دولة بني العباس

استمر حكم العباسيين ما يقرب من خمسة قرون وربع القرن، أي من سنة 132 هـ ـ 656 هـ عندما اجتاح المغول بغداد بقيادة هولاكو. وقد تعاقب على الخلافة سبعة وثلاثون خليفة.

يمكننا تقسيم العصر العباسي إلى قسمين كبيرين:

1 ـ العصر العباسي الأول، وهو عصر القوة أو العصر الذهبي. وقد تميز ببسط الدولة سيطرتها على كافة أراضي الخلافة الإسلامية الممتدة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب بغض النظر عن بعض الثورات أو الانتفاضات الفاشلة هنا أو هناك. كما تميز هذا العصر بازدهاره العلمي والاقتصادي والتجاري. فقد أولى الخلفاء العلم والعلماء كل الأهمية وشجعوهم على الاختراعات والاكتشافات. كما قاموا بنقل كتب الفلسفة اليونانية القديمة إلى اللغة العربية فأخذو أحسنها وزادوا عليها، الأمر الذي أدى إلى مواكبة كل جديد من كل ناحية.

ومن ناحية الفتوحات، فقد شهدت الدولة العباسية توسعاً كبيراً. وقد توالى على الخلافة في هذا العصر عشرة خلفاء عباسيين امتد حكمهم من عام 132 هـ حتى عام 247 هـ وهم على التوالي:

ـ عبد الله بن محمد (السفاح) 132 ـ 136 هـ.
ـ عبد الله بن محمد (أبو جعفر المنصور) 137 ـ 158 هـ.
ـ محمد بن عبد الله (المهدي) 158 ـ 169 هـ.
ـ موسى بن محمد (الهادي) 169 ـ 170 هـ.
ـ هارون بن محمد (الرشيد) 170 ـ 193 هـ.
ـ محمد بن هارون (الأمين) (193 ـ 198 هـ.
ـ عبد الله بن هارون (المأمون) 198 ـ 218 هـ.
ـ محمد بن هارون (المعتصم) 218 ـ 227 هـ.
ـ هارون بن محمد (الواثق) 227 ـ 232 هـ.
ـ جعفر بن محمد (المتوكل) 232 ـ 247 هـ.

يمكننا ملاحظة أن مدة خلافة كل خليفة كانت طويلة نوعاً ما، وهذا ما يدل إلى الاستقرار والاطمئنان والعدالة وتفرغ الخليفة لشؤون بلاده ورعاية مصالح رعيته والدفاع عن حدودها في أي بقعة منها. وهذا ما أدى إلى الازدهار والتقدم في كافة المجالات العلمية والأدبية والحضرية.

2- العصر العباسي الثاني وهو عصر الضعف الذي أصاب الدولة العباسية وبالتالي أصاب جميع المسلمين في كافة أنحاء الدولة الإسلامية أو الدويلات الإسلامية التي ظهرت على هامش الدولة العباسية.

وتتميز هذه الفترة الطويلة والتي دامت من 247 ـ 656 بعدة ميزات:

ـ السيطرة العسكرية لغير الخلفاء على مركز الخلافة الإسلامية. فتارة يسيطر الجنود الأتراك وتارة يسيطر الفرس وكلٌّ يدير الحكم على مراده.

ـ ضعف سيطرة الخليفة على مركز الخلافة أدى بالتالي إلى عدم مقدرته بالكامل على السيطرة على أطراف الدولة الإسلامية الشاسعة، مما أدى إلى ظهور الدويلات الإسلامية التي حملت على عاتقها مهمة الدفاع عن الدولة الإسلامية،
كالأيوبيين وآل زنكي في بلاد الشام والحمدانيين في شمال بلاد الشام، والغزنويين في أفغانستان...

وقد قسم هذا العصر تبعاً للسيطرة على مركز الخلافة في
بغداد إلى ثلاثة أقسام:

- عصر سيطرة الأتراك، وقد تميز خلفاء هذه المرحلة بالضعف والهوان يخضعون لسيطرة ونفوذ الأتراك. فلم يكن بيدهم أي شيء. فالعسكر هم الحاكمون الفعليون يخلعون خليفة ويبايعون آخر. وقد امتدت هذه المرحلة حوالى سبع وثمانين سنة من 247 ـ 334 هـ وتعاقب عليها اثنا عشر خليفة هم:

1 ـ المنتصر بالله (محمد بن جعفر المتوكل) 247 ـ 248 هـ.
2 ـ
المستعين بالله (أحمد بن محمد المعتصم) 248 ـ 252 هـ.
3 ـ المعتز بالله (محمد بن جعفر المتوكل) 252 ـ 255 هـ.
4 ـ المهتدي بالله (محمد بن هارون الواثق) 255 ـ 256 هـ.
5 ـ المعتمد على الله (أحمد بن جعفر المتوكل) 256 ـ 279 هـ.
6 ـ المعتضد بالله (أحمد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل) 279 ـ 289 هـ.
7 ـ
المكتفي بالله (علي بن أحمد المعتضد) 289 ـ 295 هـ.
8 ـ المقتدر بالله (جعفر بن أحمد المعتضد) 295 ـ 320 هـ.
9 ـ القاهر بالله (محمد بن أحمد المعتضد) 320 ـ 322 هـ.
10 ـ الراضي بالله (محمد بن جعفر المقتدر) 322 ـ 329 هـ.
11 ـ المتقي لله (إبراهيم بن جعفر المقتدر) 329 ـ 333 هـ.
12 ـ المستكفي بالله (عبد الله بن علي المكتفي) 333 ـ 334 هـ.

- عصر سيطرة آل بويه. امتازت هذه المرحلة بسيطرة «آل بويه» وأصلهم من الفرس على مركز الخلافة وأضحى الحكام لا حول لهم ولا قوة، بل إنهم كانوا يهانون ويضربون. وقد استمرت هذه الفترة مائة وثلاثة عشرة سنة بين 334 و467هـ. وتعاقب في هذه المدة أربعة خلفاء فقط إذ إن أيامهم قد طالت وهم:

1 ـ المطيع لله (الفضل بن جعفر المقتدر) 334 ـ 363 هـ.
2 ـ الطائع لله (عبد الكريم بن الفضل المطيع) 363 ـ 381 هـ.
3 ـ القادر بالله (أحمد بن إسحق بن المقتدر) 381 ـ 422 هـ.
4 ـ القائم بأمر الله (عبد الله بن أحمد القادر) 422 ـ 467 هـ.

- عصر سيطرة
السلاجقة. امتاز خلفاء هذه المرحلة بأنهم على درجة عالية من العدل والتقوى والإحسان والعطف على الناس. وقد أحبتهم الرعية، ولم يكن السلاجقة يتصرفون مع الخليفة ذلك التصرف السيئ الذي كان يقوم به من سبقهم، سواء من الأتراك أم البويهيين. وقد امتدت هذه المرحلة مائتي وتسع سنين من عام 467 هـ حتى عام 656 هـ يوم سقوط بغداد على يد المغول وكان قد تعاقب عليها أثنا عشر خليفة وهم:

1 ـ المقتدي بأمر الله (عبد الله بن محمد بن عبدالله القائم) 467 ـ 487 هـ.
2 ـ المستظهر بالله (أحمد بن عبد الله المقتدي) 487 ـ 512 هـ.
3 ـ المسترشد بالله (الفضل بن أحمد المستظهر) 512 ـ 529 هـ.
4 ـ الراشد بالله (منصور بن الفضل المسترشد) 529 ـ 530 هـ.
5 ـ المقتفي لأمر الله (محمد بن أحمد المستظهر) 530 ـ 555 هـ.
6 ـ المستنجد بالله (يوسف بن محمد المقتفي) 555 ـ 566 هـ.
7 ـ المستضيء بأمر الله (الحسن بن يوسف المستنجد) 666 ـ 575 هـ.
8 ـ الناصر لدين الله (أحمد بن الحسن المستضيء) 575 ـ 622 هـ.
9 ـ الظاهر بأمر الله (محمد بن أحمد الناصر) 622 ـ 623 هـ.
10 ـ المستنصر بالله (منصور بن محمد الظاهر) 623 ـ 640 هـ.
11 ـ المستعصم بالله (عبد الله بن منصور المستنصر) 640 ـ 656 هـ.

- هارون الرشيد. ولي هارون الرشيد الخلافة من سنة 170هـ حتى سنة 193هـ. وكان عمره حين ولي الخلافة اثنتين وعشرين سنة. فلما مات أخوه موسى الهادي جاء إليه يحيى ين خالد البرمكي وهو نائم في فراشه وقال له: قم يا أمير المؤمنين. فقال له الرشيد كم تروعني إعجاباً منك بخلافتي؟ فكيف حالي مع الهادي (وكان هو الخليفة) إذا بلغه هذا؟ فأعلمه يحيى البرمكي بموت أخيه الخليفة وأعطاه خاتمه. وبينما يحيى بن خالد يبشر الرشيد بالخلافة إذ دخل عليهما مبشر بمولود للرشيد فسماه عبد الله. واستوزر الرشيد يحيى بن خالد البرمكي. مات هارون الرشيد ودفن في مدينة طوس من إقليم خراسان وله من العمر سبع وأربعون سنة وخمسة أشهر ومدة خلافته ثلاث وعشرون سنة وشهران.

كان هارون الرشيد وديع الأخلاق محباً للرعية حتى إنه كان يطوف بغداد ليلاً ليرى ما عليه العامة بنفسه. فإن رأى منكراً غيّره. وكان محباً للعلم والعلماء، فبلغت العلوم والآداب في أيامه أوجهاً الأعلى. وكان الخليفة الرشيد كثير العطاء حتى قيل: إنه لم يُرَ خليفة قبله أعطى منه للمال. وكانت أيامه أحسن أيام دولة العباسيين وأكثرها يُمناً وبركة وصفاء. وقد بلغ من الشهرة في حياته وبعد مماته ما لم يبلغه غيره من الخلفاء، وأولع الناس بتدوين مناقبه وأيامه بسبب شهرته وبعد صيته. ناهيك أنه ليس في العالم الشرقي من يجهل اسم هارون الرشيد.

- محمد الأمين. خلافة محمد الأمين من سنة 193 إلى 198 هـ. كان هارون الرشيد قد عهد بالخلافة إلى أولاده
الأمين ثم المأمون ثم المؤمن. وكان الأمين ببغداد حين وفاة أبيه وكان المأمون بمرو. فكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين يخبره بوفاة والده وأرسل له الخاتم والقضيب والبردة. فانتقل الأمين من قصره إلى قصر الخلافة وصلى بالناس الجمعة ثم صعد المنبر فنعى الرشيد وعزى نفسه ووعدهم خيراً. كان الخليفة الأمين ضعيف الرأي منهمكاً باللذات والشهوات مدمناً على الخمر مشتغلاً بولائمه وسهراته.

استوزر الأمين الفضل بن الربيع وزير أبيه. وكان الفضل يخاف من المأمون فحسّن للأمين خلع أخيه وأخذ البيعة لابنه موسى. فخاف الأمين عاقبة هذا الأمر فأغرى الفضل كثيراً من الناس ليحثوا الأمين على ذلك، فلما رأى كثرة مشجعيه أمر بالدعاء لابنه على المنابر ولقبه بالناطق بالحق وأبطل الدعاء للمأمون. ثم أرسل الأمين لأخيه المأمون يأمره بالقدوم عليه فأبى. فأرسل الأمين جيشاً لمقاتلة المأمون تحت قيادة علي بن عيسى فأرسل المأمون جيشه لملاقاته وعليه طاهر بن الحسين. ولقب المأمون نفسه من ذلك الحين بأمير المؤمنين وبايعته شيعته بخراسان. فالتقى الجيشان قرب الري فانهزم جيش الأمين وقتل قائده. وعندما وصل الخبر للأمين، جهز جيشاً ثانياً قوامه عشرون ألفاً بقيادة عبد الرحمن بن جبلة الأنباري وبعثه لملاقاة طاهر بن الحسين لكنه انهزم وفر الجيش وطلبوا الأمان من طاهر بن الحسين فأمنهم، لكنهم عادوا وغدروا به فقاتلهم وغلبهم.

اقترب طاهر بن الحسين من بغداد فوجه إليه الأمين مرة ثالثة جيشاً آخر في عشرين ألفاً بقيادة أحمد بن يزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة. غير أن طاهراً استعمل الحيلة فأوقع بين القائدين فعادا من غير قتال.

سار طاهر بن الحسين إلى بغداد بأمرٍ من المأمون، فبعث الأمين إلى والي الشام ليجمع له الجند لكنهم انقلبوا ضده وكان عليهم الحسين بن علي بن ماهان. وشدد الخناق على الأمين في بغداد، فاستقوى الخليفة بأهل بغداد واستطاعوا أن يهزموا جيش الحسين ويقتلوه. إلا أن طاهر بن الحسين كان قد وصل إلى بغداد فانقسم الناس والأمراء فمنهم من بايع الأمين ومنهم من بايع المأمون.

- عبد الله المأمون من سنة 198 إلى سنة 218 هـ. ضعف أمر الأمين وحاول الهرب من بغداد إلا إنه قتل عام 198 هـ، وانتقل الحكم إلى أخيه عبد الله بن هارون المأمون الذي استقر في مرو إلا أنه كان ضعيفاً فكان الولاة الكبار يرسلون العمال عنهم إلى الأنصار ويتصرفون بشؤون البلاد. وهذا ما أضعف هيبة الحكم، فقامت بعض الثورات التي انتهزت فرصة قتال الأخوين وانشغال الخليفة المأمون فيما بعد عن أمور الحكم. وقد قام أهل بغداد بسبب ما لحقهم من إهمال وتسلط الأمراء فطلبوا البيعة للمنصور بن المهدي لكنه رفض ذلك فطلبوه لإمارة بغداد فقبل معهم.

وكان ممن ثار على الخليفة نصر بن شيش العقيلي وهو من رجالات بني أمية وقد رفض البيعة للمأمون لانصرافه على توليه العرب فسيّر له الخليفة عبد الله بن طاهر بن الحسين الذي شدد عليه فاستسلم فأرسله إلى الخليفة في بغداد عام 210 هـ.

كما خرج في
مصر عبيد الله بن السري. فلما انتهى عبد الله بن طاهر بن الحسين من نصر توجه إلى مصر وتمكن من هزيمة ابن السري وإرغامه على الاستسلام. وأهم هذه الحركات كانت حركة بابك الخرمي التي قامت في أقصى أذربيجان وهي تقوم على الإيمان بعقيدة التناسخ والاعتقاد بوجود إلهين. وقد كان للخرمي جماعة كثيرة فتحرك عام 201 هـ واستطاع أن يحرز بعض النصر وأن يستولي على بعض القلاع، فبعث المأمون الجيوش لقتاله لكنهم لم يستطيعوا هزيمته. ثم أرسل الخليفة القائد تلو القائد لمحاربة بابك لكنهم اخفقوا جميعاً ثم أرسل المأمون لقتاله اسحاق بن إبراهيم. لكن الخليفة توفي قبل أن يعلم بالنصر الذي أحرزه اسحق على الخرمي.

ومن أهم الأحداث التي حدثت على عهد المأمون أنه أظهر القول بخلق
القرآن الكريم وذلك عام 212 هـ وتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة. وفي عام 218 هـ حدثت المحنة للعلماء بسبب هذا القول وتعرضوا للتعذيب ومنهم الإمام أحمد بن حنبل.

انتقلت الخلافة بعد وفاة المأمون عام 218 هـ إلى أخيه المعتصم محمد بن هارون الرشيد الذي ورث عن أخيه عدة مهام صعبة أهمها: مواجهة بابك الخرمي الذي استفحل أمره واعتنق عدد من سكان الجبال مذهبه. وكان المأمون قد بعث إليه بجيش بقيادة اسحق بن إبراهيم فانتصر عليهم ثم سيّر المأمون عام 220 هـ جيشاً آخر بأمرة محمد بن يوسف فانتصر عليهم مجدداً. لكن الهزيمة المنكرة لبابك كانت على يد القائد الذكي «الأفشين» وهو حيدر بن كاوس. وكان معه أيضاً قوة كبيرة أخرى بقيادة «بغا الكبير» فبقي الأفشين سنتين كاملتين في قتال بابك إلى أن تمكن من دخول مدينة «البذ» مقر بابك وحصنه المنيع في رمضان عام 222 هـ. وقد حاول بابك أن يبعد المسلمين عنه بأن يشغلهم بقتال الروم. فقد اتصل بتيوفيل ملك الروم يحثه على مهاجمة المسلمين، فقام تيوفيل بالاعتداء على المسلمين من جهته. وحاول بابك الهروب إلا أن الأفشين ألقى القبض عليه وأرسله إلى الخليفة في
سامراء عام 223 هـ حيث قتل بابك ومن كان معه من الأسرى. وهكذا انتهت حركة بابك الخرمي التي استمرت حوالى 20 عاماً. ومن ناحية الحرب مع الروم فإن تيوفيل بن ميخائيل قد طمع في بلاد المسلمين بعدما علم أن الجيش الإسلامي بغالبيته يحارب بابك في شرقي البلاد فاستغل ذلك واتجه إلى حصن زبطرة فخرب البلاد وسبى النساء وأخذ الأسرى ثم انتقل إلى ملاطية فأغار على أهلها.

وعندما وصل الخبر إلى
المعتصم أعلن النفير ونادى للجهاد وسار على رأس الجيش بنفسه. فطلب أقوى الحصون الرومية فدلوه على «عمورية» وإنها عين النصرانية وأشرف عندهم من القسطنطينية. فعزم على فتح عمورية وكان معه الأفشين على الميمنة وأشناس على المسيرة فوصل الجيش إلى عمورية في 6 رمضان عام 223 ولم يطل حصار المسلمين للحصن حتى فتحوها ودخلها المعتصم ورجاله. وكان لهذا النصر أثر عظيم قوى من معنويات المسلمين وأضعف من معنويات الروم.

