الدولة العلوية

نشأت الدولة العلوية في النصف الأول من القرن 17م، ونجحت في توحيد البلاد انطلاقا من الجنوب الشرقي، وضمان استمرار الدولة المغربية.

ظهر العلويون كقوة سياسية أثناء الصراع الذي عقب تفكك الدولة السعدية:

أ- بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي سنة 1603م دخل المغرب في تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية سلبية بتفكك سلطة الدولة بين عدة إمارات محلية ( الدلائيون، السملاليون، آل النقسيس، بقايا السعديين، ثم إمارة العلويين..) وبتعرض البلاد لكوارث طبيعية ( سنوات القحط ما بين 1603 و1653) وبتراجع أهمية التجارة المغربية وبوجود الأطماع الأجنبية على السواحل.

 ب- أما العلويون فهم أشراف نزح جدهم الأول من بلاد الحجاز إلى تافيلالت منذ القرن7هـ وكانت لهم مكانة دينية واجتماعية خاصة وسط المجتمع المغربي إلى أن بويع م. الشريف سنة 1631م ليقوم بالجهاد وحماية البلاد أمام أطماع جيرانهم السملاليين والدلائيين. كانت بداية الصراع على يد م. محمد وأخيه م. الرشيد الذي تمكن من توحيد مجموع البلاد تحت حكمه ما بين 1664 و 1670.

تميز عهد م. إسماعيل بتنظيم الدولة وتقويتها وتحريرها وانفتاحها على أوروبا:

أ- بويع م. إسماعيل سنة 1664م في فاس واشتهر بالقوة و الثبات على الدين يقرب منه رجال العلم و أهل الزوايا والفقراء المساكين وعرف بالشجاعة و الدهاء و السياسة . وكان عليه أولا مواجهة عدة معارضات وإخماد الثورات ( ثورة أحمد بن محرز في سوس ثم أهل فاس ثم قبائل الأطلس). واهتم بتنظيم أجهزة الدولة الإدارية والمالية والعسكرية حيث بنى العاصمة مكناس ونظم الجيش في: عبيد البخاري وفرق الاودايا وأقام القصبات العسكرية عبر التراب الوطني لحماية المناطق والثغور.

 ب- على المستوى الخارجي اهتم السلطان إسماعيل بتحرير المراكز الساحلية المحتلة ( محاصرة سبتة مرتين، تحرير المعمورة 1681، طنجة 1684، العرائش 1689) ومع الأتراك في الجزائر تم تأكيد الصلح والحدود بعد مناوشات عديدة، ومع الأوربيين سعى السلطان إلى تصفية الأجواء معهم بهدف تنمية العلاقات التجارية وخاصة مع الانجليز( اتفاقية 1721م).

وقد ارتبطت قوة الدولة في هذا العهد بشخص السلطان الشيء الذي سيخلف بعد وفاته فتنة خطيرة دامت حوالي 30 سنة.

ورد في "تاريخ ابن خلدون" لابن خلدون المجلد الثالث عن الدولة العلوية ما يلي:

" لمّا ظهر محمد بن عَبْد الله بن طاهر بيحيى بن عمرو وكان له من الغناء في حربه ، أقطعه المستعين قطائع من صوافي السلطان بطبرستان كانت منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس ، وفيها أرض موات ذات غياض وأشجار وكلأ، مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب والرعي، وكان عامل طبرستان يومئذ من قبل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمه سليمان بن عَبْد الله بن طاهر وهو أخو محمد صاحب القطائع، وكان سليمان مكفولا لأمه، وقد حظي عندها وتقدم وفرق أولاده في أعمال طبرستان. وأساؤوا السيرة في الرعايا، ودخل حمد بن أوس بلاد الديلم وهم مسالمون، فسبى منهم وانحرفوا لذلك. وجاء نائب حمد بن عَبْد الله لقبض القطائع فحاز فيها تلك الأرض الموات المرصدة المرافق الناس، فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض وهما محمد وجعفر ابنا رستم واستنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلك، فخافهما النائب ولحق بسليمان صاحب طبرستان. وبعث ابنا رستم إلى الديلم يستنجدانهم على حرب سليمان، وبعثا إلى محمد بن إبراهيم من العلويين بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره، فامتنع ودلهما على كبير العلوية بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط، فشخص إليهما وقد اجتمع أهل كلار وسالوس ومقدمهم ابنا رستم وأهل الريان ومعهم الديلم بأسرهم، فبايعوه جميعاً وطردوا عمال  سليمان وابن أوس. ثم انضم إليهم جبال طبرستان وزحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد، وخرج ابن أوس من صارية لمدافعته، فانهزم ولحق بسليمان من سارية، فخرج سليمان لحرب الحسن.  لمّا التقى الجمعان بعث الحسن بعض قواده خالد سليمان إلى سارية، وسمع بذلك سليمان فانهزم، وملك الحسن سارية وبعث بعيال سليمان وأولاده في البحر إلى جرجان. وقيل: إن سليمان انهزم اختياراً لمّا كان بنو طاهر يتهمون به من التشييع. ثم بعث الحسن إلى الري ابن عفه وهو القاسم بن علي بن إسماعيل، ويقال محمد بن جعفر بن عَبْد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين، فملكها. وبعث المستعين جنداً إلى همذان ليمنعها. ولما ملك محمد بن جعفر قائد الحسن بن زيد الري أساء السيرة، وبعث محمد بن طاهر قائد محمد بن ميكال أخو الشاه فغلبه على الرى وانتزعها منه وأسره، نجث إليه الحسن بن زيد قائده دواجن، فهزم ابن ميكال وقتله واسترجع الرى. ثم رجع سليمان بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها، ولحق الحسين بالديلم، وسار سليمان إلى سارية وآمد ومعهم أبناء قارن بن شهرزاد، فصفح عنهم ونهى أصحابه عن المك والأذى. ثم  جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الري من يدي أبي دُلف ، وبعث مصلحا إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد وهزمه، واستولى على طبرستان، ولحق الحسن بالديلم ودخل مفلح آمد وخرب منازل الحسن ورجع إلى موسى بالري.

