دولة بني أمية

بنو امية من كبرى قبائل مكة، ومن السادة في قريش ومن سادة العرب، كانت قبيلة بني أمية من أهم القبائل ذات النفوذ في مكة وجدهم هو امية بن عبد شمس بن عبد مناف وهو الجد الأكبر لبني امية، وكانت أول قبيلة مسلمة حاكمة في تاريخ الإسلام، حكمت ما بين عام 661 م إلى 750م.

ينتسب بني أمية إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب‏ بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن إسماعيل عليه السلام.‏ يجتمع نسب بني أمية مع الرسول ـ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ـ في الجد من جهة أبيه‏، وهم من اشراف العرب.

قامت الدولة الأموية في عام 662 ميلادي وكان أول الخلافاء معاوية بن ابي سفيان وكانت دمشق عاصمة الدولة، في عهد دولة بني أمية ومن عاصمتها دمشق انتشر الإسلام والفتوح غرباً حتى إسبانيا في أوروبا، ثم شرقا حتى تخوم الصين سنة 715 م في وسط آسيا وكونت أكبر دولة في التاريخ الإسلامي، ونجح الأمويون في فتح الكثير من البلاد ونشر الإسلام، واهتموا بالعلوم والفقه والمساجد، والعمارة وجعلوا من عاصمتهم دمشق أهم مدن العالم الإسلامي ومنارة للعلم، انشأ الأمويون أهم المعالم في المدن الإسلامية والتي ماتزال حتى اليوم مثل المسجد الأموي بدمشق، والمسجد الاقصى بالقدس والمسجد النبوي بالمدينة المنورة وجامع قرطبة في الاندلس والكثير من القصور الأموية الشهيرة.

تميزت العمارة في العهد الأموي واشتهرت بالزخارف والفسيفساء، وصك الأمويون العملة الإسلامية _ الدينار الأموي في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، واشادوا دور العلم والمدارس والمكتبات والمستشفيات وشجعوا العلم والعلماء، وعربوا الدواوين ونظموا الحكم والدولة والولاة ونظام القضاء وغيره، وفي العهد الأموي وضعت النقط على حروف المصحف الشريف (تنقيط المصحف)، واوجدوا نظام البريد وربطوا عاصمتهم دمشق بباقي المدن في الدولة بنظام البريد، وبنى الأمويون أول اسطول إسلامي بحري كان يجوب البحار.

الخلافة الأموية

مؤسس السلالة الأموية الحاكمة ب دمشق هو معاوية بن أبي سفيان (662-680 م) المولود بمكه المكرمه. كان أخوه يزيد بن أبي سفيان واليا على الشام في عهد الخليفة الأول أبو بكر وبعد وفاته بعث هو واليا عليها منذ 657 م من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

تولى الخلافة معاوية الأول بن أبي سفيان (662 - 680م) بعد أن اجمع المسلمون بخلافة معاوية وتنازل له الحسن بن علي رضي الله عنهما في عام الجماعة سنة 41هـ، واتخذ معاوية من دمشق عاصمة للخلافة الإسلامية. وبذلك انتقلت الخلافة إلى الفرع السفياني من بني أمية، أسس معاوية الخلافة الأموية وارسى كيانها كخلافة قوية. جذب مخالفيه على طاعته ارسى كيان الدولة وعمل على توحيد المسلمين. وتميز حكمه بالحكمة والعدل. أنشأ أول اسطول بحري إسلامي، ووصل إشعاع الحضارة الإسلامية من دمشق إلى اصقاع بعيدة من العالم لتكون الدولة الأموية أكبر دولة إسلامية عرفها التاريح.

من بعد معاوية بن ابي سفيان انتقلت الخلافة إلى : -

الخليفة يزيد الأول بن معاوية ابن سفيان: استمر تطور الدولة الإسلامية في عهده وقعت واقعة كربلاء الشهيرة والتي قتل فيها حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الحسين هو واهله واصحابه حيث خرج على يزيد رافضاً خلافته وكان أول من خانه الذين وعدوه بالنصر في الكوفة رغم أن كثيراً ممن بقي من الصحابة والتابعين نهوه عن الخروج من المدينة خوفاً عليه من الخيانة والغدر، بعدها ثار عبد الله بن الزبير بن العوام على يزيد بن معاوية وبايعه أهل الحجاز واليمن والجزيرة والعراق.