بعد وفاة المعتصم عام 227 هـ انتقلت الخلافة إلى ابنه هارون بن محمد الملقب بـ«
الواثق». وقد حفل عهده ببعض الثورات. فقد قام الأعراب بالمدينة عام 230 هـ وعاثوا فيها الفساد فأرسل عليهم الخليفة جيشاً بقيادة "بغا الكبير" فأدب القبائل التي ثارت. وفي دمشق ثارت القيسية وحاصروا أميرهم فبعث إليهم الواثق قوة بقيادة رجاء بن أيوب الحضاري وانتصر عليهم. ثم سار بعدها إلى فلسطين لمقاتلة ابن المبرقع.

وفي خراسان مات عبد الله بن طاهر عام 230 هـ فولى الواثق مكانه ابنه طاهر بن عبد الله فأصبحت ولاية خراسان وراثية في بني طاهر. وفي عهده تبادل المسلمون مع الروم الأسرى. وكان عدد أسرى الروم عند المسلمين كبيراً. وفي عام 232 هـ توفي الواثق وبويع بعده أخوه المتوكل جعفر بن محمد. وعلى عهده منع القول بخلق القرآن وكتب بذلك المنع إلى الأمصار إضافة إلى كثير من الإصلاحات الأخرى. وقد بايع المتوكل لأبنائه الثلاثة من بعده بولاية العهد محمد «
المنتصر»، والزبير «المعتز» وإبراهيم «المؤيد» وقسّم بينهم الولايات. وفي أواخر حياته أراد تقديم المعتز على أخيه المنتصر فطلب من المنتصر أن ينزل عن العهد لأخيه فرفض، فبغضه وراح المتوكل يحط من منزلته أمام الناس. فاتفق القادة الأتراك مع المنتصر على قتل المتوكل وقتلوه في عيد فطر عام 247 هـ. وكان وزيره الفتح بن خاقان على صلة بذلك. أما من ناحية الحروب مع الروم، فقد شهد عهد المتوكل العديد من الحروب معهم. فقد أغاروا على الميناء المصري دمياط عام 238 هـ فأحرقوا ما وصلوا إليه من دورها ونهبوا ما استطاعوا نهبه وقتلوا ما أمكنهم من الرجال وحرقوا المسجد الجامع ثم رجعوا بدون أن يتعرض لهم أحد. وفي عام 241هـ. قتلت ملكة الروم «تيودورة» اثني عشر ألف أسير من المسلمين بعد أن عرضت عليهم التنصر. فمن تنصر فقد نجا ومن رفض فقد حكم على نفسه بالموت.

وفي عام 243 هـ وجه المتوكل من دمشق القائد بغا لغزو بلاد الروم فدخلها على رأس صائفة، ثم غزا أعلى بن يحيى الأرمني الروم على رأس صائفة عام 245 هـ، كما غزاهم في العام التالي. ثم غزاهم أيضاً عبد الله الأقطع. وغزا المسلمون بلاد الروم عن طريق البحر بقيادة الفضل بن قارن إلى انضاليا وفتحوها. وقد غنم المسلمون في هذه المعركة كثيراً، فقد كان ما أخذوه من أسرى الروم أكثر من ثمانية عشر ألفاً.

كذلك أغار البجاة على جيش
مصر فنهبوه ونقضوا العهد الذي كان لهم مع المسلمين فأرسل لهم الخليفة جيشاً بإمرة محمد بن عبد الله القمّي ولقيه البجاة بجيش كبير بقيادة علي بابا فانتصر المسلمون عليهم وأسروا علي بابا وحملوه إلى سامراء. وقد تم على عهد المتوكل فتح صقلية وخاصة مدينة «قصريانة» عام 237 هـ من قبل دولة الأغالبة في القيروان.

وفي سنة 247 هـ قام ابنه المنتصر مع الجنود الأتراك والوزير ابن خاقان بقتل الخليفة المتوكل. وبوفاته ينتهي العصر العباسي الأول أو الذهبي والذي وصل فيه المسلمون إلى أوجهم بفتوحاتهم شرقاً وغرباً وبعلومهم واكتشافاتهم.

ورد في "تاريخ ابن خلدون" لابن خلدون قوله:

" هذه الدولة من دولة الشيعة، وفرقها منهم يعرفون بالكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن عليّ بن الحنفيّة بعد عليّ، ثم بعده إلي ابنه أبي هشام عَبْد الله. ثم بعده إلي محمد بن عليّ بن عَبْد الله بن عبّاس بوصيته كما ذكرنا. ثم بعده إلي ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد، ثم بعده إلي أخيه أبي العبّاس السفّاح، وهو عَبْد الله بن الحارثية، هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية، ويسمّون أيضاً الحرماقّية نسبة إلي أبي مسلم لأنه كان يلقب بحرماق. ولبني العبّاس أيضاً شيعة يسمّون الراوندية من أهل خراسان، يزعمون أنّ أحق الناس بالإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم  هو العبّاس لأنه وارثه وعاصبه، لقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وإنّ الناس منعوه من ذلك وظلموه إلى أن ردّه الله إلى ولده، ويذهبون إلى البراءة من الشيخين وعثمان، ويجيزون بيعة عليّ لأنّ العباس قال له يا ابن أخي هلم ابايعك فلا يختلف عليك إثنان. ولقول داود بن عليّ - عم الخليفة العباسي- على منبر الكوفة يوم بويع السفّاح: يا أهل الكوفة إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلا عليّ بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم، يعني السفّاح.

دولة السفاح

قد تقدّم لنا كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم، ثم استيلاء شيعتهم على خراسان والعراق، ثم بيعة السفّاح بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ثم قتل مروان بن محمد وانقراض الدولة الأموية. ثم خرج بعض أشياعهم وقوّادهم وانتقضوا على أبي العبّاس السفّاح، وكان أوّل من انتقض حبيب بن مرَّة المرَّيّ من قوّاد مروان، وكان بخولان والبلقاء، خاف على نفسه وقومه، فخلع وبيض، ومعناه لبس البياض ونصب الرايات البيض مخالفة لشعار العبّاسية في ذلك. وتابعته قيس ومن يليهم، والسفّاح يومئذ بالحيرة، بلغه أنّ أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابيّ انتقض بقنَّسرين، وكان من قوّاد مروان، ولما انهزم مروان وقدم عليه عَبْد الله بن عليّ بايعه ودخل في دعوة العبّاسية، وكان ولد مسلمة بن عَبْد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فعبث بهم وبنسائهم القائد الذي جاءهم من قبل عَبْد الله بن عليّ. وشكوا ذلك إلي أبي الورد، فقتل القائد، وخلع معه أهل قَّنسرين، وكاتبوا أهل حمص في الخلاف، وقدّموا عليهم أبا محمد عَبْد الله بن يزيد بن معاوية، وقالوا هو السفياني الذي بذكر.ولما بلغ ذلك عَبْد الله بن عليّ، وادع حبيب بن مرّة، وسار إلي أبي الورد بقَّنسرين، ومرّ بدمشق، فخلف بها أبا غانم عَبْد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه وأثقاله، وسار إلي حمص، فبلغه أنّذ أهل دمشق خلعوا وبيّضوا، وقام فيهم بذلك عثمان بن عَبْد الأعلى بن سراقة الأزدي. وأنهم هزموا أبا غانم وعسكره، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما خلف عندهم، فأعرض عن  ذلك وسار للقاء السفياني وأبي داود، وقدّم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف، فكشف ورجع إلي أخيه عَبْد الله منهزماً، فزحف عبد الله في جماعة القوّاد، ولقيهم بمرج الأحزم وهم في أربعين ألفاً، فانهزموا، وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه، فقتلوا جميعاً.وهرب أبو محمد إلي ترمذ، وراجع أهل قَّنسرين طاعة العبّاسيّة، ورجع عَبْد الله بن علي إلي قتال أهل دمشق ومن معهم. فهرب عثمان بن سراقة،  ودخل أهل دمشق في الدعوة، وبايعوا لعبد الله بن عليّ، ولم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز متغيباً إلي أيام المنصور، فقتله زياد بن عَبْد الله الحارثي عامل الحجاز يومئذ، وبعث برأسه إلي المنصور مع إبنين له أسيرين فأطلقهما المنصور.ثم خلع أهل الجزيرة وبيّضوا، وكان السفّاح قد بعث إليهم ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعب من قوّاده، وأنزلهم بحرّان. وكان إسحق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية، فلما بلغته هزيمة مروان سار عنها، واجتمع إليه أهل الجزيرة، وحاصروا موسى بن كعب بحرّان شهرين، فبعث السفاّح أخاه أبا جعفر إليهم، وكان محاصراً لابن هبيرة بواسط، فسار لقتال إسحق بن مسلم، ومرّ بقرقيسيا والرقّة وأهلهما قد خلعوا وبيّضوا. وسار نحو حرّان، فأجفل إسحق بن مسلم عنها، ودخل الرها، وبعث أخاه بكَّضار بن مسلم إلي قبائل ربيعة بنواحي ماردين، ورئيسهم يومئذ برمكة من الحرورية ، فصمد إليهم أبو جعفر فهزمهم وقتل برمكة في المعركة، وانصرف بكّار إلي أخيه إسحق، فخلفه بالرها، وسار إلي شمشاط بمعظم عسكره. وجاء عَبْد الله بن عليّ فحاصره، ثم جاء أبو جعفر فحاصروه سبعة أشهر وهو يقول: لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقّن موت صاحبها. ثم تيقّن موت مروان، فطلب الأمان، واستأذنوا السفّاح، فأمرهم بتأمينه، وخرج إسحق إلي أبي جعفر فكان من آثر أصحابه. واستقام أهل الجزيرة والشام، ووّلى السفّاح أخاه أبو جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى استخلف.

عمال السفاح

ولما استقام الأمر للسفّاح ولى على الكوفة والسواد عمه داود بن علي، ثم عزله وولاه على الحجاز واليمن واليمامة، وولى مكانه على الكوفة عيسى ابن أخيه موسى بن محمد. ثم توفي داود سنة ثلاث وثلاثين، فولى مكانه على الحجاز واليمامة خالد بن زياد بن عبيد الله بن عبيد <*> وعلى اليمن محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عَبْد ... وولى السفّاح على البصرة سفيان بن معاوية المهفبيئ، ثم عزله وولى مكانه عمه سليمان بن علي، وأضاف إليه كور دجلة والبحرين وعمان. وولى عمه إسمعيل بن علي الأهواز، وعمه عَبْد الله بن علي على الشام، وأبا عون عَبْد الملك بن يزيد على مصر، وأبا مسلم على خراسان، وبرمك على ديوان الخراج. وولى عمه عيسى بن علي على فارس، فسبقه إليها محمد بن الأشعث من قبل أبي مسلم. فلما قدم عليه عيسى هم محمد بقتله، وقال: أمرني أبو مسلم أن أقتل من جاءني بولاية من غيره. ثم أقصر عن قتله وأستحلفه بأيمان لا مخارج لها أن لا يعلو منبرأ ما عاش، ولا يتقلد سيفأ إلا في جهاد، فوفى عيسى بذلك بقية عمره.واستعمل بعده على فارس عمه إسمعيل بن علي، واستعمل على الموصل محمد بن صول، فطرده أهلها وقالوا: بل علينا تولى خثعم، وكانوا منحرفين عن بني العباس، فاستعمل السفّاح عليهم أخاه يحيى وبعثه في إثني عشر ألفاً، فنزل قصر الإمارة وقتل منهم إثني عشر رجلاً، فثاروا به وحمل السلاح، فنودي فيهم بالأمان لمن دخل المسجد الجامع، فتسايل الناس عليه، وقد أقام الرجال على أبوابه، فقتلوا كل من دخل. يقال: قتل أحد عشر ألفاً ممن لبث، وما لا يحصى من غيرهم. وسمع صياح النساء بالليل، فأمر من الغد بقتل النساء والصبيان، واستباحهم ثلاثة أيام.وكان في عسكره أربعة آلاف من الزنوج فعانوا في النساء. وركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف، فاعترضته إمرأة وأخذت بعنان دابته وقالت له: ألست من بني هاشم؟ ألست ابن عم الرسول؟ أمَّا تعلم أن المؤمنات المسلمات ينكحهن الزنوج؟ فأمسك عنها وجمع الزنج من الغد للعطاء، وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم. وبلغ السفّاح سوء أمره في أهل الموصل فعزله، وولى مكانه إسمعيل، بن علي، وولى يحيى مكان إسمعيل بالأهواز وفارس. وملك الروم ملطية وقالقيلا. وفي سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم فحصر ملطية، والفتن يومئذ بالجزيرة، وعاملها يومئذ موسى بن كعب بن أسان. فلم يزل حاصرهم حتى نزلوا على الأمان، وانتقلوا إلي بلاد الجزيرة، وحملوا ما قدروا عليه. وخرب الروم ملطية، وساروا عنها إلي مرج الحصى، وأرسل قسطنطين العساكر إلي قالقيلا من نواحي ماردين مع قائده كوشان الأرمني، فحصرها وداخل بعض الأرمن من أهل المدينة فنقبوا له السور، فاقتحم البلد من ذلك النقب وا ستباحها.

موت السفاح وبيعة المنصور

كان أبو العباس قد تحول من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين، فأقام بها سنتين ثم توفي في ذي الحجة سنة ست وثلاثين لثلاث عشرة ليلة خلت منه، ولأربع سنين وثمانية أشهر من لدن بويع، وصلى عليه عمه عيسى ودفن بالأنبار. وكان وزيره أبو الجهم بن عطية، وكان قبل موته قد عهد بالخلافة لأخيه أبي جعفر، ومن بعده لعيسى ابن أخيهما موسى، وجعل العهد في ثوب وختمه بخواتيمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلي عيسى، ولما توفي السفّاح، وكان أبو جعفر بمكة، فأخذ البيعة على الناس عيسى بن موسى، وكتب إليه بالخبر فجزع واستدعى أبا مسلم وكان متأخراً عنه، فأقرأه الكتاب فبكى واسترجع، وسكن أبا جعفر عن الجزع فقال: أخاف شر عَبْد الله بن عليّ، فقال: ألا أكفيكه وعامة جنده أهل خراسان، وهم أطوع لي منه فسري عنه. وبايع له أبو مسلم والناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة. ويقال: إن أبا مسلم كان متقدماً على أبي جعفر، فإن الخبر قد أتاه قبله، فكتب أبو مسلم إليه يعزيه ويهنيه بالخلافة، وبعد يومين كتب له ببيعته. وقدم أبو جعفر الكوفة سنة سبع وثلاثين، وسار منها إلي الأنبار، فسلم إليه عيسى بيوت الأموال والدواوين واستقام أمر أبي جعفر.

وقعة الراوندية

كان هؤلاء القوم من أهل خراسان، ومن أتباع أبي مسلم، يقولون بالتناسخ والحلول، وأن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن الله حل في المنصور وجبريل في الهيثم بن معاوية. فحبس المنصور نحواً من مائتين منهم، فغضب الباقون، واجتمعوا وحملوا بينهم نعشاً كأنهم في جنازة، وجاؤا إلي السجن، فرموا بالنعش وأخرجوا أصحابهم، وحملوا على الناس في ستمائة رجل. وقصدوا قصر المنصور، وخرج المنصور من القصر ماشيا. وجاء معن بن زائدة الشيباني وكان مستخفياً من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة، وقد اشتد طلب المنصور له، فحضر عنده هذا اليوم فتلثما، وترجل وأبلى. ثم جاء إلي المنصور ولجام بغلته في يد الربيع حاجبه، وقال: تنح ذا أنا أحق بهذا اللجام في هذا الوقت وأعظم، فنازل وقاتل حتى ظفر بالراوندية. ثم سأله فانتسب فأمنه واصطنعه.

وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم ووقف على باب المنصور وقال: أنا اليوم بواب ثم قاتلهم أهل السوق، وفتح باب المدينة، ودخل الناس وحمل عليهم خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة حتى قتلوهم عن آخرهم. وأصاب عثمان بن نهيك في الحومة سهم فمات منه بعد أيام، وجعل على الحبس بعده أخاه عيسى، ثم بعده أبا العباس الطوسي، وذلك كله بالهاشمية. ثم أحضر معناً ورفع منزلته وأثنى عليه بما كان منه في ذلك اليوم مع عمه عيسى، فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت إلي الحكومة وجلا حتى رأيت شذتك، فحملني ذلك على ما رأيت مني، وقيل: إنه كان مختفياً عند أبي الخصيب حاجب المنصور، وأنه جاء يوم الراوندية، فاستأذن أبو الخصيب وشاوره المنصور، فأشار ببث المال في الناس، وأبى المنصور إلا الركوب إليهم بنفسه، فخرج بين يديه وأبلى حتى قتلوا. ثم تغيب فاستدناه وأمنه وولاه على اليمن.

