فتح المغرب

سقطت مدينة الاسكندرية بأيدي المسلمين العرب سنة 642 م بقيادة عمرو بن العاص . وكانت الاسكندرية آنذاك ثاني أكبر مدن الدولة البيزنطية . وسار ابن العاص في السنة التالية بجيشه غرباً متجهاً نحو مدينة طرابلس الغرب التي سقطت بعد حصار دام حوالى الشهر . وكانت الجيوش العربية قد فتحت زويلة وبرقة بقيادة عقبة بن نافع . وقد أغرت هذه الانتصارات ابن العاص ليكمل طريقه لفتح " أفريقية " ، أي بلاد المغرب قاطبة .غير أن الخليفة عمر بن الخطاب منعه من ذلك . ومع مجيء الخليفة عثمان بن عفان حدث تبديل في سياسة الدولة الاسلامية تجاه مصر وافريقية . فالخليفة الجديد ، بخبرته الطويلة في شؤون التجارة الدولية ، فهم أهمية وقيمة ومردود هذا التوسع على طول الشواطىء الجنوبية من البحر الابيض المتوسط وبالتالي اتخذ قراراً جريئاً بفتح المغرب بأكمله .

تجمع جيش العرب المسلمين في
مصر وسار بقيادة عبد الله بن ابي سراح باتجاه برقة بليبيا حيث انضم اليه عقبة بن نافع بمن كان معه من المسلمين وبمن انضم اليهم من البربر الذين اعتنقوا الاسلام . وفي سنة 27 هـ ( 647 – 648 م ) سار حشد كبير باتجاه تونس الحالية . ولما وصل الجيش العربي الى قابس وجدها محصنة فتجاوزها ودخل " أفريقية " وجرت معركة فاصلة مع البيزنطيين بقيادة غريغوريس او جرجير كما تدعوه المصادر الاسلامية حول مدينة سبيطلة التي سقطت بسهولة بعد مقتل جرجير المذكور. واتجه الجيش بعدها الى مدينة قفصة . لكن الهجوم العربي الاسلامي توقف عن الزحف غرباً بعد ان تخلى القائد المصري ابن ابي سراح عن القتال وعاد بجنوده الى مصر مكتفياً بالغنائم التي جمعها .

مع قيام دولة بني أمية في دمشق قرر معاوية إكمال الفتوحات الافريقية فعيّن ابن حديج على "ولاية المغرب" بعد ان ربطها بالخلافة مباشرة . ولما تبين لمعاوية ضعف ابن حديج أقاله وعين مكانه عقبة بن نافع ، رائد الفتوحات الاسلامية في شمال افريقيا . وكان عقبة هذا رجلاً شجاعاً ومحارباً شديد البأس قوي الايمان بالاسلام كبير الرغبة في نشره ولو بالقوة .

صمم عقبة بن نافع على بناء مقر
ثابت ليقنع أهل البلاد ان وجود المسلمين هو أمر دائم وليُفهم البيزنطيين ان لا تراجع عن فتح الشمال الافريقي . ولما كان البيزنطيون يقيمون على طول السواحل فقد قرر ابن نافع ان يجعل مقره مدينة وان تقوم هذه المدينة في الداخل بعيدة عن الساحل ، فبنى القيروان . وكان له في ذلك هدف آخر هو مراقبة البربر ورصد تحركاتهم .

تحولت القيروان الى مدينة كبيرة وقاعدة حربية والى مركز ديني بعد ان بنى فيها ابن نافع المساكن والمساجد ، واتخذت لنفسها بدءاً من سنة 55 هـ ( 674 م ) مكانة بارزة بين مدن دولة الاسلام وأصبحت مقراً للولاة والعمال والجيوش التي كانت تخرج منها وتعود اليها بالغنائم. ومن مساجدها ومدارسها تخرج العلماء والرسل والفقهاء ليدعموا وجود
الاسلام في تلك الاصقاع . وبصورة مدهشة عمرت بالدور وبالمنشآت العامة وأقبل كثيرون ممن أسلموا من البربر على الاقامة فيها ، يختلطون بالعرب ويتعايشون ويتآلفون معهم . غير أن هذا النجاح الباهر أغرى عقبة بن نافع باتباع سياسة مستقلة عن مركز الخلافة في دمشق فأمر الخليفة بابعاده وعيّن مكانه مسلمة بن مخلد واليًا على مصر وأفريقية . وقيل إن من بين الاسباب التي حدت بمعاوية لاقصاء ابن نافع كون السياسة التي اتبعها هذا الاخير كانت متشددة لم تتوافق مع طبيعة الخليفة في دمشق الذي عُرف بمرونته ودهائه ودبلوماسيته .

