها كان ظهور الططر بعد المائة السادسة ومنهم أخذوا الملك كما سيأتي في أخبارهم. 

استيلاء الإفرنج على انْطاكِية وغيرها من سواحل الشام:

كان الإفرنج قد ظهر أمرهم في هذه السنين، وتغلبوا على صقلية، واعتزموا على فصد الشام، وملك بيت المقدس. وأرادوا المسير إليها في البر فراسلوا ملك الروم. بالقسطنطينية أن يسهل لهم الطريق إلى الشام فأجابهم على أن يعطوه انْطاكِية، فعبروا خليج القسطنطينية سنة تسعين وأربعمائة. وسار أرسلان بن سليمان بن قطلمش صاحب مرقية وبلاد الروم لمدافعتهم فهزموه. ثم مروا ببلاد ابن ليون الأرمني ووصلوا الى انْطاكِية فحاصروها تسعة أشهر وصاحبها يومئذ باغي سياه فأحسن الدفاع عنها. ثم تبوؤا البلد بمداخلة بعض الحامية، أصعدهم السور بعد أن رغبوه بالأموال والاقطاع . وجاؤوا إلى السور فدلهم على بعض المخادع ودخلوا منه، ونفخوا البوق فخرج باغي سياه هارباً ، حتى إذا كان على أربعة فراسخ راجع نفسه، وندم فسقط مغشياً عليه. ومر به أرمني فحمل رأسه الى انْطاكِية، وذلك سنة احدى وتسعين وأربعمائة.واجتمعت عساكر المسلمين، وزحفوا الى انْطاكِية من كل ناحية ليرتجعوها من الإفرنج وجاء قوام الدين كربوقا إلى الشام، واجتمعت عليه العساكر بمرج دابق فكان معه: دقاق بن تتش وطغرلتكين أتابك، وجناح الدولة صاحب حمص، وأرسلان تاش صاحب سنجار، وسقمان بن أرتق وغيرهم. وساروا الى انْطاكِية فنازلوها واستوحش الامراء من كربوقا، وأنفوا من ترفعه عليهم. وضاق الحصار بالإفرنج لعدم الاقوات، لاّن المسلمين عاجلوهم عن الاستعداد فاستأمنوا كربوقا فمنعهم الأمان، وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل وكمدمري والقمص صاحب إليها، وسمند صاحب انْطاكِية، وهو مقدم العساكر فخرجوا مستأمنين وضربوا مصياف، وتخاذل الناس لما كان في قلوبهم من الأضغان لكربوقا فتمت الهزيمة عليهم. وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، واستشهد منهم العرب، وغنم العدو سوادهم بما فيه. وساروا إلى معرة النعمان فملكوها وأفحشوا في استباحتها. ثم ساروا الى غزة فحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم. وصالحهم ابن منقذ على بلدة شيزر، وحاصروا حمص فصالحهم صاحبها جناح الدولة. ثم ساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان هذا بداية الإفرنج بسواحل الشام. ويقال انّ المصريين استنابوا رجلاً يعرف بافتخار الدولة، من خلفاء العميد بن نصر، لما خشوا من السلجوقية عند استيلائهم على الشام إلى غزة، وزحف الاقسيس من أمرائهم إلى مصر وحاصرها فراسلوا الإفرنج، واستدعوهم لملك الشام لينشلوهم عن أنفسهم، ويحولوا بينهم وبين مصر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

انتقاض الأمير انز وقتله:

لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى على بلاد فارس الأمير انز، وكانت قد تغلبت الشوانكار، واستظهروا بإيران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان. فلما سار إليهم انز قاتلوه فهزموه، ورجع إلى أصبهان فاستأذن السلطان فأمره بالمقام هناك، وولاه امارة العراق. وكانت العساكر في جواره بطاعته، وجاء مؤيد الملك بن نظام الملك من بغداد على الحلة، فأغراه بالخلاف وخوفه غائلة بركيارق، وأشار عليه بمكاتبة محمد بن ملك شاه وهو في كنجة. وشاع عنه ذلك فازداد خوفه، وجمع العساكر، وسار من أصبهان إلى  الريّ . وجاهر السلطان بالخلاف، وطلب منه أن يسلم إليه فخر الملك ألب أرسلان. وبينما هو في ذلك إذ هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم من جنده فطعنوه فقتلوه، واهتاج عسكره فنهبوا خزائنه، وحمل شلوه إلى أصبهان فدفن بها. وأشهر خبر قتله وحمله إلى السلطان في أحواز الريّ وهو سائر لقتاله فسر بذلك هو وفخر الملك ألب أرسلان، وذلك في سنة ثنتين وتسعين. وكان محمود المذاهب كبيرالمناقب ولما قتل هرب اصهنرصبار إلى دمشق فأقام بها مدة. ثم قدم على السلطان محمد سنة إحدى وخمسمائة فأكرمه وأقطعه رحبة مالك بن طوق.

استيلاء الإفرنج على بيت المقدس

كان بيت المقدس لتاج الدولة تتش ، وأقطعه الأمير سقمان بن أرتق التركماني، وكان تتش ملكه من يد العلويين أهل مصر. فلما وهن الأتراك بواقعة أنْطاكِية طمع المصريون في ارتجاعه. وسار صاحب دولتهم الأفضل بن بدر الجمالي ، وحاصر الأمير سقمان وأخاه ايلغازي وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج ، ونصب المجانيق فثلموا سوره، ثم ملكوه بالأمان لأربعين يوماً من حصاره في شعبان سنة تسع وثمانين وأحسن الأفضل إلى سقمان وايلغازي ومن معهما، وأطلقهم فأقام سقمان ببلد الرها. وسار ايلغازي إلى العراق وولى الافضل على بيت المقدس افتخار الدولة من أمرائهم، ورجع إلى مصر فلما رجع الإفرنج من عكا وجاؤوا إلى بيت المقدس فحاصروه أربعين يوماً واقتحموه من جهة الشمال آخر شعبان من سنة اثنتين وتسعين، وعاثوا في أهله. واعتصم ففهم بمحراب داود عليه السلام ثلاثاً حتى استأمنوا، وخرجوا ليلاً إلى عسقلان .وقتل بالمسجد سبعون ألفاً أو يزيدون من المجاورين: فيهم العلماء والزهاد والعباد، وأخذوا نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة، زنة كل واحد ثلاثة آلاف وستمائة درهم، ومائة وخمسين قنديلاً من الصفار، وتنورا من الفضة زنته أربعون رطلاً بالشامي، وغير ذلك مما لا يحصى ووصل الصريخ إلى بغداد مستغيثين فأمر المقتدي أن يسير إلى السلطان بركيارق أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي وأبو القاسم الزنجاني، وأبو الوفاء بن عقيد، وأبو سعد الحلواني، وأبو الحسين بن السماك. فساروا إلى بركيارق يستصرخونه للمسلمين فانتهوا الى حلوان، وبلغهم مقتل مجد الملك ألب أرسلان، وفتنة بركيارق مع أخيه محمد فرجعوا، وتمكن الإفرنج من البلاد. ونحن عازمون على إفراد أخبارهم بالشام، وما كان لهم فيه من الدولة على حكم أخبار الدول في كتابنا.

ظهور السلطان محمد بن ملك شاه والخطبة له ببغد اد وحروبه مع أخيه بركيارق:

كان محمد وسنجر شقيقين، وكان بركيارق استعمل سنجر على خراسان . ثم لحق به محمد بأصبهان وهو يحاصرها سنة ثمان وثمانين فأقطعه كنجة وأعمالها، وأنزل معه الأمير قطلغ تكين أتابك، وكانت كنجة من أعمال ارّان وكانت لقطون فانتزعها ملك شاه، وأقطعه استراباذ. وولى على ازان: سرهناسا، وتكين الخادم. ثم ضمن قطون بلاده وأعيد إليها. فلما قوي رجع إلى العصيان فسرح إليه ملك شاه الأمير بوزان فغلبه على البلاد وأسره، ومات ببغداد سنة أربع وثمانين. وأقطع ملك شاه بلاد ازان لأصحاب باغي سيان صاحب أنْطاكِية. ولما مات باغي سيان رجع ابنه إلى ولاية أبيه. ثم أقطع السلطان بركيارق كنجة وأعمالها لمحمد كما قلناه سنة ست وثمانين. ولما اشتدا واستفحل قتل اتابك قطلغ تكين، واستولى على بلاد أران كلها ولحق مؤيد الملك عبد الله بن نظام الملك بعد مقتل صاحبه أنز فاستخلصه وقربه، وأشار عليه مؤيد الملك فطلب الأمر لنفسه فخطب له بأعماله واستوزر مؤيد الملك. وقارن ذلك مقتل مجد الملك البارسلاني المتغلب في دولة بركيارق فاستوحش أصحابه لذلك، ونزعوا إلى محمد وساروا جميعاً إلى  الريّ، وكان بركيارق قد سبقهم إليها. واجتمع إليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي من أكابر الأمراء، وعز الملك بن نظام الملك. ولما بلغه مسير أخيه محمد إليه رجع إلى أصبهان فمنعوه من الدخول فسار إلى خوزستان وملك محمد  الريّ في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين، ووجد بها زبيدة أم بركيارق قد تخلفت عن ابنها فحبسها مؤيد الملك وصادرها. ثم قتلها خنقاً بعد ان تنصح له أصحابه في شأنها فلم يقبل. وكان سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد قد استوحش من بركيارق، فاتفق هو وكربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، وسرخاب بن بدر صاحب كنكسون، وساروا إلى السلطان محمد بقم فخلع عليهم ورد كوهراس إلى بغداد في شأن الخطبة فخطب له بالخليفة، ولقبه حياة الدين والدنيا وسار كربوقا وجكرمش مع السلطان محمد إلى أصبهان والله سبحانه وتعالى أعلم.

إعادة الخطبة ببغداد لبركيارق:

ولما سار بركيارق إلى خوزستان ومعه نيال بن أبي شكين الحسامي مع عسكره، سار من هنالك إلى واسط، ولقيه صدقة بن مزيد صاحب الحلة. ثم سار إلى بغداد، وكان سعد الدولة كوهراس الشحنة على طاعة محمد، فخرج عن بغداد، ومعه أبو الغازي بن أرتق وغيره، وخطب لبركيارق ببغداد منتصف صفر سنة ثلاث وتسعين، بعد أن فارقها كوهراس وأصحابه. وبعثوا إلى السلطان محمد ومؤيد الملك يستحثونهما فأرسلا إليهم كربوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر يستكثرون بهم في المدافعة. وطلب جكرمش من كوهراس السير لبلده خشية عليها فأذن له. ثم يئس كوهراس وأصحابه من محمد فبعثوا إلى بركيارق بطاعتهم فخرج إليهم واسترضاهم، ورجع إلى بغداد وقبض على عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة، وطالبه بما أخذ هو وأبوه من الموصل وديار بكر أيام ولايتهم عليها، فصادرهم على مائة وستين ألف دينار. واستوزر الأغر أبا المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني، وخلع الخليفة على بركيارق.

المصاف الأول بين بركيارق ومحمد ومقتل كوهراس وهزيمة بركيارق والخطبة لمحمد:

ثم سار بركيارق من بغداد لحرب أخيه محمد، ومر بشهرزور فاجتمع إليه عسكر كثير من التركمان، وكاتب رئيس همذان يستحثه فركب وسار للقاء أخيه على فراسخ من همذان في أول رجب من سنة ثلاث وتسعين، وفي ميمنته كوهراس وعزّ الدولة بن صدقة بن مزيد وسرحاب ابن بدر، وفي ميسرته كربوقا. وفي ميمنة محمد بن اضر وابنه أياز وفي ميسرته مؤيد الملك والنظامية. ومعه في القلب أمير سرخو شحنة أصبهان. فحمل كوهراس من الميمنة على مؤيد الملك والنظامية فهزمهم، وانتهى إلى خيامهم فنهبها. وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزموا. وحمل محمد على بركيارق فهزمه، ووقف محمد مكانه، وعاد كوهراس من طلب المنهزمين فكبا به فرسه فقتل. وجيء بالأغر أبي المحاسن يوسف وزير بركيارق أسيراً فأكرمه مؤيد الملك، ونصب له خيمة، وبعثه الى بغداد في الخطبة لمحمد فخطب له منتصف رجب من السنة. وكانت أولية سعد الدولة كوهراس أنه كان خادما للملك ابي كالينجار بن بويه، وجعله في خدمة ابنه أبي نصر. ولما حبسه طغرلبك مضى معه إلى قلعة طغرل، فلما مات انتقل إلى خدمة السلطان ألب أرسلان، وترقى عنده، وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد، وحضر يوم قتله فوقاه بنفسه. ثم أرسله ملك شاه إلى بغداد في الخطبة، وجاء بالخلع والتقليد، وحصل له من نفوذ الأمر واتباع الناس ما لم يحصل لغيره، إلى أن قتل في هذه المعركة وولي شحنة بغداد بعده ايلغازي بن أُرتق.

مسير بركيارق إلى خراسان وانهزامه من أخيه سنجر ومقتل الأمير داود حبشي أمير خراسان:

لما انهزم بركيارق من أخيه محمد خلص في الفلّ إلى الريّ، واجتمع له جموع من شيعته فسار إلى خراسان، وانتهى إلى اسفراين . وكتب الأمير داود حبشي إلى التونطاق يستدعيه من الدامغان، وكان أميراً على معظم خراسان، وعلى طبرستان وجرجان فأشار عليه بالمقام بنيسابور فقصدها. وقبض على عميدها أبي محمد وأبي القاسم بن إمام الحرمين. ومات أبو القاسم في محبسه مسموماً. ثم زحف سنجر إلى الأمير داود فبعث إلى بركيارق يستدعيه لنجدته، فسار إليه والتقى الفريقان بظاهر بوشنج وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته الأمير كوكر. ومعه في القلب الأمير رستم فحمل بركيارق على رستم فقتله، وانقض الناس على سنجر، وكاد ينهزم. وأخذ بركيارق أم سنجر أسيرة، وشغل أصحاب بركيارق بالنهب فحمل علي برغش وكوكر فانهزموا، واستمرت الهزيمة على بركيارق، وهرب الأمير داود فجيء به إلى برغش أسيراً فقتله. وسار بركيارق إلى جرجان، ثم إلى الدامغان، ودخل البرية. ثم استدعاه أهل أصبهان، وجاءه جماعة من الأمراء منهم جاول صباوو، وسبقه محمد إلى أصبهان فعدل عنها إلى عسكر مكرم.

المصاف الثاني بين بركيارق ومحمد وهزيمة محمد وقتل وزيره مؤيد الملك والخطبة لبركيارق:

لما انهزم بركيارق أمام سنجر سنة ثلاث وتسعين، وسار إلى أصبهان فوجد أخاه محمداً  قد سبقه إليها فعدل عنها إلى خوزستان، ونزل إلى عسكر مكرم. وقدم عليه هناك الأميران زنكي والبكي ابنا برسق سنة أربع وتسعين، وساروا معه إلى همذان. وهرب إليه الأمير اياز في خمسة آلاف من عسكر محمد، لأن صاحب أميراً ضراً مات في تلك الأيام، وظنوا أن مؤيد الملك دس عليه وزيره فسمه. وكان اياز في جملة أمير أضر فقتل الوزير المتهم، ولحق بركيارق. ثم وصل إليه سرخاب بن كنجر وصاحباه فاجتمع له نحو من خمسين ألف فارس. ولقيه محمد في خمسة عشر ألفاً، واستأمن أكثرهم إلى بركيارق يوم المصاف أول جمادى الأخيرة سنة أربع وتسعين. واستولت الهزيمة على محمد، وجيء بمؤيد الملك أسيراً فوبخه ثم قتله بيده، لأنه كان سيئ السيرة مع الأمراء كثير الحيل في تدبير الملك. ثم بعث الأغرّ أبو المحاسن وزير بركيارق أبا إبراهيم الاستراباذي لاستقصاء أموال مؤيد الملك وذخائره ببغداد، فحمل منها ما لا يسعه الوصف. يُقال انه وجد في ذخائره ببلاد العجم قطعة بلخش زنتها أربعون مثقالاً واستوزر محمد بعده خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين. ثم سار السلطان بركيارق إلى  الريّ، ووفد عليه هنالك كربوقا صاحب الموصل ودبيس بن صدقة، وأبوه يومئذ صاحب الحلة. وسار السلطان قافلاً الى جرجان، وبعث الى أخيه سنجر يستجديه فبعث إليه ما أقامه. ثم طلبه في المدد فسار اليه سنجر من خراسان. ثم سارا جميعاً الى الدامغان فخرباها، وسار إلى الريّ، واجتمعت عليه النظامية وغيرهم فكثرت جموعهم. وكان بركيارق بعد الظفر قد فرق عساكره لضيق الميرة، ورجع دبيس بن صدقة الى أبيه. وخرج باذربيجان داود بن اسمعيل بن ياقوتي فبعث لقتاله قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف، واستأذنه اياز في المسير إلى ولايته بهمذان، ويعود بعد الفطر فبقي في قلة من العساكر. فلما بلغه قرب أخيه محمد وسنجر اضطرب حاله، وسار إلى همذان ليجتمع مع اياز فبلغه أنه قد راسل أخاه محمداً وأطاعه فعاد إلى خوزستان.

ولما انتهى الى تستر استدعى ابن برسق، وكان من جملة أياز فلم يحضر، وتأخر فأمنه فسار نحو العراق، فلما بلغ حلوان لحق به اياز، وكان راسل محمدا فلم يقبله. وبعث عساكره إلى همذان، فلحق بهمذان اياز. وأخذ محمد محلة اياز بهمذان وكانت كثيرا من كل صنف وصودر أصحابه   بهمذان بمائة ألف دينار.

وسار بركيارق و اياز إلى بغداد فدخلها منتصف ذي القعدة من سنة أربع وتسعين، وطلب من الخليفة المال للنفقة فبعث إليه بعد المراجعة بخمسين ألف دينار. وعاث أصحاب بركيارق في أموال الناس وضجروا منه ووفد عليه أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن المصلحية قاضي جبلة من سواحل الشام منهزماً من الإفرنج بأموال جليلة المقدار فأخذها بركيارق منه. وقد تقدم خبر ابن المصلحية في دولة العباسيين. ثم بعث وزير بركيارق الأغر بالمحاسن إلى صدقة بن مزيد صاحب الحلة في ألف ألف دينار، يزعم أنها تخففت عنده من ضمان البلاد، وتهدده عليها فخرج عن طاعة بركيارق، وخطب لمحمد أخيه. وبعث إليه بركيارق في الحضور والتجاوز عن ذلك. وضمن له اياز جميع مطالبه فأبى إلا أن يدفع الوزير، واستمر على عصيانه، وطرد عامل بركيارق عن الكوفة واستضافها إليه.

مسير بركيارق عن بغد اد ودخول محمد وسنجر إليها:

ولما استولى السلطان محمد، وأخوه سنجر على همذان، سار في اتباع بركيارق إلى حلوان فقدم عليه هنالك أبو الغازي ابن أرتق في عساكره وخدمه، وكثرت جموعه فسار إلى بغداد، وبركيارق عليل بها فاضطرب أصحابه، وعبروا به إلى الجانب الغربي. ووصل محمد إلى بغداد آخر سنة أربع وتسعين، وتراءى الجمعان بشاطئ دجلة، وجرت بينهم المراماة والنشاب، وكان عسكر محمد ينادون عسكر بركيارق يا باطنية. ثم سار بركيارق الى واسط ونهب عسكره جميع ما مروا عليه، ودخل محمد الى دار المملكة ببغداد، وجاءه توقيع المستظهر بالاستبشار بقدومه وخطب له. ونزل الملك سنجر بدار كوهراس، ووفد على السلطان محمد ببغداد صدقة صاحب الحلة في محرم سنة خمس وسبعين.