معاوية الثاني بن يزيد الأول بن معاوية: والذي تنازل عن حقه في الخلافة لأنه محباً للعلم والأدب والشعر ولم يكن يرغب في الخلافة رغم أنه تولاها 6 أشهر ومن بعدها ترك الأمر شورى بين المسلمين.

الخليفة مروان الأول بن الحكم: المولود بمكه المكرمه. ويعتبر هو المؤسس الحقيقي للفرع المرواني من السلاله الأموية في دمشق، حيث توالى ابناؤه على الحكم من بعده استمرت الفتوحات في عهده ومتداد الدولة نحو الشرق، مات مروان بن الحكم بالسم وخلفة ابنه عبد الملك.

الخليفة  عبد الملك بن مروان: من بعد الخليفة مروان بن الحكم آلت الخلافة إلى ابنه عبد الملك بن مروان بن الحكم (685 - 705م) وهو والمؤسس الفعلي لكيان دولة الخلافة الأموية القوية. واستطاع الخليفة عبد الملك بن مروان (685-705 م) من أن يسيطر على الأمور ويخضع الخوارج على يد المهلب بن أبي صفره وأن يخمد ثورات العراق والمتمردين على كيان الدولة امثال عبد الله بن الزبير على يد الحجاج بن يوسف الثقفي بعد حصار لمكة دام 6 شهور وارساء الامن في أنحاء البلاد.

ازدهرت العلوم في عهد عبد الملك بن مروان وصك النقود الإسلامية الأموية، واقام المكتبات وشجع العلماء واهتم بهم، وأنشأ في دمشق الكثير من دور العلم والمدارس والفقه ودور العبادة واجتذب العلماء والمفكرين والفقهاء وتم في عهد الخليفة عبد الملك تعريب الدواوين الحكومية بعدما كانت المراسلات والسجلات تكتب بالرومية وبناء مسجد قبة الصخرة على وضعهة الحالي حتى اليوم كم زادت في عهد عبد الملك رقعة الدولة وامتدادها.

من بعد الخليفة (عبد الملك بن مروان) آلت الخلافة إلى ابنه البكر الوليد (705 - 715 ميلادي) وتواصلت حركة الفتوحات والغزوات الإسلامية وفتح الأمويون مزيدا من البلاد في آسيا شرقآ إلى أوروبا غربا لتصبح الدولة الإسلامية أهم وأكبر إمبراطورية في التاريخ على الإطلاق الدولة الأموية وعاصمتها دمشق، إذ وصلت سنة 711 م غرباً حتى إسبانيا في أوروبا، ثم شرقا حتى تخوم الهند والصين في وسط آسيا، ثم سنة 715 م كان غزو بخارى وسمرقند وتكملة فتح الاندلس وغيرها من البلاد في كل اتجاه، وفي عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك تم تطوير بناء الجامع الأموي - جامع دمشق الكبير واهتم بعمارته وزينة بالفسيفساء والزخارف والنقوش ليصبح الجامع الأموي بدمشق أهم معلم إسلامي، وكان للعلم والعلماء والادباء والشعراء مساحة من اهتمام الوليد وشجعهم واهتم بأنشا العمائر في عاصمة الدولة دمشق وفي المدن الإسلامية كافة وظهر فن العمارة الأموية الذي تميز العصر الأموي بعد ذلك.

ممما هو جدير بالذكر في عهد الخلفاء الأمويون تقدمت وازدهرت الخلافة بكل مقوماتها وقوتها، وامتد النفوذ الأموي في كل مكان شرقآ وغربآ وعملوا على تقوية أواصر الدولة الإسلامية التي وصلت إلى أكبر اتساع لها بشكل لم تصل إليه أي دولة إسلامية في كافة العهود السابقة أو اللاحقة، وبرزت الدولة الآسلامية كإمبراطورية ضخمة بكل المقاييس وصل نورها إلى اصقاع بعيدة من العالم، وازدهرت في العهد الأموي العلوم والعمارة والادب والشعر والفنون والصناعة.