مقتل باغر:

وكان باغر هذا من قواد الترك ومن جملة بغا الصغير، ولما قتل المتوكل زيد في أرزاقه وأقطعوه قرى بسواد الكوفة وضمنها له بعض أهل باروسما بألفي دينار فطلبه ابن مارمة وكيل باغر، وحبسه، ثم تخلص وسار إلى سامرا، وكانت له ذمة من نصراني عند بغا الصغير، فأجاره النصراني من كيد بغا وأغراه عليه، فغضب لذلك باغر وشكى إلى بغا فأغلظ له القول، وقال: إني مستبدل من النصراني، وافعل فيه بعد ذلك ما تريد، ودس الى النصراني بالحذر من باغر وأظهر عزله، وبقي باغر يتهدده. وقد انقطع عن المستعين، وقد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطان، فسأل المستعين وصيفاً من أعمال إيتاخ وقلدها لباغر، فعذل وصيفاً في الشأن فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة. وتنكر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين بايعوه على المتوكل وجدد عليهم العهد في قتل المستعين وبغا ووصيف، وأن ينصبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لهم. ونما الخبر على الترك إلى المستعين فأحضر بغا ووصيفاً وأعلمهما بالخبر، فحلفا له على العلم وأمروا بحبس باغر ورجلين معه من الأتراك، فسخطوا ذلك، وثاروا فانتهبوا الإصطبل وحضروا الجوثق. وأمر بغا ووصيف وشاهك الخادم وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاده، ونزل على محمد بن طاهر في بيته في المحرم سنة إحدى وخمسين، ولحق به القواد والكتاب والعمال وبنو هاشم، وتخلف جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ، فندم الأتراك وركب جماعة من قوادهم إلى المستعين وأصحابه ليردوهم فأبوا ورجعوا آيسين منه وتفاوضوا في بيعة المعتز.