قتل بركيارق الباطنية:

كان هؤلاء الباطنية قد ظهروا بالعراق وفارس وخراسان، وهم القرامطة، والدعوة بعينها دعوتهم، الا أنهم سموا في هذه الأجيال بالباطنية والاسماعيلية والملاحدة  والمداوية. وكل اسم منها باعتبار : فالباطنيةلا نهم يبطنون دعوتهم، والاسماعيلية لانتساب دعوتهم في أصلها لاسمعيل بن الإمام جعفر الصادق. والملاحدة لان بدعتهم كلها إلحاد. والفداوية لانهم يفادون أنفسهم بالمال على قتل من يسلطون. والقرامطة نسبة إلى قرمط منشئ دعوتهم. وكان أصلهم من البحرين في المائة الثالثة وما بعدها. ثم نشأ هؤلاء بالمشرق أيام ملك شاه، فأول ما ظهروا بأصبهان. واشتد في حصار بركيارق وأخيه محمود وأمه خاتون فيها. ثم ثارت عامة أصبهان بهم بإشارة القضاة وأهل الفتيا فقتلوهم في كل جهة، وحرقوهم بالنار.

ثم انتشروا واستولوا على القلاع ببلاد العجم كما تقدم في أخبارهم. ثم أخذ بمذهبهم نيران شاه بن بدران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان، حمله عليه كاتب من أهل خوزستان يسمى أبا زرعة. وكان بكرمان فقيه من الحنفية يسمى أحمد بن الحسين البلخي مطاع في الناس، فخشي من نكيره فقتله فهرب عنه صاحب جيشه، وكان شحنة البلد، ولحق بالسلطان محمد ومؤيد الملك بأصبهان. وثار الجند بعده بتيران شاه فسار إلى مدينة كرمان فمنعه أهلها ونهبوه فقصد قلعة سهدم واستجار بصاحبها محمد بهستون. وبعث أرسلان شاه عساكر لحصارها فطرده بهستون، وبعث مقدم العساكر في طلبه فجيء به أسيراً وبأبي زرعة الكاتب معه فقتلهما أرسلان شاه، واستولى على بلاد كرمان.

وكان بركيارق كثيراً ما يسلطهم على من يريد قتله من الأمراء، مثل انز شحنة أصبهان، وأرغش وغيرهم فأمنوا جانبه، وانتشروا في عسكره، واغروا الناس ببدعتهم وتجاوزوا إلى التهديد عليها، حتى خافهم أعيان العسكر. وصار بركيارق يصرفهم على أعدائه، والناس يتهمونه بالميل إليهم فاجتمع أهل الدولة، وعذلوا بركيارق في ذلك فقبل نصيحتهم ، وأمر بقتل الباطنية حيث كانوا فقتلوا وشردوا كل مشي. وبعث إلى بغداد بقتل أبي إبراهيم الاستراباذي الذي بعثه أبو الأغر لاستقصاء أموال مؤيد الملك، وكان يتهم بمذهبهم، فقتل. وقتل بالعسكر الأمير محمد من ولد علاء الدين بن كاكويه ، وهو صاحب مدينة تيرد، وكان يتهم بمذهبهم. وسعى بالكيا الهراسي مدرس النظامية أنه باطني فأمر السلطان محمد بالقبض عليه، حتى شهد المستظهر ببراءته وعلو درجته في العلم فاطلقه، وحسمت علة الباطنية بين الجمهور. وبقي أمرهم في القلاع التي ملكوها إلى أن انقرضوا كما تقدم في أخبارهم مستوفى.

المصاف الثالث بين بركيارق ومحمد والصلح بينهما:

ولما رحل بركيارق عن بغداد إلى واسط، ودخل إليها السلطان محمد أقام بها إلى منتصف المحرم من سنة خمس وتسعين. ثم رحل إلى همذان، وصحبه السلطان سنجر لقصد خراسان موضع إمارته، وجاءت الأخبار إلى المستظهر باعتزام بركيارق على المسير إلى بغداد، ونقل له عنه قبائح من أقواله وأفعاله فاستدعى السلطان محمداً من همذان أو قال: أنا أسير معك لقتاله فقال محمد أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين، ورجع ورتب ببغداد أبا المعالي شحنة وكان بركيارق لما سار من بغداد إلى واسط، هرب أهلها منه إلى الزبيدية، ونزل هو بواسط عليلاً فلما أفاق أراد العبور. إلى الجانب الشرقي فلم يجد سفناً ولا نواتية. وجاءه القاضي أبو علي الفارسي إلى العسكر واجتمع بالأمير أياز والوزير فاستعطفهما لأول واسط، وطلب إقامة الشحنة بينهم فبعثاه وطلبا من القاضي من يعبر فأحضر لهم رجالاً عبروا بهم. فلما صاروا في الجانب الشرقي نهب العسكر البلد فجاء القاضي واستعطفهم فمنعوا النهب. واستأمن إليهم عسكر واسط فأمنوهم.وسار بركيارق إلى بلاد بلخ برسق في الأهواز، وساروا معه ثم بلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار في اتباعه على نهاوند إلى أن أدركه، وتصافوا ولم يقتتلوا لشدة البرد. ثم عاودوا في اليوم الثاني كذلك. وكان الرجل يخرج لقريبه من الصف الآخر فيتصافحان ويتساءلان ويفترقان. ثم جاء الأمير بكراج وعبر من عسكر محمد إلى الأمير اياز والوزير الأغر فاجتمعوا، وعقدوا الصلح بين الفريقين على أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل، وتكون المكاتبة بينهما من الوزيرين، ولا يعارض أحدمن العسكر في قصد أيهما شاء. والملك محمد، يضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد حرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل، ويمده بركيارق بالعساكر على من يمتنع عليه منها. وتحالفاً على ذلك وافترقاً. وكان العقد في ربيع الأول سنة خمس وتسعين. وسار بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى استراباذ، وكل أمير على اقطاعه. والله سبحانه وتعالى أعلم .

انتقاض الصلح والمصاف الرابع بين السلطانين وحصار محمد بأصبهان:

لما انصرف السلطان محمد إلى استراباذ، وكان اتهم الأمراء الذين سعوا في الصلح بالخديعة فسار إلى قزوين، ودس إلى رئيسها لأن يصنع صنيعاً ويدعوه إليه مع الأمراء ففعل وجاء السلطان إلى الدعوة. وقد تقدم إلى أصحابه بحمل السلاح، ومعه يشمك وافتكين من أمرائه فقبض عليهما، وقتل يشمك وسمل افتكين. وورد عليه الأمير نيال بن أبى شكين الحسامي نازعاً عن أخيه بركيارق.

ولما التقى الفريقان حمل سرخاب بن كشمرالديلي صاحب ساوة على نيال الحسامي فهزمه، واتبعه عامة العسكر، واستولت الهزيمة على عسكر محمد. ومضى بعضهم إلى طبرستان، وبعضهم إلى قزوين وذلك في جمادى من سنة خمس وتسعين لأربعة أشهر من المصاف قبله. ولحق محمد في الفل بأصبهان، ومعه نيال الحسامي، وأصبهان في حكمه فحصنها وسد ما ثلم من سورها، وأعمق الخندق، وفرق الأمراء في الأسوار وعلى الأبواب، ونصب المجانيق. وجاء بركيارق في خمسة عشر ألف مقاتل فأقام محاصراً للبلد حتى اشتدّ الحصار وعدمت الأقوات. واستقرض محمد المال للجند من أعيان البلدة مرة بعد أخرى، فلما جهده الحصار خرج من البلد ومعه الأمير نيال، وترك باقي الأمراء.

وبعث بركيارق الأمير أياز في عسكر لطلبه فلم يدركه، وقيل بل أدركه، وذكره العهد فرجع عنه بعد ان أخذ رايته وجشره وثلاثة أحمال من المال. ولما خرج محمد عن أصبهان طمع المفسدون والسوادية في نهبها فاجتمع منهم ما يزيد على مائة ألف، وزحفوا بالسلالم والذبابات، وطموا الخندق وصعدوا في السلالم بإشارة أهل البلد، وجدوا في دفاعهم، وعادوا خائبين. ورحل بركيارق آخر ذي القعدة من سنة خمس وتسعين، واستخلف على البلاد القديم الذي يقال له شهرستان مرشد الهراس في ألف فارس، مع ابنه ملك شاه، وسار إلى همذان. وفي هذا الحصار قتل وزير بركيارق الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني، عرض له يوماً بعض الباطنية عندما ركب من خيمته لباب السلطان، طعنه طعنات وتركه بآخر رمق، وقتل غلام من غلمان بعض المكوس للوزير، ثار فيه بمولاه. وكان كريماً واسع الصدر، وولي الوزارة على حين فساد القوانين وقفة الجباية فكان يضطر لأخذ أموال الناس بالإخافة فنفرت الصفوة منه. ولما مات استوزر بركيارق بعده الخطير أبا منصور الميبذي كان وزيرا لمحمد، وقد وكله في الحصار ببعض الأبواب فبعث إليه محمد نيال بن أبي شكين يطالبه بالأموال لإقامة العسكر فخرج من الباب ليلاً ولحق ببلده، وامتنع بقلعتها فأرسل السلطان بركيارق إليها عساكر، وحاصروها حتى استأمن وجاء عند قتل وزيره الأغر فاستوزره بركيارق مكانه والله تعالى أعلم بغيبه.

مسير صاحب البصرة الى واسط:

كان صاحب البصرة لهذا العهد اسمعيل بن ارسلان حين كان السلطان ملك شاه شحنة بالري، وولاه عليها عندما اضطّر أهلها، وعجز الولاة عنهم فحسنت كفايته، وأثخن فيهم وأصلح أمورها. ثم عزل عنها، وأقطع السلطان بركيارق البصرة للأمير قماج، وكان ممن لا يفارقه فاختار اسمعيل لولاية البصرة. ثم نزع قماج عن بركيارق وانتقل إلى خراسان فحدثت اسمعيل نفسع بالاستبداد بالبصرة، وانتقض وزحف إليه مهذب الدولة بن أبي الخير من البطيحة ومعقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي من الجزيرة في العساكر والسفن فقاتلوه في مطاري. وقتل معقل بسهم أصابه فعاد ابن أبي الخير إلى البطيحة فأخذ اسمعيل السفن، وذلك سنة إحدى وتسعين. أسرهما واستفحل أمره بالبصرة. وبنى قلعة بالأبلة وقلعة الشاطئ قبالة مطاري. وأسقط كثيراً من المكوس، واتسعت إمارته لشغل السلاطين بالفتنة. وملك المسبار أضافها إلى ما بيده.ولما كان سنة خمس وتسعين طمع في واسط وداخل بعض أهلها، وركب إليهاالسفن إلى نعما جار، وخيم عليها بالجانب الشرقي أياماً. ودافعوه فارتحل راجعاً حتى ظن خلاء البلد من الحامية فدس إليها من يضرم النار بها ليرجعوا فرجع عنهم. فلما دخل أصحابه البلد فتك أهل البلد فيهم، وعاد إلى البصرة منهزماً فوجد الأمير أبا سعيد محمد بن نصر بن محص ود صاحب الأعمال لعمان وجنايا وشيراز وجزيرة بني نفيس محاصراً للبصرة. وكان أبو سعيد قد استبد بهذه الأعمال منذ سنين. وطمع اسمعيل في الاستيلاء على أعماله وبعث إليها السفن في البحر فرجعوا خائبين فبعث أبو سعيد خمسين من سفنه في البحر فظفروا بأصحاب اسمعيل واتفقوا معهم على الصلح، ولم بقع منه وفاء به فسار أبو سعيد بنفسه في مائة سفينة. وأرسى بفوهة نهر الأبلة، ووافق دخول اسمعيل من واسط فتزاحفوا  براً وبحراً. فلما رأى اسمعيل عجزه عن المقاومة كتب إلى ديوان الخليفة بضمان البلد. ثم تصالحاً، ووقعت بينهما المهاداة، وأقام إسمعيل مستبداً بالبصرة إلى أن ملكها من يده صدقة بن مزيد في المائة الخامسة كما مر في أخباره وهلك برامهرمز .

وفاة كربوقا صاب الموصل واستيلاء  جكرمش عليها واستيلاء سقمان بن ارتق على حصن كيفا:

كان السلطان بركيارق أرسل كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن اسمعيل بن ياقوتي الخارج بها سنة أربع وتسعين، فاستولى على أكثر أذربيجان من يده. ثم توفي منتصف ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وكان معه أصهرصباوو بن خمارتكين، وسنقرجة من بعده. وأوصى الترك بطاعته فسار سنقرجة إلى الموصل، واستولى عليها. وكان أهل الموصل لما بلغهم وفاة كربوقا قد استدعوا موسى التركماني من موضع نيابته عن كربوقا بحصن كيفا للولاية عليهم، فبادر إليهم، وخرج سنقرجه للقائه فظن أنه جاء البه، وجرت بينهما محاورات. ورد سنقرجه الأمر إلى السلطان فآل الأمر بينهما إلى المطاعنة. وكان مع موسى منصور بن مروان، بقية أمراء ديار بكر. وضرب سنقرجة فأبان رأسه، وملك موسى البلد. ثم زحف جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر إلى نصيبين فملكها، وخالفه موسى إلى الجزيرة فبادر إليه جكرمش وهزمه. واتبعه إلى الموصل فحاصره بها فبعث موسى إلى سقمان بن أرتق بديار بكر يستنجده على أن يعطيه حصن كيفا فسار سقمان إليه. وأفرج عنه جكرمش. وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه، ورجع سقمان إلى كيفا   وجاء جكرمش الى الموصل فحاصرها وملكها صلحاً، واستلحم قتلة موسى. ثم استولى بعد ذلك على الخابور، وأطاعه العرب والأكراد. وأما سقمان بن أرتق فسار بعد مقتل موسى إلى حصن كيفا، واستمر بيده. قال ابن الأثير: وصاحبها الآن في سنة خمس وعشرين وستمائة محمود بن محمد بن الفراء أرسلان. وكان صاحبها سنة عشرين وستمائة غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق والله تعالى أعلم .أخبار نيال بالعراق:كان نيال بن أبي شتكين الحسامي مع السلطان صمد بأصبهان لما حاصرها بركيارق بعد المصاف الرابع سنة خمس وتسعين، فلما خرج محمد من الحصار إلى أذربيجان، ومعه نيال، استأذنه في قصد الريّ ليقيم بها دعوتهم، وسار هو وأخوه علي، وعسف بأهل الريّ  وصادرهم . وبعث السلطان بركيارق الأمير برسق بن برسق في ربيع من سنة ست وتسعين فقاتله وهزمه، واستولى برسق على الريّ ، وأعاده على ولاية بقزوين، وسلك نيال على الجبال، وهلك كثير من أصحابه، وخلص إلى بغداد فأكرمه المستظهر، وأظهر طاعة السلطان محمد. وتحالف هو وأبو الغازي وسقمان بن أرتق على مناصحة السلطان محمد، وساروا إلى صدقة بن مزيد بالحلة فاستحلفوه على ذلك.ثم إن نيال بن أبي شتكين عسف بأهل بغداد، وتسلط عليهم وصادر العمال فاجتمع الناس إلى أبي الغازي بن أرتق. وكان نيال صهره على أخته التي كانت زوجا لتتش، وطلبوا منه أن يشفع لهم عنده. وبعث المستظهر إليه قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني بالنهي عما يرتكبه فأجاب وحلف. ثم نكث فأرسل المستظهر إلى صدقة بن مزيد يستدعيه فوصل في شوال من السنة، واتفق مع نيال على الرحيل من بغداد. ورجع إلى حلته، وترك ولده دبيساً يزعج نيال للخروج فسار نيال إلى أوان، وعاث في السابلة وأقطع القرى لأصحابه. وبعث إلى صدقة فأرسل إليه العساكر، وخرج فيها أبو الغازي بن أرتق، وأصحاب المستظهر فسار نيال إلى أذربيجان ورجعوا عنه.

ولاية كمستكين النصيري شحنة بغداد وفتنته مع أبي الغازي وحربه:

كال أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد، ولاه عليها السلطان محمد عند مقتل كوهراس. ولما ظهر الآن بركيارق على محمد، وحاصره بأصبهان. ونزل بركيارق همذان، وأرسل إلى بغداد كمستكين النصيري في ربيع سنة ست وتسعين. وسمع أبو الغازي بمقدمه فاستدعى أخاه سقمان بن أرتق من حصن كيفا يستنجده وسار إلى صدقة بن مزيد فخالفه على النصرة والمدافعة. ورجع إلى بغداد، ووصل إليه أخوه سقمان بعد أن نهب في طريقه. ووصل كمستكين إلى قرقيسيا ولقيه شيعة بركيارق، وخرج أبو الغازي وسقمان عن بغداد، ونهب قرى دجيل واتبعتهما  العساكر. ثم رفعت عنهما وأرسل كمستكين إلى صدقة صاحب الحلة فامتنع عن طاعة بركيارق، وسار من الحلة إلى صرصر؛ وقطع خطبة بركيارق، وعبر بغداد واقتصر على الدعاء للخليفة. وبعث صدقة إلى أبي الغازي وسقمان يعرفهما بوصوله، وهما بالحرني وجاء إلى دجيل. ونهب القرى واشتد فسادهم. وأضر ذلك بحال بغداد في غلاء الأسعار . وجاء أبو الغازي وسقمان ومعهما دبيس بن صدقة فخيموا بالرملة، وقاتلهم العامة ففتكوا فيهم.وبعث المستظهر قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني، وتاج الرؤساء بن الرحلات إلى صدقة بن مزيد بمراجعة الطاعة فشرط خروج كمستكين عن بغداد، فأخرجه المستظهر إلى النهروان . وعاد صدقة إلى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد. ثم سار كمستكين النصيري إلى واسط، وخطب فيها لبركيارق، ونهب عسكره سوادها فسار صدقة وأبو الغازي إليه، وأخرجاه من واسط. وتحصن بدجلة فقصده صدقة فانفض عنه أصحابه، ورجع إلى صدقة بالأمان فأكرمه، وعاد إلى بركيارق. وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وبعده لصدقة وأبي الغازي، وولى كل واحد فيها ولده. وعاد أبو الغازي إلى بغداد، وعاد صدقة إلى الحلة، وبعث ابنه صوراً مع ابي الغازي يطلب الرضا من المستظهر لأنه كان سخطه من أجل هذه الحادثة.