انتقاض خراسان ومسير المهدي إليها

كان السفاح قد ولى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الذهلي، بعد انتقاض بسام بن إبراهيم ومهلكه. فلما كان سنة أربعين ثار به بعض الجند وهو بكشماهن وجاؤا إلي منزله، فأشرف عليهم ليلاً من السطح، فزلت قدمه فسقط ومات ليومه. وكان عصام صاحب شرطته، فقام بالأمر بعده. ثم ولى المنصور على خراسان عَبْد الجبار بن عَبْد الرحمن، فقدم علها وحبس جماعة من القواد. اتهمهم بالدعاء للعلوية، منهم مجاشع بن حريث الأنصاري عامل بخارى، وأبو المعرة خالد بن كثير مولى بني تميم عامل قهستان، والحريش بن محمد الذهلي ابن عم أبي داود في آخرين. ثم قتل هؤلاء وألح على عمال أبي داود في استخراج المال، وانتهت الشكوى إلي المنصور بذلك، فقال لأبي أيوب: إنما يريد بفناء شيعتنا الخلع، فأشار عليه أبو أيوب أن تبعث من جنود خراسان لغزو الروم، فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت، واستمكن منه. فكتب إليه بذلك فأجاب بأن الترك قد جاشت، وإن فرقت الجنود خشيت على خراسان. فقال له أبو أيوب: اكتب إليه بأنك ممده بالجيوش، وابعث معها من شئت يستمكن منه، فأجاب عَبْد الجبار بأن خراسان مغلبة في عامها، ولا تحتمل زيادة العسكر. فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله. فبعث إبنه المهدي، فسار ونزل الري.

وقدم خازم بن خزيمة لحرب عَبْد الجبار، فقاتلوه فانهزم وجاء إلي مقطنة وتوارى فيها. فعبر أبى المحشد بن مزاحم من أهل مرو الروذ، وجاء به إلي خازم، فحمله على بعير وعليه جبة صوف، ووجهه إلي عجز البعير، وحمله إلي المنصور في ولده وأصحابه. فبسط إليهم العذاب حتى استخرج الأموال، ثم قطع يديه ورجليه وقتله. وذلك سنة اثنتين وأربعين، وبعث بولده إلي دهلك فعزلهم بها، وأقام المهدي بخراسان، حتى رجع إلي العراق سنة تسع وأربعين . وفي سنة اثنتين وأربعين انتقض عيينة بن موسى بن كعب بالسند، وكان عاملاً عليها من بعد أبيه، وكان أبوه يستخلف المسيب بن زهير على الشرط، فخشي المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن يوليه على الشرط، فحذره المنصور وحرضه على الخلاف فخلع الطاعة. وسار المنصور إلي البصرة وسرح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكي لحرب عيينة، وولاه على السند والهند، فورد السند وغلب عليها. وفي هذه السنة انتقض الأصبهبذ بطبرستان، وقتل من كان في أرضه من المسلمين، فبعث المنصور مولاه أبا الخطيب، وخازم بن خزيمة، وروح بن حاتم في العساكر فحاصروه في حصنه مدة، ثم تحيلوا ففتح لهم الحصن من داخله، وقتلوا المقاتلة، وسبى الذرية، وكان مع الأصبهبذ كبد سم فشربه ومات.

أمر بني العباس

بنو هاشم حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه، وتشاوروا فيمن يعقدون له الخلافة، فاتفقوا على محمد بن عَبْد الله بن الحسن المثنى بن علي، وكان يقال: إن المنصور ممن بايعه تلك الليلة. ولما حج أيام أخيه السفاح سنة ست وثلاثين تغيب عنه محمد وأخوه إبراهيم، ولم يحضرا عنده مع بني هاشم. وسأل عنهما فقال له زياد بن عبيد الله الحرثي أنا آتيك بهما، وكان بمكة، فرده المنصور إلي المدينة. ثم استخلف المنصور وطفق يسأل عن محمد ويختص بني هاشم بالسؤال سراً، فكلهم يقول: إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر، فخافك على نفسه، ويحسن العذر عنه إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، فإنه قال له: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه لا ينام عنك، لكان موسى بن عَبْد الله بن حسن يقول بعد هذا: اللهم اطلب الحسن بن زيد بدمائنا. ثم إن المنصور حج سنة ، وألح على عَبْد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد، فاستشار عَبْد الله سليمان بن علي في إحضاره فقال له: لو كان عافياً عفى عن عمه! فاستمر عَبْد الله على الكتمان، وبث المنصور العيون بين الأعراب في طلبه بسائر بوادي الحجاز ومياهها. ثم كتب كتاباً على لسان الشيعة إلي محمد بالطاعة والمسارعة، وبعثه مع بعض عيونه إلي عَبْد الله، وبعث معه بالمال والألطاف كأنه من عندهم. وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع، فكتب إلي عَبْد الله بن حسن بالخبر، وكان محمد بجهينة، وألح عليه صاحب الكتاب أمر محمد ليدفع إليه كتاب الشيعة. فقال له: اذهب إلي علي بن الحسن المدعو بالأغر يوصلك إليه في جبل جهينة، فذهب وأوصله إليه. ثم جاءهم حقيقة خبره من كاتب المنصور، وبعثوا أبا هبار إلي محمد وعلي بن حسن يحذرهما الرجل، فجاء أبو هبار إلي علي بن حسن وأخبره، ثم سار إلي محمد، فوجد العين عنده جالساً مع أصحابه، فخلا به وأخبره، فقال: وما الرأي؟ قال: تقتله. قال :لا أقارف دم مسلم. قال: تقيده وتحمله معك. قال: لا آمن عليه لكثرة الخوف والإعجال. قال: فتودعه عند بعض أهلك من جهينة. قال: هذه إذن. ورجع فلم يجد الرجل، ولحق بالمدينة. ثم قدم على المنصور وأخبره الخبر، وسمى إسم أبي هبار وكنيته، وقال: معه وبر. فطلب أبو جعفر وبراً المري، فسأله عن أمر محمد فأنكره، وحلف فضربه وحبسه. ثم دعا عقبة بن سالم الأزدي، وبعثه منكراًً بكتاب والطاف من بعض الشيعة بخراسان، إلي  عَبْد الله بن حسن ليظهر على أمره، فجاءه بالكتاب فانتهره، وقال: لا أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل يتردّد إليه حتى قبله وأنس به، وسأله عقبة الجواب فقال: لا أكتب لأحد، ولكن أقرئهم مني سلامأ، وأعلمهم أن إبني خارجان لوقت كذا. فرجع عقبة إلي المنصور فأنشأ الحج، فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم وعبد الله إلي جنبه، ثم دعا بالغداء فأصابوا منه. ثم قال لعبد الله بن حسن قد أعطيتني العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطاناً، فقال: وأنا على ذلك. فلحظ المنصور عقبة بن سالم، فوقف بين عَبْد الله حتى ملأ عينه منه فبادر المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل، وأمر حبسه. وكان محمد يتردّد في النواحي، وجاء إلي البصرة فنزل في بني راهب، وقيل في بني مرّة بن عبيد، وبلغ الخبر إلي المنصور، فجاء إلي البصرة، وقد خرج عنها محمد، فلقي المنصور عمر بن عبيد، فقال له: يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ فقال: لا، فانصرف واشتد الخوف على محمد وإبراهيم، وسار إلي عدن، ثم إلي السند، ثم إلي الكوفة، ثم إلي المدينة. وكان المنصور حج سنة أربعين، وحج محمد وإبراهيم وعزما على اغتيال المنصور وأبى محمد من ذلك. ثم طلب المنصور عَبْد الله بإحضار ولديه، وعنفه وهم به، فضمنه زياد عامل المدينة. وانصرف المنصور، وقدم محمد المدينة قدمة، فتلطف له زياد وأعطاه الأمان له. ثم قال له: إلحق بأي بلاد شئت. وسمع المنصور فبعث أبا الأزهر إلي المدينة في جمادى سنة إحدى وأربعين ليستعمل على المدينة عَبْد العزيز بن المطلب، ويقضى زياداً وأصحابه. فسار بهم فحبسهم المنصور، وخلف زياد ببيت المال ثمانين ألف دينار. ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد بن عَبْد الله القسري، وأمره بطلب محمد، وإنفاق المال في ذلك. فكثرت نفقته واستبطأه المنصور واستشار في عزله، فأشار عليه يزيد بن أسيد السلمي من أصحابه باستعمال رباح بن عثمان بن حسان المزني، فبعثه أميراً على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين، وأطلق يده في محمد بن خالد القسريّ. فقدم المدينة وتهدّد عَبْد الله بن حسن في إحضار إبنيه. وقال له عَبْد الله يومئذ: إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة، فاستشعر ذلك ووجد، فقال له حاجبه أبو البختري: إن هذا ما اطلع على الغيب. فقال ويلك! والله ما قال إلا ما سمع، فكان كذلك. ثم حبس رباح محمد بن خالد وضربه وجد في طلب محمد، فاخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع وهو جبل جهينة، فبعث عامله في طلب فأفلت منه. ثم إنّ رباح بن مرّة حبس بني حبس وقيدهم وهم: عَبْد الله بن حسن بن الحسن، وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر، وإبنه موسى بن عَبْد الله، وبنو أخيه داود وإسمعيل وإسحق بنو إبراهيم بن الحسن، ولم يحضر معهم أخوه عليّ العائد. ثم حفر من الغد عند رباح، وقال: جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه، وكتب إليه المنصور أن يحبس معهم محمد بن عَبْد الله بن عمر بن عثمان المعروف بالديباجة. وكان أخا عَبْد الله لأمه، أمهما فاطمة بنت الحسين. وكان عامل مصر قد عثر على عليّ بن محمد بن عَبْد الله بن حسن، بعثه أبوه إلي مصر يدعو له، فأخذه وبعث به إلي المنصور، فلم يزل في حبسه. وسمى من أصحاب أبيه عَبْد الرحمن بن أبي المولى وأبا جبير، فضربهما المنصور وحبسهما. وقيل عَبْد الله حبس أولاً وحده، وطال حبسه. فأشار عليه أصحابه بحبس الباقين فحبسهم ثم حج المنصور سنة أربع وأربعين، فلما قدم مكة بعث إليهم وهم في السجن محمد بن عمران بن إبراهيم بن طلحة ومال بن أنس يسألهم أن يرفعوا إليه محمداً وإبراهيم ابني عَبْد الله، فطلب عَبْد الله الإذن في لقائه، فقال المنصور: لا والله حتى يأتيني به وبإبنيه، وكان حسناً مقبولاً لا يكلم أحداً إلا أجابه إلي رأيه. ثم إنّ المنصور قضى حجه وخرج إلي الربذة، وجاء رباح ليودعه فأمر بأشخاص بني حسن ومن معهم إلي العراق، فأخرجهم في القيود والأغلال، وأردفهم في محامل بغير وطء، وجعفر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي. وجاء محمد وإبراهيم مع أبيهما عَبْد الله يسايرانه مستترين بزي الأعراب ويستأذنانه في الخروج فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما، وإنا منعتما أن تعيشا كريمين فلا تمنعا أن تموتا كريمين، وانتهوا إلي الزيدية. وأحضر العثماني الديقا عند المنصور فضربه مائة وخمسين سوط بعد ملاحاة جرت بينهما أغضبت المنصور. ويقال: إن رباحاً أغرى المنصور به، وقال له: إن أهل الشام شيعته ولا يتخلف عنه منهم أحد. ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلي المنصور، بأن أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عَبْد الله واحذر منهم. فأمر المنصور بقتل العثماني، وبعث برأسه إلي خراسان، وبعث من يحلف أنه رأس محمد بن عَبْد الله، وأن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قدم المنصور بهم الكوفة، وحبسهم بقصر ابن هبيرة. يقال إنه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن منهم على إسطوانة وهو حي فمات، ثم بعده عَبْد الله بن حسن ثم علي بن حسن، ويقال: إن المنصور أمر بهم فقتلوا، ولم ينج منهم إلا سليمان وعبد الله إبنا داود، وإسحق وإسمعيل إبنا إبراهيم بن حسن، وجعفر بن حسن والله أعلم.