تواصل الخلافاء الأمويون، فتولى الخلافة بعد ذلك الخليفة سليمان بن عبد الملك، والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان الأول بن الحكم وهو الخليفة الأموي الذي لقب بخامس الخلفاء الراشدين وعرف بالعدل والزهد والسخاء على الرعية حتى لم يبقى في عهده من يستحق الزكاة (قيل أنه مات مسموماً)، ومن بعده الخليفة يزيد بن عبد الملك والذي أراد أن يسير بالناس سيرة عمر لكنه لم يستطيع بسبب حاشية السوء، ومن ثم الخليفة هشام بن عبد الملك.

تولى الخليفة هشام بن عبد الملك (724-743م) الخلافة ليكمل رسالة الخلافة الأموية الحضارية واهتم في ترسيخ الامن في الولايات الإسلامية كافة، ووصلت الحضارة الإسلامية الأموية في عهده إلى مستوى من التقدم في شتى المجالات، واشتهر عهده بازدياد إقبال العلماء وانشأ المزيد من دور العلم والمدارس المتخصصة ودور العبادة وعرفت فنون العمارة الأموية الإسلامية المميزة للعهد لأموي التي تميزت ببناء القصور والحصون التي انتشرت في دمشق وأنحاء مدن الشام وكافة ارجاء البلاد الإسلامية.

ومن بعد هشام بن عبد الملك تسلم الخلافة على التوالي وهم :-

الخليفة الوليد الثاني بن يزيد الثاني بن عبد الملك وهو أول خلفاء عهد الضعف للدولة الأموية، كان مهملاً للخلافة طائشاً لايُحسن تصريف الأمور (مات مقتولاً).

الخليفة يزيد الثالث بن الوليد الأول بن عبد الملك كان حسن السيرة حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدولة بسبب ثورات العرب اليمانية والقيسية لكن بعد فوات الأوان.

الخليفة إبراهيم بن الوليد الأول بن عبد الملك تولاها بعد أخية يزيد الثالث ولم يستمر بها أكثر من 6 شهور حيث ثار عليه ابن عم أبيه مروان الثاني بن محمد بن مروان بن الحكم.

آخر الخلفاء الأمويين في المرحلة الأولى كان الخليفة مروان الثاني بن محمد (744-750م) الذي واجه مؤامرة من العباسيين الذين تمكنوا من قبض زمام الأمور وتكوين دولتهم في خراسان فواجه دسائس المفسدين والخارجين على أسس الدولة الإسلامية إلى أن انتهى مروان مقتولاً في دير بمصر بعد هروبة من جنود العباسيين وبه انتهى عصر الخلافة الأموية في المشرق سنة 750 م والذي دام أكثر من 90 سنة.

ورد في "تاريخ ابن خلدون" المجلد الثالث حول الدولة الأموية:

" كان لبني عَبْد ُمنَافَ في قُرَيْش جُمَلٌ من العدد والشرف. لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قُرَيْش. وكان فخذاهم بنو أمَيَّة وبنو هاشم حياً جميعاً ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه. وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدداً من بني هاشم وأوفر رجالاً، والعِزةُ إنما هي بالكثرة، قال الشاعر:

وإنما العِزةُ للكَاثر

وكان لهم قبيل الإِسلام شرف معروف، انتهى إلى حرب بن أُمَيَّة، وكان رئيسهم في حرب الفُجَّار. وحدث الإخباريون أن قريشاً تواقعوا ذات يوم، وحرس هذا مسند ظهره إلى الكعبة، فتبادر إليه غلمة منهم ينادون ياعم أدرك قومك، فقام يجرَ إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا، ولَوح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم.ولما جاء الإِسلام ودُهِشَ الناس لمّا وقع من أمر النبوَّة والوحي وتنزل الملائكة، وما وقع من خوارق الأمور ونسي الناس أمر العَصَبِيَّة مسلمهم  وكافرهم. أمَّا المسلمون فنهاهم الإِسلام عن أُمور الجاهلية كما في الحديث أنَّ الله أذهب عنكم غُبِيَّةّ الجاهلية وفخرها لأننا وأنتم بنو آدم، وآدم من تراب. وأمَّا المشركون فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن شأن العصائب، وذهلوا عنه حيناً من الدهر. ولذلك لمّا افترق أمر بني أُمَيَّة وبني هاشم بالإِسلام. إنما كان ذلك الافتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير. ولم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإِسلام، حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد. ولم يبق إلا العَصَبِيَّة الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزّة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه، فهذه لا يُذهبها شيءٌ ولا هي محظورة، بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاءِ إلى الدين.ألا ترى إلى صَفْوان بن أُمَيَّة وقوله عندما انكشف المسلمون يوم حُنَيْن، وهو يومئذ مشرك في المدَّة التي جعل له رسول الله rحتي يسلم، فقال له أخوه: ألا بطل السحر اليوم؟ فقال له صَفْوان اسكت فض الله فاك. لأن يُرِبْني رجل من قُرَيْش أحب إليَّ من أن يُرِبْني رجل من هُوَازِن.

ثم أن شرف بني عَبـْد مناف لم يزل في بني عَبْد شمس وبني هاشم. فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله r، وحمزة كذلك. ثم من بعده العباس، والكثير من بني عَبْد المطلب، وسائر بني هاشم، خلا الجوّ حينئذ من مكان بني هاشم بمكّة، واستغلظت رياسة بني أُمَيَّة في قُرَيْش. ثم استحكمتها مشيخة قُرَيْش من سائر البطون في بَدْر وهلك فيها عظماء بني عَبْد شمس: عُتْبَةُ ورَبيعَةُ والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم. فاستقلّ أبو سُفْيان بشرف بني أُمَيَّة والتقَدَّم في قُرَيْش، وكان رئيسهم في أُحُدٍ وقائدهم في الأحزاب وما بعدها.ولما كان الفتح قال العباس للنبي لمّا أسلم أبو سفيان ليلتئذ، كما هو معروف، وكان صديقاً له يا رسول اللهr إنّ أبا سُفْيان رجل يحب الفخر، فاجعل له ذكراً، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ثم منّ على قُرَيْش بعد أن ملكهم يومئذ، وقال: إذهبوا فأنتم الطُلَقَاء وأسلموا. وشكت مشيخة قُرَيْش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم من التخلّف عن رتب المهاجرين الأوّلين، وما بلغهم من كلام عمر في تركه شوارهم، فاعتذر لهم أبو بكر وقال: أدركوا إخوانكم بالجهاد، وأنفذهم لحروب الرِدَّة، فأحسنوا الغَنَاءَ عن الإِسلام وقوّموا الأعْرَاب عن الحيف والميل. ثم جاء عمر فرمى بهم الروم، وأرغب قريشاً في النفير إلى الشام، فكان معظمهم هنالك. واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام. وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عَمْوَاس سنة ثماني عشرة فولّى مكانه أخاه معاوية وأقّره عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على قُرَيْش في الإِسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوَّة، ونبذوا الدنيا من أيديهم بما اعتاضوا عنها من مباشرة الَوحْي وشرف القرب من الله برسوله وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أُمَيَّة. وانظر مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر: إنّ هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عَبْد مناف. ولما هلك عثمان واختلف الناس على عليّ كانت عساكر عليّ أكثر عدداً لمكان الخلافة والفضل، إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم، وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قُرَيْش شوكة مضرو بأسهم، نزلوا بثغور الشام منذ الفتح، فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكة، ثم كسر من جناح عليّ، ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه، واتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عندما نسي الناس شأن النبوَّة والخوارق، ورجعوا إلى أمر العَصَبِيَّة والتغالب، وتعين بنو أمَيَّة  للغلب على مُضَر وسائر العرب، ومعاوية يومئذ كبيرهم. فلم تتعدّه الخلافة ولا ساهمه فيها غيره، فاستوت قدمه واستفحل شأنه، واستحكمت في أرض ِمْصَر رياسته وتوثق عقده. وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة، ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم، ويصانع رؤوس العرب وقروم مُضَر بالإغضاءِ والاحتمال والصبر على الأَذى والمكروه. وكانت غايته في الحلم لا تدرك، وعصابته فيها لا تنزع، ومرقاته فيها تزلُّ عنها الأقدام.ذكر أنه مازح عديّ بن حاتم يوماً يؤنبه بصحبة عليّ، فقال له عديّ: والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وأنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبراً لندنينَّ إليك من الشرّ باعاً، وأنَّ حّز الحلقوم وحَشْرَجَة الحيزوم ، لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليّ، فشم السيف يا معاوية يبعث السيف. فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها، وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا، وأخباره في الحلم كثيرة.