بيعة المعتز وحصار المستعين

كان قواد الأتراك لمّا جاؤا إلى المستعين ببغداد يعتذرون من فعل ويتطارحون  في الرضا عنهم والرجوع إلى دار مكة وهو يوبخهم ويعدد عليهم إحسانه وإساءتهم، ولم  يزالوا به حتى صرح لهم بالرضا. فقال بعضهم: فإن كنت رضيت فقم واركب معنا إلى  سامرا فكلمه ابن طاهر لسوء خطابهم، وضحك المستعين لعُجمتِهم وجهلهم بآداب الخطاب، وأمر باستمرار أرزاقهم ووعدهم بالرجوع، فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر، وأخرجوا المعتز من محبسه وبايعوا له بالخلافة، وأعطى للناس شهرين.وحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد فامتنع منها وقال: قد خلعت نفسك! فقال أكرهت! فقال ما علمنا ذلك ولا مخلص لنا في إيماننا فتركه. وولوا على الشرطة إبراهيم البربرح وأضيفت له الكتابة والدواوين وبيت المال، وهرب عتاب بن عتاب من القواد إلى بغداد، وقام محمد بن عَبْد الله بن طاهر بالاحتشاد، واستقدم مالك بن طوق في أهل بيته وجنده، وأمر حوبة بن قيس وهو على الأنبار- بالاحتشاد. وكتب إلى سليمان بن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة عن سامرا وشرع في تحصين بغداد وأدار عليها الأسوار والخنادق من الجانبين، وجعل على كل باب  قائداً، ونصب على الأبواب المجانيق والعرادات، وشحن الأسوار بالرماة والمقاتلة، وبلغت النفقة في ذلك ثلثمائة وثلاثين ألف دينار، وفوض للعيارين الرزق وأغدق عليهم، وأنفذ كتب المستعين إلى العمال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد. وكتب المستعين إلى الأتراك يأمرهم بالرجوع عما فعلوا، وكتب المعتز إلى محمد يدعوه إلى بيعته، وطالت المراجعات في ذلك، وكان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص، فاختلفت إليه وهو بالشام كتب المستعين والمعتز يدعوه كل واحد منهما إلى نفسه، فاختار المعتز ورجع إليه، وهرب إليه عَبْد الله بن بغا الصغير من بغداد بعد أن  هرب عنه فقتله. وهرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلع عليه المستعين وضمّ إليه الأشروسنة. ثم عقد المعتز لأخيه إلى أحمد الواثق عن حرب بغداد، وضمّ إليه الجنود مع باكليال من قوادهم، فسار في خمسين ألفاً من الأتراك والفراغنة والمغاربة، وانتهبوا ما ببن عكبرا وبغداد من القرى والضياع وخرّبوها، وهرب إليهم جماعة من أصحاب بغا الصغير ووصلوا إلى باب الشماسية. وولى المستعين على باب الشماسية الحسين بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب، وجعل القواد هنالك تحت يده، ووافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه وأمده ابن طاهر بالشاه بن ميكال وبيدار الطبري. ثم ركب محمد بن عَبْد الله بن طاهر من الغد ومعه بغا ووصيف والفقهاء والقضاة، وذلك عاشر صفر، وبعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعة على المعتزّ ولي عهده فلم يجيبوا، فانصرفوا، وبعث إليه القواد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال. وقدم ذلك اليوم عَبْد الله بن سليمان خليفة بغا من مكة في ثلثمائة رجل. ثم جاء الأتراك من الغد فاقتتلوا مع القواد وانهزم القواد، وبلغ ابن طاهر أن جماعة من الأتراك ساروا نحو النهروان، فبعث قائداً من أصحابه إليهم فرجع منهزماً، واستولى الأتراك على طريق خراسان وقطعوها عن بغداد. ثم بعث المعتز عسكراً آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجانب الغربي، وبعث ابن طاهر إليهم الشاه بن ميكال فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع إلى بغداد فخلع عليه وسائر القواد أربع خلع وطوقاً وسواراً من ذهب لكل واحد. ثم أمر ابن طاهر بهدم الدور والحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحرب، وقدمت عليه أموال فارس والأهواز مع مكحول الأشروسي.