ظهور محمد المهدي ومقتله

ولما سار المنصور إلي العراق، وحمل معه بني حسن، رجع رباح إلي المدينة وألح في طلب محمد وهو مختف يتنقل في اختفائه من مكان إلي مكان، وقد أرهقه الطلب حتى تدلى في بئر. فتدلى فغمس في مائها، وحتى سقط ابنه من جبل فتقطع، ودل عليه رباح بالمداد، فركب في طلبه فاختفى عنه ولم يره. ولما اشتد عليه الطلب، أجمع الخروج وأغراه أصحابه بذلك. وجاء الخبر إلي رباح بأنه الليلة خارج، فأحضر العباس بن عَبْد الله بن الحرث بن العباس، ومحمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة وغيرهما، وقال لهم: أمير المؤمنين يطلب محمداً شرق الأرض وغربها، وهو بين أظهركم. والله لئن خرج ليقتلنكم أجمعين. وأمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة فجاؤا في جمع كثير، وأجلسهم بالباب. ثم أحضر نفراً من العلويين فيهم جعفر بن محمد بن الحسين وحسين بن عليّ بن حسين بن عليّ، ورجال من قُرَيْش، فيهم إسمعيل بن أيوب بن سلمة بن عَبْد الله بن الوليد بن المغيرة، وإبنه خالد، وبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير، وقيل قد خرج محمد فقال له ، ابن مسلم بن عقبة: أطعني واضرب أعناق هؤلاء فأبى، وأقبل من المداد في مائة وخمسين رجلاً، وقصد السجن، فأخرج محمد بن خالد بن عَبْد الله القسريّ، وابن أخيه النذير بن يزيد ومن كان معهم، وجعل على الرجالة خوات بن جبير، وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل. فدخلوا من باب المقصورة وقبضوا على رباح وأخيه عباس وابن مسلم بن عقبة فحبسهم، ثم خرج إلي المسجد وخطب الناس، وذكر المنصور بما نقمه عليه، ووعد الناس واستنصر بهم. واستعمل على المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عَبْد العزيز بن المطلب بن عَبْد الله المخزوميّ، وعلى بيت السلاح عَبْد العزيز الدراوردي، وعلى الشرط أبا الغلمش عثمان بن عبيد الله بن عَبْد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عَبْد الله بن جعفر بن عَبْد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأرسل إلي محمد بن عَبْد العزيز يلومه على القعود عنه، فوعده بالبصرة، وسار إلى مكة، ولم يتخلف عن محمد من وجوه الناس إلا نفر قليل: منهم: الضحاك بن عثمان بن عَبْد الله بن خالد بن حرام، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عَبْد الله بن خالد، وأبو سلمة بن عبيد الله بن عَبْد الله بن عمر، وحبيب بن ثابت بن عَبْد الله بن الزبير، واستفتى أهل المدينة مالكاً في الخروج مع محمد وقالوا: في أعناقنا بيعة المنصور، فقال: إنما بايعتم مكرهين. فتسارع الناس إلي محمد، ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلي إسمعيل بن عَبْد الله بن جعفر يدعوه إلي بيعته، وكان شيخاً كبيراً فقال: أنت والله وابن أخي مقتول فكيف أبايعك؟ فرجع الناس عنه قليلاً، وأسرع بنو معاوية بن عَبْد الله بن جعفر إلي محمد، فجاءت جمادة أختهم إلي عمها إسمعيل وقالت: يا عم إن مقالتك ثبطت الناس عن محمد وأخوتي معه، فأخشى أن يقتلوا فردها. فيقال: إنها عدت عليه فقتلته، ثم حبس محمد بن خالد القسريّ بعد أن أطلقه واتهمه بالكتاب إلي المنصور، فلم يزل في حبسه. ولما استوى أمر محمد، ركب رجل من آل اويس بن أبي سرح إسمه الحسين بن صخر، وجاء إلي المنصور في تسع فخبره الخبر، فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم، وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تتابع الخبر، وأشفق المنصور من أمره، واستشار أهل بيته ودولته. وبعث إلي عمه عَبْد الله وهو محبوس يستشيره، فأشار عليه بأن يقصد الكوفه، فإنهم شيعة لأهل البيت، فيملك عليهم أمرهم، ويحفها بالمسالح حتى يعرف الداخل والخارج، ويستدعي سالم بن قتيبة من الري فيتحد معه كافة أهل الشام ويبعثه، وأن يبعث العطاء في الناس. فخرج المنصور إلي الكوفة، ومعه عبد الله بن الربيع بن عَبْد الله بن عَبْد المدان. ولما قدم الكوفة أرسل إلي يزيد بن يحيى وكان السفاح يشاوره، فأشار عليه بأن يشحن الأهواز بالجنود، وأشار عليه جعفر بن حنظلة الهرّاني بأن يبث الجند إلي البصرة. فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبيّن وجه إشارتهما. وقال المنصور لجعفر: كيف خفت البصرة؟ قال: لأن أهل المدينة ليسوا أهل حرب حبسهم أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء الطالبيين، ولم يبق إلا البصرة. ثم إن المنصور كتب إلي محمد المهديّ كتاب أمان، فأجابه عنه بالردّ والتعريض بأمور في الأنساب والأحوال، فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك، وانتصف كل واحد منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه، مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري في كتاب الكامل، فمن أراد الوقوف فليلتمسها في أماكنها. ثم إنّ محمداً المهديّ استعمل على مكة محمد بن الحسن بن معاوية بن عَبْد الله بن جعفر، وعلى اليمن القاسم بن إسحق، وعلى الشام موسى بن عَبْد الله. فسار محمد بن الحسن إلي مكة، والقاسم معه، ولقيهما السريّذ بن عَبْد الله عامل مكة ببطن أذاخر، فانهزم. وملك محمد مكة، حتى استنفره المهديّ لقتال عيسى بن موسى، فنفر هو والقاسم بن عبيد الله، وبلغهما قتل محمد بنواحي قديد، فلحق محمد بإبراهيم، فكان معه بالبصرة. واختفى القاسم بالمدينة، حتى أخذت له الأمان إمرأة عيسى، وهي بنت عَبْد الله بن محمد بن عليّ بن عَبْد الله بن جعفر. وأمَّا موسى بن عَبْد الله فسار إلي الشام فلم يقبلوا منه، فرجع إلي المدينة. ثم لحق بالبصرة مختفياً، وعثر عليه محمد بن سليمان بن عليّ، وعلى إبنه عَبْد الله، وبعث بهما إلي المنصور، فضربهما وحبسهما. ثم بعث المنصور عيسى بن موسى إلي المدينة لقتال محمد فسار في الجنود ومعه محمد بن أبي العباس بن السفّاح، وكثيّر بن حصين العبديّ وحميد بن قحطبة وهو زمرّد وغيرهم، فقال له: إن ظفرت فأغمد سيفك وابذل الأمان، وإن تغيب فخذ أهل المدينة فإنهم يعرفون مذاهبه، ومن لقيك من آل أبي طالب فعرفني به، ومن لم يلقك فاقبض ماله. وكان جعفر الصادق فيمن تغيب، فقبض ماله. ويقال إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلك، فقال: قبضه مهديكم. ولما وصل عيسى إلي فئته، كتب إلي نفر من أهل المدينة ليستدعيهم، منهم: عَبْد العزيز بن المطلب المخزومي، وعبيد الله بن محمد بن صَفْوان الجمحي، وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب. فخرج إليه عَبْد الله هو وأخوه عمر، وأبو عقيل محمد بن عَبْد الله بن محمد بن عقيل. واستشار المهديّ أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها، فأمر بذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفر الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب. ونزل عيسى الأعرض، وكان محمد قد منع الناس من الخروج فخيرهم، فخرج كثير منهم بأهلهم إلي الجبال، وبقي في شرذمة يسيرة. ثم تدارك رأيه وأمر أبا الغلمش بردهم فأعجزوه، ونزل عيسى على أربعة أميال من المدينة، وبعث عسكراً إلي طريق مكة يعترضون محمداً إن انهزم إلي مكة، وأرسل إلي المهدي بالأمان والدعاء إلي الكتاب والسنة، ويحذره عاقبة البغي. فقال: إنما أنا رجل فررت من القتل. ثم نزل عيسى بالحرف لإثنتي عشرة من رمضان سنة خمس وأربعين، فقام يومين، ثم وقف على مسلم ونادى بالأمان لأهل المدينة، وأن يخفوا بينه وبين صاحبه، فشتموه، فانصرف وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات المدينة وبرز محمد في أصحابه ورأية مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وشعارهم أحد أحد. وطلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه أخو أسد فقتله، ثم آخر فقتلوا، وقال أنا ابن الفاروق. وأبلى محمد المهدي يومئذ بلاءً عظيمأ، وقتل بيده سبعين رجلاً. ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة من الرجال إلي حائط دون الخندق فهدمه، وأجازوا الخندق وقاتلوا من وراءه، وصابرهم أصاب محمد إلي العصر. ثم أمر عيسى أصحابه فرموا الخندق بالحقائب، ونصبوا عليها الأبواب، وجازت الخيل واقتتلوا، وانصرف محمد فاغتسل وتحنط. ثم رجع فقال: اترك أهل المدينة والله لا أفعل وأقتل، وأنت مني في سعة، فمشى قليلاً معه. ثم رجع وافترق عنه جل أصحابه، وبقي في ثلثمائة أو نحوها. فقال له بعض أصحابه: نحن اليوم في عدة أهل بدر، وطفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في اللحاق بالبصرة أو غيرها، فيقول والله لا تبتلون بي مرتين. ثم جمع بين الظهر والعصر، ومضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعهم. وجاء إلي السجن وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباساً، وابن مسلم بن عقبة، وتوثق محمد بن القسريّ بالأبواب فلم يصلوا إليه. ورجع ابن حصين إلي محمد فقاتل معه، وتقدم محمد إلي بطن سلع، ومعه بنو شجاع من الخمس. فعرقبوا دوابهم، وكسروا جفون سيوفهم، واستماتوا وهزموا أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثة. وصعد نفر من أصحاب عيسى الجبل، وانحدروا منه إلي المدينة. ورفع بعض نسوة إلي العباس خماراً لها أسود على منارة المسجد. فلما رآه أصحاب محمد وهم يقاتلون هربوا، وفتح بنو غفّار طريقاً لأصحاب عيسى، فجاؤا من وراء أصحاب محمد. ونادى حميد بن قحطبة للبراز فأبى، ونادى ابن حصين بالأمان فلم يصغ إليه، وكثرت فيه الجراح. ثم قتل وقاتل محمد على شلوه فهدّ الناس عنه هداً حتى ضرب، فسقط لركبته وطعنه ابن قحطبة في صدره. ثم أخذ رأسه وأتى به عيسى فبعثه إلي المنصور مع محمد بن الكرام عَبْد الله بن علي بن عَبْد الله بن جعفر، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن، وأرسل معه رؤوس بني شجاع، وكان قتل محمد منتصف رمضان. وأرسل عيسى الألوية فنصبت بالمدينة للأمان، وصلب محمد وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة، واستأذنت زينب أخته في دفنه بالبقيع، وقطع المنصور الميرة في الجر عن المدينة، حتى أذن فيها المهديّ بعده، وكان مع المهديّ سيف عليّ ذو الفقار، فأعطاه يومئذ رجلاً من التجار في دين كان له عليه. فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة، أخذه منه وأعطاه من دينه. ثم أخذه منه المهديّ، وكان الرشيد يتقلده وكان فيه ثمان عشرة فقرة، وكان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى وحمزة بن عَبْد الله بن محمد بن علي بن الحسين، وحسين وعلي إبنا زيد بن علي. وكان المنصور يقول عجباً خرجا عليّ ونحن أخذنا بثأر أبيهما. وكان معه عليّ وزيد إبنا الحسن بن زيد بن الحسن، وأبوهما الحسن مع المنصور والحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عَبْد الله بن جعفر، والقاسم بن إسحق بن عَبْد الله بن جعفر والمرخى عليّ بن جعفر بن إسحق بن علي بن عَبْد الله بن جعفر وأبوه عليّ مع المنصور، ومن غير بني هاشم محمد بن عَبْد الله بن عمر بن سعيد بن العاص، ومحمد بن عجلان وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وأبو بكر بن عَبْد الله بن محمد بن أبي سبرة، أخذ أسيراً فضرب وحبس في سجن المدينة، فلم يزل محبوساً إلي أن نازل السودان بالمدينة على عَبْد الله بن الربيع الحارثي، وفر عنها إلي بطن نخل، وملكوا المدينة ونهبوا طعام المنصور. فخرج ابن أبي سبرة مقيداً وأتى المسجد، وبعث إلي محمد بن عمران ومحمد بن عَبْد العزيز وغيرهما، وبعثوا إلي السودان وردوهم عما كانوا فيه، فرجعوا ولم يصلّ الناس يومئذ جمعة. ووقف الأصبغ بن أبي سفيان بن عاصم بن عَبْد العزيز لصلاة العشاء، ونادى أصلى بالناس على طاعة أمير المؤمنين، وصلى. ثم أصبح ابن أبي سبرة ورد من العبيد ما نهبوه، ورجع ابن الربيع، من بطن نخل، وقطع رؤساء   العبيد. وكان مع محمد بن عَبْد الله أيضاً عَبْد الواحد بن أبي عون مولى الأزد، وعبد الله بن جعفر بن عَبْد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وعبد العزيز بن محمد الدراورديّ، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع وبنوه تسعة، وعيسى وعثمان إبنا خضير. وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير قتله المنصور من بعد ذلك لمّا أخذ بالبصرة، وعبد العزيز بن إبراهيم بن عَبْد الله بن مطيع وعليّ بن المطلب بن عَبْد الله بن حنطب، وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير، وهشام بن عميرة بن الوليد بن    بن عَبْد الجبار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم.

شأن إبراهيم بن عَبْد الله وظهوره ومقتله

كان إبراهيم بن عَبْد الله أخو المهديّ محمد قد اشتد الطلب عليه وعلى أخيه منذ خمس سنين، وكان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس وبكرمان والجبل والحجاز واليمن والشام، وحضر مرّة مائدة المنصور بالموصل، وجاء أخرى إلي بغداد حين خطها المنصور مع النظار على قنطرة الفرات حين شدها، وطلبه فغاض في الناس فلم يوجد، ووضع عليه الرصد بكل مكان. ودخل بيت سفيان بن حيان العمي وكان معروفاً بصحبته، فتحيل على خلاصه بأن أتى المنصور وقال: أنا آتيك بإبراهيم، فاحملني وغلامي على البريد، وابعث معي الجند ففعل. وجاء بالجند إلي البيت، وأركب معه إبراهيم في زي غلامه، وذهب بالجند إلي البصرة، ولم يزل يفرقهم على البيوت ويدخلها موهماً أنه يفتشه، حتى بقي وحده فاختفى.

وطلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه، وكان قدم قبل ذلك الأهواز، فطلبه محمد بن حصين، واختفى منه عند الحسن بن حبيب، ولقي من ذلك غيّا. ثم قدم إبراهيم البصرة سنة خمس وأربعين، بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة يحيى بن زياد بن حسان النبطي، وأنزله بداره في بني ليث. فدعا الناس إلي بيعة أخيه، وكان أول من بايعه نميلة بن مرّة العبسيّ، وعبد الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبد الله بن حي بن حصين الرَّقاشي، وبثوا دعوته في الناس، واجتمع لهم كثير من الفقهاء. وأهل العلم. وأحصى ديوانه أربعة آلاف، واشتهر أمره. ثم حوّلوه إلي وسط البصرة. ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر وليقرب من الناس، وولاه سفيان أمير البصرة على أمره. وكتب إليه أخوه محمد يأمره بالظهور، وكان المنصور بظاهر، وأرسل من القوّاد مدّد السفيان على إبراهيم أن ظهر، ثم إن إبراهيم خرج أول رمضان من سنة خمس وأربعين، وصلى الصبح في الجامع، وجاء دار الإمارة بابن سفيان وحبسه وحبس القوّاد معه، وجاء جعفر ومحمد إبنا سليمان بن عليّ في ستمائة رجل. وأرسل إبراهيم إليها المعين بن القاسم الحدروري في خمسين رجلاً فهزمهما إلي باب زينب بنت سليمان بن عليّ، وإليها ينسب الزينبيون من بني العباس. فنادى بالأمان وأخذ من بيت المال ألفي ألف درهم، وفرض لكل رجل من أصحابه خمسين. ثم أرسل المغيرة على الأهواز في مائة رجل، فغلب عليها محمد بن الحصين وهو في أربعة آلاف. وأرسل عمر بن شدّاد إلي فارس وبها إسمعيل وعبد الصمد إبنا عليّ، فتحصنا في دار بجرد، وملك عمر نواحيها، فأرسل هرون بن شمس العجلي في سبعة عشر ألفاً إلي واسط، فغلب عليها هرون بن حميد الإيادي وملكها. وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسمعيل في خمسه آلاف، وقيل في عشرين. فاقتتلوا أياماً ثم تهادنوا حتى يروا مآل الأميرين المنصور وإبراهيم. ثم جاء نعي محمد إلي أخيه إبراهيم قبل الفطر، فصلى يوم العيد وأخبرهم، فازدادوا حنقاً على المنصور. ونفر في حره وعسكر من الغد، واستخلف على البصرة غيلة وابنه حسناً معه. وأشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام، وإرسال الجنود وإمدادهم واحداً بعد واحد. وأشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأن الناس في انتظارك، ولو رأوك ما توانوا عنك، فسار. وكتب المنصور إلي عيسى بن موسى بإسراع العود وإلى مسلم بن قتيبة بالري، وإلى سالم بقصد إبراهيم، وضم إليه غيرها من القواد. وكتب إلي المهديّ بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز وفارس والمدائن وواسط والسواد، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف يتربصون به. ثم رمى كل ناحية بحجرها، وأقام خمسين يوماً على مصلاه، ويجلس ولم ينزع عنه جبته ولا قميصه وقد توسخا، ويلبس السواد إذا ظهر للناس، وينزعه إذا دخل بيته. وأهديت له من المدينة إمرأتان فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبد الله، وأمة الكريم بنت عَبْد الله من ولد خالد بن أسيد فلم يحفل بهما. وقال: ليست هذه أيام نساء حتى أنظر رأس إبراهيم إليّ أو رأسي له. وقدم عليه عيسى بن موسى فبعثه لحرب إبراهيم في خمسة عشر ألفاً، وعلى مقدّمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف وسار إبراهيم من البصرة ومائة ألف حتى نزلا بإزاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخاً من الكوفة، وأرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالف عيسى إلي المنصور فهو في حف من الجنون، ويكون أسهل عليك. فعرض ذلك إبراهيم على أصحابه فقالوا: نحن هرون وأبو جعفر في أيدينا! فأسمع ذلك رسول سالم فرجع، ثم تصافوا للقتال. وأشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس، ليكون أثبت، والصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فأبى إبراهيم إلا الصف صف أهل الإِسلام، ووافقه بقية أصحابه. ثم اقتتلوا وانهزم حميد بن قحطبة، وانهزم معه الناس، وعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فقال لهم حميد: لا طاعة في الهزيمة. ولم يبق مع عيسى إلا فل قليل، فثبت واستمات. وبينما هو كذلك إذ قدم جعفر ومحمد بن سليمان بن عليّ، وجاء من وراء إبراهيم وأصحابه، فانعطفوا لقتالهم واتبعهم أصحاب عيسى. ورجع المنهزمون من أصحابه بأجمعهم، اعترضهم إمامهم، فلا يطيقون مخافة ولا وثوبة، فانهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابه وحميد يقاتله. ثم أصابه سهم بنحره، فأنزلوه واجتمعوا عليه. وقال حميد: شدّوا على تلك الجماعة فأحصروهم عن إبراهيم، وقطعوا رأسه وجاؤا به إلي عيسى، فسجد وبعثه إلي المنصور، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة الحرام سنة خمس وأربعين، ولما وضع رأسه بين يدي المنصور بكى وقال: والله إني كنت لهذا كارها ولكني ابتليت بك وابتليت بي. ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا، ومنهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور، حتى دخل جعفر بن حنظلة الهراني فسلم ثم قال: عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك، فتهلل وجه المنصور وأقبل عليه وكناه بأبي خالد واستدناه.

بناء مدينة بغداد

وابتدأ المنصور سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية، ولأنه كان يكره أهل الكوفة، ولا يأمن على نفسه منهم. فتجافى عن جوارهم وسار إلي مكان بغداد اليوم، وجمع من كان هنالك من البطارقة، فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحرّ والبرد والمطر والوحل والهوام، واستشارهم فأشاروا عليه بمكانها. وقالوا تجيئك الميرة في السفن من الشام والرّقة ومصر والمغرب إلي المصرات. ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل في دجلة. ومن أرمينية وما اتصل بها في تامر حتى يتصل بالزاب. وأنت بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطي والجسور. وإذا قطعتها لم يكن لعدوك مطمع، وأنت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل، قريب من البر والبحر والجبل. فشرع المنصور في عمارتها. وكب إلي الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في الصنّاع والفعلة واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة، فأحضرهم لذلك، منهم: الحجاج بن أرطاة، وأبو حنيفة الفقيه. وأمر بخطها بالرماد، فشكلت أبوابها وفضلانها وطاقاتها ونواحيها، وجعل على الرماد حب القطن. فأضرم ناراً ثم نظر إليها وهي تشتعل، فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم. ووكل بها أربعة من القواد يتولى كل واحد منهم ناحية. ووكل أبا حنيفة بعدّ الآجر واللبن. وكان أراده على القصاء والمظالم لأبى. فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملاً، فكان هذا. وأمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعاً ومن أعلاه عشرين، وجعل في البناء القصب والخشب، ووضع بيده أّول لبنة وقال بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال ابنوا على بركة الله، فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهديّ، فقطع البناء وسار إلي الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه، ورجع من مدينة ابن هبيرة إلي بغداد واستمر في بنائها، واستشار خالد بن برمك في نقض المدائن والإيوان. فقال: لا أرى ذلك لأنه من آثار الإِسلام وفتوح العرب، وفيه مصفى عليّ بن أبي طالب، فاتهمه بمحبة العجم، وأمر بنقض القصر الأبيض، فإذا الذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه. فقال خالد: لا أرى إقصارك عنه لئلا يقال عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم، فأعرض عنه ونقل الأبواب إلي بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة، وجعل المدينة مدورة، وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حد سواء. وجعل المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين، والداخل أعلى من الخارج. ووضع الحجاج بن أرطاة قبلة المسجد، وكان وزن اللبنة التي يبني بها مائة رطل وسبعة عشر رطلاً وطولها ذراع في ذراع، وكانت بيوت جماعة من الكتاب والقواد تشرع أبوابها إلي رحبة الجامع، وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلي ناحية الكرخ لمّا كان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها، وجعل الطرق أربعين ذراعاً، وكان مقدار النفقة عليها في المسجد والقصر والأسواق والفضلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف وثلاثة وثلاثين ألف درهم. وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط، والروز كاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلاَّ بما بقي عنده، وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهما بعد أن حبسه عليها.

العهد للمهدي وخلع عيسي بن موسي

كان السفّاح قد عهد إلي عيسى بن موسى بن عليّ وولاه على الكوفة فلم يزل  عليها، فلما كبر المهديّ أراد المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى، وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهدي عن يساره، فكلمه في التأخر عن المهديّ في العهد فقال: يا أمير المؤمنين كيف بالإيمان التى عليّ وعلى المسلمين وأبى ذلك، فتغير له المنصور وباعده بعض الشيء. وصار يأذن للمهديّ قبله ولعمه عيسى بن عليّ وعبد الصمد. ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهديّ واستمر المنصور على التنكر له وعزله عن الكوفة لثلاث عشرة سنة من ولايته، وولى مكانه محمد بن سليمان بن علي، ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهديّ بالعهد، وجعل عيسى من بعده. ويقال: إنه أعطاه أحد عشر ألف ألف درهم، ووضع الجند في الطرقات لأذاه وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء.