بعث معاوية العمال إلى الأمصار

لمّا استقل معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمّال إلى الأمصار، فبعث على الكوفة المُغِيرة بن شُعْبَة. ويقال إنه ولّى عليها أوّلا عَبْدَ الله بن عَمْرو بن العَاص، فأتاه المغيرة منتصحاً، وقال: عمرو بمِصْرَ وابنه بالكوفة فأنت بين نابي أسد، فعزله وولّى المغيرة. وبلغ ذلك عمراً فقال لمعاوية: يختان المال فلا تقدر على ردّه، فعد فاستعمل من يخافك. فنصب المُغِيرَة على الصلاة، وولّى على الخراج غيره، وكان على القضاء شُرَيح. ولما وَلىَ المغيرة على الكوفة استعمل كُثَيّر بن شهاب على الريّ، وأقرّه زياد بعده. وكان يغزو الدَيْلُم. ثم بعث على البصرة بسر بن أرْطَأَة، وكان قد تغلّب عليها حمران بن زيد عند صلح الحسن مع معاوية، فبعث بسراً عليها فخطب الناس وتعرض لعليّ. ثم قال: نشدت الله رجلاً يعلم أني صادق أو كاذب، ولا صدقني أو كَذَّبَني. فقال أبو بكرة: اللهم لا نعلمك إلاّ كاذباً، فأمر به فخنق. فقام أبو لُؤْلُؤَة الضَبِيّ فدفع عنه. وكان على فارس من أعمال البصرة زياد ابن أبيه. وبعث إليه معاوية يطلبه في المال فقال: صرفت بعضه في وجهه، واستودعت بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله. فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك، فامتنع. فلما ولي بِسْرٌ على البصرة جمع عنده أولاد زياد والأكابر عَبْد الرحمن وعبد الله وعبّاد وكتب إليه لتقدمنَّ أو لأقتلن بنيك فامتنع واعتزم بِسْر على قتلهم، فأتاه أبو بكرة وكان أخا زياد لأمّه فقال: أخذتهم بلا ذنب.وصالح الحسن على أصحاب عليّ حيث كانوا، فأمهله بِسْر إلى أن يأتي بكتاب معاوية. ثم قدم أبو بكرة على معاوية وقال: إنّ الناس لم يبايعوكَ على قتل الأطفال، وإن بِسراً يريد قتل بني زياد! فكتب إليه بتخليتهم وجاء إلى البصرة يوم المهاد، ولم يبق منه إلآَّ ساعة وهم موثقون للقتل فأدركهم  وأطلقهم انتهى.ثم عزل معاوية بِسراً عن البصرة، وأراد أن يولي عُتْبَة بن أبي سفيان، فقال له ابن عامر: إن لي بالبصرة أموالاً وودائع، وإن لم تولني عليها ذهبت. فوّلاه وجعل إليه معها خراسان وسجستان. وقدمها سنة إحدى وأربعين فولي على خراسان قيس بن الهيثم السلمي، وكان أهل بلخ وباذغيس وهراة وبوشلج قد نضوا، فسار إلى بلخ وحاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة. وقيل إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين على ما سيأتي. ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه وولى مكانه عَبْد الله بن حازم، وقدم خراسان فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشلج في الأمان والصلح فأجابهم وحمل لابن عامر مالا انتهى. ثم ولى معاوية سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام. واستقضى مروان عَبْد الله بن الحارث بن نوفل، وعزل مروان عن المدينة سنة تسع وأربعين، وولى مكانه سعيد بن العاص، وذلك لثمان سنين من ولايته. وجعل سعيد على القضاء   ابن عَبْد الرحمن مكان عَبْد الله بن الحرث ثم عزل معاوية سعيداً سنة أربع وخمسين وردّ إليها مروان.