أحلّ مسلمة بن مخلد مكانه في ولاية مصر وأفريقية الي ابي المهاجر دينار الذي كان ، مع حماسه للغزو والفتح ، صاحب نظرية في التعامل مع السكان المحليين أعطت في المدى الطويل نتائج مذهلة . فقد آمن بأن وجود دولة الاسلام في تلك الاصقاع النائية سيظل ضعيفاً ما لم يرتكز الى قواعد متينة تقوم على ولاء الناس وحبهم . فسعى الى التقرب من البربر وتمكن من إسلام " كسيلة " زعيم قبائل البربر البرانس الذي كان نصرانياً وحليفاً للبيزنطيين ، فساعده هذا الزعيم في التوسع غرباً حتى مدينة تلمسان في المغرب الاوسط.

توفي معاوية بن أبي سفيان سنة 60 هـ ( 680 م ) وآلت الخلافة الى ابنه يزيد الذي أعاد عقبة بن نافع مجدداً الى ولاية أفريقية" ( 62 هـ / 682 م ) وكلّفه متابعة التوسع والفتح . فانطلق عقبة بسرعة الى مدينة القيروان وتسلم السلطة من أبي المهاجر دينار وأنزل فيها حامية من جنوده . واعتمد عقبة في تعامله مع البربر ، على خلاف سلفه ، سياسة القوة والعنف وتجاهل زعيمهم كسيلة واندفع في حملة سريعة غلبت عليها روح المغامرة والحماس فحاصر مدينة بغاية وافتتحها وقتل عدداً كبيراً من الروم فيها . غير ان هؤلاء عادوا الى المدينة وتحصنوا فيها فأهملها عقبة وتوجه الى مدينة ممس حيث حارب أهلها من الروم من دون ان يحتل المدينة . ومن هناك توجه الى مدينة تاهرت حيث تغلب على قبائل البربر التي كانت قد تجمعت فيها . وهكذا تمكن القائد العربي من احتلال أكثر مناطق المغرب الاوسط من دون ان يحتل مدناً بصورة دائمة .

سار عقبة بن نافع بعد انتصاراته في المغرب الاوسط باتجاه المغرب الاقصى حتى وصل الى مدينة
طنجة التي تسلمها سلماً من صاحبها يوليان ، ثم انتقل بجيشه الى حيث تقوم مدينة فاس اليوم وهزم البربر ووصل حتى سواحل المحيط الاطلسي ، ساحقاً كل مقاومة واجهته من البيزنطيين والبربر . بعدها اتجه نحو جبال اوراس سالكاً الطريق التي تقوده الى مدينة تهوده التي كانت تشهد آنذاك تجمعاً كبيراً لمحاربي البربر والبيزنطيين ، وفيها أصيب بهزيمة نكراء وقتل هو ومساعده ابو المهاجر دينار .

أحدثت هذه الهزيمة ( 64 هـ / 683 م ) دوياً كبيراً بين المسلمين ، خصوصاً وان بطل الفتوحات الافريقية عقبة بن نافع استشهد فيها . وبدا وكأن الوضع بكامله قد بدأ يميل الى غير صالح المسلمين وظهرت دلائل تشتت داخل الجيوش الاسلامية بعد أن دخل كسيلة مدينة القيروان ظافراً باسطاً سلطانه على ولاية أفريقية كلها معطياً الامان لكل من طلب من المسلمين .

مع وصول عبد الملك بن مروان الى سدة الخلافة في دمشق عادت الرغبة شديدة في الشام لاستئناف الفتوح ، فوجه الخليفة أمراً الى القائد زهير بن قيس البلوي المتمركز مع جنوده في برقة باستعادة القيروان . وفي سنة 69 هـ ( 688 م ) سار هذا القائد الى القيروان . ومع وصول اخبار الحملة الى كسيلة قرر إخلاء المدينة والتراجع مع جيشه الكبير الى مكان قريب من مدينة ممس ، وهو مكان يقع على طريق المسلمين الى مصادر الماء ليحرج وضعهم ، من جهة ، ولقرب المكان من الجبال والصحراء التي يمكن ان يلجأ اليها الخاسر ، من جهة اخرى . مالت كفة القتال بسرعة الى صالح القائد الاموي وهُزم جيش كسيلة وقتل هذا الاخير، ولاحق الجيش الاموي فلول جنود كسيلة حتى نهر ملوية عند حدود المغرب الاقصى.