خروج استادسيس

كان رجل ادعى النبوَّة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلثمائة ألف مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان، وسار إليه الأخثم عامل مرو الروذ في العساكر، فقاتل الأخثم وعامة أصحابه، وتتابع القواد في لقائه فهزمهم. وبعث المنصور وهو بالبرداق خازم بن خزيمة إلي المهديّ في إثني عشر ألفاً، فولاه المهدي حربه فزحف إليه في عشرين ألفاً. وجعل على ميمته الهيثم بن شبة بن ظهير، وعلى ميسرته نهار بن حصن السعدي، وفي مقدمته بكّار بن مسلم العقيلي، ودفع لواءه للزبرقان. ثم راوغهم في المزاحفة وجاء إلي موضع فخندق عليه وجعل له أربعة أبواب، وأتى أصحاب أستادسيس بالفؤس والمواعيل ليطموا الخندق، فبدؤا بالباب الذي يلي بكّار بن مسلم، فقاتلهم بكّار وأصحابه حتى ردّوهم عن بابهم. فأقبلوا على باب خازم وتقدم منهم الحريش من أهل سجستان، فأمر خازم الهيثم بن شعبة أن يخرج من باب بكّار ويأتي العدو من خلفهم، وكانوا متوقعين قدوم أبي عون وعمر بن مسلم بن قتيبة وخرج خازم على الحريش واشتد قتاله معهم. وبدت أعلام الهيثم من ورائهم، فكبر أهل العسكر وحملوا عليهم فكشفوهم، ولقيهم أصحاب الهيثم فاستمر فيهم القتال، فقتل سبعون ألفاً وأسر أربعة عشر، وتحصّن أستادسيس على حكم أبي عون، فحكم بأن يوثق هو وبنوه ويعتق الباقون، وكتب إلي المهديّ بذلك فكتب المهديّ إلي المنصور. ويقال: إنّ أستادسيس أبو مراجل أم المأمون وابنه غالب خال المأمون الذي قتل الفضل بن سهل. 

ولاية هشام بن عمرو الثغلبي على السند

كان على السند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة ويلقب مرامى- يعني ألف رجل- ولما كان من أمر المهديّ ما قدمناه بعث ابنه عَبْد الله الأشتر إلي البصرة ليدعو له، فسار من هنالك إلي عمر بن حفص وكان يتشيع فأهدى له خيلاً يمكن بها من لقائه. ثم دعاه فأجاب وبايع له وأنزله عنده مختفياً ودعا القوّاد وأهل البلد فأجابوا فمزق الأعلام، وهيأ لبسة من البياض يخطب فيها، وهو في ذلك إذ فجأه الخبر بقتل المهديّ، فدخل على ابنه أشتر وعزاه. فقال له الله في دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السند عظيم المملكة كان يعظم جهة النبي صلى الله عليه وسلم،   وكان معروفاً بالوفاء، فأرسل إليه بعد أن عاهده عليه، واستقر عند ذلك الملك. وتسلل إليه جماعة من الزيدية نحواً من أربعمائة، وبلغ ذلك المنصور فغاظه وكتب إلي عمر بن حفص بعزله وأقام يفكر فيمن يوليه السند وعرض له يوماً هشام بن عمرو الثغلبي وهو راكب، ثم اتبعه إلي بيته وعرض عليه أخته، فقال للربيع: لو كانت لي حاجة في النكاح لقبلت فجزاك الله خيراً، وقد وليتك السند فتجهز لها، وأمره أن يحارب ملك السند ويسلم إليه الأشتر ففعل، وأقام المنصور يستحثه. ثم خرجت خارجة بالسند فبعث هشام أخاه سفيحاً لحسم الداء عنها، فمر بنواحي ذلك الملك، فوجد الأشتر يتنزه في شاطىء همذان في عشرة من الفرسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه جميعاً. وكب هشام بذلك إلي المنصور. فشكره وأمر بمحاربة ذلك الملك فظفر به وغلب على مملكته، وبعث بسراريّ عَبْد الله الأشتر ومعه ولد منه إسمه عَبْد الله بعث بهم المنصور إلي المدينة وأسلمه إلي أهله. ولما ولّى هشام بى عمر على السند وعزل عمر بن حفص عنها. ثم حدث فتق بإفريقية بعثه إلي سدّه كما سيأتي في أخبارها.

بناء الرصافة للمهدي

ولما رجع المهديّ من خراسان قدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة فأجازهم وكساهم وجملهم وكذلك المنصور. ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بأن يفرق بينهم ويستكفيه في ذلك، وأمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة ويسأله بحق الله ورسله والعباس وأمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر؟ فقال: مضر كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها كتاب الله وعندها بيت الله ومنها خليفة الله، لغضب اليمن إذ لم يذكر لها فضلاً. ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر وقطعوا الذي كبحها، فتشاجر الحيان وتعصبت لليمن ربيعة والخراسانية للدولة وأصبحوا أربع فرق، وقال قثم للمنصور: إضرب كل واحدة بالأخرى وسير لابنك المهديّ فلل أمير له بجنده فيتناظرون في أهل مدينتك، فقبل رأيه وأمر صالحاً صاحب المصلى ببناء الرصافة للمهديً.

مقتل معن بن زائدة

كان المنصور قد ولى على سجستان معن بن زائدة الشيباني وأرسل إلي رتبيل في الضريبة التي عليه فبعث بها عروضاً زائدة الثمن، فغضب معن وسار إلي الرخج على مقدمته يزيد ابن أخيه يزيد، ففتحها وسبى أهلها وقتلهم، ومضى رتبيل إلي عزمه، وانصرف معن إلي بست فشتى بها. ونكر قوم من الخوارج سيرته فهجموا عليه وفتكوا به في بيته. وقام يزيد بأمر سجستان وقتل قاتليه واشتدّت على أهل البلاد وطأته، فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور على لسانه كتاباً يتضجر من كتب المهديّ إليه ويسأله أن يعفى من معاملته. فأغضب ذلك المنصور وأقرأ المهديّ كتابه وعزله وحبسه، ثم شفع فيه شخص إلي مدينة السلام فلم يزل مجفواً حتى بعث إلي يوسف البرم بخراسان كما يذكر بعد.

العمال على النواحي أيام السفّاح والمنصور

كان السفّاح قد ولّى عند بيعته على الكوفة عمه داود بن عليّ، وجعل على حجابته عَبْد الله بن بسّام وعلى شرطته موسى بن كعب، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وبعث عمه عَبْد الله قتال مروان مع أبي عون بن يزيد بن قحطبة تقدمة. وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلي المدائن، وكان أحمد بن قحطبة تقدمة، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمّار بن ياسر إلي الأهواز مدّداً لبسام بن إبراهيم، ودفع ولاية خراسان إلي أبي مسلم، فولى أبو مسلم عليها إياداً وخالد بن إبراهيم، وبعث عمّه عَبْد الله في مقدمته لحرب مروان أخاه صالحاً ومعه أبو عون بن يزيد، فلما ظفر وانصرف ترك أبا عون يزيد بمصر واستقل عَبْد الله بولاية الشام. وولّى السفّاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فولّذى على أرمينية يزيد بن أسد وعلى أذربيجان محمد بن صول ونزل الجزيرة. وكان أبو مسلم ولّى على فارس محمد بن الأشعث حين قتل أبا مسلمة الخلاّل، فبعث السفّاح عليها عيسى فمنعه محمد بن الأشعث واستخلفه على الولاية، فبعث عليها عمّه إسمعيل. وولّى على الكوفة ابن أخته موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية المهلبيّ وعلى السند منصور بن جمهور ونقل عمه داود إلي ولاية الحجاز واليمن واليمامة. ثم ولى على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان. وتوفي داود بن عليّ سنة ثلاث وثلاثين، فولّى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن عَبْد الله بن عَبْد المدان، وعلى مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد بن عَبْد الله بن عَبْد المدان الحارثي وهو عم محمد بن يزيد. وفيها بعث محمد بن الأشعث إلي إفريقية ففتحها. وفي سنة أربع وثلاثين بعث صاحب الشرطة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور، وولاّه مكانه على السند، فاستخلف مكانه على الشرطة المسيب بن زهير. وتوفي عامل اليمن محمد بن يزيد فولّى مكانه عليّ بن الربيع بن عبيد الله الحارثيّ. ولما استخلف المنصور وانتقض عَبْد الله بن علي وأبو مسلم ولّى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الشام عَبْد الله بن عليّ. ثم هلك خالد بن إبراهيم سنة أربعين فولى مكانه عَبْد الجبار بن عَبْد الرحمن فانتقض لسنة من ولايته، فبعث المنصور ابنه المهديّ على خراسان وفي مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبار. وتوفي سليمان عامل البصرة سنة أربعين فولى مكانه سفيان بن معاوية، ومات موسى بن كعب بالسِّند وولّى مكانه ابنه عيينة فانتقض، فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي صفرة. وولّى على مصر في هذه السنة حميد بن قحطبة، وولّى على الجزيرة والثغور والعواصم أخاه العباس بن محمد وكان بها يزيد بن أسيد، وعزل عمه إسمعيل عن الموصل وولّىّ مكانه مالك بن الهيثم الخزاعيّ. وفي سنة ست وأربعين عزل الهيثم بن معاوية وولّى على مكة والطائف مكانه السريّ بن عَبْد الله بن الحرث بن العبّاس نقله إليها من اليمامة، وولّى مكانه من اليمن قثم بن العبّاس بن عَبْد الله بن العبّاس، وعزل حميد بن قخطبة عن مصر وولّى مكانه نوفل بن الفرات. ثم عزله وولّى مكانه يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة. وولّى على المدينة محمد بن خالد بن عَبْد الله القسريّ، ثم اتهمه في أمر ابن أبي الحسن فعزله، وولّى مكانه رباح بن عثمان المزنيّ. ولما قتله أصحاب محمد المهديّ ولّى مكانه عَبْد الله بن الربيع الحارثي. ولما قتل إبراهيم أخو المهدي سنة خمس وأربعين ولّى المنصور على البصرة سالم بن قتيبة الباهليّ، وولّى على الموصل ابنه جعفراً مكان مالك بن الهيثم، وبعث معه حرب بن عَبْد الله من أكابر قوّاده. ثم عزل سالم بن قتيبة عن البصرة سنة ست وأربعين، وولّى مكانه محمد بن سليمان، وعزل عَبْد الله بن الربيع عن المدينة، وولّى مكانه جعفر بن سليمان، وعزل السريّ بن عَبْد الله عن مكة وولّى مكانه عمه عَبْد الصمد بن عليّ، وولّى سنة سبع وأربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكان عيسى بن موسى لمّا سخطه بسبب العهد. وولّى مكان محمد بن سليمان على البصرة محمد بن السفّاح، فاستعفاه ورجع إلي بغداد فمات، واستخلف بها عقبة بن سالم فأقّره. وولّى على المدينة جعفر بن سليمان، وولّى سنة ثمان وأربعين على الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكراد في نواحيها، وعزل سنة تسع وأربعين عمه عَبْد الصمد عن مكة، وولّى مكانه محمد بن إبراهيم.وفي سنة خمسين عزل جعفر بن سليمان عن المدينة، وولّى مكانه الحسن بن زيد بن الحسن. وفي سنة إحدى وخمسين عزل عمر بن حفص عن السِّند وولّى مكانه هشام بن عمرو الثغلبيّ، وولّى عمر بن حفص على أفريقية. ثم بعث يزيد بن حاتم من مصر مدّداً له، وولّى مكانه بمصر محمد بن سعيد. وفي هذه السنة قتل معن بن ذائدة بسجستان كما تقدّم فقام بأمره يزيد ابن أخيه يزيد، فأقّره المنصور ثم عزله. وفي هذه السنة سار عقبة بن سالم من البصرة واستخلف نافع بن عقبة، فغزا البحرين وقتل ابن حكيم العدويّ واستقصره المنصور بإطلاق أسراهم، فعزله وولّى جابر بن مومة الكلابيّ، ثم عزله وولّى مكانه عَبْد الملك بن ظبيان النميريّ. ثم عزله وولّى الهيثم بن معاوية العكّيّ.وفيها ولّى على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام، ثم عزله وولّى مكانه إبراهيم ابن أخيه، يحيى بن محمد، وولّى على الموصل إسمعيل بن خالد بن عَبْد الله القسريّ. ومات أسيد بن عَبْد الله أمير خراسان فولّى مكانه حميد بن قحطبة. وفي سنة ثلاث وخمسين توفي عبيد الله ابن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضى شريك بن عَبْد الله النخعيّ، وكان على اليمن يزيد بن منصور.وفي سنة خمس وأربعين بل أربع وخمسين عزل عن الجزيرة أخاه العبّاس وأغرمه مالاً، وولّى مكانه موسى بن كعب الخثعمي، وكان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه، ولم يزل ساخطاً على العبّاس حتى غضب على عمه إسمعيل، فشفع فيه أخوته عمومة المنصور. فقال عيسى بن عيسى: يا أمير المؤمنين شفعوا في أخيهم وأنت ساخط على أخيك العبّاس منذ كذا‍ ولم يكلمك فيه أحد منهم فرضي عنه.وفي سنة خمس وخمسين عزل محمد بن سليمان عن الكوفة وولّى مكانه عمر بن زهير الضبي أخا المسيب صاحب الشرطة، وكان من أسباب عزله، أنه حبس عَبْد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة، وكتب إليه أن يتبين أمره، فقتله قبل وصول الكتاب، فغضب عليه المنصور وقال: لقد هممت أن أقيده به، وعزل عمّه عيسى في أمره لأنه الذي كان أشار بولايته. وفيها عزل الحسن بن زيد عن المدينة وولّى مكانه عمّه عَبْد الصمد بن علي، وكان على الأهواز وفارس عمارة بن حمزة.وفي سنة سبع وخمسين ولّى على البحرين سعيد بن دعلج صاحب الشرطة بالبصرة فأنفذ إليها ابنه تميماً، ومات سوار بن عَبْد الله قاضي البصرة فولّى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحسين العيريّ. وعزل محمد بن الكاتب عن مصر وولّى مكانه مولاه مطراً، وعزل هشام بن عمرو عن السِّند وولّى مكانه معبد بن الخليل. وفي سنة ثمان وخمسين عزل موسى بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمر ابنه المهديّ أن يسير إلي الرقّة مورياً بزيارة القدس ويكفل طريقه على الموصل فقبض عليه، وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجّله في إحضارها  ثلاثاً وإلا قتله، فبعث ابنه يحيى إلي عمارة بن حمزة ومبارك التركي، وصالح صاحب المصلّى وغيرهم من القوّاد ليستقرض منهم، قال يحيى: فكلهم بعث إلا أنّ منهم من منعني الدخول ومنهم من يجيبني بالرد إلا عمارة بن حمزة فإنه أذن لي ووجهه إلي الحائط، ولم يقبل عليه، وسلّمت فرّد خفيفاً، وسأل كيف خالد فعرّفته واستقرضته فقال: إن أمكنني شيء يأتيك فانصرفت عنه .ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين وتعذرت ثلثمائة ألف. وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة وانتشار الأكراد بها، وسخط موسى بن كعب، فأشار عليه المسيب بن زهير بخالد بن برمك فقال: كيف يصلح بعدما فعلنا؟ فقال أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه، وعقد له على الموصل، ولابنه يحيى على أذربيجان. وسارا مع المهديّ فعزل موسى بن كعب وولاهما.قال يحيى: وبعثني خالد إلي عمارة بمرضه وكان مائة ألف، فقال لي: أكنت لأبيك صديقاً؟ قم عني لا قمت. ولم يزل خالد على الموصل إلي وفاة المنصور. وفي هذه السنة عزل المنصور المسيب بن زهير عن شرطته وحبسه مقيداً لأنه ضرب أُبان بن بشير الكاتب بالسياط حتى قتله، وكان مع أخيه عمر بن زهير بالكوفة، وولّى المنصور على فارس نصر بن حرب بن عَبْد الله. ثم على الشرطة ببغداد عمر بن عَبْد الرحمن أخا عَبْد الجبّار، وعلى قضائها عَبْد الله بن محمد بن صَفْوان. ثم شفع المهديّ في المسيب وأعاده إلي شرطته.