قدوم زياد: وكان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل علي كما قدّمناه، وكان عَبْد الرحمن ابن أخيه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة، ورفع إلى معاوية أن زياداً استودع أمواله عَبْد الرحمن، فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك، فأحضر عَبْد الرحمن وقال له: إن يكن أبوك أساء إليّ فقد أحسن عمك، وأحسن العذر عند معاوية. ثم قدم المغيرة على معاوية فذكر له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس فقال  داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل، فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت، ويعيد الحرب خدعة، فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له ثم أتاه وقال: إنّ معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن ولم يكن هناك غيره، فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك. قال أشر عليّ والمستشار مؤتمن. فقال: أرى أن تشخص إليه، وتصل حبلك بحبله، وترجع عنه. فكتب إليه معاوية بأمانه. وخرج زياد من فارس نحو معاوية، ومعه المنجاب بن رابد الضبي وحارثة بن بدر الغداني، واعترضه عَبْد الله بن حازم في جماعة وقد بعثه ابن عامر ليأتيه به فلما رأى كتاب الأمان تركه، وقدم على معاوية، فسأله عن أموال فارس، فأخبره بما أنفق وبما حمل إلى علي وبما بقي عنده مودعا للمسلمين، فصدقه معاوية وقبضه منه. ويقال: إنه قال له أخاف أن تكون مكروباً بي فصالحني فصالحه على ألفي ألف درهم بعث بها إليه، واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له. وكان المغيرة يكرمه ويعظمه، وكتب إليه معاوية أن يلزم زياداً وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وسيف بن ربعي وابن الكوا وابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلوات.

استخلاف زياد: كانت سُمَيَّةُ أم زياد مولاة للحرث بن كندة الطبيب، وولدت عنده أبا بكرة، ثم زوجها بمولى له، وولدت زياداً. وكان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية. وولدت زياداً هذا ونسبه إلى أبي سفيان وأقر لها به، إلا أنه كان بخفية، ولما شبّ زياد سمت به النجابة. واستكتبه أبو موسى الأشعري وهو على البصرة، واستكفاه عمر في أمر فحسن منار دينه وحضر عنده يعلمه بما صنع، فأبلغ ما شاء في الكلام. فقال عمرو بن العاص -وكان حاضرا- لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قُرَيْش لساق العرب بعصاه. قال أبو سفيان وعلي يسمع: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم امه، فقال له علي: اسكت فلو سمع عمر هذا منك كان إليك سريعا. ثم استعمل علي زياداً على فارس فضبطها وكتب إليه معاوية يتهدده، ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه فقام في الناس فقال: عجبا لمعاوية يخوفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار. وكتب إليه علي إني وليتك وأنا أراك أهلا وقد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب النفس، لا توجب ميراثا ولا نسباً. ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام اهـ. ولما قتل علي وصالح زياد معاوية، وضع مصقلة بن هبيرة الشيباني على معاوية ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل، ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه، فالتمس الشهادة بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان، فشهد له رجال من أهل البصرة وألحقه، وكان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك وينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة. وكتب زياد إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب ليكون له حجة، فكتبت  إليه: من عائشة ام المؤمنين إلى ابنها زياد. وكان عَبْد الله بن عامر يبغض زياداً، وقال يوماً لبعض أصحابه من عَبْد القيس: ابن سمية يقبح آثاري ويعترض عمالي لقد هممت بقسامة من قُرَيْش أن أبا سفيان لم ير سمية. فأخبر زياد. بذلك، فأخبر به معاوية. فأمر حاجبه أن يرده من أقصى الأبواب وشكا ذلك إلى يزيد، فركب معه فأدخله على معاوية، فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيته. فقال يزيد نقعد في انتظاره، فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول، وقال إني لا أتكثر بزياد من قلة، ولا أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حق الله فوضعته موضعه فخرج ابن عامر وترضى زياداً ورضى له معاوية.