وخرج الأتراك الاعتراضه. وبعث ابن طاهر لحفظه فقدموا به بغداد، ولم يظفر به الأتراك، ومضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن الجسر.  وكان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد والياً على الثغور الجزرية، وأقام ينتظر الجند والمال، فلما بلغه خبر هذه الفتنة جاء على طريق الرقة إلى بغداد، فخلع عليه ابن طاهر وبعثه في جيش كثيف لمحاربتهم، وصار إلى ضبيعة بالسواد فأقام بها. فقال ابن طاهر: لن يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به، ثم ذهب الأتراك وقاتلوا. واتصل الحصار واشتدت الحرب وانتهبت الأسواق، وورد الخبر من الثغور بأن بلكاجور حمل الناس على بيعة المعتز  فقال ابن طاهر: لعله ظن موت المستعين فكان كذلك، ووصل كتابه بأنه جدد البيعة. وكان موسى بن بغا مع الأتراك كما قد قدمنا فاراد الرجوع على المستعين فامتنع اصحابه وقاتلوه فلم يتم له أمره، وفر القطاعون من البصرة ورموا على الأتراك فأحرقوهم، فبعث ابن طاهر إلى المدائن ليحفظها وامده بثلاثة آلاف فارس، وبعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشق الماء إلى خندقها من الفرات وجاء إلى الإسحاقي من قبل المعتز، فسبق المدد الذي جاء من قبل ابن طاهر وملك الأنبار. ورجع حوبة إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر الحسين بن إسمعيل في جماعة من القواد والجند، فاعترضه الأتراك وحاربوه وعاد إلى الأنبار، وتقدم هو لينزل عليهما، وبينما هو يحط الأثقال إذا بالأتراك فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وكانوا قد كمنوا له فخرج الكمين وانهزم الحسين وغرق كثير من أصحابه في الفرات. وأخذ الأتراك عسكره ووصل إلى الياسرية آخر جمادى الآخرة، ومنع ابن طاهر المنهزمين من دخول بغداد، وتوعدهم على الرجوع إليه. وأمده بجند آخر فدخل من الياسرية، وبعث على المخاض الحسين بن علي بن يحيى الأرميني في مائتي مقاتل ليمنع الأتراك من العبور إليه من عدوة الفرات، فوافوه وقاتلوه عليها فهزموه، وركب الحسين في زورق منحدراً، وترك عسكره وأثقاله فاستولى عليها الأتراك، ووصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم. ولحق من عسكره جماعة من القواد والكتاب بالمعتز وفيهم علي ومحمد ابنا الواثق، وذلك أول رجب. ثم كانت بينهم عدة وقعات، وقتل من الفريقين خلق، ودخل الأتراك في كثير من الأيام بغداد وأخرجوا عنها. ثم ساروا إلى المدائن وغلبوا طيها ابن أبي السفاح وملكوها. وجاء الأتراك الذين بالأنبار إلى الجانب الغربي، وانتهوا إلى صرصر وقصر ابن هبيرة، واتصل الحصار إلى شهر ذي القعدة، وخرج ابن طاهر في بعض أيامه في جميع القواد والعساكر، فقاتلهم وانهزموا وقتل منهم خلق، وارتقم الذين كانوا مع بغا ووصيف لذلك فلحقوا بالأتراك. ثم تراجع الأتراك وانهزم أهل بغداد. ثم خرج في ذي الحجة رشيد بن كاووس أخو الأفشين ساعياًَ في الصلح بين الفريقين، واتهم الناس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين، فلما جاء رشيد وأبلغهم سلام المعتز وأخيه أبي أحمد شتموه وشتموا ابن طاهر، وعمدوا إلى دار رشيد ليهدموها، وسأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم فخرج إليهم ونهاهم وبرأ ابن طاهر مما اتهموه به فانصرفوا، وترددت الرسل بين ابن طاهر وبين أبي أحمد فتجدد للعامة والجند سوء الظن. وطلب الجند أرزاقهم فوعدهم بشهرين، وأمرهم بالنزول فأبوا إلا أن يعلمهم الصحيح من رأيه في المستعين. وخاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائن والأنبار، فأصعد المستعين على سطح دار العامة حتى رآه الناس وبيده البردة والقضيب، وأقسم عليهم فانصرفوا. واعتزم ابن طاهر على التحول إلى المدائن، فجاءه وجوه الناس واعتذروا له بالغوغاء فأقصروا بنقل المستعين عن دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم بالرصافة. وأمر القوّاد وبني هاشم بالكون مع ابن طاهر، فركب في تعبية وحلف لهم على المستعين وعلى قصد الإصلاح فدعوا له، وسار إلى المستعين وأغراه به، وأمر بغا ووصيفاً بقتله فلم يفعلا. وجاءه أحمد بن إسرائيل والحسين بن مخلد بمثل ذلك في المستعين، فتغير له ابن طاهر. فلما كان يوم الأضحى وقد حضر الفقهاء والقضاة طالبه ابن طاهر بإمضاء الصلح، فأجاب وخرج إلى باب الشماسية، فجلس هناك ابن طاهر إلى المستعين وأخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه، ويبتذلوا له خمسين ألف دينار، ويعطوه غلة ثلاثين ألف دينار، ويقيم بالحجاز متردداً بين الحرمين، ويكون بغا والياً على الحجاز، ووصيف على الجبل، ويكون ثلث الجباية لابن طاهر، وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك. فامتنع المستعين أولاً من الخلع ظناً منه أن وصيفاً وبغا معه. ثم تبين موافقتهما عليه، فأجاب وكتب بما أراد من الشروط، وأدخل الفقهاء، والقضاة وأشهدهم بأنه قد صير أمره إلى ابن طاهر. ثم أحضر القواد وأخبرهم بأنه ما قصد بهذا الإصلاح إلا حقن الدماء، وأخرجهم الى المعتز ليوافقهم بخطه على كتاب الشرط ويشهدوا على إقراره، فجاؤا بذلك لستٍ خلون من المحرم سنة إثنتين وخمسين ومائتين.