وفاة المنصور وبيعة المهدي

وفي سنة ثمان وخمسين توفي المنصور منصرفاً من الحج ببئر ميمون لست خلت من ذي الحجة، وكان قد أوصى المهديّ عند وداعه فقال: لم أدع شيئاً إلا تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل واحدة منها، وله سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره. فقال للمهديّ: انظر إلي هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلي يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا ففي الثاني والثالث حتى تبلغ سبعة. فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل.فانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البيوت. فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك وأن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدّمهم وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإن عزك عزهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيراً فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، وأن لا تخرج محبتك من قلوبهم، وأن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل. وإياك أنّ تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها وأظنك ستفعل. وإياك أن تستعين برجل من بني سليم وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل.وقيل قال له إني ولدت في ذي الحجة ووليت في ذي الحجة وقد يحس في نفسي أن أموت في ذي الحجة في هذه السنة، وإنما حدّ لي الحج على ذلك. فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعديّ يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجاً ومخرجاً ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. يا بني إحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم  في أمته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود فإن فيها صلاحك في الأجل وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم أن شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه.واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فساداً مع ما ادخر له من العذاب الأليم فقال: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه المقيم فاحفظه وحصّنه وذبّ عنه، وأوقع بالملحدين واقمع المارقين منه، وقابل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل ولا تشطط فإن ذلك أقطع للشعب وأحسم للعدو وأنجع فى الدواء، واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك. وافتتح بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعية، واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمن السبيل وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم وارفع المكاره عنهم وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبديد فإن النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان. وأعدّ الأكراع والرجال والجند ما استطعت.وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع، وخذ في أحكام الأمور النازلات في أوقاتها أولاً، أولاً، واجتهد وشمر فيها وأعدّ رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن وأسىء الظن بعملك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ وتفقد من يبيت على بابك وسفل إذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك وكل بهم عينا غير نائمة ونفساً غير ساهية. ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولّي الخلافة ولا دخل عينيه الغمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.ثم ودعه وسار إلي الكوفة فأحرم منها قارناً، وساق الهدي وأشعره وقلده لأيام خلت من ذي القعدة. ولما سار منازل عرض له وجعه الذي مات به. ثم اشتدّ فجعل يقول للربيع- وكان عديله- بادر بي إلي حرم ربي هارباً من ذنوبي، فلما وصل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجة لم يحضر إلا خدمه والربيع مولاه. فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم، فدعا عيسى بن علي العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولّي العهد، ثم الأكابر وذوي الأنساب ثم عامتهم. فبايعهم الربيع للمهدي، ثم بايع القوّاد وعامة الناس. وسار العبّاس بن محمد ومحمد بن سليمان إلي مكة فبايعا الناس للمهديّ بين الركن والمقام وجهزوه إلي قبره، وصلى عليه عيسى بن موسى، وقيل إبراهيم بن يحيى، ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من خلافته.وذكر علي بن محمد النوفلي عن أبيه، وهو من أهل البصرة وكان يختلف إلي المنصور تلك الأيام قال: جئت من مكة صبيحة موته إلي العسكر فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق، والقاسم بن المنصور في ناحية فعلمت أنه قد مات.ثم أقبل الحسن بن زيد العلوي والناس حتى ملؤا السرادق وسمعنا همس البكاء.ثم خرج أبو العنبر الخادم مشقوق الأقبية وعلى رأسه التراب وهو يستغيث، وقام القاسم فشق ثيابه.

ظهور المقنع ومهلكه:

كان هذا المقنع من أهل مرو ويسمى حكيماً وهاشمياً، وكان يقول بالتناسخ وأن الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح، ثم إلي أبي مسلم ثم إلي هاشم وهو المقنع. فظهر بخراسان وادعى الإلهية واتخذ وجهاً من ذهب فجعله على وجهه فسمي المقنع، وأنكر قتل يحيى بن زيد وزعم أنه يأخذ بثأره، وتبعه خلق عظيم من الناس وكانوا يسجدون له. وتحصن بقلعة بسّام من رساتيق كش وكان قد ظهر ببخارى والصغد جماعة من المبيضة فاجتمعوا معه على الخلاف، وأعانهم كفار الأتراك وأغاروا على المسلمين من ناحيتهم، وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر بن سيّار، فقتلوا أخاه محمد بن نصروحسان ابن أخيه تميم.وأنفذ المهديّ إليهم جبريل بن يحيى وأخاه يزيد لقتال المبيضة، فقاتلوهم أربعة أشهر في بعض حصون بخارى وملكوه عنوة، فقتل منهم سبعمائة، ولحق فلهم بالمقنع وجبريل في اتباعهم. ثم بعث المهديّ أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله، فبعث معاذ بن مسلم في جماعة القوّاد والعساكر، وعلى مقدّمته سعيد الحريشي، وأتاه عقبة بن مسلم من ذم فاجتمعوا بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنع فهزموهم، ولحق فلهم بالمقنع في بسّام فتحصنوا بها. وجاء معاذ فنازلهم وفسد ما بينه وبين الحريشيّ، فكتب الحريشيّ إلي المهديّ بالسعاية في معاذ، ويضمن الكفاية إن أفرد بالحرب، فأجابه المهديّ إلي ذلك وانفرد بحرب المقنع وأمده معاذ بابنه وجاؤا بآلات الحرب حتى طلب أصحاب المقنع الأمان سراً فأمنهم وخرج إليه ثلاثون ألفاً وبقي معه زهاء ألفين، وضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك وجمع نساءه وأهله. فيقال سقاهم السم، ويقال بل أحرقهم وأحرق نفسه بالنار، ودخلوا القلعة وبعث الحريشي برأس المقنع إلي المهدي فوصل إليه بحلب سنة ثلاث وتسعين.

الولاة أيام المهديّ

وعزل المهديّ سنة تسع وخمسين عمه إسمعيل عن الكوفة وولّى عليها إسحق بن الصفّاح الكندي ثم الأشعي، وقتل عيسى بن لقمان بن محمد بن صاحب الجمحيّ وعزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة، وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة وولّى مكانهما عَبْد الملك بن أيوب بن طيبان الفهيريّ. ثم جعل الأحداث إلي عمارة بن حمزة فولاها للسود بن عَبْد الله الباهلي. وعزل قثم بن العبّاس عن اليمامة وولّى مكانه الفضل بن صالح، وعزل مطراً مولى المنصور عن مصر وولّى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان. وعزل عَبْد الصمد بن عليّ عن المدينة وولّى مكانه محمد بن عَبْد الله الكثيريّ ثم عزله وولّى عَبْد الله بن محمد بن عَبْد الرحمن بن صَفْوان، ثم عزله وولّى مكانه زفر بن عاصم الهلاليّ.وتوفي معبد بن الخليل عامل السّند فولى مكانه روح بن حاتم بإشارة وزيره أبي عَبْد الله. وتوفي حميد بن قحطبة بخراسان فولّى عليها مكانه أبا عون عَبْد الملك بن يزيد، ثم سخطه سنة ستين فعزله، وولّى معاذ بن مسلم. وولّى على سجستان حمزة بن يحيى، وعلى سمرقند جبريل بن يحيى فبنى سورها وحصّنها. وكان على اليمن رجاء بن روح، وولّى على قضاء الكوفة شريك.   وولّى على فارس والأهواز ودجلة قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن، ثم عزله وولّى مكانه محمد بن سليمان، وولّى على السِّند بسطام بن عمر، وولّى على اليمامة بشر بن المنذر.وفي سنة إحدى وتسعين ولّى على السِّند محمد بن الأشعث، واستقضى عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة، وعزل الفضل بن صالح عن الجزيرة وولّى مكانه عَبْد الصمد بن عليّ، وولّى عيسى بن لقمان على مصر ويزيد بن منصور على سواد الكوفة وحسان السروريّ على الموصل وبسطام بن عمرو الثغلبيّ على أذربيجان، وعزله عن السِّند.وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة، فولّى مكانه حمزة بن مالك وكان الأبان بن صدقة كاتباً للرشيد فصرفه وجعله مع الهادي، وجعل هو مع هرون يحيى بن خالد، وعزل محمد بن سليمان أبا ضمرة عن مصر وولّى مكانه سليمان بن رجاء، وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحق بن منصور. وفي سنة ست وستين عزل عليّ بن سليمان عن اليمن وولّى مكانه عَبْد الله بن سليمان، وعزل مسلمة بن رجاء عن مصر وولّى مكانه عيسى بن لقمان، ثم عزله لأشهر  وولّى مكانه مولاه واضحاً، ثم عزله وولّى مكانه يحيى الحريشي، وكان على طبرستان عمر بن العلاء وسعيد بن دعلج، وعلى جرجان مهليل بن صَفْوان، ووضع ديوان الأرمة وولّى عليها عمر بن بزيع مولاه.

العهد للهادي وخلع عيسي

كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد والبيعة لموسى الهادي بن المهديّ، ونمي ذلك إلي المهديّ فسر به واستقدم عيسى بن موسى من منزله بالرحبة من أعمال الكوفة فامتنع من القدوم. فاستعمل المهديّ على الكوفة روح بن حاتم وأوصاه بالأضرار فلم يجد سبيلاً إلي ذلك. وكان عيسى لا يدخل الكوفة إلا يوم جمعة أو عيد. وبعث إليه المهدي يتهدده فلم يجب، ثم بعث عمه العبّاس يستقدمه فلم يحضر. فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه، وقدم على عسكر المهديّ وأقام أياماً يختلف إليه ولا يكلم بشيء. غر الدار يوماً وقد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه، فثاروا به وأغلق الباب الذي كان خلفه فكسروه، وأظهر المهديّ النكير عليهم فلم يرجعوا إلا أن كاشفه أكابر أهل بيته وأشدهم محمد بن سليمان، واعتذر بالأيمان التي عليه. فأحضر المهديّ القضاة والفقهاء وفيهم محمد بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجي فأفتوه بمخارج الأيمان، وخلع نفسه وأعطاه المهديّ عشرة آلاف درهم وضياعاً بالزاب وكسكر، وبايع لابنه موسى الهادي بالعهد. ثم جلس المهديّ من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم وخرج إلي الجامع وعيسى معه، فخطب وأعلم الناس ببيعة الهادي ودعاهم إليها فبادروا وأشهد عيسى بالخلع.

حج المهدي

وفي سنة ستين حج المهديّ واستخلف على بغداد ابنه الهادي وخاله يزيد بن منصور، واستصحب ابنه هرون وجماعة من أهل بيته، وكان معه الوزير يعقوب بن داود، فجاء في مكة بالحسن بن إبراهيم الذي ضمنه على الأمان فوصله بالمهدي وأقطعه. ولما وصل إلي مكة اهتم بكسوة الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها. وكانت فيها كسوة هشام بن عَبْد الملك من الديباج الثخين، وقسم مالاً عظيماً هنالك في مصارف الخير فكان منه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائة ألف دينار، ففرق ذلك كله، وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع المسجد، ونقل خمسمائة من الأنصار إلي العراق جعلهم في حرسه وأقطع لهم وأجرى الأرزاق. ولما رجع أمر ببناء القصور بطريق مكة أوسع من قصور المنصور، من القادسية إلي زبالة ، وأمر باتخاذ المصانع في كل منها منهل، وبتحديد الأميال وحفر الآبار، وولّى على ذلك بقطير بن موسى، وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتصغير المنابر إلي مقدار منبر النبي صلى الله عليه وسلم . وأمر في سنة سبع وستين بالزيادة في الحرمين على يد بقطير، فدخلت فيه دول كثيرة، ولم يزل البناء فيهما إلي وفاة المهديّ.

نكبة الوزير أبي عَبْد الله

كان أبو عَبْد الله الأشعري قد اتصل بالمهدي أيام أبيه المنصور، فلطفت عنده منزلته واستوزره وسار معه إلي خراسان وعظمت به بطانة المهديّ فأكثروا فيه السعاية ،وكان الربيع يدرأ عنه ويعرض كتبه على المنصور وجسن القول فيه. فكتب المنصور إلي المهدي بالوصاة به وأن لا يقبل فيه السعايةّ، ولصا مات المنصور وقام الربيع ببيعة المهدي ،وقدموا إلي بغداد جاء الربيع إلي باب أبي عَبْد الله قبل المهدي وقبل أهله، فعذله ابنه افضل على ذلك ،فقال :هو صاحب الرجل وينبغي أن نعامله بغير ما كنا نعامله، وإياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أو تمنن بذلك في نفسك. فلصا وقف ببابه أمهله طويلاً من المغرب إلي العشاء. ثم أذن له فدخل عليه وهو متكىء فلم يجلس ولا أقبل عليه.

وشرع الربيع   يذكر أمر البيعة فكفه وقال: قد بلغنا أمركم: فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب. فقال له: ليس الصواب إلا ما عملته، ولكن والله لأنفقن مالي وجاهي في مكروهه، وجد في السعاية فيه فلم يجد طريقاً إليها لاحتياطه في أمر دينه وأعماله. فأتاه من قبل ابنه محمد، ودس إلي المهدي بعرضه لحرمه وأنه زنديق، حتى إذا استحكمت التهمة فيه أحضره المهدي في غيبة من أبيه ثم قال له: اقرأ! فلم يحسن فقال لأبيه: ألم تقل إن ابنك يقرأ القرآن؟ فقال فارقني منذ سنين وقد نسي، فأمر به المهدي فقتل. واستوحش من أبي عَبْد الله وساءت منزلته إلي أن كان من أمره ما نذكره، وعزله عن ديوان الرسائل ورده إلي الربيع ، وارتفعت منزلة يعقوب بن داود عند المهدي وعظم شأنه وأنفذ عهده إلي جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب، وكان لا ينفذ كتاب المهديّ حتى يكتب يعقوب إلي يمينه بإنفاذ ذلك.

ظهور دعوة العباسة بالأندلس وانقطاعها

وفي سنة إحدى وستين أجاز عَبْد الرحمن بن حبيب الفهريّ من إفريقية إلي الأندلس داعية لبني العباس، ونزل بساحل مرسية، وكاتب سليمان بن يقظان عامل سرقسطة في طاعة المهديّ فلم يجبه. وقصد بلاده فيمن معه من البربر فهزمه سليمان وعاد إلي تدبير. وسار إليه عَبْد الرحمن صاحب الأندلس وأحرق السفن في البحر تضييقاً على ابن حبيب في النجاة، فاعتصم بجبل منيع بنواحي بلنسية فبذل عَبْد الرحمن فيه المال فاغتاله بعض البربر وحمل رأسه إليه، فأعطاه ألف دينار وذلك سنة إثنتين وستين. وهم عَبْد الرحمن صاحب الأندلس أمر ذلك لغزو الشام من الأندلس على العدوة الشمالية لأخذ ثأره، فعصى عليه سليمان بن يقظان والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري في سرقسطة فشغلوه عما اعتزم عليه من ذلك.

غزو المهدي

تجهز المهديّ سنة ثلاث وستين لغزو الروم، وجمع الأجناد من خراسان ومن الأفاق، وتوفي عمه عيسى بن علي آخر جمادى الأخيرة بعسكره، وسار من الغد واستخلف على بغداد إبنه موسى الهادي واستصحب هرون، ومرّ في طريقه بالجزيرة والموصل، فعزل عَبْد الصمد بن علي وحبسه ثم أطلقه سنة ست وستين. ولما جاز ببني مسلمة بن عَبْد الملك ذكره عمه العبّاس بما فعله مسلمة مع جدهم محمد بن عليّ، وكان أعطاه مرة في اجتيازه عليه ألف دينار، فاحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه وأعطاهم عشرين ألف دينار وأجرى عليهم الأرزاق، وعبر الفرات إلي حلب، فأقام بها وبعث إبنه هرون للغزو وأجاز  معه الدروب إلي جيحان مشيعاً، ولجث معه عسى بن موسى وعبد الملك بى صالح والحسن بن قحطبة والربيع بن يونس ويحيى بن خالد بن برمك، وكان إليه أمر العسكر والنفقات وحاصروا حصن سمالو أربعين يوماً ثم فتح بالأمان، وفتحوا بعده فتوحات كثيرة، وعادوا إلي المهديّ وقد أثخن في الزنادقة وقتل من كان في تلك الناحية منهم. ثم قفل إلي بغداد ومرّ ببيت المقدس وصلى في مسجده ورجع إلي بغداد.

العهد لهرون

وفي سنة ست وستين أخذ المهديّ البيعة لابنه هارون بعد أخيه الهادي ولقبه الرشيد.

مسير الهادي إلي جرجان

وفي سنة سبع وستين عصى وتداهر من شرو بن ملكا طبرستان من الديلم، فبعث المهدي ولي عهده موسى الهادي، وجعل على جنده محمد بن حميد، وعلى حجابته نفيعاً مولى المنصور، وعلى حرسه عيسى بن ماهان، وعلى رسائله أبان بن صدقة. وتوفي أبان بن صدقة فبعث المهدي مكانه أبا خالد الأجرد فسار المهدي وبعث الجنود في مقدمته وأمّر عليهم يزيد، فحاصرهما حتى استقاما. وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان وما كان إليه، وولّى مكانه عمر بن العلاء، وولّى على جرجان فراشة مولاه، ثم بعث سنة ثمان وستين يحيى الحريشيّ في أربعين ألفاً إلي طبرستان.

العمال بالنواحي

وفي سنة ثلاث وستين ولّى المهدي إبنه هرون على المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى الرسائل يحيى بن خالد بن برمك. وعزل زفر بن عاصم عن الجزيرة وولّى مكانه عَبْد الله بن صالح، وعزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولّى مكانه المسيب بن زهير الضبي، وعزل يحيى الحريشيّ عن أصبهان وولّى مكانه الحكم بن سعيد، وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان وولّى مكانه عمر بن العلاء، ومهلهل بن صَفْوان عن جرجان وولاها هشام بن سعيد. وكان على الحجاز واليمامة جعفر بن سليمان، وعلى الكوفة إسحق بن الصباح، وعلى البحرين والبصرة وفارس والأهواز محمد بن سليمان، فعزله سنة أربع وستين وولّى مكانه صالح بن داود.وكان على السند محمد بن الأشعث. وفي سنة خمس وستين عزل خلف بن عَبْد الله عن الري وولاها عيسى مولى جعفر، وولّى على البصرة روح بن حاتم، وعلى البحرين وعمان والأهواز وفارس وكرمان النعمان مولى المهدي. وعزل محمد بن الفضل عن الموصل وولّى مكانه أحمد بن إسمعيل. وفي سنة ست وستين عزل عبيد الله بن حسن العنبري عن قضاء البصرة واستقضى مكانه خالد بن طليق بن عمران بن حصين فاستعفى أهل البصرة منه. وولّى المهدي على قضائه أبا يوسف حين سار إلي جرجان. واضطربت في هذه السنة خراسان على المسيّب بن زهير فولاها أبا العبّاس الفضل بن سليمان الطوسي وأضاف إليه سجستان، فولى هو على سجستان سعيد بن دعلج. وولّى على المدينة إبراهيم ابن عمه، وعزل منصور بن يزيد عن اليمن وولّى مكانه عَبْد الله بن سليمان الربعي.وكان على مصر إبراهيم بن صالح، وتوفي في هذه السنة عيسى بن موسى بالكوفة وهي سنة سبع وستين. وعزل المهدي يحيى الحريشي عن طبرستان والرويان وما كان إليه، وولاه عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه. وحج بالناس إبراهيم ابن عمه يحيى وهو على المدينة ومات بعد قضاء الحج، فولى مكانه إسحق بن موسى بن علي وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثي وعلى اليمامة عَبْد الله بن مصعب الزبيري وعلى البصرة محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التميمي وعلى الموصل أحمد بن إسمعيل الهاشمي. وقتل موسى بن كعب ووقع الفساد في بادية البصرة من الأعراب بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطرق وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة.