المصاف الخامس بين بركياق ومحمد:

كان السلطان محمد لما سار عن كنجة وبلاد أران استخلف بها الأمير غزغلي ، وأقام بها في طائفة من عسكره مقيماً خطبة السلطان محمد في جميع أعماله إلى زنجان من آخر اذربيجان. فلما انحصر محمد بأصبهان سار غزغلي لإنجاده ، ومعه منصور بن نظام الملك، ومحمد ابن أخيه مؤيد الملك فانتهوا إلى الرى، وملكوها آخر خمس وتسعين، ولقوا السلطان محمدا بهمذان، عندما خرج من أصبهان، ومعه نيال بن أبي شكين وأخوه علي، وأقاموا معه بهمذان. ثم جاء الخبر بمسير بركيارق إليهم فتوجه السلطانمحمد قاصداً شروان، وانتهى إلى أذربيجان فبعث إليه مودود بن إسمعيل بن ياقوتي، الذي كان بركيارق قتل أباه إسمعيل، وكانت أخت مودود هذا تحت محمد، وكان له طائفة من أعمال أذربيجان، فاستدعى محمداً ليظاهره على بركيارق فسار إليه، وانتهى إلى سقمان. وتوفي مودود في ربيع سنة ست وتسعين، واجتمع عساكره على السلطان محمد وفيهم سقمان القطي ومحمد بن ياغي سياه، الذي كان أبوه صاحب أنْطاكِية. ونزل أرسلان بن السبع الأحمر فسار إليهم بركيارق، وقاتلهم على خراسان. وسار أياز من عسكر بركيارق، وجاء من خلف السلطان محمد فانهزم محمد وأصحابه، ولحق بارقيش من أعمال خلاط. ولقيه الأمير علي صاحب ارزن الروم فمضى إلى أصبهان، وصاحبها منوجهر أخو فظون الروادي، ثم سار إلى هرمز. وأما محمد بن مؤيد الملك ابن نظام الملك فنجا من الوقعة إلى ديار بكر، ثم إلى جزيرة ابن عمر، ثم إلى بغداد. وكان أيام أبيه مقيماً ببغداد في جوار المدرسة النظامية فشكى إلى أبيه، وخاطب كوهراس بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة، ولحق سنة اثنتين وتسعين بمجد الملك الياسّلاني، وأبوه بكنجة عند السلطان محمد، فلما خطب السلطان محمد لنفسه، واستوزر أباه مؤيد الملك، ولحق محمد هذا بأبيه، ثم قتل أبوه وبقي في جملة السلطان محمد.

استيلاء ملك بن بهرام على مدينة غانة:

كان ملك بن بهرام بن أرتق بن أخي أبي الغازي بن أرتق مالكاً مدينة سروج فملكها الإفرنج من يده، فسار عنها إلى غانة، وغلب عليها بني العيش بن عيسى من خلاط، وكانت لهم، فقصدوا صدقة بن مزيد مستنجدين به فأنجدهم، وجاء معهم فرحل ملك بن بهرام والتركمان عنها، ودخلها بنو العيش، وأخذ صدقة رهائنهم، وعاد إلى الحلة فرجع ملك إليها في ألفي رجل من التركمان، وحاربها قليلاَ ثم عبر المخاضة، وملكها واستباح أهلها، ومضى إلى هيت ورجع عنها.

الصلح بين السلطان بركيارق ومحمد:

ثم استقر الأمر اخيراً بالسلطان بركيارق في  الرى، وكان له الجبال وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين، ولمحمد اذربيجان وبلاد أران وارمينية وأصبهان والعراق جميعاً، غير تكريت والبطائح بعضها، وبعضها والبصرة لهما جميعاً،وخراسان لسنجر من جرجان إلى ما وراء النهر يخطب فيها لأخيه محمد. وله من بعده والعساكر كلهم يتحكمون عليهم بسبب الفتنة بينهما. وقد تطاول الفساد وعم الضرر، واختلفت قواعد الملك فأرسل بركيارق إلى أخيه محمد في الصلح مع فقيهين من أماثل الناس، ورغباه في ذلك، وأعاد معهما رسلا آخرين. وتقرر الأمر بينهما أن يستقر محمد على ما بيده سلطاناً، ولا يعارضه بركيارق في الطبل، ولا يذكر اسمه في أعمال محمد، وأن المكاتبة تكون بين الوزيرين والعساكر بالخيار في خدمة من شاؤا منهما. ويكون للسلطان محمد من النهر المعروف بأستراباذ إلى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام والعراق بلاد صدقة بن مزيد، وبقية الممالك الإسلامية لبركيارق.وتحالفاً على ذلك، وانتظم الأمر، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان بالخروج عنها لأخيه بركيارق، واستدعاهم إليه فأبوا وجنحوا إلى خدمة بركيارق. وساروا إليه بحريم السلطان محمد الذي كانوا معهم فأكرمهم بركيارق، ودلهم إلى صاحبهم. وحضر أبو الغازي بالديوان ببغداد. وسار المستظهر في الخطبة لبركيارق فخطب له سنة سبع وتسعين، وكذلك بواسط. وكان أبو الغازي قبل ذلك في طاعة محمد فأرسل صدقة إلى المستظهر يعذله في شأنه، ويخبره بالمسير لإخراجه من بغداد. ثم سار صدقة ونزل عند الفجاج. وخرج أبو الغازي إلى عقرباً. وبعث لصدقة بأنه إنما عدل عن طاعة محمد للصلح الواقع بينه وبين أخيه، وأنهما تراضيا على ان بغداد لبركيارق، وأنا شحنة بها، واقطاعي حلوان فلا يمكنني التحول عن طاعة بركيارق فقبل منه ورجع إلى الحلة. وبعث المستظهر في ذي القعدة سنة سبع وتسعين بالخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والوزير الخطير واستخلفهم جميعاً، وعاد إلى بغداد، والله سبحانه ولي التوفيق.

حرب سقمان وجكرمس الإفرنج:

قد تقدم لنا استيلاء الإفرنج على معظم بلاد الشام وشغل الناس عنهم بالفتنة، وكانت حران لقراجا من مماليك ملك شاه. وكان غشوماً فخرج منها لبعض مذاهبه، وولى عليها الأصبهاني من أصحابه فعصي فيها، وطرد أصحاب قراجا منها ما عدا غلاماً تركياً اسمه جاولي جعله مقدم العسكر، وأيس به فقرره وتركه، وملك حران. وسار الإفرنج البها وحاصروها. وكان بين جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر وسقمان صاحب كيفا  حروب، وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه فانتدبا لنصر المسلمين واجتمعا على الخابور وتحالفا. وسار سقمان في سبعة آلاف من التركمان، وجكرمش في ثلاثة آلاف من الترك والعرب والأكراد، والتقوا بالإفرنج على نهر بلخ فاستطرد لهم المسلمون نحو فرسخين، ثم كروا عليهم فغنموا فيهم، وقتلوا سوادهم.وأخذ القمص بردويل صاحب الرها، أسره تركماني من أصحاب سقمان في نهر بلخ. وكان سمند صاحب انْطاكِية من الإفرنج ونيكري صاحب الساحل منهم قد كمنا وراء الجبل ليأتيا المسلمين من ورائهم عند المعركة. فلما عاينوا الهزيمة كمنوا بقية يومهم، ثم هربوا فاتبعهم المسلمون واستلحموهم وأسروا منهم كثيراً، وفلت سمند ونيكري بدماء أنفسهم. ولما حصل الظفر للمسلمين عصى أصحاب جكرمس باختصاص سقمان وشق ذلك عليه وأراد أصحابه   فأبى حذراً من افتراق المسلمين ورحل، وفتح في طريقه غدة حصون. وسار جكرمش إلى حران ففتحها. ثم سار إلى  الرها فحاصرها خمس عشرة ليلة، وعاد إلى الموصل. وقاد من القمص بخمسة وثلاثين ألف ديناراً، ومائة وستين أسيراً من المسلمين.

وفاة بركيارق وولاية ابنه ملك شاه:

ثم توفي السلطان بركيارق بن ملك شاه بنردجرد في أوائل ربيع الاخر سنة ثمان وتسعين لاثنتي عشرة سنة ونصف من ملكه، جاء إليها عليلاً من أصبهان، واشتد مرضه ببروجرد ، فولى عهده لابنه ملك شاه، وعمره نحو من خمس سنين. وخلع عليه، وجعل الأمير أياز كافله، وأوصى أهل الدولة بالطاعة والمساعدة. وبعثهم إلى بغداد فأدركهم خبر وفاته بالطريق. ورجع أياز حتى دفنه بأصبهان، وجمع السرادقات والخيام والجثر والسمسمة لابنه ملك شاه. وكان بركيارق قد لقي في ملكه من الرخاء والشدة والحرب والسلم ما لم يلقه أحد. فلما استقر   واستقامت سعادته أدركته المنية. ولما توفي خطب لابنه ملك شاه ببغداد، وكان أبو الغازي قد سار من بغداد إليه، وهو بأصبهان يستحثه إلى بغداد. وجاء معه، فلما مات سار مع ابنه ملك شاه والأمير اياز إلى بغداد، وركب الوزير أبو القاسم على بن جهير فلقيهم به  ، مالي. وحضر أبو الغازي والأمير طغلبرك بالديوان، وطلبا الخطبة لملك شاه فخطب له، ولقب بألقاب جده ملك شاه.

حصار السلطان محمد الموصل:

لما انعقد الصلح بين بركيارق ومحمد، واختص كل منهما أعماله، وكانت أذربيجان في قسمة محمد، رجع محمد إلى اذربيجان، ولحق به سعد الملك أبو المحاسن الذي كان نائباً بأصبهان بعد أن أبلى في المدافعة عنها. ثم سلمها بعد الصلح الى نواب بركيارق، واستوزره فأقام محمد إلى صفر من سنة ثمان وتسعين. ثم سار يريد الموصل على طريق مراغة، ورحل وبلغ الخبر إلى جكرمش فاستعد للحصار، وأدخل أهل الضاحية إلى البلد وحاصره محمد. ثم بعث له يذكره ما استقر عليه بينه وبين أخيه وأن الموصل والجزيرة له، وعرض عليه خط بركيارق بذلك وبايمانه عليه، ووعده أن يقرها في عمالته فقال له جكرمس: انّ السلطان كتب إلى بعد الصلح بخلاف ذلك فاشتد في حصاره، واشتدّ أهل البلد في المدافعة ونفس الله عنهم برخص الأسعار. وكان عسكر جكرمس مجتمعين قريباً من الموصل، وكانوا يغزون على أطراف العسكر، ويمنعون عنهم الميرة. ثم وصل الخبر عاشر جمادى الأولى بوفاة السلطان بركيارق فاستشار جكرمس أهل البلد فردوا النظر إليه، واستشار الجند فأشاروا بطاعة السلطان محمد فأرسل إليه بذلك، واستدعى وزيره سعد الملك فدخل عليه، وأشار عليه بلقاء السلطان فخرج إليه على كره من أهل البلد فتلقاه السلطان بالكرامة، وأعاده سريعاً إلى البلد ليطمئن الناس.

استيلاء السلطان محمد على بغداد وخلع ملك شاه ابن أخيه ومقتل أياز:

قد كنا قدمنا صلح بركيارق وأخيه محمد من أنه يستقل بركيارق بالسلطنة، وينفرد محمد بالأعمال التي ذكرنا، وموت بركيارق أثر ذلك، وتقديم ابنه ملك شاه ببغداد. فوصل الخبر بذلك إلى محمد، وهو يحاصر الموصل فأطاعه جكرمس وسار محمد إلى بغداد، ومعه جكرمس وسقمان القطبي مولى قطب الدولة اسمعيل بن ياقوتي عم ملك شاه ومحمد وغيرهما من الامراء وجمع صدقة صاحب الحلة العساكر، وبعث إبنه بدران ودبيساً إلى محمد يستحثانه، وجاء السلطان محمد إلى بغداد فاعتزم الأمير أياز أتابك ملك شاه على دفاعه، وخيم خارج بغداد، وأشار عليه بذلك أصحابه، وخالفهم وزيره أبو المحاسن الضبعي، وأبلغ في النصيحة له بطاعة السلطان فأقام متردداً، ونزل محمد  بالجانب الغربي، وخطب له هنالك منفرداً، ولهما معاً في بعض الجوامع. واقتصر على سلطان العالم في بعضها.ورجع أياز إلى استحلاف الأمراء ثانياً فوقف بعضهم وقال: لا فائدة في إعادة اليمين. وارتاب أياز عندها، وبعث وزيره الضبعي أبا المحاسن لعقد الصلح مع السلطان واستحلافه، فقرأ على وزيره سعد والملك أبي المحاسن سعد بن محمد فدخل معه إلى السلطان، وأجابه إلى ما طلب. وجاء معه من الغد قاضي القضاة والمفتيان، واستحلفاه لأياز وللأمراء فحلف إلا أن ينال الحسامي ، وقال: أما ملك شاه فهو ابني وأنا أبوه. وجاء أياز من الغد، وقارن وصول صدقة بن مزيد فأنزلهما واحتفى بهما، وذلك آخر جمادى الأولى من سنة ثمان وتسعين.ثم احتفل أياز بعدها في عمل صنيع للسلطان في بيته، وهي دار كوهراس، وأهدى إليه تحفاً من جملتها حبل البلخش الذي أخذه من تركة نظام الملك بن مؤيد الملك. واتفق أن أياز تقدم لمواليه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان، وكان عندهم مصفعان فألبسوه درعاً تحت ثيابه، وتناولوه بالنخس فهرب عنهم، ودخل في حاشية السلطان مذعوراً فلمسوه فإذا الدرع تحت ثيابه فارتابوا. ونهض السلطان إلى داره ثم دعا الأمراء بعد ذلك بأيام ، فاستشارهم في بعث يبعثهم إلى ديار بكر  ّان أرسلان بن سليمان بن قطلمش قصدها فاتفقوا على الإشارة بمسير اياز، وطلب هو أن يكون معه صدقة بن مزيد فأسعفه السلطان بذلك، واستدعاهما لانفاذ ذلك. وقد أرصد في بعض المخادع بطريقهم جماعة لقتل أياز فلما مر بهم تعاورته سيوفهم، وقطع رأسه وهرب صدقة، وأغمي على الوزير. وهرب عسكر أياز فنهبوا داره. وأرسل السلطان من دفعهم عنها. وسار السلطان من بغداد إلى أصبهان وهذا اياز من موالي لسلطان ملك شاه. ثم سار في جملة ملك آخر فساء. وأما الضبعي وزير أياز فاختفى أشهراً . ثم حمل إلى الوزير سعد الملك في رمضان فلما وصل كان ذلك سبب رياسته بهمدان.

استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين و  موته:

كان هذا الحصن في ديار بكر أقطعه السلطان بركيارق لمغنٍ كان عنده، وكان حواليها خلق كثير من الأكراد يغيرون عليها ويخيفون سابلتها. واتفق أن كربوقا خرج من الموصل لحصار آمد وكانت لبعض التركمان فاستنجد بسقمان فسار لإنجاده. ولقيه كربوقا ومعه زنكي بن أقسنقر وأصحابه، وأبلوا ذلك اليوم بلاء شديداً فانهزم، وأسر ابن أخيه ياقوتي بن أرتق فحبسه بقلعة ماردين عند المغني، فبقي مدة محبوساً. وكثر خروج الأكراد بنواحي ماردين فبعث ياقوتي إلى المغني يسأله أن يطلقه، ويقيم عنده بالريف لدفاع الأكراد ففعل، وصار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط. وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للإغارة فلا يهيجهم. ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام بعد مرجعه من الإغارة، ودنا من القلعة وعرضهم للقتل إن لم يفتحها أهلوهم ففتحوها وملكها. وجمع الجموع وسار إلى نصيبين وإلى جزيرة ابن عمر وهي لجركمس فكبسه جكرمس وأصحابه، وأصابه في الحرب سهم فقتله وبكاه جكرمس وكانت تحت ياقوتي بنت عمه سقمان فمضت إلى أبيها. وجمعت التركمان وجاء   بهم إلى نصيبين لطلب الثأر فبعث إليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته فرجع. وأقام بماردين بعد ياقوتي أخوه على طاعة جكرمس، وخرج منها لبعض المذاهب، وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه تملك ماردين على جكرمس فبادر إليها سقمان واستولى عليها، وعوض عنها ابن أخيه جبل جور، وأقامت ماردين في حكمه مع حصن كيفا، واستضاف إليها نصيبين. ثم بعث إليها فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يستنجده على الإفرنج، وكان استبد بها على الخلفاء العبيديين أهل مصر. وثار له الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن أرتق سنة ثمان وتسعين فأجابه. وبينما هو يتجهز للمسير، وافاه كتاب طغتكين صاحب دمشق المستبد بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفاً على دمشق من الإفرنج، فأسرع السير معتزماً على قصد طرابلس، وبعدها فانتهى إلى القريتين وندم طغتكين على استدعائه، وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه. ومات هو بالقريتين فكفاهم الله تعالى أمره. وقد كان أصحابه عندما أيقن  بالموت أشاروا عليه بالعودة إلى كيفا فامتنع، وقال: هذا جهاد، وإن مت كان لي ثواب شهيد.

خروج منكبرس على السلطان محمد ونكبته:

كان منكبرس بن يورس بن ألب أرسلان مقيماً بأصبهان، وانقطعت عنه المواد من السلطان فخرج إلى نهاوند، ودعا لنفسه، وكاتب الأمراء بني برسق بخوزستان، وبعثوا به إلى طاعته وكان أخوهم زنكي عند السلطان محمد فقبض عليه، وكاتب اخوته في التدبير على منكبرس فأرسلوا إليه بالطاعة حتى جاءهم فقبضوا عليه بخوزستان، وبعثوا به إلى أصبهان فاعتقل مع ابن عمه تتش، وأطلق زنكي بن برسق، وأعيد إلى مرتبته. وكانت اقطاع بني برسق الأسير وسابور وخوزستان وغيرها ما بين الأهواز وهمدان فعوضهم عنها بالدينور، وأخرجهم من تلك الناحية والله تعالى أعلم.

 مقتل فخر الملك بن نظام الملك:

قد ذكرنا قبل أن فخر الملك بن نظام الملك كان وزيراً لتتش، ثم حبسه. ولما هزمه بركيارق وجده في حبسه أطلقه، وكان أخوه مؤيد الملك وزيراً له فمال إليه فخر الدولة بسعاية مجد الملك الباسلاني، واستوزره سنة ثمان وثمانين. ثم فارق وزارته ولحق بسنجر بن ملك شاه بخراسان فاستوزره. فلما كان في آخر المائة الخامسة، جاء باطني يتظلم إلى باب داره فأدخله يسمع شكواه، فطعنه بخنجر فقتله، وأمر السلطان سنجر بضربه فأقر على جماعة من الناس وقتل.