خلع المستعين ومقتله والفتن خلال ذلك

ولما تم ما عقده ابن طاهر ووافى القواد بخط المعتز على كتاب الشروط أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد، وخطب له بها وبايع له المستعين وأشهد على نفسه بذلك، فنقله من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل ومعه عياله وأهله، وأخذ البردة والقضيب والخاتم ومنع من الخروج إلى مكة، فطلب البصرة فمنع منها، وبعث إلى واسط. فاستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل، ورجع أخوه أبو أحمد إلى سامرا. وفي آخر المحرم انصرف أبو الساج دبواز بن درموسب إلى بغداد، فقلده ابن طاهر معاون السواد، فبعث معه مؤنة إليها لطرد الأتراك والمغاربة عنها، وسار هو إلى الكوفة. ثم كتب المعتز إلى ابن طاهر بإسقاط بغا ووصيف ومن معهما من الدواوين، وكان محمد أبو عون من قواد ابن طاهر قد تكفل لأبي إسحق بقتلهما، وعقد له المعتز على اليمامة والبحرين والبصرة. ونمي الخبر إليهما بذلك فركبا إلى ابن طاهر وأخبراه الخبر وأن القوم قد نقضوا العهد. ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد، وكان في حجرها فاستوهبت له الرضا من المعتز، وكذا فعل أبو أحمد مع بغا، وكتب لهم المعتز جميعاً بالرضا. ثم رغب الأتراك في إحضارهما بسامرا، فكتب بذلك ودس إلى ابن طاهر بمنعهما فخرجا فيمن معهما ولم يقدر ابن طاهر على منعهما. وحضرا بسامرا  فعقد إليهما  المعتز على أعمالهما، ورد البريد إلى موسى بن بغا الكبير. ثم كانت فتنة بين جند بغداد وابن طاهر في شهر رمضان، جاؤا إليه يطلبون أرزاقهم قال: كتبت إلى أمير المؤمنين في ذلك فكتب إلي إن كنت تريد لجند لنفسك فأعطهم، وإن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم. فشغبوا ففرق فيهم ألفي دينار فسكنوا. ثم اجتمعوا ثانية ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا الخيام بباب الشماسية وبنوا البيوت من أ الأعواد والقصب. وجمع محمد بن إبراهيم أصحابه وشحن داره بالرجال، وأرادوا يوم الجمعة أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعد واعتذر بالمرض، فخرجوا إلى الجسر ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر ودفعوهم عنه. ثم دفعوا أصحاب ابن طاهر بإعانة! أهل الجانب الشرقي، وجاء العامة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهر بإحراق الحوانيت إلى  باب الجسر، ومات أصحاب تعبية الحرب وجاء من دله على عورة الجند، فسرح الشاه ابن ميكال وعرض القواد فسار إلى ناحيتهم، وافترقوا وقتل بينهم ابن الخليل .

وحمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عبدون بن الموفق إلى ابن طاهر ومات في خلال ذلك. وأخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد، وذلك أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار، فأخذها عيسى بن فرخانشاه، فأغرى المؤيد بعيسى الأتراك والمغاربة، فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد فحبسهما وقيد المؤيد، فأخذ خطه بخلع نفسه. ثم نمي إليه أن الأتراك يرومون إخراجه من الحبس، فسأل عن ذلك موسى بن بغا فأنكر علم ذلك، وأخرج المؤيد من الغد ميتاً ودفنته أمه، فيقال غطى على أنفه فمات، وقيل أقعد في الثلج ووضع على رأسه. ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى مجلسه.  ثم اعتزم المعتز على قتل المستعين، فكتب إلى محمد بن عَبْد الله بن طاهر أن يسلمه إلى سيما الخادم، وكتب محمد في ذلك إلى الموكلين به بواسط، يقال بل أرسل بذلك أحمد بن طولون، فسار به في القاطون وسلمه إلى سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وقيل ألقاه في دجلة بحجرٍ في رجله، وكانت معه دابته فقتلت معه وحمل رأسه إلى المعتز فأمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة. ثم وقعت فتنة بين الأتراك والمغاربة مستهل رجب، بسبب أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرخانشاه فضربوه وأخذوا دابته لمّا أمرهم المؤيد، فامتعضت المغاربة له ونكروا على الأتراك وغلبوهم على الجوسق، وأخذوا دوابهم وركبوها وملكوا بيت المال. واستجاش الأتراك بمن كان منهم في الكرخ والدور، وانضم الغوغاء والشاكرية إلى المغاربة، فضعفت الأتراك عن لقائهم وسعى بينهم جعفر بن عَبْد الواحد في الصلح، فتوادعوا أياماً. ثم اجتمع الأتراك على حين افتراق المغاربة، فقصد محمد بن راشد ونصر بن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان عنده حتى تسكن الهيعة، فدس للاتراك بخبرهما وجاؤا فقتلوهما في منزله وبلغ ذلك المعتز فهم بقتل ابن عون ثم نفاه".