وفاة المهدي وبيعة الهادي

وفي سنة تسع وستين اعتزم المهدي على خلع إبنه موسى الهادي من العهد، والبيعة للرشيد به، وتقديمه على الهادي، وكان بجرجان فبعث إليه بذلك فاستقدمه، فضرب الرسول وامتنع، فسار إليه المهدي، فلما بلغ سبدان توفي هنالك. يقال مسموماً من بعض جواريه، ويقال سمت إحداهما الأخرى في كمثرى، فغلط وأكلها، ويقال حاز صيداً فدخل وراءه إلي خربة فدق الباب ظهره. وكان موته في المحرم، وصلى عليه إبنه الرشيد، وبويع ابنه موسى الهادي لمّا بلغه موت أبيه وهو مقيم جرجان يحارب أهل طبرستان.وكان الرشيد لمّا توفي المهدي والعسكر بسبدان نادى في الناس بإعطاء تسكيناً، وقسم فيهم مائتين مائتين، فلما استوفوها تنادوا بالرجوع إلي بغداد وتشايعوا إليها واستيقنوا موت المهدي، فأتوا باب الربيع وأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق ونقبوا السجون.وقدم الرشيد بغداد في أثرهم، فبعثت الخيزران إلي الربيع، فامتنع يحيى خوفاً من غيرة الهادي، وأمرت الربيع بتسكين المجند فسكنوا، وكتب الهادي إلي الربيع يتهدده، فاستشار يحيى في أمره وكان يثق بودّه، فأشار عليه بأن يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه وتصحبه الهدايا والتحف ففعل، ورضي الهادي عنه، وأخذت البيعة ببغداد للهادي.وكتب الرشيد بذلك إلي الآفاق، وبعث نصيراً الوصيف إلي الهادي بجرجان، فركب البريد إلي بغداد فقدمها في عشرين يوماً. فاستوزر الربيع، وهلك لمدة قليلة من وزارته. واشتد الهادي في طلب الزنادقة وقتلهم، وكان منهم عليّ بن يقطين ويعقوب بن الفضل من ولد ربيعة بن الحرث بن عَبْد المطلب، كان قد أقر بالزندقة عند المهدي إلا أنه كان مقسماً أن لا يقتل هاشمياً فحبسه وأوصى الهادي بقتله وبقتل ولد عمهم داود بن علي فقتلهما.وأمَّا عماله فكان على المدينة عمر بن عَبْد العزيز بن عبيد الله بن عَبْد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى مكة والطائف عَبْد الله بن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بن مسلم بن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بن سليم الحواري، وعلى الكوفة موسى بن عيسى بن موسى، وعلى البصرة ابن سليمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بن عميرة مولى    وعلى الموصل هاشم بن سعيد بن خالد، وعزله الهادي لسوء سيرته وولّى مكانه عَبْد الملك وصالح بن علي.وأمَّا الصائفة فغزا بها في هذه السنة وهي سنة تسع وستين معيوب بن يحيى، وقد كان الروم خرجوا مع بطريق لهم إلي الحرث فهرب الوالي ودخلها الروم وعاثوا فيها، فدخل معيوب وراءهم من درب الراهب، وبلغ مدينة أستة وغنم وسبى وعاد.

حديث الهادي في خلع الرشد

كان الهادي يبغض الرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره، وكان رأى في منامه أنه دفع إليهما قضيبين فأورق قضيب الهادي من أعلاه وأورق قضيب الرشيد كله، وتأول ذلك بقصر مدة الهادي وطول مدة الرشيد وحسنها. فلما وليّ الهادي أجمع خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر مكانه، وفاوض في ذلك قواده، فأجابه يزيد بن مزيد وعلي بن عيسى وعبد الله بن مالك، وحرضوا الشيعة على الرشيد لينقصوه ويقولوا لا نرضى به، ونهى الهادي أن يشاور بين يديه بالحرب فاجتنبه الناس، وكان يحيى بن خالد يتولى أموره فاتهمه الهادي بمداخلته، وبعث إليه وتهدده فحضر عنده مستميتا وقال: يا أمير المؤمنين أنت أمرتني بخدمته من بعد المهدي ! فسكن غضبه وقال له في أمر الخلع، فقال يا أمير المؤمنين أنت إن حملت الناس على نكث الإيمان فيه هانت عليهم فيمن توليه، وإن بايعت بعده كان ذلك أوثق للبيعة، فصدقه وسكت عنه.

وعاد أولئك الذين جفلوه من القواد والشيعة فأغروه بيحيى، وأنه الذي منع الرشيد من خلع نفسه، فحبسه الهادي فطلب الحضور للنصيحة، وقال له: يا أمير المؤمنين! أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو صبي ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم، وتأمن أن يسموا إليها عند ذلك أكابر بيتك فتخرج من ولد أبيك، والله لو لم يعقده المهدي لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذراً من ذلك، وإني أرى أن تعقده لأخيك، فإذا بلغ ابنك أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له، فقبل الهادي قوله وأطلقه. ولم يقنع القواد ذلك لأنهم كانوا حذرين من الرشيد في ذلك، وضيق عليه واستأذنه في الصيد فمضى إلي قصر مقاتل، ونكره الهادي وأظهر خفاءه وبسط الموالي والقواد فيه ألسنتهم.

وفاة الهادي وبيعة الرشيد

ثم خرج الهادي إلي حديقة الموصل فمرض واشتدّ مرضه هنالك، واستقدم العمال شرقاً وغرباً. ولما ثقل تآمر القواد الذين بايعوا جعفراً في قتل يحيى بن خالد، ثم أمسكوا خوفا من الهادي. ثم توفي الهادي في شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وقيل توفي بعد أن عاد من حديقة الموصل. ويقال: إن أمه الخيزران وصت بعض الجواري عليه فقتلته لأنها كانت أول خلافته تستبد عليه بالأمور فعكف الناس واختلفت المواكب، ووجد الهادي لذلك فكلمته يوماً في حاجة فلم يجبها فقالت: قد ضمنتها لعبد الله بن مالك. فغضب الهادي وشتمه وحلف لا قضيتها فقامت مغضبة، فقال: مكانك وإلا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم . لئن بلغني أن أحداً من قوادي وخاصتي وقف ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله، ما للمواكب تغدو وتروح عليك؟ أمَّا لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك: إياك! لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي‍ فانصرفت وهي لا تعقل.ثم قال لأصحابه: أيكم يحب أن يتحدث الرجال. بخبر أمه، ويقال فعلت أم فلان وصنعت؟ فقالوا لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون معها؟ فيقال: إنه لمّا جدّ في خلع الرشيد خافت عليه منه، فلما ثقل مرضه وصت بعض الجواري فجلست على وجهه فمات، وصلى عليه الرشيد. وجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة، وأحضر يحيى فاستوزره، وكتب إلي الأطراف بالبيعة. وقيل: إن يحيى هو الذي جاءه وأخرجه فصلى على الهادي ودفنه    إلي يحيى وأعطاه خاتمه، وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد. وعزل لأوّل خلافته عمر بن عَبْد العزيز العمريّ عن المدينة وولّى مكانه إسحق بن سليمان، وتوفي يزيد بن حاتم عامل إفريقية فولّى مكانه روح بن حاتم، ثم توفي فولّى مكانه إبنه الفضل، ثم قتل فولّى هرثمة بن أعين كما يذكر في أخبار إفريقية. وأفرد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها عمالة واحدة وسماها العواصم، وأمره بعمارة طرسوس ونزلها الناس. وحج لأول خلافته وقسم في الحرمين مالاً كثيراً.وأغزى بالصائفة سليمان بن عَبْد الله البكائي، وكان على مكة والطائف عَبْد الله بن قثم، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البحرين والبصرة واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي، وعلى خراسان أبو الفضل العباس بن سليمان الطوسي، ثم عزله وولّى مكانه جعفر بن محمد بن الأشعث. فسار إلي خراسان وبعث إبنه العباس إلي كابل فافتتحها وافتتح سابها وغنم ما كان فيها. ثم استقدمه الرشيد فعزله، وولّى مكانه ابنه العباس، وكان على الموصل عَبْد الملك بن صالح فعزله وولّى مكانه إسحق بن محمد بن فروح، فبعث إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحضره إلي بغداد وقتله، وولّى مكان    وكان على أرمينية يزيد بن مزيد بن زائدة ابن أخي معن فعزله وولّى مكانه أخاه عَبْد الله بن المهدي.وولّى سنة إحدى وسبعين على صدقات بني ثغلب روح بن صالح الهمداني، فوقع بينه وبين تغلب خلاف وجمع لهم الجموع فبيتوه وقتلوه في جماعة من أصحابه. وتوفي سنة ثلاث وسبعين محمد بن سليمان والي البصرة وكان أخوه جعفر كثير السعاية فيه عند الرشيد، وأنه يحدث نفسه بالخلافة‍‍‍‍ وأن أمواله كلها فيء من أموال المسلمين، فاستصفاها الرشيد وبعث من قبضها، وكان لا يعبر عنها من المال والمتاع والدواب، وأحضروا من العين فيها ستين ألف ألف دينار. ولم يكن إلا أخوه جعفر فاحتج عليه الرشيد بإقراره أنها فيء. وتوفي سنة أربع وسبعين والي الرشيد إسحق بن سليمان على السّند ومكران، واستقضى يوسف بن أبي يوسف في حياة أبيه، وفي سنة خمس وسبعين عقد لابنه محمد بن زبيدة ولاية العهد ولقبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين بسعاية خاله عيسى بن جعفر بن المنصور ووساطة الفضل بن يحيى، وفيها عزل الرشيد العباس بن جعفر عن خراسان وولاها خاله الغطريف بن عطاء الكندي.

إيداع كتاب العهد

وفي سنة ست وثمانين حج الرشيد وسار من الأنبار ومعه أولاده الثلاثة محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم، وكان قد ولّى الأمين العهد وولاه العراق والشام إلي آخر الغرب. وولّى المأمون العهد بعده وضم إليه من همذان إلي آخر المشرق، وبايع لابنه القاسم من بعد المأمون ولقبه المؤتمن وجعل خلعه وإثباته للمأمون. وجعل في حجر عَبْد الملك صالح وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم.ومرّ بالمدينة فأعطاه فيها ثلاثة أعطية: عطاء منه ومن الأمين ومن المأمون، فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. ثم سار إلي مكة فأعطى مثلها، وأحضر الفقهاء والقضاة والقوّاد وكتب كتاباً أشهد فيه على الأمين بالوفاء للمأمون، وآخر على المأمون بالوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة وجدّد عليها العهود هنالك.ولما شخص إلي طبرستان سنة تسع وثمانين وأقام بها أشهد من حضره أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع للمأمون، وجدّد له البيعة عليهم وأرسل إلي بغداد فجدّد له البيعة على الأمين.

وفاة الرشيد وبيعة الأمين

ولما سار الرشيد عن بغداد إلي خراسان بلغ جرجان في صفر سنة ثلاث  وتسعين واشتدت عليه، فبعث إبنه المأمون إلي مرو ومعه جماعة من القواد: عَبْد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن خزيمة والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسدي والحريشي ونعيم بن خازم. ثم سار الرشيد إلي موسى واشتد به الوجع وضعف عن الحركة وثقل، فأرجف الناس بموته، وبلغه ذلك فأراد الركوب ليراه الناس فلم يطق النهوض فقال ردوني. ووصل إليه وهو بطوس بشير أخو رافع أسيراً، بعث به هرثمة بن أعين فأحضره وقال: لو لم يبق من أجلي إلا حركة شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم أمر قصاباً ففصل أعضاءه، ثم أغمي عليه وافترق الناس.

ولما يئس من نفسه أمر بقبره فحفر في الدار التي كان فيها وأنزل فيه قوماً قرؤا فيه القرآن حتى ختموه وهو في محفة على شفيره ينظر إليه وينادي واسوأتاه من رسول الله صلىالله عليه وسلم . ثم مات وصلى عليه إبنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسمعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة أو تزيد، وترك في بيت المال تسعمائة ألف ألف دينار.ولما مات الرشيد بويع الأمين في العسكر صبيحة يومه والمأمون يومئذ بمرو، وكتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد إلي نائبه ببغداد، وهو سلام أبو مسلم يعلمه بوفاة الرشيد وهنأه بالخلافة، فكان أول من فعل ذلك. وكتب صالح إلي أخيه الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد، وبعث معه بالخاتم والبردة والقضيب، فانتقل الأمين من قصره بالخلد إلي قصر الخلافة. وصلى بالناس الجمعة وخطب ثم نعى الرشيد وعزى نفسه والناس، وبايعته جملة أهله ووكل سليمان بن المنصور، وهم عم أبيه وأمه بأخذ البيعة على القواد وغيرهم، ووكل السّندي بأخذ البيعة على الناس سواهم، وفرق في الجند ببغداد رزق سنين. وقدمت أمه زبيدة من الرقة فلقيها الأمين بالأنبار في جمع من بغداد من الوجوه، وكان معها خزائن الرشيد، وكان قد كتب إلي معسكر الرشيد وهو حي مع بكر بن المعتمر لمّا اشتدت علة الرشيد، وإلى المأمون بأخذ البيعة لهما وللمؤتمن أخيهما، وإلى أخيه صالح بالقدوم بالعسكر والخزائن والأموال برأي الفضل. وإلى الفضل بالاحتفاظ على ما معه من الحرم والأموال، وأقر كل واحد على عمله كصاحب الشرطة والحرس والحجابة.وكان الرشيد قد سمع بوصول بكر بالكتاب فدعاه ليستخرجها منه فجحدها فضربه وحبسه. ثم مات الرشيد وأحضره الفضل فدفعها إليه، ولما قرؤا الكتاب تشاوروا في اللحاق بالأمين، وارتحل الفضل بالناس لهواهم في وطنهم، وتركوا عهود المأمون. فجمع المأمون من كان عنده من قواد أبيه، وهم عَبْد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعلاء مولى الرشيد،- وكان على حجابته-. والعباس بن المسيب بن زهير- وكان على شرطته- وأيوب بن أبي سمير- وهو على كتابته- وعبد الرحمن بن عَبْد الملك بن صالح وذو الرياستين الفضل بن سهل- وهو أخصهم به وأحظاهم عنده- فأشار بعضهم أن يركب في أثرهم ويردهم، ومنعه الفضل من ذلك وقال: أخشى عليك منهم، ولكن تكتب وترسل رسولك إليهم تذكرهم البيعة والوفاء، وتحذرهم الحنث، فبعث سهل بن صاعد ونوفلاً الخادم بكتابه إليهم بنيسابور، فقرأ الفضل كتابه وقال : أنا واحد من الجند.وشد عَبْد الرحمن برجليه على سهل ليطعنه بالرمح وقال: لو كان صاحبك حاضراً لوضعته فيه، وسب المأمون وانصرفوا، ورجع سهل ونوفل بالخبر إلي المأمون فقال له الفضل بن سهل: هؤلاء أعداء استرحت منهم وأنت بخراسان، وقد خرج بها المقنع وبعده يوسف البر فتضعضعت لهما الدولة ببغداد، وأنت رأيت عند خروج رافع بن الليث كيف كان الحال وأنت اليوم نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم فاصبر وأنا أضمن لك الخلافة، فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقال: إن عَبْد الله بن مالك والقواد أنفع لك مني لشهرتهم وقوتهم، وأنا خادم لمن يقوم بأمرك منهم حتى ترى رأيك. وجاءهم الفضل في منازلهم وعرض عليهم البيعة للمأمون، فمنهم من امتنع ومنهم من طرده، فرجع إلي المأمون وأخبره فقال: قم أنت بالأمر. وأشار عليه الفضل أن يبعث على الفقهاء ويدعوهم إلي الحق والعمل به وإحياء السنة ورد المظالم ويعقد على الصفوف، ففعل جميع ذلك، وأكرم القواد. وكان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعيّ مكان أبي داود وخالد بن إبراهيم، ولليماني مكان قحطبة ومالك بن الهيثم، وكل هؤلاء نقباء الدولة. ووضع عن خراسان ربع الخراج فاغتبط به أهلها وقالوا: ابن أختنا وابن عم نبين. وأقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان والري، وأهدى إلي الأمين وكتب إليه وعظمه. ثم إن الأمين عزل لأول ولايته أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بن خازم وأقر المؤتمن على قنسرين والعواصم. وكان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد، وعلى حمص إسحاق بن سليمان فخالف عليه أهل حمص، وانتقل عنهم إلي سلمية، فعزله الأمين وولى مكانه عَبْد الله بن سعيد الحرشي، فقتل عدة منهم وحبس عدة وأضرم النار في نواحيها، وسألوا الأمان فأجابهم. ثم انتقضوا فقتل عدة منهم، ثم ولى عليهم إبراهيم بن العباس.