ولاية جاولي سكاور علي الموصل وموت جكرمش:

كان جاولي سكاوو قد استولى على ما بين خوزستان وفارس فعمر قلاعها، وحصنها وأساء السيرة في أهلها. فلما استقل السلطان حمد بالملك خافه جاولي، وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن أنوتكين فتحصن منه جاولي، وحاصره مودود ثمانية أشهر. ودس جاولي إلى السلطان بطلب غيره فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر، فسار إليه بأصبهان، وجهزه في العساكر لجهاد الإفرنج بالشام، واسترجاع البلاد منهم. وكان جكرمش صاحب الموصل قد قطع الحمل فأقطع السلطان الموصل وديار بكر والجزيرة لجاولي فسار إلى الموصل، وجعل طريقه على البواريح فاستباحها أياماً. ثم سار إلى إربل وكان صاحبها أبو الهيجاء بن برشك الكردي الهرباني إلى جكرمش يستحثه، فسارفي عسكر الموصل والتقوا قريباً من اربل فانهزم أصحاب جكرمش. وكان يحمل في المحفة   فقاتل عنده غلمانه، وأحمد بن قاروت بك فخرج وانهزم إلى الموصل ومات. وجيء بجكرمش فحبسه، ووصل من الغد إلى الموصل فولوا ازنكين بن جكرمش.وأقام بالجزيرة، وقام بأمره غرغلي مولى مولى أبيه. وفرق الأموال والخيول، وكتب إلى قلج أرسلان صاحب بلاد الروم، وكان قد شيد الموصل وبنى أسوارها وحصنها بالخندق. وبينما هو كذلك سار إليه قلج أرسلان من بلاد الروم باستدعاء غرغلي كما تقدم. وانتهى إلى نصيبين فرحل جاولي عن الموصل. ثم جاء البرسقي شحنة بغداد، ونزل عن الموصل وخاطبهم فلم يجيبوه فرجع من يومه. وسار قلج أرسلان من نصيبين الى الموصل، وتأخر عنها جاولي إلى سنجار واجتمع أبو الغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش. وجاء صريخ رضوان بن تتش من الشام على الإفرنج فسار إلى الرحبة، وبعث أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين واستحلفوا فحلف، وجاء إلى الموصل فملكها في منتصف ختام المائة الخامسة. وخلع على ابن جكرمش، وخطب لنفسه بعد الخليفة. وقطع خطبة السلطان محمد، وأحسن إلى  العسكر. وأخذ القلعة من غرغلي فولى جكرمش. وأقر القاضي أبا محمد، عبد الله بن القاسم الشهرزوري على القضاء. وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن خميس. وكان في جملة فلهم أرسلان إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد، ومحمد بن حموا صاحب خرتبرت. كان إبراهيم بن نيال ولاه تتش على آمد فبقيت بيده. وكان ابن حموا ملك خرتبرت من يد القلادروس ترجمان الروم. كانت له الرها وانْطاكِية فملك سليمان قطلمش أنْطاكِية، وبقيت له الرها وخرتبرت وأسلم القلادروس الرها. فلما ولي فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف القلادروس عن الرها على يد ملك شاه وأمره عليها. ولما سار جاولي إلى الرحبة قاصداً صريخ رضوان بن تتش نزل عليها آخر رمضان من السنة، وحاصرها وبها محمد بن السباق من بني شيبان، ولاه عليها دقاق فاستبد بها وخطب لقلج أرسلان، حاصره جاولي، وكتب إلى رضوان يستدعيه ويعده بالمسير معه لدفاع، فجاء رضوان، وحاصر معه الرحبة. ثم دس إلى جاولي جماعة من حامية الأسوار فوثبوا بها، ودخلوا. وملك البلد، وأبقى على محمد الشيباني، وسار معه. ثم إن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل ولي عليها إبنه ملك شاه في عسكر ومعه أميريدبره، وسار إلى قتال جاولي، ورجع عنه إبراهيم بن نيال إلى بلده آمد من الخابور فبعث إلى بلده في الحشد، فعاجله جاولي بالحرب، والتقوا في آخر ذي القعدة من السنة، وانهزم أصحاب قلج أرسلان على دفاعه. وأعاد الخطبة للسلطان، واستصفى أصحاب جكرمش. ثم سار إلى الجزيرة وبها حبيس بن جكرمش، ومعه غرغلي من موالي أبيه فحاصره مدة، ثم صالحه على ستةآلاف دينار، ورجع إلى الموصل، وأرسل ملك شاه من قلج أرسلان إلى السلطان محمد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مقتل صدقة بن مزيد:

ولما استوحش صدقة بن مزيد صاحب الحلة من السلطان محمد سار إليه السلطان، وملك أعماله، ولقيه صدقة فهزمه السلطان، وقتل في المعركة كما ذكرنا ذلك في أخبار صدقة في دولة ملوك الحلة والله سبحانه وتعالى أعلم.

قدوم ابن عمار صاحب طرابلس على السلطان محمد:

كان فخر الدولة أبو علي بن عمار صاحب طرابلس استبد بها على العبيديين، فلما ملك الإفرنج سواحل الشام رددوا عليها الحصار فضاقت أحوالها. فلما انتظم الأمر للسلطان محمد، واستقام ملكه قصده فخر الملك بن عمار صريخاً للمسلمين بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب، وفرق في الجند عطاءهم لستة أشهر، ورتب الجامكية في مقاعدهم للقتال، وسار إلى دمشق فلقيه طغتكين أتابك، وخيم بظاهرها أياماً ، ورحل إلى بغداد فأركب السلطان الأمراء لتلقيه، ولم يدخر عنه براً ولا كرامة، وكذلك الخليفة. وأتحف السلطان بهدايا وذخائر نفيسة، وطلب النجدة، وضمن النفقة على العسكر فوعده بالنصر وأقام. ثم لقي الأمير حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال صدقة جاولي، ثم يسير حسين معه إلى الشام. ثم رحل السلطان عن بغداد سنة إحدى وخمسمائة لقتال صدقة، واستدعى ابن عمار وهو بالنهروان فودعه. وسار معه الأمير حسين إلى دمشق، وكان ابن عمار لما سار عن طرابلس استخلف عليها ابن عمه ذا المناقب فانتقض، واجتمع مع أهل طرابلس على إعادة الدولة العلوية، وبعثوا إلى الأفضل بن أمير الجيوش المستبد على الدولة بمصر بطاعتهم، ويسألون الميرة فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً ومعه الزاد من الأقوات والسلام، فدخل البلد، وقبض على أهل ابن عمار وأصحابه، واستصفى ذخائرهم وحمل الجميع إلى مصر في البحر.

استيلاء مودود بن أبي شكين على الموصل من يد جاولي:

قد تقدم لنا استيلاء جاولي على الموصل من يد قلج بن أرسلان وابن جكرمش، وهلاكهما على يده. واستفحل ملكه بالموصل، وجعل السلطان محمد بن ألية ولاية ما يفتحه من البلاد له فقطع الحمل عن السلطان، واستنفره لحرب صدقة فلم ينفر معه. وداخل صدقة بأنه معه فلما فرغ السلطان من أمر صدقة، بعث مودود بن أبي شتكين في العساكر، وولاه الموصل، وبعث معه الأمراء ابن برسق، وسقمان القطبي، وأقسنقر البرسقي ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وأبو الهيجاء صاحب أربل مددا فوصلوا الموصل، وخيموا عليها فوجدوا جاولي قد استعد للحصار، وحبس الأعيان، وخرج عن البلد، وترك بها زوجته هي وابنه برسق في ألف وخمسمائة مقاتل، فأحسن في مصادرة الناس. واشتد عليهم الحصار فلما كان المحرم سنة اثنتين، خرج بعض الحامية من فرجة من السور وأدخلوا منها مودود والعساكر، وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام. ثم استأمنت وخرجت إلى أخيها يوسف بن برسق بأموالها، واستولى مودود على الموصل وأعمالها.وأما جاولي فلما سار عن الموصل وحمل معه القمص الذي كان أسره بنعمان،وأخذه منه جكرمش، وسار به إلى نصيبين. وسأل من صاحبها أبو الغازي بن أرتق المظاهرة على السلطان فلم يجبه إلى ذلك، ورحل عن نصيبين إلى ماردين بعد أن ترك ابنه مقيماً مع الحامية فتبعه جاولي، ودخل عليه وحده بالقلعة متطارحاً عليه فأجابه، وسار معه إلى نصيبين، ثم إلى سنجار وحاصراها فامتنعت عليهما. ثم هرب أبو الغازي ليلاً الى نصيبين وتركه فسار جاولي إلى الرحبة وأطلق القمص بردويل لخمس سنين من الصرة على مال قرره عليه، وأسرى من المسلمين يطلقهم، وعلى النصرة مهما طلبه. وأرسله إلى سالم بن مالك بقلعة جعفر، حتى جاء ابن خالته جوسكر صاحب تل ناشز من زعماء الإفرنج، وكان أسر مع القمص فافتدى بعشرين ألف دينار، وأقام جوسكر رهينة، وسار القمص إلى انْطاكِية.ثم أطلق جاولي جوسكر وأخذ رهناً عنه صهره وصهر القمص، وبعثه في إتمام ما ضمن. ولما وصل إلى انْطاكِية أعطاه شكري صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلا وسلاحاً وغير ذلك. وكانت الرها وسروج بيد القمص. ولما أسر ملك جكرمش الرها من أصحابه طلبها منه الآن فلم يجبه، فخرج القمص مغاضبا له، ولحق بتل ناشز، وقدم عليه جوسكر عندما  طلقه جاولي. ثم سار إليهما شكري يعاجلهما قبل اجتماع أمرهما فحاصرهما أياماً، ورجع القمص وجوسكر على حصون انْطاكِية، واستمد أبو سيل الأرمني صاحب رعيان وكيسوم والقلاع شمالي حلب فأنجدهم بألف فارس. وسار اليهم شكري، وحضر البترك، وشهد جماعة من القسيسين والبطارقة أن أسمند خال شكري قال له عند ما ركب البحر إلى بلاده: أعد الرها إلى القمص إذا خلص من الأسر فحكم البترك بإعادتها فأعادها تاسع صفر من السنة، وعبر القمص الفرات ليرفع إلى جاولي المال والأسرى كما شرط له.

وكان جاولي لما أطلق القمص سار إلى الرحبة ولقيه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور، وكانا مقيمين بعد قتل أييهما عند سالم بن مالك فاستنجداه ، ووعداه أن يسير معهما إلى الحلة، واتفقوا على تقديم أبي الغازي تكين. ثم قدم عليهم أصبهبز صباوو، وقد أقطعه السلطان الرحبة فأشار على جاولي بقصد الشام لخلوها عن العساكر، والتجنب عن العراق وطريق السلطان فقبل إشارته، وأحصر على الرحبة. ثم وفد عليه صريخ سالم بن مالك صاحب جعفر يستغيث به من بني نمير، وكان جيوش البصري قد نزل على ابن سالم بالرقة وملكها، وسار إليه رضوان من حلب فصالحه بنو نمير بالمال. ورجع عليهم فاستنجد سالم الآن جاولي فجاء وحاصر بني  نمير بالرقة سبعين يوماً. فأعطوه مالاً وخيلاًا، ورحل عنهم واعتذر لسالم.

ثم وصل جاولي إلى الأمير حسين بن أتابك قطلغ تكين؟ كان أبوه أتابك السلطان محمد بكنجة فقتله، وتقدم ولده هذا عند السلطان، وبعثه مع ابن عمار ليصلح أمر جاولي، وتسير العساكر كلها إلى الجهاد مع ابن عمار فأجاب جاولي لذلك، وقال لحسين سر إلى الموصل، ورحل العساكر عنها وأنا أعطيك ولدي رهينة، وتكون الجباية لوال من قبل السلطان فجاء حسين إلى العساكر قبل أن يفتحوها فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه امتنع من الرحيل إلا بإذن من السلطان. وأقام محاصراً لها حتى افتتحها، وعاد ابن قطلغ إلى السلطان فأحسن الاعتذار عن جاولي. وسار جاولي إلى بالس فملكها من أصحاب رضوان بن تتش، وقتل جماعة من أهلها فيهم القاضي محمد بن عبد العزيز بن إلياس، وكان فقيها صالحاً.

ثم سار رضوان بن دقاق لحرب جاولي، واستمد شكري صاحب انْطاكِية فأمده بنفسه، وبعث إلى القمص بالرها يستمده، وترك له مال المفاداة فجاء إليه بنفسه، ولحقه بمنبج. وجاء الخبر إلى جاولي باستيلاء مودود وعساكر السلطان على الموصل وعلى خزائنه فاضطرب أمره، وانفض عنه كثير من أصحابه: منهم زنكي بن اقسنقر وبكتاش. وبقي معه أصبهبذ صباوو وبدران بن صدقة وابن جكرمش، وانضم إليه كثير من المتطوعة، ونزل تل ناشر وأتى عسكر رضوان وشكري، وكاد أن يهزمهم لولا أن أصحابه ساروا عنه، وسار في اتباعهم فأبوا عليه فمضى منهزماً. وقصد اصبهبذ الشام وبدران بن صدقة قلعة جعفر وابن جكرمش جزيرة ابن عمر، وقتل من المسلمين خلق، ونهب صاحب انْطاكِية سوادهم. وهرب القمص وجوسكر إلى تل باشر. وكان المنهزمون من المسلمين يمرون بهم فيكرمونهم وبجيزونهم إلى بلادهم. ولحق جاولي بالرحبة فلقي بها سرايا مودود صاحب الموصل وخفي عنهم فارتاب في أمره، ولم ير الخير له من قصد السلطان محمد ثقة بما القى إليه حسين بن قطلغ تكين في شأنه فأوغر في السير، ولحق بالسلطان قريبا من أصبهان. ونزل حسين بن قطلغ فدخل به إلى السلطان فأكرمه، وطلب منه بكتاش ابن عمه تتش واعتقله بأصبهان.

مقتل مودود بن توتكين صاحب الموصل في حرب الإفرنج وولاية البرسقي مكانه:

كان السلطان محمد قد أمر مودوداً صاحب الموصل سنة خمس وخمسمائة بالمسير لقتال الإفرنج، وأمدّه بسقمان القطبي صاحب ديار بكر وأرمينية، وأياكي وزنكي ابني برسق أمراء همذان وما جاورها، والأمير أحمد بك أمير مراغة، وأبو الهيجاء صاحب اربل والأمير أبو الغازي صاحب ماردين وبعث إليه أياز مكانه فسار إلى سنجار، وفتحوا حصوناً الإفرنج وحاصروا مدينة الرها فامتنعت عليهم وأقام الإفرنج على الفرات بعد أن طرقوا أعمال حلب فعاثوا فيها. ثم حاصر العساكر الإسلامية قلعة باشر فامتنعت ودخلوا إلى حلب فامتنع رضوان من لقائهم فعادوا، ومات سقمان القطبي في دلاس فحمله أصحابه في تابوت إلى بلاده. واعترضهم أبو الغازي بن أرتق ليأخذهم فهزموه.

ثم افترقت العساكر بمرض ابن برسق ومسير أحمد بن صاحب مراغة إلى السلطان لطلب بلاد سقمان القطبي واجتمع قطلغتكين صاحب دمشق بمودود ، ونزل معه على نهر القافي. وسمع الإفرنج بافتراق العساكر فساروا إلى افاميه. وجاء السلطان ابن منقذ صاحب شيزر إلى مودود وقطلغتكين، وحصرهما على الجهاد. ونزلوا جميعاً على شيزار   ونزل الإفرنج قبالتهم. ثم رأوا قوة المسلمين فعادوا إلى أفامية. ثم سار مودود سنة ست إلى الرها وسروج فعاث في نواحيها فكبسه جوسكر صاحب تلك ناشر في الإفرنج، ونال ثم اجتمع المسلمون سنة سبع للجهاد باستنجاد قطلغتكين صاحب دمشق لمودود فاجتمع معه بمنزل صاحب سنجار وأياز بن أبي الغازي، وعبروا الفرات إلى قطلغتكين، وقصدوا القدس فسار إليهم صاحبها بقزوين، ومعه جوسكر، ومعه تل ناشر، على جيشه. ونزلوا الأردن واقتتلوا قريباً من طبرية فانهزم الإفرنج، وقتل كثير منهم، وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن، وغنم المسلمون سوادهم. ثم لقيهم عسكر طرابلس وإنْطاكِية من الإفرنج فاستعانوا بهم، وعاودوا الحرب ونزلوا في جبل طبرية فحاصرهم فيه المسلمون ثم ساروا فعاثوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا إلى القدس.

ثم نزلوا دمشق، وفرق مودود عساكره ووعدهم العود من قابل للجهاد. ودخل دمشق ليستريح عند قطلغتكين فصلى الجمعة في الجامع فطعنه باطني فأثواه ، وهلك  لآخر يومه. واتهم قطلغتكين به، وقتل الباطني من يومه. ولما بلغ الخبر السلطان بقتل مودود ولي على الموصل وأعمالها أقسنقر البرسقي سنة ثمان وخمسمائة، وبعث معه ابنه الملك مسعود في جيش كثيف، وأمره بجهاد الإفرنج، وكتب إلى الأمراء بطاعته فوصل إلى الموصل، واجتمعت إليه عساكر النواحي: فيهم عماد الدين زنكي بن أقسنقر ونمير صاحب سنجار. وسار البُرسقي إلى جزيرة ابن عمر فأطاعه نائب مودود بها. ثم سار إلى ماردين فأطاعه أبو الغازي صاحبها، وبعث إبنه أياز فسار إلى الرها فحاصرها شهرين، ثم ضاقت الميرة على عسكره. ثم رحل إلى شميشاط بعد أن خرب نواحي الرها وسروج وشميسشاط وكانت مرعش للإفرنج هي وكسوم ورعيان ؛ وكان صاحبها كراسك. واتفقت وفاته، وملكت زوجته بعده فراسلت البرسقي بالطاعة، وبعث إليها رسوله فأكرمته وأرجعته إلى البرسقي بالهدايا والطاعة. وفرّ عنها كثيرٌ من الإفرنج إلى إنْطاكِية. ثم قبض البرسقي على أياز بن أبي الغازي لإتهامه اياه في الطاعة فسار إليه أبو الغازي في العساكر، وهزمه واستنقذ إبنه أياز من أسره كما ترى في أخبار دولة أبي الغازي وبنيه. وبعث السلطان يهدده فوصل يده بقطلغتكين صاحب دمشق والإفرنج، وتحالفوا على التظاهر. ورجع أبو الغازي إلى ديار  بكر فسار إليه قزجان بن مراجاً صاحب حمص، وقد تفرّق عنه أصحابه فظفر به وأسره. وجاء قطلغتكين في عساكره، وبعث إلى قزجان في إطلاقه قامتنع وهم بقتله فعاد عنه قطلغنكين إلى دمشق. وكان قزجان قد بعث إلى السلطان بخبره وانتظر من يصل في قتله فأبطأ عليه، فأطلق أبا الغازي بعد أن توثق منه بالخلف، وأعطاه ابنه أياز رهينة. ولما خرج سار إلى حلب، وجمع التركمان وحاصر قزجان في طلب ابنه إلى أن جاءت عساكر السلطان.

مسير العساكر لقتال أبي الغازي وقطلغتكين والجهاد بعدهما:

ولما كان ما ذكرناه من عصيان أبي الغازي وقطلغتكين على السلطان محمد، وقوّة الإفرنج على المسلمين جهز السلطان جيشاً كثيراً مقدمهم الأمير برسق صاحب همدان، ومعه الأمير حيوّش بك، والأمير كشغرة، وعساكر الموصل والجزيرة، وأمرهم بقتال أبي الغازي وقطلغتكين. فإذا فرغوا منهما ساروا إلى الإفرنج فارتجعوا البلاد من أيديهم، فساروا لذلك في رمضان من سنة ثمان، وعبروا الفرات عند الّرقة. وجاؤا إلى حلب وطلبوا من صاحبها لؤلؤ الخادم ومن مقدم العسكر المعروف بشمس الخواص تسليم حلب بكتاب السلطان في ذلك فتعلل عليهم، وبعث إلى إبي الغازي وقطلغتكين بالخبر، واستنجدهما فسار إليه في ألفين وامتنعت حلب على عساكر السلطان فسار برسق بالعساكر إلى حماة، وهي لقطلغتكين فملكها عنوة، وسلمها إلى قرجان صاحب حمص بعهد السلطان له بذلك في كل ما يفتحونه من البلاد فثقل ذلك على الأمراء، وتخاذلوا وتسلم قزجان حماة من برسق، وأعطاه ابن أبي الغازي إبنه رهينة عنده. ثم سار أبو الغازي وقطلغتكين وشمس الخواص إلى إنْطاكِية مستنجدين بصاحبها بردويل، وجاءهم بعد ذلك بغدوين صاحب القدس وصاحب طرابلس وغيرهما من الإفرنج، واتفقوا على تأخير الحرب إلى إنصرام الشتاء. واجتمعوا بقلعة أفامية، وأقاموا شهرين، وانصرم الشتاء، والمسلمون مقيمون فوهنت عزائم الإفرنج، وعادوا إلى بلادهم. وعاد أبو الغازي إلى ماردين وقطلغتكين إلى دمشق، وسار المسلمون إلى كفر طاب من بلاد الإفرنج فحاصروه، وملكوه عنوة وأسروا صاحبه، واستلحموا من فيه ، ثم ساروا إلى قلعة أفامية فامتنعت عليهم فعادوا إلى المعرة. وفارقهم حيوش بك إلى مراغة فملكه. وسارت العساكر من المعرة إلى حلب، وقدموا أثقالهم وخيامهم فصادفهم بردويل صاحب إنْطاكِية في خمسمائة فارس وألفي راجل صريخاً لأهل كفر طاب . وصادف مخيم العسكر ففتك فيه، وفعل الأفاعيل، وهم متلاحقون. وجاء الأمير برسق، وعاين مصارعهم، وأشار عليه إخوته بالنجاء بنفسه فنجا بنفسه. وأتبعهم الإفرنج، ورجعوا عنهم على فرسخ وعاثوا في المسلمين في كلّ ناحية. وقتل أياز بن أبي الغازي قتله الموكلون به. وجاء أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين ما لم يحتسبوه، ويئسوا من النصرة ورجعت العساكر منهزمة إلى بلادها وتوفي برسق زنكي سنة عشر بعدها.