وورد في المجلد الرابع من "تاريخ ابن خلدون" أيضاً:

" أخبار الدولة العلوية المزاحمة لدولة بني العبّاس:

ونبدأ منهم بدولة الأدارسة بالمغرب الأَقصى. قد تقدّم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعليّ بن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة، وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتى قتل المتولون كَبِر ذلك، منهم حِجْر بن عديّ وأصحابه، ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية فكان من قَتِله بِكربلاء ما هو معروف، ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد، وبيعة مروان، وخرج عبيد الله بن زياد عن الكوفة، وسَمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليهم سليمان بن صُرَد، ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم.

ثم خرج المختار بن أبي عُبَيد بالكوفة طالباً بدم الحسين رضي الله عنه، وداعياً لمحمد بن الحنفيّة وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسمّاهم شرطة الله، وزحف إليه عبيد الله بن زياد فهزمه المختار وقتله، وبلغ محمد بن الحنفيَة من أحوال المختار ما نقمه عليه ،فكتب إليه بالبراءة منه فصار إلى الدعاء لعبد الله بن الزبير. ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن عليّ بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خُراسان فقُتِل وصُلِب كذلك، وطلت دماء أهل البيت في كل ناحية، وقد تقدّم ذلك كله في أخبار الدولتين.

ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلويّة وذهبوا طرائق قِدَداً، فمنهم الإمامية القائلون بوصيّة النبي صلى الله عليه وسلم لعلىّ بالإمامة، ويسمّونه الوصىّ بذلك، ويتبرؤون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم، وخاصموا زيدا بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمَوا بذلك رافضة.

ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل علي وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة وإن كان عليّ أفضل، وهذا مذهب زيد وأتباعه، وهم جمهور الشيعة، وأبعدهم عن الانحراف والغلو.

ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية وبنيه من بعد الحسن والحسين، ومن هؤلاء كانت شيعة بني العبّاس القائلون بوصيّة أبي هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بالإمامة. وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة، وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان. ولما صار أمر بني أمية إلى اختلال ،أجمع أهل البيت بالمدينة، وبايعوا بالخلافة سّراٌ لمحمد بن عبد الله بن حسن المُثّنى بن الحسن بن عليّ وسلّم له جميعهم، وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وهو المنصور، وبايع له فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم، ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتّجان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون أنّ إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لإنعقاد هذه البيعة من قبل، وربّما صار إليه الأمر عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن عليّ. وكان أبو حنيفة يقول بفضله، ويحتج إلى حقّه فتأذّت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور، حتى ضرب مالك على الفتيا في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء.

(ولما انقرضت) دولة بني أمية، وجاءت دولة بني العبّاس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور سعى عنده ببني حسن، وأنّ محمد بن عبد الله يروم الخروج، وأنّ دعاته ظهروا بخراسان فحبس المنصور لذلك بني حسن وإخوته وإبراهيم وجعفر، وعلي القائم، وابنه موسى بن عبد الله، وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل واسحاق بنو عمّه إبراهيم بن الحسن في خمسة وأربعين من أكابرهم وحبسوا بقصر ابن هُبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا لطلب محمد بن عبد الله فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين، وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها، وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية إلى مكة فملكها، وبعث عاملاٌ إلى اليمن، ودعا لنفسه، وخطب على منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وتسمّى بالمهدي وكان يُدعى النفس الزَكِيّة، وحبس رباح بن عثمان المّري عامل المدينة، فبلغ الخبر إلى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور( ونصه:)

بعد البسملة: من عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله. أما بعد فإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداٌ أن يْقتَّلوا أو يُصلّبوا أو تُقَطَّعَ أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزفي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلاّ الذين تابوا مِن قبل أن تَقِدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيمِ. وأنّ لك ذمة الله وعهده وميثاقه، إن تبت من قبل أن نقدر عليك ان نُؤمّنك على نفسك ووُلدِك وإخوتك ومن تابعك وجميع شيعتك، وأن أُعطيك ألف درهم، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن اطلق من سجن من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا اتبع أحداٌ منكم بمكروه. وإن شئت أن تتوثّق لنفسك فوجِّه إلي من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما احببت والسلام.