الفتنة بين الأمين والمأمون

ولما قدم الفضل بن الربيع على الأمين ونكث عهد المأمون خشي غائلته، فأجمع قطع علائقه من الأمور وأغرى الأمين بخلعه والبيعة للعهد لإبنه موسى، ووافقه في ذلك على بن عيسى بن ماهان والسنديّ وغيرهما ممن يخشى المأمون. وخالفهم خزيمة بن خازم وأخوه عَبْدالله، وناشدوا الأمين في الكف عن ذلك وأن لا يحمل الناس على نكث العهود فيطرقهم لنكث عهده. ولج الأمين في ذلك وبلغه أن المأمون عزل العباس بن عَبْد الله بن مالك عن الري، وأنه ولىّ هرثمة بن أعين على الحرس، وأن رافع بن الليث أستأمن له فأفنه وسار في جملته فكتب إلي العمال بالدعاء لموسى ابنه بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فبلغ ذلك المأمون فأسقط اسم الأمين من الطرد وقطع البريد عنه. وأرسل الأمين إليه العباس بن موسى بن عيسى، وخاله عيسى بن جعفر بن المنصور وصالحا صاحب الموصل، ومحمد بن عيسى بن نَهِيك يطلب منه تقديم إبنه موسى عليه في العهد ويستقدمه. فلما قدموا على المأمون استشار كبراء خراسان فقالوا: إنما بيعتنا لك على أن لا تخرج من خراسان، فأحضر الوفد وأعلمهم بامتناعه مما جاؤا فيه. واستعمل الفضل بن سهل العباس بن موسى ليكون عيناً لهم عند الأمين ففعل، وكانت كتبه تأتيهم بالأخبار. ولما رجع الوفد عاودوه بطلب بعض كور خراسان، وأن يكون له بخراسان صاحب بريد يكاتبه، فامتنع المأمون من ذلك وأوعد إلي قعوده بالري ونواحيها يضبط الطرق وينقذها من غوائل الكتب والعيون، وهو مع ذلك يتخوف عاقبة الخلاف. وكان خاقان ملك التبت قد التوى عليه، وجيفونة فارق الطاعة، وملوك الترك منعوا الضريبة، فخشي المأمون ذلك، وحفظ عليه الأمر بأن يولي خاقان وجيفونة بلادهما، ويوادع  ملك كابل، ويترك الضريبة لملوك الترك الآخرين. وقال له بعد ذلك: ثم أضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا لحقت بخاقان مستجيراً فقبل إشارته وفعلها، وكتب إلي الأمين يخادعه بأنه عامله على هذا الثغر الذي أمره الرشيد بلزومه، وأن مقامه به أشد غناء ويطلب إعفاءه من الشخوص إليه، فعلم الأمين أنه لا يتابعه على مراده، فخلعه وبايع لولده في أوائل سنة خمس وتسعين، وسمّاه الناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن من المنابر، وجعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى، وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه أخوه عيسى، وعلى رسائله صاحب القتلى. وكان يدعى له على المنابر ولابنه الآخر عَبْد الله ولقبه القائم بالحق، وأرسل إلي الكعبة من جاء بكتابي العهد للأمين والمأمون اللذين وضعهما الرشيد هنالك، وسارت الكتب من ذلك إلي المأمون ببغداد من عيونه بها، فقال المأمون: هذه أمور أخبر الرائي عنها وكفاني أنا أن أكون مع الحق وبعث الفضل بن سهل إلي جند الري بالأقوات والإحسان، وجمع إليهم من كان بأطرافهم. ثم بعث على الري طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق أسعد الخزاعي أبا العباس أميراً وضم إليه القواد والأجناد، فنزلها ووضع المسالح والمراصد، وبعث الأمين عصمة بن حماد بن سالم إلي همذان في ألف رجل، وأمره أن يقيم بهمذان ويبعث مقدمته إلي ساوة.

بيعة المأمون

وأمر المأمون عندها بأن يخطب له على المنابر، ويخاطب بأمير المؤمنين، وعقد للفضل بن سهل على المشرق كلّه من جبل همذان إلي البيت طولاً، ومن بحر فارس إلي بحر الديلم وجرجان عرضاً، وحمل له عمّاله ثلاثة آلاف ألف درهم. وعقد له لواء ذا شعبتين ولقّبه ذا الرياستين يعني الحرب والعلم، وحمل اللواء علي بن هشام، وحمل العلم نعيم بن خازم، وولّى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج.

وفاة المأمون وبيعة المعتصم

ثم مرض المأمون على نهر البربرون واشتد مرضه، ودخل العراق وهو مريض فمات بطرسوس، وصلى عليه المعتصم وذلك لعشرين سنة من خلافته، وعهد لابنه المعتصم وهو أبو إسحاق محمد فبويع له بعد موته، وذلك منتصف رجب من سنة ثمان عشرة ومائتين. وشغب الجند وهتفوا باسم العبّاس بن المأمون فأحضره وبايع، فسكتوا وخرب لوقته ما كان بناه من مدينة طوانة وأعاد الناس إلى بلادهم وحمل ما أطاق حمله من الآلة وأحرق الباقي. 

وفاة المعتصم وبيعة الواثق

وتوفي المعتصم أبو إسحق محمد بن المأمون بن الرشيد، منتصف ربيع الأول سنة سبع وعشرين لثمان سنين وثمانية أشهر من خلافته، وبويع ابنه هرون الواثق صبيحته وتكنى أبا جعفر. فثار أهل دمشق بأميرهم وحاصروه، وعسكروا بمرج واسط وكان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال المبرقع، فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وقتل منهم نحو من ألف و خمسمائة ومن أصحابه نحو ثلثمائة، وصلح أمر دمشق، ورجع رجاء إلى قتال،  المبرقع حتى جاء به أسيراً .

توجه أشناس ووشحه، وكان للواثق سمر يجلسون عنده ويفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة واستبدادهم على الرشيد واحتجابهم الأموال، فأغراه ذلك بصادرة الكتاب فحبسهم وألزمهم الأموال. فآخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه، ومن سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألفاً، ومن إبراهيم بن رباح وكاتبه مائة ألف، ومن أبي الوزر مائة وأربعين ألفاً، وكان على اليمن إيتاخ، وولاه عليها المعتصم بعدما عزل جعفر بن دينار وسخطه وحبسه ثم رضي عنه وأطلقه، فلما ولي الواثق ولى إيتاخ على اليمن من قبله سار بأميان، فسار إليهما وكان الحرس إسحق بن يحيى بن معاذ ولاه المعتصم بعد عزل الأفشين. وولّى الواثق على المدينة سنة إحدى وعشرين محمد بن صالح بن العباس وبقي محمد بن داود على مكة، وتوفي عَبْد الله بن طاهر سنة ثلاثين، وكان على خراسان وكرمان وطبرستان، والري وكان له الحرب والشرطة والسواد فولّى الواثق على أعماله كلها ابنه طاهراً.

وفاة الواثق وبيعة المتوكل

وتوفي الواثق أبو جعفر هرون بن المعتصم محمد لست بقين من سنة إثنتين وثلاثين، وكانت علته الاستسقاء وأدخل في تنور مسجر فلقي خفة ثم عاوده في اليوم الثاني أكثر من الأول فأخرج في محفة فمات فيها ولم يشعروا به. وقيل إن ابن أبي دؤاد غمضه ومات لخمس سنين وتسعة أشهر من خلافته. وحضر في الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرح وابن الزيات، وأراد البيعة لمحمد بن واثق وهو غلام إمر فألبسوه فإذا هو قصير، فقال وصيف: أمَّا تتقون الله تولون الخلافة مثل هذا ! ثم تناظروا فيمن يولونه وأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة وعممه وسلم عليه بإمارة المؤمنين ولقبه المتوكل وصلى على الواثق ودفنه. ثم وضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وولّى على بلاد فارس إبراهيم بن محمد بن مصعب، وكان على الموصل غانم بن محمد الطويس فأقره وعزل ابن العباس محمد بن صول عن ديوان النفقات، وعقد لابنه المنتصر على الحرمين واليمن والطائف.

بيعة العهد

وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين عقد المتوكل البيعة والعهد وكانوا ثلاثة محمدا وطلحة وإبراهيم، ويقال فى طلحة ابن الزبير، وجعل محمداً أولهم ولقبه المستنصر وأقطعه أفريقية والمغرب وقنسرين والثغور الشامية والخزرية، وديار مضر وديار ربيعة، وهيت والموصل وغانة والخابور، وكور دجلة والسواد والخرمين وحضرموت والحرمين والسند ومكران وقندابيل وكور الأهواز والمستغلات بسامرا، وماء الكوفة وماء البصرة. وجعل طلحة ثانيهم ولقبه المعتز، وأقطعه أعمال خراسان وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وأعمال فارس. ثم أضاف إليه سنة أربعين خزن الأموال ودور الضرب في جيم الأفاق، وأمر أن يرسم اسمه في السكة. وجعل الثالث إبراهيم وأقطعه حمص ودمشق وفلسطين وسائر الأعمال الشامية. وفي هذه السنة أمر الجند بتغيير الزي فلبسوا الطيالسة العسلية وشدوا الزنانير في أوساطهم  وجعلوا الطراز في لباس المصاليك، ومنع من لباس المناطق، وأمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمة، ونهى أن يستغاث بهم في الأعمال وأن يظهروا في شعابهم الصلبان، وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب.

مقتل المتوكل وبيعة المنتصر ابنه

كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم وأبغضه لمّا كان يتوهم فيه من استعجاله الأمر لنفسه، وكان يسميه المنتصر والمستعجل لذلك. وكان المنتصر تنكر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال والتشيُّع لعلي، وربما كان الندمان في مجلس المتوكل يفيضون في ثلب علي فينكر المنتصر ذلك ويتهددهم ويقول للمتوكل: إن علياً هو كبير بيننا وشيخ بني هاشم، فإن كنت لا بد ثالبه فتول ذلك بنفسك ولا تجعل لهؤلاء الصفاغين سبيلاً إلى ذلك فيستخف به ويشتمه، ويأمر وزيره عَبيْد الله بصفعه ويتهدده بالقتل ويصرح بخلعه. وربما استخلف ابنه الحبر في الصلاة والخطبة مراراً وتركه، فطوى من ذلك على النكث. وكان المتوكل قد استفسد إلى بغا ووصيف الكبير ووصيف الصغير ودواجن، فأفسدوا عليه الموالي. وكان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار وأمره بالمقام بسميساط لتعهد الصوائف، فسار لذلك واستخلف مكانه ابنه موسى في الدار، وان ابن خالة المتوكل، واستخلف على الستر بغا الشرابي الصغير.  ثم تغير المتوكل لوصيف وقبض ضياعه بأصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فتغير وصيف لذلك وداخل المنتصر في قتل المتوكل، وأعد لذلك جماعة من الموالي بعثهم مع ولده صالح وأحمد وعبد الله ونصر، وجاؤا في الليلة الي اتعدوا فيها. وحضر المنتصر ثم انصرف على عادته، وأخذ زرافة الخادم معه، وأمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا الفتح وأربعة من الخاصة، وأغلق الأبواب إلا باب دجلة فأدخل منه الرجال وأحس المتوكل وأصحابه بهم فخافوا على أنفسهم، واستماتوا وابتدروا إليه فقتلوه. وألقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه. وبعث إلى المنتصر وهو ببيت زرافة فأخبره وأوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر، وبايع له زرافة وركب إلى الدار فبايعه من حضر، وبعث إلى وصيف إن الفتح قتل أبي فقتلته. فحضر وبايع، وبعث عن أخويه المعتز والمؤيد فحضرا وبايعا له. وانتهى الخبر إلى عبيد الله بن يحيى فركب من ليله وقصد منزل المعتز فلم يجده، واجتمع عليه عشرة آلاف من الأزد والأرمن والزواقيل، وأغروه بالحملة على المنتصر وأصحابه فأبى وخام عن ذلك، وأصبح المنتصر فأمر بدفن المتوكل والفتح، وذلك لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. وشاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند وتبعهم  وركب بعضهم بعضاً، وقصدوا باب السلطان، فخرج إليهم بعض الأولياء فاسمعوه، ورجع فخرج المنتصر بنفسه وبين يديه المغاربة فشردوهم عن الأبواب فتفرقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس.

وجاء أيضا في "تاريخ ابن خلدون":

"كان بنو العباس حين ولوا الخلافة قد امتدت إيالتهم على جميع ممالك الإِسلام، كما كان بنو أُمَيَّة من قبلهم. ثم لحق بالأندلس من فل بني أُمَيَّة من ولدها هاشم بن عَبْد الملك حافده عَبْد الرحمن بن معاوية بن هشام، ونجا من تلك الهلكة فأجاز البحر ودخل الأندلس، فملكها من يد عَبْد الرحمن بن يوسف الفهري، وخطب للسفاح فيها حولاً ثم لحق به أهل بيته من المشرق فعذلوه في ذلك فقطع الدعوة عنهم. وبقيت بلاد الأندلس مقتطعة من الدولة الإِسلامية عن بني العباس. ثم لمّا كانت وقعة فتح أيام الهادي علي بن الحسن بن علي سنة تسع وتسعين ومائة، وقتل داعيتهم يومئذ حسين بن علي بن حسن المثنى وجماعة من أهل بيته ونجا آخرون، وخلص منهم إدريس بن عَبْد الله بن حسن إلى المغرب الأقصى، وقام بدعوته البرابرة هنالك، فاقتطع المغرب عن بني العباس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم. ثم ضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حُجرهم من حين قتل المتوكل وحدثت الفتن ببغداد، وصار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم، فدعا أبو عَبْد الله الشيعي سنة ست وثمانين ومائتين بإفريقية في طامة لعبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسمعيل بن جعفر الصادق وبايع له، وانتزع إفريقية من يد بني الأغلب واستولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام، واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العباس واستحدثوا له دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر في أخبارهم. ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن زيد بن محمد بن إسمعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط ويعرف بالداعي، خرج سنة خمسين ومائتين أيام المستعين ولحق بالديلم فأسلموا على يديه، وملك طبرستان ونواحيها، وصار هنالك دولة أخذها من يد أخيه سنة إحدى وثلثمائة الأطروش من بني الحسين، ثم من بني علي، عمر داعي الطالقان أيام المعتصم، وقد مر خبره. واسم هذا الأطروش الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر، وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الحسين، واستولى عليها الديلم، وصارت لهم دولة أخرى.

وظهر باليمن الرئيس وهو ابن إبراهيم طباطبا بن إسمعيل بن إبراهيم بن حسن المثنى فأظهر هنالك دعوة الزيدية وملك صعدة وصنعاء وبلاد اليمن، وكانت لهم هنالك دولة ولم تزل حتى الآن. وأول من ظهر منهم يحيى بن الحسين بن القاسم سنة تسعين ومائتين ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج ادعى أنه أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد، وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي، وطعن الناس في نسبه فادعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجان ، وقيل  إنه انتسب إلى طاهر بن الحسين بن علي والذي ثبت عند المحققين أنه علي بن عَبْد الرحيم بن عَبْد القيس، فكانت له ولبنيه دولة بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد أيام السبعين ومائتين. ثم ظهر القرظ بنواحي البحرين وعمان فسار إليها من الكوفة سنة تسع وسبعين أيام المعتضد، وانتسب إلى بني إسمعيل الإمام بن جعفر الصادق دعوى كاذبة، وكان من أصحابه الحسن الجمالي وزكرونة القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة ودعوا لعبد الله المهدي وغلبوا على البصرة والكوفة، ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان، وكانت لهم هنالك دولة انقرضت آخر المائة الرابعة، وتغلب عليهم العرب من بني سليم وبني عقيل. وفي خلال ذلك استبد بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين ومائتين وأقاموا على الدعوة إلا أنهم لا ينفذون أوامر الخلفاء، وأقامت دولتهم إلى آخر المئة الرابعة. ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بغزنة إلى منتصف المائة السادسة، وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة أخرى بمصر والشام بالاستبداد من لدن الخمسين والمائتين أيام الفتنة إلى اخر المائة الثالثةثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين والثلثمائة. وفي خلال هذا كله. تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي السواد والجزيرة فقط، إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم. ثم كانت للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي وملكوا الأعمال ثم ساروا إلى بغداد وملكوها وصيروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلثمائة، وكانت من أعظم الدول. ثم أخذها من أياديهم السلجوقية من الغز إحدى شعوب الترك، فلم تزل دولتهم من لدن القائم سنة أربعين وأربعمائة إلى آخر المائة السادسة، وكانت دولتهم من أعظم الدول في العالم. وتشعبت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في مكانه، ثم استبد الخلفاء من بني العباس آخراً  في هذا النطاق الضيق ما بين دجلة والفرات وأعمال السواد وبعض أعمال فارس، إلى أن خرج التتار من مفازة الصين وزحفوا إلى الدولة السلجوقية وهم على دين المجوسية، وزحفوا إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم، وانقرض أمر الخلافة، وذلك سنة ست وخمسين وستمائة. ثم أسلموا بعد ذلك وكانت لهم دولة عظيمة، وتشعبت عنها دول لهم ولأشياعهم في النواحي وهي باقية لهذا العهد آخذة في الثلاثين".