الحركة العلمية والفكرية في الاندلس الاموي

توجه الامير الاموي عبد الرحمن الداخل ( 756 – 788 م ) بعد ان افلت من يد العباسيين الى الاندلس ليقيم هناك امارة اسلامية استطاعت في زمن قصير ان تنافس العباسيين سياسيّاً وثقافيّاً . وعلى الرغم من هذا التنافس ، فان الصلات الثقافية والحياتية بين الجناحين الشرقي والغربي للامبراطورية الاسلامية لم ينقطع، واستمر العلماء في رحلاتهم من طرف هذه الامبراطورية الى طرفها الاخر منذ اواسط القرن التاسع حاملين معهم اراءهم وعلومهم وكتبهم مما ثبَت الوحدة الثقافية الاسلامية رغم الانقسام السياسي . وقيِّض للاندلس الاموي ان يسطِر صفحة مشرقة في تاريخ الاسلام ، واصبح الجسر الذي عبر فوقه العلم العربي واليوناني الى اوروبا الغربية في القرن الثاني عشر .

يقول صاعد بن احمد بن صاعد الاندلسي ( ت. 1070 م ) في كتابه " طبقات الامم " إن الاقبال على العلم يدأ في الاندلس في القرن التاسع أيام حكم محمد بن عبد الرحمن ( 852 – 866 م ). وكانت المواضيع التي اهتم بها العلماء الاندلسيون الطب والفلك وعلوم الفقه والحديث واللغة بالاضافة الى " العلوم القديمة ". وقام الخليفة المستنصر ( 961 – 976 م ) بجلب امهات المؤلفات العلمية والفكرية من المشرق حتى اصبحت قرطبة بجامعتها ومكتبتها تضارع بغداد كمركز لطلب العلم في العالم الاسلامي . الا ان الامر تغيَر مع اعتلاء ابن المستنصر هشام الثاني الخلافة فأمر باحراق الكتب التي كانت قد جمعت في " العلوم القديمة " مثل المنطق والفلك ارضاء للفقهاء الذين تنكروا لدراسة هذه المواضيع . وبانتصاف القرن الحادي عشر توقف هذا الاضطهاد العلمي وعاد الاقبال على الفلسفة والعلوم الى سابق عهده . وبرز في هذه الفترة عدد من العلماء والفقهاء بينهم الاقليدي ( عبد الرحمن بن اسماعيل ) الذي ألف في المنطق، وابي عثمان سعيد بن فتحون الذي اشتغل بالموسيقى والنحو وألف رسالة في المدخل الى علوم الفلسفة دعاها " شجرة الحكمة " ، ومسلمة بن احمد الجريطي (ت. 1008 م ) مؤلف " الرسالة الجامعة " وهي تلخيص لرسالة
اخوان الصفا ، كما كتب رسالة طويلة في الطلاسم والطبيعيات دعاها " غاية الحكم " .

ومن علماء الاندلس الذين برزوا في هذه الحقبة محمد بن عبد الله بن مسره الذي اتهم بالزندقة فسافر شرقا واتصل بانصار
المعتزلة قبل ان يعود الى الاندلس ويختار حياة الزهد . وهناك عالم اخر سافر شرقا في هذه الفترة هو ابو عمرو الكرماني الذي برز في الهندسة . ومن مؤلفي هذه الحقبة ايضا : ابن الجلاب وابن القناري او القتاري وابن حزم وابن سيده .

كان
ابن باجه واسمه ابو بكر محمد بن الصائغ ابرز واشهر فلاسفة الاندلس في هذه الفترة . ولد في سرقسطة وانتقل الى اشبيلية فغرناطة وتوفي مسموما سنة 1138 م في فاس بالمغرب. وعلى الرغم من ان " الرسائل " الثلاثين التي تركها وصلتنا مبعثرة وغير مترابطة فان سعة اطلاعه برر الاكبار الذي كنه له العلماء اللاحقون . فقد كان شروعه بالابحاث الفلسفية الجدية نقطة تحول في تاريخ الثقافة الاسلامية في الاندلس اذ مهد بها السبيل لابن رشد الذي حمل من بعد ابن باجه مشعل الارسطوطالية .

العلم الثاني في تاريخ الفكر الفلسفي الاندلسي هو
ابن طفيل المولود في قرية صغيرة قرب غرناطه تدعى " وادي آشى " . ولا نعرف بالضبط تاريخ ولادته انما يعتقد أنها جاءت في العقد الاول من القرن الثاني عشر. وكذلك لا نعرف الا القليل عن دراسته إذ قيل إنه درس الطب والفلسفة في اشبيلية وقرطبة .

إتصل إبن طفيل الذي اشتهر بقصته "
حي بن يقظان " بخليفة الموحدين ابي يعقوب يوسف الذي عرف برعايته للعلم وشغفه بالفلسفة فحضنه الخليفة كما حضن رجال العلم الذين قدمهم اليه وابرزهم ابن رشد. وبقي ابن طفيل في البلاط حتى وفاته سنة 1185م عن عمر متقدم .

في مطلع القرن الحادي عشر كان ابن سينا قد اصبح حامل لواء الفلسفة اليونانية في المشرق. وفي اواخر القرن الثاني عشر كان
إبن رشد القرطبي ( 1126 – 1198 م ) ينحاز في المغرب الى ابن سينا بتحمسه للفلسفة اليونانية وبخاصة الى ارسطو . ويعد ابن رشد أول وآخر أرسطوطالي كبير على المسرح الفلسفي في الاسلام. وقد ساعده مركزه كقاض على اشبيلية ، والذي عينه فيه الخليفة ابو يعقوب ، على تخصيص كثير وقته في تفسير كتب ارسطو وشرحها وتلخيصها . لكن وفاة هذا الخليفة المنفتح على العلم أصاب إبن رشد اصابة مؤلمة اذ امر الخليفة الجديد المنصور باحراق كتبه وابعده الى مدينة صغيرة مع عدد من المشتغلين بالفلسفة والعلوم .

برز الى جانب
إبن رشد عدد من الفكرين في الاندلس أهمهم شهاب الدين يحي السهروردي (ت . 1191 م ) السوري الاصل من حلب وصاحب ما اصبح يعرف بالتيار الاشراقي ، وإبن خلدون المولود في الاندلس عام 1332 م والذي يعد ابرز المؤرخين المسلمين قاطبة ، بالاضافة الى كونه فيلسوفا اجتماعيًا . اما تقيم ابن خلدون للفلسفة فاستمده من اصول دينية كلامية معتبراً ان القول بان سلّم الكائنات ينتهي " بعقل اول " هو كلام اعتباطي محض لأن طبيعة الوجود اوسع جدا وأكثر تعقيدا مما يظن الفلاسفة . وأشار الى ان منهج الفلاسفة لا مبرر له . فكل تعليل جاؤوا فيه للعالم الخارجي مبني على افتراض ومستخرج بالقياس ، او بكلام اوضح ، ان ما كان على صورة ما في الذهن بنبغي ان يكون في الواقع . ويؤكد ابن خلدون ان علم ما بعد الطبيعة عاجز عن حل اية قضية من القضايا التي تتصل بمصير الانسان او بخلاصه الاخير .