حقق هذا النصر للأمويين وللمسلميين عامة مبتغاهم في فتح المغرب وزالت كل مقاومة بيزنطية او بربرية ، بخاصة بربر البرانس . لكن هذا الانتصار شابته نكسة اذ هاجم البيزنطيون جيش زهير بن قيس البلوي العائد الى برقة بمراكب كثيرة وقوة عظيمة وتمكنوا من ان يقتلوا البلوي وان يهزموا جيشه ، فتوقفت الفتوح إثر الهزيمة لسنوات جمع خلالها الخليفة عبد الملك جيشاً جديداً في مصر واختار له قائداً جديداً هو حسان بن النعمان الغساني . وكان هذا الرجل قائداً بارعاً وسياسياً منفتحاً فقرر مهادنة البربر واستمالتهم وتجيشهم للانقلاب على البيزنطيين . ومن الوجهة العسكرية قرر فتح المناطق الداخلية وترك البيزنطيين في مناطقهم الساحلية .

إتخذ الغساني من القيروان قاعدة لجيشه ومنطلقاً لغزواته وتقرب من البربر البرانس وصالحهم وضم بعضهم الى جيشه فزحفوا معه الى مدينة قرطاجة التي اخلاها الروم بعد قتال قصير وانتقل بعضهم الى جزيرة صقلية والبعض الآخر الى اسبانيا . ثم توجه الى بنزرت وصفطوره ( في تونس الحالية ) وطرد البيزنطيين منهما . وتحقق بذلك للمسلمين ، ولأول مرة ، السيطرة على مناطق ساحلية ، خصوصاً ان الأمويين كانوا قد بدأوا بانشاء اسطول بحري أرسل بعضه الى المرافىء الافريقية الشمالية .

تخللت هذه الانتصارات نكسة جديدة جاءت على يد بربر البتر في جبال الاوراس ، وكانت تقودهم امراة قوية تدعى الكاهنة . وقد تمكن هؤلاء من انزال هزيمة كبيرة بالجيش الاسلامي أدت الى تراجعه الى برقة حيث استقر حوالى خمس سنوات استبدت خلالها الكاهنة بالمناطق الافريقية الشمالية الداخلية . وكان ما فعلته بالناس وممتلكاتهم مريعاً مما أفقدها الكثيرين من الانصار واستعدى عليها السكان المسيحيين ، وخاصة بربر البرانس . ولما أعادت القوات الاسلامية هجومها لاقت ترحيباً ومساندة من السكان فانتهت المعارك بانهزام الكاهنة وقطع رأسها فوق بئر لا يزال يعرف ببئر الكاهنة .

فتح هذا النصر الباب امام تركيز اقدام دولة الامويين في المغربين الادنى والاقصى وبقي امامهم إخضاع بلاد المغرب الاقصى . فقام بهذه المهمة موسى بن نصير . وكانت العملية سهلت بعد ان استسلمت القبائل البربرية لضعفها بعد ما اصابها واصاب سائر قبائل البربر في المغرب الاوسط من قتل وارهاب ، بخاصة قبائل هواره وزنانة وكتامة .

وليّ طارق بن زياد على طنجة واحوازها بعد ان هدأت حروب العرب المسلمين مع البربر والبيزنطيين ودخلت اعداد كبيرة من البربر في الاسلام . وبدخولهم هذا ومساندتهم نجح طارق من تركيز دعائم دولة الاسلام في كل بلدان المغرب الاقصى وصولاً الى شواطىء المحيط وتخوم الصحراء الكبرى ولم يبق خارج الدولة سوى مدينة سبتة التي صمدت بوجه الفتح بعناد . ومن المغرب الكبير تطلعت عينا طارق بن زياد شمالاً نحو شبه
جزير أيبيريا وبدأ التخطيط لفتحها .

 



عمر بن الخطاب
عمرو بن العاص