ولاية حيوش بك ومسعود بن السلطان محمد على الموصل:

ثم أقطع السلطان الموصل، وما كانَ بيد أقسنقر البرسقي للأمير حيوش بك، وبعث معه إبنه مسعوداً، وأقام البرسقي بالَرحَبَةَ وهي اقطاعه إلى أن توفي السلطان محمد.

وفاة السلطان محمد وملك إبنه محمود:

ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة سنة إثنتي عشرة من ملكه،بعد أن أجلس ولده محمودا على الكرسي قبل وفاته بعشر ليال. وفوض إليه أمور الملك فلما توفي نفذت وصيته لابنه محمود فأمره فيها بالعدل والإحسان، وخطب له ببغداد، وكان مناهز الحلم. وكان السلطان محمد شجاعاً عادلاً حسن السيرة، وله آثار جميلة في قتال الباطنية، وقد مر ذكرها في أخبارهم ولما ولي قام بتدبير دولته الوزير أبو منصور، وأرسل إلى المستظهر في طلب الخطبة ببغداد له في منتصف المحرم من سنة اإثنتي عشرة. وأقر طهرون شحنة على بغداد، وقد كان السلطان محمد ولأه عليها سنة إثنتين وخمسمائة. ثم عاد البرسقي وقاتله، وإنهزم إلى عسكر السلطان محمود على الحلة دبيس بن صدقة. وقد كان عند السلطان محمد منذ قتل أبوه صدقة، وأحسن إليه وأقطعه. وولى على الحلة سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة. فلما توفي رغب من ابنه السلطان محمود بالعودة إلى الحلة فأعاده، واجتمع عليه العرب والاكراد.

خروج مسعود ابن السلطان محمد على أخيه محمود:

تقدم لنا أنّ السلطان ولى على الموصل إبنه مسعودا، ومعه حيوس بك وأن السلطان محمود اودبيس بن صدقة سارا إلى الحلّة. فلما توفي السلطان محمد، وولي إبنه محمود، وسار مسعود من الموصل مع أتابك حيوس بك ووزيره فخر الملك علي بن عمار، وقسيم الدولة، وزنكي بن اقسنقر صاحب سنجار، وأبي الهيجاء صاحب اربل، وكرباوي بن خراسان صاحب المواريح وقصدوا الحلة فدافعهم دبيس فرجعوا إلى بغداد. وسار البرسقي إلى قتالهم فبعث إليه حيوس بك بأنهم إنما جاؤا لطلب الصريخ على دبيس صاحب الحلة، فاتفقوا وتعاهدوا، ونزل مسعود بدار الملك ببغداد. وجاء الخبر بوصول عماد الدين منكبرس الشحنة. وقد كان البرسقي هزم إبنه حسيناً كما مر فسار بالعساكر إلى البرسقي، فلما علم بدخول مسعود إلى بغداد عبر دجلة من النعمانية إلى دبيس بن صدقة فاستنجده. وخرج مسعود وحيوس بك والبرسقي ومن معهم للقائهم، وانتهوا إلى المدائن فأتتهم الأخبار بكثرة جموع منكبرس ودبيس فرجعوا، وأجازوا نهر صرصر، ونهبوا السواد من كل ناحية. وبعث المسترشد إلى مسعود والبرسقي ، والحث على الموادعة والصلح وجاءهم الخبر بأن منكبرس ودبيس بعثا مع منصور أخي دبيس وحسين بن أرز وبني منكبرس عسكرا لحماية بغداد فرجع البرسقي إلى بغداد د ليلاً، ومعه زنكي بن أقسنقر، وترك إبنه عزالدين مسعوداً على العسكر بصرصر فالتقى ، ومنع معسكر منكبرس من العبور، وأقام يومين. ثم وافاه كتاب إبنه بأن الصلح تم بين الفريقين بعده ففشل وعبر إلى الجانب الغربي، ومنصور وحسين في أثره ونزلا عند جامع السلطان، وخيم البرسقي عند القنطرة القبلية، وخيم مسعود وحيوس بك عند المارستان، ودبيس ومنكبرس تحت الرقة وعز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفرداً عن أبيه.وكان سبب إنعقاد الصلح أن حيوس بك أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود فأقطعهما أذربيجان. ثم وصل الخبر بمسيرهما إلى بغداد فاستشعر منهما العصيان، وجهز العساكر إلى الموصل فكتب إليه رسوله وبذلك، ووقع الكتاب بيد منكبرس الشحنة فبعث إليه، وضمن له إصلاح الحال له وللسلطان مسعود. وكان منكبرس متزوجاً بأم السلطان مسعود، وإسمها سرجهان فكان يؤثر مصلحته فاستقر الصلح، واتفقوا على إخراج البرسقي من بغداد إلى الملك، وأقام عنده، واستقر منكبرس شحنة بغداد، وساء أثره في الرعية، وتعرض لأموال الناس وحرمهم، وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فاستدعاه إليه فبقي يدافع. ثم سار خوفاً من عامة بغداد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 خروج الملك طغرل على أخيه السلطان محمود:

كان الملك طغرك بن السلطان محمد عند وفاة أبيه مقيماً بقلعة سرجهان، وكان أبوه أقطعه سنة أربع سماوة وآوة وزنجان، وجعل اتابكه الأمير شيركير الذي حاصر قلاع الإسماعيلية كما مر في أخبارهم، وكان عمره يومئذ عشراً فأرسل السلطان محمد الأمير كسعدي أتابكاً له وأعجله إليه، وكان كسعدي حاقداً عليه فحمل طغرل على العصيان، ومنعه من المجيء إلى أخيه وإنتهى ذلك إلى محمود فأرسل إلى أخيه بتحف وخلع، وثلاثين ألف دينار ومواعد جميلة فلم يصيخوا إليها، وأجابه كسعدي اننا في الطاعة ومعترضون لمراسم الملك فسار إليهم السلطان مغذاً ليكبسهم، وجعل طريقه على قلعة شهران، التي فيها ذخائر طغرل وأمواله. ونما الخبر إلى طغرل وكسعدي فخرجا من العسكر في خفية قاصدين شهران وأخلى الطريق عنها لما سبق من اللطف، فوقعا على قلعة سرجهان. وجاء السلطان إلى العسكر فأخذ خزائن أخيه طغرل وفيها ثلاثمائة ألف دينار. ثم أقام بزنجان أياما ولحق منها بالري، ولحق طغرل وكسعدي بكنجة، واجتمع إليه أصحابه، وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه.

فتنة السلطان محمود مع عمه سنجر:

ولما توفي السلطان محمود، وبلغ الخبر إلى أخيه سنجر بخراسان أظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله حتى جلس للعزاء على الرماد، وأغلق بابه سبعاً. ثم سمع بولاية إبنه محمود فنكر ذلك، وعزم على قصد بلاد الجبل والعراق، وطلب السلطنة لنفسه مكان أخيه. وكان قد سار إلى غزنة سنة ثمان وخمسين، وفتحها وتنكر لوزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك ابي المظفر بن نظام الملك، لما بلغه أنه أخذ عليه الرشوة من صاحب غزنة ليثنيه عن قصده إليه، وفعل مثل ذلك بما وراء النهر، وامتحن أهل غزنة بعد فتحها، وأخذ منها أموالاً عظيمة، وشكا إليه الأمراء إهانته أياهم فلما عاد إلى بلخ قبض عليه وقتله، واستصفى أمواله، وكانت لا يعبر عنها: كان فيها من العين وحده ألف ألف دينار مرتين، واستوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك، وكان يعرف بابن الفقير، فلما مات أخوه السلطان محمد عزم على طلب الأمر لنفسه، وعاوده الندم على قتل وزيره أبي جعفر لما يعلم من اضطجاعه بمثلها. ثم انّ السلطان محمود بعث إليه يصطنعه بالهدايا والتحف، وضمن له ما يزيد عن مائتي ألف دينار كل سنة، وبعث في ذلك شرف الدين أنو شروان بن خالد وفخر الدين طغرل فقال لهما سنجر أن ابن أخى صغير، وقد تحكم عليه وزيره وعلى ابن عمر الحاجب فلا بد من المسير، وبعث في مقدمته الأميرأنزوسار السلطان محمود، وبعث في مقدمته الحاجب علي بن محمد، وكان حاجب أبيه قبله، فلما تقاربت المقدمتان بعث الحاجب علي بن عمر إلى الأمير أنز، وهو بجرجان بالعتاب ونوع من الوعيد فتأخر عن جرجان فلحقته بعض العساكر، ونالوا منه. ورجع الحاجب إلى السلطان محمود    بالري فشكر له فعله، وأقاموا بالري. ثم ساروا إلى كرمان، وجاءته الأمداد من العراق مع منكبرس ومنصور بن صدقة أخي دبيس وأمراء فسار إلى همذان، وتوفي وزيره الربيب فاستوزر أبا طالب الشهيري .

ثم سار السلطان في عشرين ألفاً وثمانية عشر فيلاُ، ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد، والأمير أنز والأمير قماج، وكرشاسف بن ضرام بن كاكويه صاحب برد، وهو صهره على أخته، وكان خصيصاً بالسلطان محمد فاستدعاه بعد موته سنجر، وتأخر عنه، وأقطع بلده لقراجا السامر فبادر إليه، وتراجعوا بقرب ساوة في جمادى ثالث عشر فسبقت عساكر السلطان محمود إلى الماء من أجل المسافة التي بين ساوة وخراسان. وكانت عساكر السلطان ثلاثين ألفاً ومعه الحاجب علي بن عمر ومنكبرس وأتابك غزغلي، وبنو برسق وأقسنقر البحاري وقراجاً الساني، ومعه سبعمائة حمل من السلاح. فعندما اصطفوا جلى الحرب إنهزم عساكر السلطان سنجر ميمنة وميسرة، وثبت هو في القلب، والسلطان محمود قبالته.وحمل السلطان سنجر في الفيلة فانهزمت عساكر السلطان محمود، وأسر أتابك غزغلي، وكان يكاتب السلطان سنجر بأنه يحمل إليه ابن أخيه فعاتبه على ذلك، ثم قتله. ونزل سنجر في خيام محمود، واجتمع إليه أصحابه، ونجا محمود من الواقعة، وأرسل دبيس بن صدقة للمسترشد في الخطبة لسنجر فخطب له أواخر جمادى الأولى من السنة، وقطعت خطبة محمود. ثم أنّ السلطان سنجر رأى قلة أصحابه وكثرة أصحاب محمود فراسله في الصلح، وكانت تحضه على ذلك والدته، فامتنع ولحق البرسقي بسنجر، وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من يوم خروجه من بغداد فسار سنجر من همذان إلى الكرخ، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح، ووعده بولاية عهده فأجاب وتحالفاً على ذلك.

وسار محمود إلى عمه سنجر في شعبان بهدية حافلة، ونزل على جدته فتقبل منه شجر، وقدم له خمسة أفراس عربية. وكتب لعماله بالخطبة لمحمود بعده في جميع ولابته، وإلى بغداد بمثل ذلك.

 وأعاد عليه جميع ما أخذه من بلاده سوى الريّ، وصار محمود في طاعة عمه سنجر. ثم سار منكبرس عن السلطان محمود إلى بغداد، وبعث دبيس بن صدقة من منعه من دخولها فعاد ووجه الصلح بين الملكين قد أسفر فقصد    السلطان سنجر مستجيراً به من الاستبداد عليه، ومسيره لشحنة بغداد من غير إذنه. ثم أنّ الحاجب علي بن عمر ارتفعت منزلته في دولته وكثرت سعاية الأمراء عنه، فأضمر السلطان نكبته فاستوحش وهرب إلى قلعة له كان ينزل بها أهله وأمواله، وسار منها إلى خوزستان. وكانت بنو برسق: اسوري وابن أخويه ارغوي بن ملتكي وهدد بن زنكي بعثوا عسكراً يصدونه عن بلادهم، ولقوه قريباً من تستر فهزموه، وجاؤوا به أسيراً. وكاتبوا السلطان محمودا بأمرهم فأمرهم بقتله، وحمل رأسه إليه. ثم أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الذين تهددوا إلى شحنة بغداد فعاد إليها وعزل نائب دبيس بن صدقة.

الحرب بين السلطان محمود وأخيه مسعود:

قد تقدم لنا مسير مسعود إلى العراق وموت أبيه السلطان محمد، وما تقرر بينهما من الصلح ورجوعه إلى الموصل بلده، وان السلطان محموداً زاده اذربيجان، ولحق به قسيم الدولة البرسقي عندما طرده عن شحنة بغداد فأقطعه مسعود مراغة مضافة إلى الرحبة. وكاتب دبيس حيوس بك أتابك مسعود يحرضه على نكبة البرسقي، وانه يباطن السلطان محموداً ووعده على ذلك بالأموال، وحرضهم على طلب الأمر لمسعود ليقع الاختلاف فيحصل له علو الكلمة كما حصل لأبيه في فتنة بركيارق ومحمد. وشعر البرسقي بسعاية ديبس فخشي على نفسه ولحق بالسلطان محمود فقبله وأعلى محله.ثم اتصل بالملك مسعود الأستاذ أبو اسمعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي وكان ابنه أبو الوليد محمد بن أبي اسمعيل يكتب الطغري للملك مسعود، فلما وصل أبوه استوزره مسعود، وعزل أبا علي بن عمار صاحب طرابلس سنة ثلاث عشرة   فأغرى مسعوداً بالخلاف على أخيه السلطان محمود فكتب إليهم السلطان بالترغيب والترهيب فأظهروا أمرهم، وخاطبوا الملك مسعوداً بالسلطان وضربوا له النوب الخمس، وآغزوا إليه السير وهو في خف من العسكر فسار إليهم في خمسة عشرألفاً، وفي مقدمته البرسقي. ولقيهم بعقبة أستراباذ منتصف ربيع الأول سنة أربع عشرة فانهزم الملك مسعود وأصحابه، وأسر جماعة من أعيانهم: منهم الأستاذ أبو اسمعيل الطغرائي وزير الملك مسعود فأمر السلطان محمود بقتله وقال: ثبت عندي فساد عقيدته، وكان قتله لسنة من وزارته. وكان كاتبا شاعرا يميل إلى صناعة الكيمياء، وله فيها تصانيف معدودة.ولما انهزم الملك مسعود لحق ببعض الجبال على إثني عشر فرسخاً من المعركة فاختفى فيه مع غلمان صغار، وبعث يستأمن إلى أخيه فأرسل إليه أقسنقر البرسقي يؤمنه ويجيء به إليه، وخالفه إليه بعض الأمراء، فحرضه على اللحاق بالموصل وأذربيجان ومكاتبة دبيس ومعاودة الحرب فسار معه لذلك. وجاء البرسقي إلى مكانه الأول فلم يجده، فاتبعه إلى أن أدركه على ثلاثين فرسخاً، وأعلمه حال أخيه من الرضا عنه وأعاده فرجع، ولقيه العساكر بأمر السلطان محمود وأنزله عند أمه. ثم أحضره وهش له وبكى وخلطه بنفسه، وذلك لثمانية وعشرين يوما من الخطبة بأذربيجان وأما حيوس بك الأتابك فافترق عن السلطان من المعركة، وسار إلى الموصل، وجمع الغلال من سوادها. واجتمعت إليه العساكر، وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب موريا بالصيد. ثم أجد السير إلى السلطان بهمدان فأمنه، وأحسن إليه، وبلغ الخبر بالهزيمة إلى دبيس وهو بالعراق فنهب البلاد وأخربها، وبعث إليه السلطان فلم يصغ الى كتابه.

رجوع طغرل الى طاعة أخيه السلطان محمود:

قد ذكرنا عصيان طغرل على أخيه السلطان محمود بالريّ سنة ثلاث عشرة، وأن السلطان محمود سار اليه وكبسه فلحق برجهان. ثم لحق منها بكنجة وبلاد أرّان، ومعه أنابك كبغري فاشتدّت شوكته، وقصد التغلب على بلاد اذربيجان، وهلك كبغري في شّوال سنة خمس عشرة، ولحق باقسنقر الارمني صاحب مراغة ليقيم له الاتابكية، وحرضه على قتال السلطان محمود فسار معه الى مراغة، ومروا باردبيل فامتنعت عليهم فساروا الى هرمز. وجاءهم الخبر هنالك بأنّ السلطان محمود بعث الامير حيوس بك الى أذرببجان وأقطعه البلاد، وأنه وصل الى مراغة في عسكر كثيف فساروا عن هرمز الى خونج ،  وانتقض عليهم وراسلوا الامير بشيركين الذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يستنجد به. وكان كبغري الاتابك قبض عليه بعد السلطان محمد، ثم أطلقه السلطان سنجر، وعاد الى أبهر وزنجان، وكانت أقطاعه فأجاب داعيهم، وسار أمامهم الى أبهر، ولم يتم أمرهم فراسلوا السلطان في الطاعة، وعاد طغرل الى أخيه وانتظم أمرهم.

مقتل وزير السلطان محمود:

وكان وزير السلطان محمود شمس الملك بن نظام الملك، وكان حظيا عنده فكثرت سعاية أصحابه فيه. وكان ابن عمه الشهاب أبو المحاسن وزير السلطان سنجر فتوفي، واستوزر سنجر بعده أبا طاهر القمي، عدواً لبني نظام الملك فأغرى السلطان سنجر حتى أمر السلطان محمود بنكبته فقبض عليه، ودفعه الى طغرل فحبسه بقلعة جلجلال. ثم قتله بعد ذلك، وكان أخوه نظام الدين أحمد قد استوزره المسترشد، وعزل به جلال الدين أبا علي بن صدقه فلما بلغه نكبة شمس الملك ومقتله، عزل أخاه نظام الدين وأعاد اإبن صدقة إلى وزارته والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفاة السلطان محمود وملك ابنه د اود:

ثم توفي السلطان محمود بهمذان في شوّال سنة خمس وعشرين، لثلاث عشرة سنة من ملكه، بعد أن كان قبض على جماعة من أمرائه وأعيان دولته. منهم عزيز الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي، وأبو شكين المعروف بشيركين بن حاجب، وابنه عمر، فخافهم الوزير أبو القاسم الشابادي فاغرى بهم السلطان فنكبهم وقتلهم. ولما توفي اجتمع الوزير أبو القاسم والأتابك اقسنقر الأحمديلي وبايعوا لابنه داود، وخطبوا له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان. ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل. ثم سكنت وهرب الوزير إلى الريّ مستجيراً بالسلطان فأمّر بها.