(فأجابه) محمد بن عبد الله بكتاب نصه بعد البسملة: من عبد الله محمد .المهدي أمير المؤمنين ابن عبد الله محمد.أمّا بعد "طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحقّ لقوم يؤمنون إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاٌ يستضعف طائفةٌ منهم يُذبّحُ أبناءُهم ويستحي نساءهُم إنّه كان من المفسدين،ونريد ان نَمُنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةٌ ونجعلهم الوارثين، ونُمكِن لهم في الأرض ونُرِي فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون، وأنا أعرض عليك من الامان مثل الذي أعطيتني فقد تعلم أنّ الحقّ حقّنا، وأنّكم إنّما اُعطيتُموه بنا، ونهضتم فيه بسعينا وحزتموه بفضلنا، وأنّ أبانا علياٌّ عليه السلام، كان الوصيّ والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء!

وقد علمتم أنه ليس أحد من بني هاشم يشدّ بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا ونسيبنا، وإنّا بنو بنته فاطمة في الإسلام من بينّكم فإنّا أوسط بني هاشم نسباٌ وخيرهم أماٌّ وأباٌ، لم تلدني العجم، ولم تعرف فيّ أمّهات الأولاد، وأن الله عز وجل لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيّين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن أصحابه أقدمهم إسلاماٌ وأوسعهم علماٌ وأكثرهم جهاداٌ عليّ بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهنّ خديجة بنت خُويلِد أول من آمن بالله وصلى إلى القِبلَةِ، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المتولدين في الإسلام سيّدا شباب أهل الجنة، ثم قد علمت أن هاشماٌ ولد علياٌّ مرتين من قبل جدّي الحسن والحسين فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في معنى النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنّة، وأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة، فأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنّة، وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك ووُلدِك ،وكل ما أصبتها إلاّ حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك، وأحرى بقبول الأمان منك. فأمّا أمانك الذي عرضت عليّ فهو أي الأمانات هي؟ أمان ابن  هبيرة أم أمان عمّك عبد الله بن عليّ أم أمان أبي مسلم؟ والسلام.(فأجابه المنصور) بعد البسملة: من عبد الله امير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله!. فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جلّ فخرك بالنساء لتضلّ به الحفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل الله العم أباً وبدأ به على الولد فقال جلّ ثناؤه عن نبيّه عليه السلام:{ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب}[سورة]. ولقد علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً  صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه إثنان أحدهما أبى وكفر به إثنان أحدهما أبوك. وأمّا ما ذكرت من النساء وقراباتهنّ فلو أعطى على قرب الأنساب، وحق الأحساب، لكان الخير كلّه لآمنة بنت وهب، ولكنّ الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. وأمّا ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب فإنّ الله لم يهد أحداً من ولدها إلى الإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاًهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنّة غداً. ولكن الله أبى ذلك فقال:{ انك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء}[سورة]، وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب، وفاطمة أمّ الحسين، وأنّ هاشماً ولد علياّ مرّتين، وأنّ عبد المطلب ولد الحسن مرّتين، فخير الأوّلين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يلده  هاشم مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب الآ مرّة واحدة، وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنّ الله عزّ وجل قد أبى ذلك فقال: ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيّين، ولكنكم قرابة ابنته وإنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤمّ فكيف تورث الإمامة من قبلها ولقد طلب بها أبوك من كل وجه، وأخرجها تخاصم، ومرضها سرا ودفنها ليلاً، وأبى الناس إلا تقديم الشيخين: ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصلاة غيره. ثم أخذ الناس رجلاً رجلاً فلم يأخذوا أباك فيهم ثم كان في أصحاب الشورى، فكل دفعه عنها، بايع عبد الرحمن عثمان، وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعداً إلى بيعته فأغلق بابه دونه. ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدّك إلى أبيك الحسن، فسلّمه إلى معاوية بخزف ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالاً من غير حِلّة، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه، فأمّا قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل اباك اهون أهل النار عذاباً فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هيّن، ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الاخر أن يفتخر بالنار، ستردّ فتعلم، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.