ولاية زياد البصرة:كان زياد بعد صلح معاوية واستلحاقه نزل الكوفة، وكان يتشوف الإمارة عليها. فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم يعفه. فيقال إنه خرج زياد إلى الشام، ثم إن معاوية عزل الحارث بن عَبْد الله الأزدي عن البصرة وولى عليها زياداً سنة خمس وأربعين. وجمع له خراسان وسجستان. ثم جمع له السند والبحرين وعمان، وقدم البصرة فخطب خطبته البتراء وهي معروفة. وإنما سميت البتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد والثناء، فحذرهم في خطبته ما كانوا عليه من الانهماك في الشهوات والاسترسال فى الفسق والضلال، وانطلاق أيدي السفهاء على الجنايات، وانتهاك الحرم وهم يدنون منهم، فأطال في ذلك. عنفهم ووبخهم وعرفهم ما يجب عليهم من الطاعة، من المناصحة والانقياد للأمة. وقال لكم عندي ثلاث: لا أحتجب عن طالب حاجة، ولو طرقني ليلا. ولا أحبس العطاء عن إباية ولا أحمر البعوث. فلما فرغ من خطبته قال له عَبْد الله بن الأيهم أشهد أنك اوتيت الحكمة وفصل الخطاب. قال كذبت ذاك نبي الله داود. ثم استعمل على شرطته عَبْد الله بن حصين، وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل. وكان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. وكان يأمر بقراءة سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة. ثم يمهل بقدر ما يبلغ الرجل أقصى البصرة. ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحدا إلا قتله، وكان أول من شدد أمر السلطان وشيد الملك، فجرد السيف وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه السفهاء والذّعار، وأمن الناس على أنفسهم ومتاعهم، حتى كان الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه، ولا يغلق أحد بابه، وأدر العطاء واستكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف. وسئل في إصلاح السابلة فقال: حتى أصلح المصر. فلما ضبطه أصلح ما وراءه، وكان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة فاستعفى، فولى مكانه عَبْد الله بن فضالة الليثي، ثم أخاه عاصماً، ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد، وكان يستعين بأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب. ويقال إن زياداً أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس رابطة، فكان خمسمائة منهم لا يفارقون المسجد. ثم قسم ولاية خراسان على أربعة فولّى على مرو أمين بن أحمد اليشكري، وعلى نيسابور خليد بن عَبْد الله الحنفي وعلى مرو الروذ والعاربات والطالقات قيس بن الهيثم. وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائي. ثم إن نافعا بعث إليه بجواد باهر غنمه في بعض وجوهه، وكانت قوائمه منه، فأخذ منها قائمة وجعل مكانها أخرى ذهبا، وبعث الجواد مع غلامه زيد وكان يتولى اموره، فسعى فيه عند زياد بأمر تلك القائمة، فعزله وحبسه، وأغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتاباً، وقيل ثمانمائة ألف. وشفع فيه رجال من الأزد، فأطلقه. واستعمل مكانه الحكم بن عمرو الغفاري، وجعل معه رجالاً على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابي. وغزا الحكم طخارستان، فغنم غنائم كثيرة. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى جبال الغور، وكانوا قد ارتدوا، ففتح وغنم وسبى وعبر النهر في ولايته إلى ما وراءه. فملأه غارة. ولما رجع من غزاة الغور مات بمرو، واستخلف على عمله أنس بن أبي إياس بن ربين، فلم يرضه زياد. وكتب إلى خليد بن عَبْد الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين ألفاً من البصرة والكوفة.