منازعة السلطان مسعود لد اود ابن أخيه واستيلاؤه على السلطان بهمذان:

لما هلك السلطان محمود سار أخوه مسعود من جرجان إلى تبريز فملكها، فسار داود من همذان في ذي القعدة سنة خمس وعشرين، وحاصره بتبريز في محّرم سنة ست وعشرين. ثم اصطلحوا وتأخر داود عن الأمر لعمه مسعود فسار مسعود من تبريز إلى همذان، وكاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل يستنجده فوعده بالنصر، وأرسل إلى المسترشد في طلب الخطبة ببغداد. وكان داود أرسل في ذلك قبله، وردّ المسترشد الأمر في الخطبة إلى السلطان سنجر. ودسّ إليه أن لا يأذن لواحد منهما، وأن تكون الخطبة له فقط. وحسن موقع ذلك عنده، وسار السلطان مسعود إلى بغداد، وسبقه إليها أخوه سلجوق شاه مع أتابك قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان، ونزل في دار السلطان ، واستخلفه الخليفة لنفسه. ولما سار السلطان مسعود أوعز إلى عماد الدين زنكي أن يسير إلى بغداد فسار من الموصل إليها، وأنتهى السلطان مسعود إلى عباسة الخالص، وبرزت إلية عساكر المسترشد وسلجوق شاه. وسار قراجا الساقي إلى مدافعة زنكي فدافعه على المعشوق فهزمه، وأسر كثيراً من أصحابه، ومرّ منهزما إلى تكريت، وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو الأملاك الايوبية فهيأ له المعابر، وعبر دجلة إلى بلاده. وسار السلطان مسعود من العباسة، وقاتلت طلائعه طلائع أخيه سلجوق، وبعث سلجوق يستحث قراجا بعد انهزام زنكي فعاد سريعاً. وتأخر السلطان مسعود بعد هزيمة زنكي، وأرسل إلى المسترشد بأنّ عمه سنجر وصل إلى الريّ عازما على بغداد، ويشير بمدافعته عن العراق، وتكون العراق لوكيل الخليفة. ثم تراسل القوم واتفقوا على ذلك، وتحالفوا عليه، وان يكون مسعود السلطان ولىّ العهد، ودخلوا إلى بغداد فنزل مسعود ديار السلطان وسلجوق دار الشحنة، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

هزيمة السلطان محمود وملك  طغرل أخيه:

لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر من خراسان إلى بلاد الجبال، ومع طغرل ابن أخيه محمد، وانتهى إلى الريّ. ثم سار إلى همذان فسار مسعود لقتاله، ومعه قراجا الساقي وسلجوق شاه. وقد كان الخليفة عزم أن لا يتجهز معهم فأبطأ فبعثوا اليه قراجا فسار إلى خانقين وأقام، وقطعت خطبة سنجر من العراق. وخالفهم إلى بغداد دبيس وزنكي، وقد سمي اقطاعه لسنجر الحلة، وزنكي ولاه شحنة بغداد فرجع المسترشد إلى بغداد لموافقتهما. وسار السلطان وأخوه سلجوق شاه للقاء سنجر. ثم سمعا بكثرة عساكره فتأخرا فسار في طلبهم يوما وليلة. ثم تراجعوا عند الدينور. وكان مسعود يماطل باللقاء انتظارا للمسترشد فلم يجد بّدا من اللقاء فالتقوا على النقيبة، وحمل قراجا عليهم وتورّط في المعركة وأصيب بجراحات. ثم التفوا عليه وأسروه، وانهزم من أصحاب مسعود قزل وقد كان واطأهم على الهزيمة فانهزم السلطان مسعود عند ذلك منتصف ستة وعشرين، وقتل كثير من أكابر الأمراء. ونزل سنجر في خيامهم، وأحضر قراجا فقتله، وجيء اليه بالسلطان مسعود فأكرمه وأعاده إلى كنجة، وخطب للملك طغرل ابن أخيه في السلطنة، وخطب له في جميع البلاد. واستوزر له أبا القاسم الساباذي وزير السلطان محمود، وعاد إلى نيسابور آخر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة.

هزيمة السلطان داود واستيلاء طغرل بن محمد على الملك:

لما وليّ طغرل همذان وولى عنه السلطان سنجر إلى خراسان، وبلغه أن صاحب ما وراء النهر المرخان قد انتقض عليه فسار لإصلاحه، وشغل بذلك فقام الملك داود باذربيجان وبلاد كنجة، وطلب الأمر لنفسه. وجمع العساكر، وسار إلى همذان ومعه برتقش الزكوي وأتابك اقسنقر الأحمديلي، ومعه طغرل بن برسق، ونزل وقد استقر. ثم اضطرب عسكر داود وأحسوا من برتقش الزكوي بالفشل فنهب التركمان. خيامه، وهرب اقسنقر أتابك، وانهزم في رمضان سنة ست وعشرين. ثم قدم بغداد في ذي القعدة ومعه أتابك أقسنقر فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان.

عود السلطان مسعود إلى الملك وهزيمة طغرل:

قد تقدم لنا هزيمة السلطان مسعود من عمه سنجر، وعوده الى كنجة، وولاية طغرل السلطان، ثم محاربة داود ابن أخيه له وانهزام داود، ثم رجوع داود إلى بغداد. فلما بلغ الخبر إلى مسعود جاء إلى بغداد، ولقيه داود قريبا منها، وترجل له عن فرسه، ودخلا بغداد في صفر سنة سبع وعشرين. ونزل مسعود بدار السلطان، وخطب له ولداود بعده، وطلبا من السلطان عسكراً ليسير معهما الى أذربيجان فبعث معهما العساكر الى اذربيجان، ولقيهم اقسنقر الأحمديلي في مراغة بالإقامة والأموال وملك مسعود بلاد أذربيجان، وهرب بين يديه من كان بها من الأمراء، وامتنعوا بمدينة أذربيجان فحاصرهم بها، وملكها عليهم، وقتل منهم جماعة وهرب الباقون.

ثم سار الى همذان لمحاربة أخيه طغرل فهزمه، وملك همذان في شعبان من السنة، ولحق طغرل بالريّ وعاد إلى أصبهان. ثم قتل اقسنقر الأحمديلي بهمذان غيلة، ويقال انّ السلطان مسعوداً دسّ عليه من قتله. ثم سار إلى حصار طغرل بأصبهان ففارقها طغرل إلى فارس، وملكها مسعود، وسار في أثر طغرل إلى البيضاء فاستأمن اليه بعض أمراء طغرل فأمنه. وخشي طغرل أن يستأمنوا اليه فقصد الريّ، وقتل في طريقه وزيره أبا القاسم الساباذي في شوّال السنة، ومثل به غلمان الأمير شيركين الذي سعى في قتله   كما مرّ. ثم سار الأمير مسعود يتبعه إلى أن تراجعا ودارت بينهما حرب شديدة، وانهزم طغرل وأسر من أمرائه الحاجب تنكي، وأتى بقرا، وأطلقهما السلطان مسعود وعاد إلى همذان والله تعالى أعلم.

عود الملك طغرل إلى الجبل وهزيمة السلطان مسعود:

ولما عاد مسعود من حرب أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه، وحاصره بقلعة ، فحصر جمع طغرل العساكر، وتغلب على بلاده وسار إليه، واستعمل بعض قواده فسار مسعود للقائه، ولقيه عند قزوين. وفارق مسعود الأمراء الذين استمالهم طغرل، ولحقوا به فانهزم مسعود في رمضان سنة ثمان وعشرين وبعث إلى المسترشد يستأذنه في دخول بغداد فأذن له. وكان أخوه سلجوق بأصبهان مع نائبه فيها البقش السلاحي. فلما سمع بانهزامه سبقه إلى بغداد، وأنزله المسترشد بدار السلطان، وأحسن إليه بالأموال. ووصل مسعود، وأكثر أصحابه رجلا فوسع عليه الخليفة بالانفاق والمراكب والظهر واللباس والآلة، ودخل دار السلطان منتصف شوّال وأقام طغرل بهمذان.

وفاة طغرل واستيلاء مسعود على الملك:

ولما وصل مسعود إلى بغداد حمل إليه المسترشد ما يحتاج إليه، وأمره بالمسير إلى همذان لمدافعة طغرل ووعده بالمسير معه بنفسه فتبطأ مسعود عن المسير، واتصل جماعة من أمرائه بخدمة الخليفة. ثم أطلع على مداخلة بعضهم لطغرل فقبض عليه، ونهب ماله وارتاب الآخرون فهربوا عن السلطان مسعود. وبعث المسترشد في إعادتهم إليه فدافعه ووقعت لذلك بينهما وحشة فقعد المسترشد عن نصره بنفسه. وبينما هم في ذلك وصل الخبر بوفاة أخيه طغرل في المحرم سنة تسع وعشرين فسار مسعود إلى همذان، واستوزر شرف الدين أنو شروان بن خالد حمله من بغداد، وأقبلت إليه العساكر فاستولى على همذان وبلاد الجبل اه.

الفتنة بين السلطان مسعود وبين د اود الراشد وهزيمة مسعود ومقتل الراشد:

كان الأمير بوزابة صاحب خوزستان، والأمير عبد الرحمن طغرلبك صاحب خلخال، والملك داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان فاجتمعوا عند الأمير منكبرس صاحب فارس. وبلغهم مسير الراشد من الموصل إلى مراغة فراسلوه في أن يجتمعوا عليه، ويردّوه إلى خلافته فاجابهم. وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود فسار إليهم في شعبان سنة اثنتين وثلاثين، وأوقع بهم. وأخذ منكبرس أسيراً فقتله، وافترقت عساكره للنهب فانفرد بوزابة وطغرلبك، وصدقا الحملة عليه فانهزم. وقبض على جماعة من الأمراء مثل صدقة بن دبيس صاحب الحفل، وكافله نمبترين أبي العساكر، وابن أتابك قراسنقر صاحب اذربيجان. وحبسهم بوزابة حتى تحقق قتل منكبرس.ولحق السلطان مسعود باذربيجان منهزماً، وسار داود إلى همذان فملكها، ووصل إليه الراشد هنالك. وأشار بوزابة وكان كبير القوم بالمسير إلى فارس فساروا معه، واستولى عليها وملكها ولما علم شلجوق شاه وهو بواسط أن أخاه السلطان مسعود أمضى إلى أذربيجان سار هو إلى بغداد ليملكها، ودافعه البقش النحت، ونظم الخادم أمير الحاج. وثار العيارون بالبلدان وأفحشوا في النهب فلما رجع الشحنة استأصل شأفتهم، وأخذ المستورين بجنايتهم فجلا الناس عن بغداد إلى الموصل وغيرها. ولما قتل صدقة بن دبيس أقرّ السلطان مسعود أخاه محمدا على الحلة ومعه مهلهل بن أبي العساكر أخو عش المقتول كما مر في أخباره.ثم لما ملك بوزابة فارس رجع مع الراشد والملك داود، ومعهما خوارزم شاه إلى خوزستان وخربوا الجزيرة فسار إليهم مسعود ليمنعهم عن العراق فعاد الملك داود إلى  فارس وخوارزم شاه إلى بلده، وسار الراشد إلى أصبهان فثار به نفر من الخراسانية كانوا في خدمته فقتلوه عند القائلة في خامس عشر رمضان من السنة، ودفن بظاهر أصبهان. ثم قبض السلطان آخر السنة على وزيره أبي البركات بن سلامة الدركريني ، واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الخازن، وكان نبيهاً حسن السيرة فرفع المظالم وأزال المكوس، وأقام وظائف السلطان، وجمع له الأموال وضرب على أيدي العمال، وكشف خيانتهم فثقل عليهم وأوقعوا بينه وبين الأمراء فبالغوا في السعاية فيه عند السلطان. وتولىّ كبرها قراسنقر صاحب أذربيجان فإنه بعث إلى السلطان يتهدّده بالخروج عن طاعته، فأشار على السلطان خواصه بقتله خشية الفتنة فقتله على كره، وبعث برأسه إلى قراسنقر فرضي.وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة لسبعة أشهر من وزارته، واستوزر بعده أباالعز طاهر بن محمد اليزدجردي وزير قراسنقر، ولقب عز الملك، وضاقت الأمور على السلطان وأقطع البلاد للأمراء. ثم قتل السلطان البقش السلاحي الشحنة بما ظهر منه من الظلم والعسف فقبض عليه وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز. ثم أمر بقتله فلما قرب للقتل ألقى نفسه في دجلة فمات، وبعث برأسه إلى السلطان فقدّم مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فحسن أثره. ثم عزله السلطان سنة ست وثلاثين، وولىّ فيها قرلي أميراً آخراً من موالي السلطان محمود، وكانت له يزدجرد والبصرة فأضيف له إليهما والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.

فتنة السلطان سنجر مع خوارزم شاه:

وهو أوّل بداية بني خوارزم قد تقدم لنا ذكر أولية محمد خوارزم شاه، وهو محمد بن أبي شتكين، وانّ خوارزم شاه لقب له، وأنّ الأمير داود حبشي لما ولاه بركيارق خراسان وقتله إكنجي وليّ محمد بن ابي شتكين، ووليّ بعده ابنه أتسز فظهرت كفاءته، وقربه السلطان سنجر واستخلصه واستظهر به في حروبه فزاده ذلك تقدماً ورفعة، واستفحل ملكه في خوارزم. ونمي للسلطان سنجر انه يريد الاستبداد فسار إليه سنة ثلاث وثلاثين، وبرز أتسز ولقيه في التعبئة فلم يثبت وانهزم، وقتل من عسكره خلق، وقتل له ابن فحزن عليه حزناً شديداً. وملك سنجر خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمد، ورتب له وزيراً وأتابك وحاجباً، وعاد إلى مرو منتصف السنة فخالفه أتسز إلى خوارزم، وهرب سليمان شاه ومن معه إلى سنجر، واستولى أتسز على خوارزم وكان من أمره ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.

أخبار خوارزم شاه بخراسان وصلحه مع سنجر:

ولما عاد السلطان منهزما سار خوارزم شاه إلى سرخس في ربيع سنة ست وثلاثين فأطاعته، ثم إلى مرو الشاهجان فشفع فيهم الإمام أحمد الباخرزي، ونزل بظاهرها. وبينما هو قد استدعى أبا الفضل الكرماني وأعيان أهلها للشورى ثار عامّة البلد وقتلوا من كان عندهم من جنده، وامتنعوا فطاولها ودخلها عنوة، وقتل كثيراً من علمائها. ثم رجع في شوّال من السنة إلى نيسابور، وخرج إليه علماؤها وزهادها يسألون معافاتهم مما نزل بأهل مرو فأعفاهم، واستصفى أصحاب السلطان، وقطع خطبة سنجر. وبعث عسكرا إلى أعمال صغد فقاتلوهم أياماً ، ولم يطق سنجر مقاومته لمكان الخطا وجوارهم له. ثم سار السلطان سنجر سنة ثمان وثلاثين لقتال خوارزم، وحاصرها أياما وكاد يملكها، واقتحمها بعض أمرائه يوما فدافعه أتسز بعد حروب شديدة. ثم أرسل أتسز إلى سنجر بالطاعة والعود إلى ما كان عليه فقبله وعاد سنة ثمان وثلاثين.

صلح زنكي مع السلطان مسعود:

ثم وصل السلطان مسعود سنة ثمان وثلاثين إلى بغداد ، عادته فتجهز لقصد الموصل، وكان يحمل لزنكي جميع ما وقع من الفتن فبعث إليه زنكي يستعطفه مع أبي عبد الله بن الأنباري، وحمل معه عشرين ألف دينار، وضمن مائة ألف على أن يرجع عنه فرجع، وانعقد الصلح بينهما. وكان مما رغب السلطان في صلحه أن ابنه غازي بن زنكي هرب من عند السلطان خوفا من أبيه فردّه إلى السلطان، ولم يجتمع به فوقع ذلك من السلطان أحسن موقع والله تعالى أعلم.

وفاة السلطان مسعود وولاية ملك شاه ابن أخيه محمود ثم أخيه محمد من بعده:

ثم توفي السلطان مسعود بهمذان في رجب منتصف سبع وأربعين لاثنتين وعشرين سنة من طلبه الملك، وبه كمل استفحال ملك السلجوقية، وركب الخمول دولتهم بعده،وكان عهد إلى ملك شاه ابن أخيه محمود فلما توفي بايع له الأمير ابن خاص بك وأطاعه العسكر، وانتهى خبر موته إلى بغداد فهرب الشحنة بلاك إلى تكريت، وأمر المقتفي بالحوطة على داره ودور أصحاب السلطان مسعود. ثم بعث السلطان ملك شاه، عسكر الى الجبلة مع سلاد كرد من أمرائه فملكها، وسار إليه بلاك الشحنة فخادعه حتى استمكن منه فقبض عليه وغرّقه، واستبد بلاك الشحنة بالجبلة. وجهز المقتفي العساكر مع الوزير عون الدين بن عبيرة إلى الجبلة. وبعث عساكراً إلى الكوفة وواسط فملكهما ووصلت عساكر السلطان ملك شاه فملكوها، وسار إليهم الخليفة بنفسه فارتجعها منهم وسار منها الى الجبلة ثم إلى بغداد آخر ذي القعدة من السنة.ثم إنّ ابن خاص بك طمع في الانفراد بالأمر فاستدعى محمد بن محمود من خوزستان فأطمعه في الملك ليقبض عليه وعلى أخيه ملك شاه فقبض على ملك شاه أولاً لستة أشهر من ولايته، ووصل محمد في صفر من سنة ثمان وأربعين فأجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة وحمل إليه الهدايا، وقد سعى للسلطان محمد بما انطوى عليه ابن خاص بك. فلما باكره صبيحة وصوله فتك به وقتله وقتل معه زنكي الجاندار قاتل طغابرك، وأخذ من أموال ابن خاص بك كثيراً، وكان صبيا كما بينا، اتصل بالسلطان مسعود وتنصح له فقدمه على سائر العساكر والأمراء. وكان أنوغري التركي المعروف بشملة في جملة ابن خاص بك ومن أصحابه، ونهاه عن الدخول إلى السلطان محمد فلما قتل ابن خاص بك نجا شملة إلى خوزستان، وكان له بها بعد ذلك ملك والله أعلم بغيبه وأحكم.

استيلاء ملك شاه بن محمود على خوزستان:

ولما رجع السلطان ملك شاه محمد بن محمود من حصار بغداد، وامتنع الخليفة من الخطبة له أقام بهمذان عليلاً، وسار أخوه ملك شاه إلى قم وقاشان فأفحش في نهبها ومصادرة أهلها، وراسله أخوه السلطان محمد في الكف عن ذلك فلم يفعل، وسار إلى أصبهان وبعث إلى ابن الجمقري وأعيان البلد في طاعته فاعتذروا بطاعة أخيه فعاث في قراها ونواحيها، فسار السلطان إليه من همذان، وفي مقدمته كرجان الخادم فافترقت جموع ملك شاه ولحق ببغداد. فلما انتهى إلى قوس لقيه موبذان وسنقر الهمذاني فأشاراعليه بقصد خوزستان من بغداد، فسار إلى واسط ونزل بالجانب الشرقي، وسار أثر عسكره في النواحي ففتحوا عليهم البثوق وغرق كثير منهم. ورجع ملك شاه إلى خوزستان فمنعه شملة من العبور فطلب الجوار في بلده إلى أخيه السلطان فمنعه فنزل على الأكراد الذين هنالك، فاجتمعوا عليه من الجبال والبسائط، وحارب شملة، ومع ملك شاه سنقر الهمذاني وموبذان وغيرهما من الأمراء فانهزم شملة، وقتل عامة أصحابه، واستولى ملك شاه على البلاد وسار إلى فارس، والله هو المؤيد بنصره.