وأمّا قولك لم تلدك العجم، ولم تعرف فيك امهات الأولاًد، وأنك أوسط بني هاشم نسباً، وخيرهم أماً وأباً، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً وقدمت نفسك على من هو خير منك أولاً وآخراً واصلاً وفصلاً. فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى والد والده، فانظر وبحك أين تكون من الله غداً وما ولد قبلكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم افضل من عليّ بن الحسين، وهو لأم ولد، ولقد كان خيراً من جدّك حسن بن حسن. ثم ابنه محمد خير من ابيك، وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر وهو خير، ولقد علمت أنّ جدك علياً حكم الحكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فأجمعا على خلعه. ثم خرج عمك الحسين بن علي بن مرجانة فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب كالسبي المجلوب إلى الشام، ثم خرج منكم غيرُ واحدٍ فقتلكم بنو أمية وحرّقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل، حتى خرجنا عليهم فأدركنا يسيركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار كل صلاة مكتوبة، كما يلعن الكفرة فسفّهناهم وكفّرناهم وبيّنا فضله، وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجةً، وظننت أنّا بما ذكرنا من فضل عليّ قدّمناه على حمزة والعبّاس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلماً منهم، وابتلي أبوك بالدماء.

ولقد علمت أنّ مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعبّاس من دون إخوته فنازعنا فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من عمومته أحد حياً إلاّ العبّاس جعفر كل أولئك مضو سالمين مسلماً منهم وابتلى أبوك بالدماء  ،وكان وارثه دون عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلاّ ولده فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث، ولو أن العباس اخرج إلى بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً أو يلحسان جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشنار. ولقد جاء الإسلام والعباس يمون به طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدى عقيلاً يوم بدر، فعززناكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم والسلام.

(ثم عقد) أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمّه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر، وقاتله بالمدينة فهزمه، وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه عليّ بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الاخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استوفيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور، ورجع عيسى إلى المنصور فجهّزه لحرب إبراهيم، أخي محمد، بالعيرة فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه، وقتله حسبما مرّ ذكره هنالك، وقتل معه عيسى بن زيد بن عليّ فيمن قتل من أصحابه.( وزعم ابنّ قُتيبة )أنّ عيسى بن زيد بن عليّ ثار على المنصور بعد قتل أبي مسلم، ولقيه

في مائة وعشرين الفاً، وقاتله أياما إلى أن همّ المنصور بالفرار، ثم اتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بابراهيم بن عبد الله بالبصرة فكان معه هنالك إلى ان لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر.

(ثم خرج بالمدينة أيام المهدي) سنة تسع وستين من بني حسن الحسين بن عليّ بن حسن المثلّث، وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى، وعمّ المهدي، وبويع للرضا من آل محمد وسار إلى مكة، وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي وقد كان قدم حاجّاً من البصرة فولاّه حربه يوم التَرْويَة فقاتله بفجّة على ثلاثة أميال من مكة، وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمّه إدريس بن عبد الله فأفلت من الهزيمة مع من افلت منهم يومئذٍ، ولحق بمصر نازعاً إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين، وكان يتشيّع ،فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الذي كان به مستخفياً، وحمله على البريد إلى المغرب ومعه راشد مولاه فنزل بو ليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة من قبائل البربر، وكبيرهم لعهده فأجاره وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العبّاسية، وكشف القناع واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا.

وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين ودخلت ملوك زناتة أجمع في طاعته، واستفحل مُلْكه، وخاطب إبراهيم بن الاغلب صاحب القَيروان، وخاطب الرشيد بذلك فشدّ إليه الرشيدّ مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويرف بالشمّاخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه ولحق بإدريس مظهراً للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئاً من الدعوة العبّاسية، ومنتحلاً للطالبيين ،واختصه الإمام إدريس وًحلِىَ بعينيه، وكان قد تأبّط سّماً في سنون فناوله اياه عند شكايته من وجع اسنانه فكان فيها فيما زعموا حتفه، ودفن ببوليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشمّاخ، ولحقه راشد بوادي ملوية فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيها راشد يده، وأجاز الشمّاخ الوادي فاعجزه وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام بأمره ولحق به كثير من العرب من إفريقيا والأندلس، وعجز بنو الأغلب امراء إفريقيا عنه فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب الأقصى دولة إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديين عام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر، ونعدّد ملوكهم هناك واحداً واحداً، وانقراض دولتهم وعودها، ونستوعب ذلك كله لانه امّس بالبربر فإنهم كانوا القائمين بدعوتهم.

(ثم خرج يحيى) اخو محمد بن عبد الله بن حسن وإدريس في الدَيْلَم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدت شوكتهم وسرح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الدَيْلَم على ان يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطّه، فتمّ بينهما، وجاء به الفضل فوفّى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقاً سنيّة ،ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت فيه من آل الزبير، فيقال اطلقه بعدها، ووصله بمال، ويقال سمه لشهر من اعتقاله، ويقال اطلقه جعفر بن يحيى افتياتاً فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن، وخفيت دعوة الزيديّة حيناً من الدهر حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على امره".