وفاة السلطان محمد وولاية عمه سليمان شاه:

ثم توفي السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه آخر سنة أربع وخمسين، وهو الذي حاصر بغداد يطلب الخطبة له من الخليفة ومنعه فتوفي آخر هذه السنة لسبع سنين ونصف من ولايته. وكان له ولد صغير فسلمه إلى سنقر الأحمديلي وقال: هو وديعة عندك فأوصل به إلى بلادك فإنّ العساكر لا تطيعه فوصل به إلى مراغة، واتفق معظم الجند على البيعة لعمه سليمان شاه. وبعث أكابر الأمراء بهمذان إلى أتابك أ،، زين الدين مودود أتابك ووزير مودود وزيره فأطلقه مودود، وجهزه بما يحتاج إليه في سلطانه وسار معه زين الدين على كجك في عساكر الموصل. فلما انتهى إلى بلاد الجبل، وأقبلت العساكر للقاء سليمان شاه ذكر معاملتهم مع السلطان ودالتهم عليه فخشي على نفسه، وعاد إلى الموصل، ودخل سليمان شاه همذان وبايعوا له والله سبحانه وتعالى أعلم.

الحرب بين عسكر خوارزم شاه والأتراك البرزية:

كان هؤلاء الأتراك البرزية من شعوب الترك بخراسان، وأميرهم بقراخان بن داود فأغار عليهم جمع من عساكر خوارزم شاه وأوقعوا بهم وفتكوا فيهم، ونجا بقراخان في الفل منهم إلى السلطان محمود بخراسان ومن معه من الغز مستصرخاً بهم، وهو يظن أن أيتاق هو الذي هيج عليهم فسار الغز معه على طريق نسا وابيورد، وقصدوا إيتاق فلم يكن له بهم قّوة فاستنصر... شاه مازندران فسار لنصره واحتشد في أعماله من الأكراد والديلم والتركمان وقاتلوا الغز والبرزية ، بنواحي دهستان فهزمهم خمسا. وكان إيتاق في ميمنة شاه مازندان، وأفحش الغز في قتل عسكرهم، ولحق شاه مازندان بسارية وايتاق شهرزور وخوارزم. ثم ساروا إلى دهستان فنهبوها وخربوها سنة ست وخمسين وخربوا جرجان كذلك، وافترق أهلها في البلاد. ثم سار إيتاق إلى بقراتكن المتغلب على أعمال قزوين فانهزم من بين يديه ولحق بالمؤيد وصار في جملته واكتسح إيتاق سائر أعماله ونهب أمواله فقوي بها.

وفاة ملك شاه بن محمود:

قد قدمنا أن ملك شاه بن محمود سار بعد أخيه السلطان محمد من خوزستان إلى أصبهان، ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس فأطاعه ابن الخجندي رئيس أصبهان وسائر أهلها وجمع له الأموال. وأرسل ملك شاه إلى أهل الدولة بأصبهان يدعوهم إلى طاعته وكان هواهم مع عمه سليمان فلم يجيبوه إلى ذلك، وبعثوا عن سليمان من الموصل وملكوه، وانفرد ملك شاه بأصبهان واستفحل أمره، وبعث إلى المستنجد في الخطبة له ببغداد مكان عمه سليمان شاه، وان تعاد الأمور إلى ما كانت ويتهدّدهم فوعد الوزير عميد الدين بن هبيرة جارية جاعلها على سمه فسمته في الطعام، وفطن المطبب بأنه مسموم، وأخبر بذلك شملة ودكلا فاحضروا الجارية وأقرت ومات ملك شاه، وأخرج أهل أصبهان أصحابه وخطبوا لسليمان شاه. وعاد شملة إلى خراسان فارتجع ما كان ملك شاه تغلب عليه منها.

قتل سليمان شاه والخطبة لأرسلان:

كان سليمان لما ملّك أقبل على اللهو ومعاقرة الخمر حتى في نهار رمضان، وكان بعاشر الصفاعين والمساخر، وعكف على ذلك مع ما كان فيه من الخرق والتهور فقعد الأمراء عن غشيان بابه، وشكوا إلى شرف الدين كردبازه الخادم، وكان مدبر مملكته، وكان حسن التربية والدين فدخل عليه يوما يعذله على شأنه وهو مع ندمائه بظاهر همذان، فأشار إليهم أن يعبثوا بكردبازة فخرج مغضبا، واعتذر إليه عندما صحا فأظهر له القبول وقعد عن غشيان مجلسه. وكتب سليمان شاه إلى انبانج صاحب الريّ يدعوه إلى الحضور فوعده بذلك إذا أفاق من مرضه. وزاد كردبازة استيحاشاً فاستحلف الأمراء على خلع سليمان، وبدأ بقتل جميع الصفاعين الذين كانوا ينادمونه وقال: إنما فعلته صونا لملكك. ثم عمل دعوة في داره فحضر سليمان شاه والأمراء، وقبض على سليمان شاه ووزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الخاقدي وعلى خواصه، وذلك في شوّال سنة خمس وخمسين، وقتل وزيره وخواصه، وحبس سليمان شاه قليلا ثم قتله.ثم أرسل إلى ايلدكز صاحب أرّان واذربيجان يستقدم ربيبه أرسلان بن طغرل ليبايع له بالسلطنة، وبلغ الخبر إلى انبانج صاحب الريّ فسار إلى همذان، ولقيه كردبازة  وخطب له بالسلطنة بجميع تلك البلاد، وكان ايلدكز قد تزوج بأم أرسلان، وولدت له ابنه البهلوان محمد ومزد أرسلان عثمان فكان ايلدكز أتابك، وابنه البهلوان حاجبا، وهو أخو أرسلان لأمه. وايلدكز هذا من موالي السلطان مسعود. ولما ملك أقطعه ازّان وبعض أذربيجان، وحدثت الفتن والحروب فاعتصم هو بازان ولم يحضر عند أحد من ملوكهم. وجاء إليه أرسلان شاه من تلك الفتن فأقام عنده إلى أن ملك. ولما خطب له بهمذان بعث ايلدكز أتابك إلى انبانج صاحب الريّ، ولاطفه وصاهره في ابنته لابنه البهلوان وتحالفا على الاتفاق.وبعث إلى المستنجد بطلب الخطبة لأرسلان في العراق، وإعادة الأمور إلى عادتها أيام السلطان مسعود فطرد رسوله بعد الإهانة. ثم أرسل ايلدكز إلى أقسنقر الأحمديلي يدعوه إلى طاعة السلطان أرسلان فامتنع، وكان عنده ابن السلطان شاه بن محمود المدني أسلمه إليه عند موته فتهدده بالبيعة له، وكان الوزير ابن هبيرة يكاتبه من بغداد ويقمعه في الخطبة لذلك الصبي قصدا للنصر من بينهم فجهز ايلدكز العساكر مع البهلوان إلى أقسنقر. واستمدّ أقسنقر شاهر بن سقمان القطبي صاحب خلاط، وواصله فمده بالعساكر. وسار نحو البهلوان وقاتله فظفر به ورجع البهلوان إلى همذان مهزوما والله تعالى أعلم.

وفاة خوارزم شاه وولاية إبنه سلطان شاه ومنازعته مع أخيه الأكبر علاء الدين تكش:

 لما انهزم خوارزم شاه أرسلان أمام الخطا رجع إلى خوارزم فمات سنة ثمان وستبن. وولي ابنه سلطان شاه فنازعه أخوه الأكبر علاء الدين تكش، واستنجد بالخطا وسار إلى خوارزم فملكها، ولحق سلطان شاه بالمؤيد صريخا فسار معه بجيوشه، ولقيهم تكش فانهزم المؤيد وجيء به أسيراً إلى تكش فقتل بين يديه صبراً. وعاد أصحابه إلى نيسابور فولوا إبنه طغان شاه أبو بكر ابن المؤيد، وكان من أخبار طغان شاه وتكش ما نذكره في أخبار دولتهم وفي كيفية قتله خبر آخر نذكره هنالك. ثم سار خوارزم شاه سنة تسع وستين إلى نيسابور وحاصرها مرّتين، ثم هزم في الثانية طغان شاه بن المؤيد وأخذه أسيراً، وحمله إلى خوارزم وملك نيسابور وأعمالها وجميع ما كان لبني المؤيد بخراسان، وانقرض أمرهم والبقاء لله وحده والله تعالى أعلم.

قتل السلطان طغرل وملك خوارزم شاه الريّ ووفاة أخيه سلطان شاه:

ولما توفي قزل وولي قتلغ بن أخيه البهلوان كما قلناه أخرج السلطان طغرل من محبسه بالقلعة التي كان بها، وإجتمع إليه العساكر، وسار إلى همذان فلقيه قتلغ بن البهلوان فانهزم بين يديه ولحق بالريّ، وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تتش

ليستنجده فسار إليه سنة ثمان وثمانين وندم قتلغ على استدعائه فتحصن ببعض قلاعه، وملك خوارزم شاه الريّ، وملك قلعة طبرك، وصالح السلطان طغرل وولى على الريّ وعاد إلى خوارزم سنة تسعين فأحدث أحدوثة السلطان شاه نذكره في أخبارهم. وسار السلطان طغرل إلى الريّ فأغار عليها، وفر منه قتلغ بن البهلوان وبعث إلى خوارزم شاه يستنجده، ووافق ذلك وصول منشور من الخليفة إليه بإقطاعه البلاد فسار من نيسابور إلى الريّ، وأطاعه قتلغ وسار معه إلى همذان. وخرج طغرل للقائهم قبل أن يجمع العساكر، ولقيهم قريباً من الريّ في ربيع الأوّل فحمل عليهم، وتورط بينهم فصرع عن فرسه وقتل. وملك خوارزم شاه همذان وتلك البلاد جميعاً. وأنقرضت مملكة بني ملك شاه، وولي خوارزم شاه على همذان، وملك الأعمال فبلغ انبانج بن البهلوان، وأقطع كثيراً منها مماليكه وقدم عليهم مساحق منهم. ثم استولى وزير الخليفة ابن العطاف على همذان وأصبهان والريّ من يد موإليه، وانتزعها منهم خوارزم كما ذكرناه في أخبار الخلفاء. وجاءت العساكر من قبل الخليفة إلى همذان مع أبي الهيجاء الشمس من أمراء الأيوبية، وكان أميراً على القدس فعزلوه عنها وسار إلى بغداد فبعثه الناصر سنة ثلاث وتسعين بالعساكر إلى همذان، ولقي عندها أزبك بن البهلوان مطيعاً فقبض عليه، وأنكر الخليفة ذلك وبعث بإطلاقه، وخلع عليه وعاد إلى بلاد أذربيجان.

وفاة خوارزم شاه أرسلان وملك  ولد ه سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وملك طغان شاه بن المؤيد ثم موته وملك ابنه سنجر شاه:

ثم توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز من مرضه الذي قعد به عن لقاء الخطا، وملك بعده إبنه الأصغر سلطان شاه محمود في تدبير أمه. وكان إبنه الأكبر علاء الدين تكش مقيماً في إقطاعه بالجند فاستنكف من ولاية أخيه الأصغر، وسار إلى ملك الخطا مستنجدا، ورغبة في أموال خوارزم وذخائرها فأنجده بجيش كثيف، وجاء إلى خوارزم ولحق سلطان شاه وأمه بالمؤيد أنه صاحب نيسابور، والمتغلب عليها بعد سنجر وأهدى له، ورغبّه في الأموال والذخائر فجمع وسار معه حتى إذا كان على عشرين فرسخاً من خوارزم سار إليه تكش وهزمه، وجيء بالمؤيد أسيراً إلى تكش فأمر بقتله، وقتل بين يديه صبراً. ولحق أخوه سلطان شاه بدهستان، وتبعه تكش فملكها عنوة وهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش وعاد إلى خوارزم، ولحق سلطان شاه بنيسابور وقد ملكوا طغان شاه أبا بكر بن ملكهم المؤيد.

ثم سار سلطان شاه من عنده إلى غياث الدين ملك الغورية فأقام عنده، وعظم تحكم الخطا على علاء الدين تكش صاحب خوارزم واشتطوا عليه، وبعثوا يطلبونه في المال فأنزلهم متفرقين على أهل خوارزم ودس إليهم فبيتوهم ولم ينج منهم أحد. ونبذ إلى ملك الخطا عهده وسمع ذلك أخوه سلطان شاه فسار من غزنة إلى ملك الخطا يستنجده على أخيه تكش، وادعى أنّ أهل خوارزم يميلون إليه فبعث معه جيشاً كثيفاً من الخطا، وحاصروا خوارزم فامتنعت وأمر تكش بإجراء ماء النهر عليهم فكادوا يغرقون،وأفرجوا عن البلاد، ولاموا سلطان شاه فيما غّرهم فقال لقائدهم : أبعث معي الجيش لمرو لانتزعها من دينار الغزي الذي استولى عليها من حين فتنتهم مع سنجر فبعث معه الجيش، وسار إلى سرخس واقتحمها على الغز الذين بها، وأفحش في قتلهم واستباحهم، ولجأ دينار إلى القلعة فتحصن بها. ثم سار سلطان شاه إلى مرو وملكها وأقام بها، ورجع الخطا إلى ما وراء النهر. وأقام سلطان شاه بخراسان يقاتل الغز فيصيب منهم كثيراً، وعجز دينار ملك الغز عن سرخس فسلمها لطغان شاه بن المؤيد صاحب نيسابور فولى عليها مراموش من أمرائه.ولحق دينار بنيسابور فحاصر دينار سلطان شاه، وعاد إلى نيسابور ولحق به مراموش، وترك قلعة سرخس، ثم ملك نطوش والتم، وضاقت الأمور على طغان شاه بنيسابور إلى أن مات في محرم سنة اثنتين وثمانين، وملك إبنه سنجر شاه، واستبدّ عليه منكلي تكين مملوك جدّه المؤيد. وأنف أهل الدولة من استبداده وتحكمه فلحق أكثرهم بسلطان شاه في سرخس. وسار الملك دينار من نيسابور في جموع الغز إلى كرمان فملكها. ثم أساء منكلي تكين السيرة بنيسابور في الرعية بالظلم، وفي أهل الدولة بالقتل فسار إليه خوارزم شاه علاء الدين تكش في ربيع سنة اثنتين وثمانين فحاصره بنيسابور شهرين، فامتنعت عليه فعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث وثمانين فحاصرها وملكها على الأمان، وقتل منكلي تكين، وحمل سنجر شاه إلى خوارزم فأنزله بها وأكرمه. ثم بلغه أنه يكاتب أهل نيسابور فسمله وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين.قال ابن الأثير: ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مسارب التجارب، وذكر غيره أن تكش بن أرسلان لما أخرج أخاه سلطان شاه من خوارزم، وقصد سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغز ثم ارتجعوها منه ونالوا من عساكره فعبر إلى الخطا واستنجدهم وضمن لهم المال، وجاء بجيوشهم فملك مرو وسرخس ونسا وأبيورد من يد الغز وصرف الخطا فعاد إلى بلادهم. ثم كاتب غياث الدين الغوري وله هراة وبوشنج وباذغيس وأعمالها من خراسان يطلب الخطبة له، ويتوعده فأجابه غياث الدين بطلب الخطبة منه بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان.ثم ساءت سيرة سلطان شاه في خراسان وصادر رعاياها فجهز غياث الدين العساكر مع صاحب سجستان، وأمر ابن أخته بهاء الدين صاحب باميان بالمسير معه فساروا إلى  هراة، وخاف سلطان شاه من لقائهم فرجع من هراة إلى مرو حتى أنصرم فصل الشتاء ثم أعاد مراسلة غياث الدين فامتعض وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالخبر، وكان بالهند فرجع مسرعاً إليه، وساروا إلى خراسان واجتمعوا بعسكرهم الأول على الطالقان. وجمع سلطان شاه جموعه من الغز وأهل الفساد ونزل بجموع الطالقان، وتواقفوا كذلك شهرين، وترددت الرسل بين سلطان شاه وغياث الدين حتى جنح غياث الدين إلى النزول عن بوشنج وباذغيس، وشهاب الدين ابن أخته وصاحب سجستان يجنحان إلى الحرب، وغياث الدين يكفهم حتى حضر رسول سلطان شاه عند غياث الدين لاتمام العقد، والملوك جميعاً حاضرون فقام  الدين العلوي الهودي، وكان يختصه وهو يدلّ عليه فوقف في وسط المجمع، ونادى بفساد الصلح، وصرخ ومزق ثيابه، وحثى التراب على رأسه، وأفحش لرسول سلطان شاه. وأقبل على غياث الدين وقال كيف تعمد إلى ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك والسنجرية فتعطيه هذا الطريد إذ لا يقنع منا أخوه، وهو الملك بخوارزم ولا بغزنة والهند فأطرق غياث الدين ساكنا فنادي في عسكره بالحرب والتقدم إلى مرو الروذ، وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه وأخذ أكثر أصحابه أسرى، ودخل الى مرو في عشرين فارساً.ولحق الفل من عسكره، وبلغ الخبر إلى أخيه تكش فسار من خوارزم لاعتراضه وقدم العساكر إلى جيحون يمنعون إلى الخطا، وسمع أخوه سلطان شاه بذلك فرجع عن جيجون وقصد غياث الدين، ولما قدم عليه أمر بتلقيه وأنزله معه في بيته، وأنزل أصحابه عند نظرائهم من أهل دولته، وأقام إلى انصرام الشتاء. وكتب أخوه علاء الدين خوارزم الى غياث الدين في ردّه إليه ويعدّد فعلاته في بلاده، وكتب مع ذلك إلى نائب غياث الدين بهراة  يتهدّده فامتعض غياث الدين لذلك، وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير له وشفيع في التجافي عن بلاده وانصافه من وراثة أبيه، ويطلب مع ذلك الخطبة له بخوارزم، والصهر مع أخيه شهاب الدين فامتعض خوارزم شاه، وكتب إليه يتهدّده ببعض بلاده فجهز غياث الدين إليه العساكر مع ابن خته أبو غازي إلى بهاء الدين سامي صاحب سجستان، وبعثهما مع سلطان شاه إلى خوارزم، وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده، وكانت إبنته تحت غياث الدين فجمع المؤيد عساكره وخيم بظاهر نيسابور. وكان خوارزم شاه عزم على لقاء أخيه والغورية، وسار عن خوارزم فلما سمع خبر المؤيد عاد إلى خوارزم، واحتمل أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا وترك خوارزم. وسار أعيانها إلى أخيه سلطان شاه والبوغازي ابن أخت غياث الدين فآتوا طاعتهم، وطلبوا الوالي عليهم. وتوفي سلطان شاه منسلخ رمضان سنة تسع، وعاد البوغازي إلى خاله غياث الدين ومعه أصحاب سلطان شاه فاستخدمهم غياث الدين وأقطعهم ، وبلغ وفاة سلطان شاه إلى أخيه خوارزم تكش فعاد إلى خوارزم، وعاد الشحنة إلى بلاد سرخس ومرو فجهز إليهم نائب الغورية بمرو عمر المرغني عسكرا ومنعهم منها حتى يستأذن غياث الدين. وأرسل خوارزم شاه إلى غياث في الصلح والصهر في وفد من فقهاء خراسان، والعلوية يعظمونه ويستجيرون به من خوارزم شاه أن يجيز إليهم الخطا، ويستحثهم ولا يحسم ذلك إلا صلحه أو سكناه بمرو فأجابهم إلى الصلح وعقدوه. ورد على خوارزم تكش بلاد أخيه، وطمع الغز فيها فعاثوا في نواحيها وجاء خوارزم شاه إليها، ودخل مرو وسرخس فسار إلى البورد وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد إبنه فجمع وسار إليها وعاد خوارزم شاه إلى بلده، وأفسد الماء في طريقه واتبعه المؤيد فلم يجد ماء. ثم كرّ عليه خوارزم شاه وقد جهد عسكره العطش فأوقع بهم، وجيء إليه بالمؤيد أسيراً فقتله وعاد إلى خوارزم وقام بنيسابور بعد المؤيد إبنه  طغان شاه، ورجع إليه خوارزم شاه من قابل فحاصره بنيسابور، وبرز إليه فأسره وملك نيسابور. واحتمل طغان شان وعياله وقرابته فأنزلهم بخوارزم.

وجاء في "الكامل في التاريخ" لابن الأثير المؤرخ حول الدولة الخوارزمية:

" ما كان أخذه الغورية من بلاده قد ذكرنا في سنة سبع وتسعين ملك غياث الدين وأخيه شهاب الدين ما كان لخوارزم شاه محمد بن تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها وعودهما عنها بعد أن أقطعا البلاد ومسير شهاب الدين إلى الهند فلما اتصل بخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش عود العساكر الغورية عن خراسان ودخول شهاب الدين الهند أرسل إلى غياث الدين يعاتبه ويقول‏:‏ كنت أعتقد أن تخلف علي بعد أبي وأن تنصرني على الخطا وتردهم عن بلادي فحيث لم تفعل فلا أقل من أن لا تؤذيني وتأخذ بلادي والذي أريده أن تعيد ما أخذته مني إلي وإلا استنصرت عليك بالخطا وغيرهم من الأتراك إن عجزت عن أخذ بلادي فإنني إنما شغلني عن منعكم عنها الاشتغال بعزاء والدي وتقرير أمر بلادي وإلا فما أنا عاجز عنكم وعن أخذ بلادكم بخراسان وغيرها فغالطه غياث الدين في الجواب لتميد الأيام بالمراسلات ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكر فإن غياث الدين كان عاجزًا باستيلاء النقرس عليه‏.‏

فلما وقف خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسل إلى علاء الدين الغوري نائب غياث الدين بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور ويتهدده إن لم يفعل فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك ويعرفه ميل أهل البلد إلى الخوارزميين فأعاد غياث الدين جوابه يقوي قلبه ويعده النصرة والمنع عنه‏.‏

وجمع خوارزم شاه عساكره وسار عن خوارزم نصف ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة فلا قارب نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخي ملكشاه من مرو إلى غياث الدين بفيروزكوه وملك خوارزم شاه مدينة مرو وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين فحصره وقاتله قتالًا شديدًا وطال مقامه عليها وراسله غير مرة في تسليم البلد إليه وهو لا يجيب إلى ذلك انتظارًا للمدد من غياث الدين فبقي نحو شهرين فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية وأنه لا يتعرض إليهم بحبس ولا غيره من الأذى فأجابه إلى ذلك وحلف لهم وخرجوا من البلد وأحسن خوارزم شاه إليهم ووصلهم بمال جليل وهدايا كثيرة وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه وبين غياث الدين وأخيه فأجابه إلى ذلك‏.‏

وسار إلى هراة ومنها إلى إقطاعه ولم يمض إلى غياث الدين تجنيًا عليه لتأخر أمداده ولما خرج الغورية من نيسابور أحسن خوارزم شاه إلى الحسين ابن خرميل وهو من أعيان أمرائهم زيادة على غيره وبالغ في إكرامه فقيل إنه من ذلك اليوم استحلفه لنفسه وأن يكون معه بعد غياث الدين وأخيه شهاب الدين‏.‏

ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس وبها الأمير زنكي فحصره أربعين يومًا وجرى بين الفريقين حروب كثيرة فضاقت الميرة على أهل البلد لا سيما الحطب فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلب منه أن يتأخر عن باب البلد حتى يخرج هو وأصحابه ويترك البلد له فراسله خوارزم شاه في الاجتماع به ليحسن إليه وإلى من معه فلم يجبه إلى ذلك واحتج بقرب نسبه من غياث الدين فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكره فخرج زنكي فأخذ من الغلات وغيرها التي في المعسكر ما أراد لا سيما من الحطب وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمر وكتب إلى خوارزم شاه‏:‏ العود أحمد فندم حيث لم ينفعه الندم ورحل عن البلد وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونه‏.‏

فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان وهو من أمراء الغورية وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يعرفه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعج إذا سمع الغلبة وسمع الخوارزميون الخبر ففارقوا سرخس وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكر في مرو الروذ وأخذ خراجها وما يجاورها فسير إليهم خوارزم شاه عسكرًا مع خاله فلقيهم محمد بم جربك وقاتلهم وحمل بلت في يده على صاحب علم الخوارزمية فضربه فقتله وألقى علمهم وكسر كوساتهم فانقطع صوتها عن العسكر ولم يروا أعلامهم فانزموا وركبهم الغورية قتلًا وأسرًا نحو فرسخين فكانوا ثلاثة آلاف فارس وابن جربك في تسع مائة فارس وغنم جميع معسكرهم فلما سمع خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم وأرسل إلى غياث الدين في الصلح

فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني ومرغن من قرى الغور فقبض عليه خوارزم شاه‏.‏

ذكر حصر خوارزم شاه هراة وعوده عنها

لما أرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح وأجابه عن رسالته مع الحسين المرغني مغالطًا قبض خوارزم شاه على الحسين وسار إلى هراة ليحاصرها فكتب الحسين إلى أخيه عمر بن محمد المرغني أمير هراة يخبره بذلك فاستعد للحصار‏.‏

وكان سبب قصد خوارزم شاه حصار هراة أن رجلين أخوين ممن كان يخدم محمدًا سلطان شاه اتصلا بغياث الدين بعد وفاة سلطان شاه فأكرمهما غياث الدين وأحسن إليهما يقال لأحدهما الأمير الحاجي فكاتبا خوارزم شاه وأطمعاه في البلد وضمنا له تسليمه إليه فسار لذلك ونازل المدينة وحصرها فسلم الأمر عمر المرغني أمير البلد مفتاح الأبواب إليهما وجعلهما على القتال ثقة منه بهما وظنا منه أنهما عدوًا خوارزم شاه تكش وابنه محمد بعده فاتفق أن بعض الخوارزمية أخبر الحسين المرغني المأسور عند خوارزم شاه بحال الرجلين وأنهما هما اللذان يدبران خوارزم شاه ويأمرانه بما يفعل فلم يصدقه وأتاه بخط الأمير الحاجي فأخذه وأرسله إلى أخيه عمر أمير هراة فأخذهما واعتقلهما وأخذ أصحابهما‏.‏

ثم إن ألب غازي وهو ابن أخت غياث الدين جاء في عسكر من الغورية فنزل على خمسة فراسخ من هراة فكان يمنع الميرة عن عسكر خوارزم شاه ثم إن خوارزم شاه سير عسكرًا إلى أعمال الطالقان للغارة عليها فلقيهم الحسن بن خرميل فقاتلهم فظفر بهم فلم يفلت منهم أحد‏.‏

وسار غياث الدين عن فيروزكوه إلى هراة في عسكره فنزل برباط رزين بالقرب من هراة ولم يقدم على خوارزم شاه لقلة عسكره لان أكثر عساكره كانت مع أخيه بالهند وغزنة فأقام خوارزم شاه على هراة أربعين يومًا وعزم على الرحيل لأنه بلغه انهزام أصحابه بالطالقان وقرب غياث الدين وكذلك أيضًا قرب ألب غازي وسمع أيضًا أن شهاب الدين قد خرج من الهند إلى غزنة وكان وصوله إليها في رجب من هذه السنة فخاف أن يصل بعساكره فلا يمكنه المقام على البلد فأرسل إلى أمير هراة عمر المرغني في الصلح فصالحه على مال حمله إليه وارتحل عن البلد‏.‏

وأما شهاب الدين فإنه لما وصل إلى غزنة بلغه الخبر بما فعله خوارزم شاه بخراسان وملكه لها فسار إلى خراسان فوصل إلى بلخ ومنها إلى باميان ثم إلى مرو عازمًا على حرب خوارزم شاه وكان نازلًا هناك فالتقت أوائل عسكريهما واقتتلوا فقتل من الفريقين خلق كثير ثم إن خوارزم شاه ارتحل عن مكانه شبه المنهزم وقطع القناطر وقتل الأمير سنجر صاحب نيسابور لأنه اتهمه بالمخامرة عليه وتوجه شهاب الدين إلى طوس فأقام بها تلك الشتوة على عزم المسير إلى خوارزم ليحصرها فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فقصد هراة وترك ذلك العزم‏.

ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية

قد ذكرنا مكاتبة الحسين بن خرميل والي هراة خوارزم شاه ومراسلته في الانتماء إليه والطاعة له ترك طاعة الغورية وخداعه لغياث الدين ومغالطته له بالخطبة له والطاعة انتظارًا لوصول عسكر خوارزم شاه ووصول رسول غياث الدين وابن زياد بالخلع إلى ابن خرميل فلما وصلت الخلع إليه لبسها هو وأصحابه وطالبه رسول غياث الدين بالخطبة فقال‏:‏ فاتفق قرب عسكر خوارزم شاه منهم فلما كان يوم الجمعة قيل له في معنى الخطبة فقال‏:‏ نحن في شغل أهم منها بوصول هذا العدو فطالت المجادلات بينهم في ذلك وهو مصر على الامتناع منها ووصل عسكر خوارزم شاه فلقيهم ابن خرميل وأنزلهم على باب البلد فقالوا له‏:‏ قد أمرنا خوارزم شاه أن لا نخالف لك أمرًا فشكرهم على ذلك وكان يخرج إليهم كل يوم وأقام لهم الوظائف الكثيرة‏.‏

وأتاه الخبر أن خوارزم شاه نزل على بلخ فحاصرها فلقيه صاحبها وقاتله بظاهر البلد فلم ينزل بالقرب منها فنزل على أربعة فراسخ فندم ابن خرميل على طاعة خوارزم شاه وقال لخواصه‏:‏ لقد أخطأنا حيث صرنا مع هذا الرجل فإنني أراه عاجزًا‏.‏

وشرع في إعادة العسكر فقال للأمراء‏:‏ إن خوارزم شاه قد أرسل إلى غياث الدين يقول له‏:‏ إنني على العهد الذي بيننا وأنا أترك ما كان لأبيك بخراسان والمصلحة أن ترجعوا حتى ننظر ما يكون‏.‏

فعادوا وأرسل إليهم الهدايا الكثيرة‏.‏ وكان غياث الدين حيث اتصل به وصول عسكر خوارزم شاه إلى هراة فأخذ إقطاع ابن خرميل وأرسل إلى كرزبان وأخذ كل ما له بها من مال‏.‏ وأولاد ودواب وغير ذلك‏.‏

وأخذ أصحابه في القيود وأتاه كتب من يميل إليه من الغوية يقولون له‏:‏ إن رآك غياث الدين قتلك‏.‏

ولما سمع أهل هراة بما فعل غياث الدين بأهل ابن خرميل وماله عزموا على قبضه والمكاتبة إلى غياث الدين بإنفاذ من يتسلم البلد وكتب القاضي صاعد قاضي هراة وابن زياد إلى غياث الدين بذلك فلما سمع ابن خرميل بما فعله غياث الدين بأهله وبما عزم عليه أهل هراة خاف أن يعاجلوه بالقبض فحضر عند القاضي وأحضر أعيان البلد وألان لهم القول وتقرب إليهم وأظهر طاعة غياث الدين وقال‏:‏ قد رددت عسكر خورازم شاه وأريد أن أرسل رسولًا إلى غياث الدين بطاعتي والذي أوثره منكم أن تكتبوا معه كتابًا بطاعتي‏.‏

فاستحسنوا قوله وكتبوا له بما طلب وسير رسوله إلى فيروزكوه وأمره إذا جنه الليل أن يرجع على طريق نيسابور يلحق عسكر خوارزم شاه ويجد السير فإذا لحقهم ردهم إليه‏.‏

ففعل الرسول ما أمره ولحق العسكر على يومين من هراة فأمرهم بالعود فعادوا فلما كان اليوم الرابع من سير الرسول وصلوا إلى هراة والرسول بين أيديهم فلقيهم ابن خرميل وأدخلهم البلد والطبول تضرب بين أيديهم فلما دخلوا أخذ ابن زياد الفقيه فسلمه وأخرج القاضي صاعدًا من البلد فسار إلى غياث الدين بفيروزكوه وأخرج من عنده من الغورية وكل من يعلم أنه يريدهم و سلم أبواب البلد إلى الخوارزمية‏.‏

وأما غياث الدين فإنه برز عن فيروزكوه نحو هراة وأرسل عسكرًا فأخذوا حشيرًا كان لأهل هراة فخرج الخوارزمية فشنوا الغارة على هراة الروذ وغيرها فأمر غياث الدين عسكره بالتقدم إلى هراة وجعل المقدم عليهم علي بن أبي علي وأقام هو بفيروزكوه لما بلغه أن خوارزم شاه على بلخ فسار العسكر وعلى يزكه الأمير أميران بن قيصر الذي كان صاحب الطالقان وكان منحرفًا عن غياث الدين حيث أخذ منع الطالقان فأرسل إلى ابن خرميل يعرفه أنه على اليزك ويأمره بالمجيء إليه فإنه لا يمنعه وحلف له على ذلك‏.‏

فسار ابن خرميل في عسكره فكبس عسكر غياث الدين فلم يلحقوا يركبون خيولهم حتى خالطوهم فقتلوا فيهم فكف ابن خرميل أصحابه عن الغورية خوفًا أن يهلكوا وغنم أموالهم وأسر إسمعيل الخلجي وأقام بمكانه وأرسل عسكره فشنوا الغارة على البلاد باذغيس وغيرها‏.‏

وعظم الأمر على غياث الدين فعزم على المسير إلى هراة بنفسه فأتاه الخبر أن علاء الدين صاحب باميان قد عاد إلى غزنة على ما نذكره فأقام ينتظر ما يكون منهم من الدز‏.‏

وأما بلخ فإن خوارزم شاه لما بلغه قتل شهاب الدين أخرج من كان عنده من الغوريين الذين كان أسرهم في المصاف على باب خوارزم فخلع عليهم وأحسن إليهم وأعطاهم الأموال وقال‏:‏ إن غياث الدين أخي ولا فرق بيني وبينه فمن أحب منكم المقام عندي فليقم ومن وعهد إلى محمد بن علي بن بشير وهو من أكابر الأمراء الغورية فأحسن إليه وأقطعه استمالة للغورية وجعله سفيرًا بينه وبين صاحب بلخ فسير أخاه علي شاه بين يديه في عسكره إلى بلخ فلما قاربها خرج إليه عماد الدين عمر بن الحسني الغورية أميرها فدفعه عن النزول عليها فنزل على أربعة فراسخ عنها فأرسل إلى أخيه خوارزم شاه يعلمه قوتهم فسار إليها في ذي القعدة من السنة فلما وصل إلى بلخ خرج صاحبها فقاتلهم فلم يقو بهم لكثرتهم فنزلوا فصار يوقع بهم ليلًا فكانوا معه على أقبح صورة فأقام صاحب بلخ محاصرًا وهو ينتظر المداد من أصحابه أولاد بهاء الدين صاحب باميان وكانوا قد اشتغلوا عنه بغزنة على ما نذكره‏.‏

فأقام خوارزم شاه على بلخ أربعين يومًا كل يوم يركب إلى الحرب فيقتل من أصحابه كثير ولا يظفر بشيء فراسل صاحبها عماد الدين مع محمد بن علي بن بشير الغوري في بذل بذله له ليسلم إليه البلد فلم يجبه إلى ذلك وقال‏:‏ لا أسلم البلد إلا إلى أصحابه فعزم على المسير إلى هراة فلما سار أصحابه أولاد بهاء الدين صاحب باميان إلى غزنة المرة الثانية على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأسرهم تاج الدين الدز عاد عن ذلك العزم وأرسل محمد بن علي بن بشير إلى عماد الدين نائبه يعرفه حال أصحابه وأسرهم وأنه لم يبق عليه حجة ولا له في التأخر عنه عذر‏.‏

فدخل إليه ولم يزل يخدعه تارة يرغبه وتارة يرهبه حتى أجاب إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له وذكر اسمه على السكة وقال‏:‏ أنا أعلم أنه لا يفي لي فأرسل من يستحلفه على ما أراد فتم الصلح وخرج إلى خوارزم شاه فخلع عليه وأعاده إلى بلده وكان سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة‏.‏

ثم سار خوارزم شاه إلى كرزبان ليحاصرها وبها علي بن أبي علي وأرسل إلى غياث الدين يقول‏:‏ إن هذه كان قد أقطعها عمك لابن خرميل فتنزل عنها فامتنع وقال بيني وبينكم السيف فأرسل اله خوارزم شاه مع محمد بن علي بن بشير فرغبه وآيسه من نجدة غياث الدين ولم يزل به حتى نزل عنها وسلمها وعاد إلى فيروزكوه فأمر غياث الدين بقتله فشفع فيه الأمراء فتركه وسلم خوارزم شاه كرزبان إلى ابن خرميل‏.‏

ثم أسل إلى عماد الدين صاحب بلخ يطلبه إليه ويقول‏:‏ قد حضر مهم ولا غنى عن حضورك فأنت اليوم من أخص أوليائنا فحضر عنده فقبض عيه وسيره إلى خوارزم ومضى هو إلى بلخ فأخذها واستناب بها جعفرًا التركي‏.‏

ذكر ملك خوارزم شاه ترمذ وتسليمها إلى الخطا

لما أخذ خوارزم شاه مدينة بلخ سار عنها إلى مدينة ترمذ مجدًا وبها ولد عماد الدين كان صاحب بلخ فأرسل إليه محمد بن بشير يقول له‏:‏ إن أباك قد صار من أخص أصحابي وأكابر أمراء دولتي وقد سلم إلى بلخ وإنما ظهر لي منه ما أنكرته فسيرته إلى خوارزم مكرمًا محترمًا وأما أنت فتكون عندي أخًا‏.‏

ووعده وأقطعه الكثير فخدعه محمد بن علي فرأى صاحبها أن خوارزم شاه قد حصره من جانب والخطا قد حصره من جانب آخر وأصحابه قد أسرهم الدز بغزنة فضعف نفسه وأرسل من يستحلف له خوارزم شاه فحلف له وتسلم منه ترمذ وسلمها إلى الخطا فلقد اكتسب بها خوارزم شاه سبة عظيمة وذكرًا قبيحًا في عاجل الأمر ثم ظهر للناس بعد ذلك أنه إنما سلمها إليهم ليتمكن بذلك من ملك خراسان ثم يعود إليهم فيأخذها وغيرها منها لأنه لمتا ملك خراسان وقصد بلاد الخطا وأخذها وأفناهم علم الناس أنه فعل ذلك خديعة ومكرًا غفر الله له‏."‏