ودخل المسلمون سنة اثنتين وأربعين إلى بلاد الروم، فهزموهم وقتلوا جماعة من البطارقة، وأثخنوا فيها. ثم دخل بسر بن أرطاة أرضهم سنة ثلاث وأربعين، ومشى بها وبلغ القسطنطينية. ثم دخل عَبْد الرحمن بن خالد وكان على حمص، فشتى بهم وغزاهم بسر تلك السنة في البحر. ثم دخل عَبْد الرحمن إليها سنة ست وأربعين فشتى بها، وشتى أبو عَبْد الرحمن السبيعي على أنْطاكِية. ثم دخلوا سنة ثمان وأربعين، فشتى عَبْد الرحمن بأنْطاكِية أيضاً، ودخل عَبْد الله بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة. وغزاهم مالك بن هبيرة اليشكري في البحر وعقبة بن عامر الجهني في البحر أيضاً بأهل مصر وأهل المدينة. ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع وأربعين فشتى بأرض الروم، ودخل عَبْد الله بن كرز الجيلي بالصائفة، وشتى يزيد بن ثمرة الرهاوي في بلاد الروم بأهل الشام في البحر وعقبة بن نافع بأهل مصر كذلك. ثم بعث معاوية سنة خمسين جيشا كثيفاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف، وندب يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه. ثم بلغ الناس أن الغزاة أصابهم جوع ومرض، وبلغ معاوية أن يزيد أنشد في ذلك:

ما إن أبالي بما لاقت جموعهم        بالفدفد البيد من حمى ومن شوم

إذا اتطأت على الأنماط مرتفقاً         بدير مران عندي أم كلثــوم

 وهي امرأته بنت عَبْد الله بن عامر، فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير، جمعهم إليه معاوية. فيهم ابن عباس وابن عامر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري، فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينية وقاتلوا الروم عليها. فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريبا من سورها. ورجع يزيد والعساكر إلى الشام ثم شتى فضالة بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى وخمسين وغزا بسر بن أرطأة بالصائفة.

وفاة المغيرة: توفي المغيرة وهو عامل على الكوفة سنة خمسين بالطاعون، وقيل سنة تسع وأربعين، وقيل سنة إحدى وخمسين، فولى مكانه معاوية زياداً وجمع له المصرين. فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب. فلما وصل الكوفة خطبهم، فحصبوه على المنبر. فلما نزل جلس على كرسي وأحاط أصحابه بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك. ومن لم يحلف حبسه. فبلغوا ثمانين واتخذ المقصورة من يوم حبس. ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء فطلبه، فهرب ثم أخذه فقتله. وقال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط إن عمرو بن الحمق يجتمع إليه شيعة علي، فأرسل إليه زياد ونهاه عن الاجتماع عنده. وقال لا ابيح أحدا حتى يخرج علي، وأكثر سمرة بن جندب اليتامى بالبصرة. يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك عليه زياد اهـ.

كان عمرو بن العاص  قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عَبْد قيس على أفريقية، وهو ابن خالته، انتهى إلى لواتة ومرانة، فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى. ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين غذامس. وفي السنة التي بعدها ودّان وكورا من كور السودان، وأثخن في تلك النواحي، وكان له فيها جهاد وفتوح. ثم ولاه معاوية على أفريقية سنة خمسين، وبعث إليه عشرة آلاف فارس، فدخل أفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد، لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا، فإذا رجعوا عنهم ارتدوا. فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها العساكر من البربر، فاختط القيروان وبنى بها المسجد الجامع، وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم، وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع، وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا للإغارة والنهب، ودخل أكثر البربر في الإِسلام. واتسعت خطة المسلمين، ورسخ الدين. ثم ولى معاوية على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري، واستعمل على أفريقية مولاه أبا المهاجر، فأساء عزل عقبة واستخف به، فسير ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية، وشكا إليه، فاعتذر له ووعده برده إلى عمله، ثم ولاه يزيد سنة اثنتين وستين. وذكر الواقدي أن عقبة ولي أفريقية سنة ست وأربعين، فاختط القيروان، ثم عزله يزيد سنة اثنتين وستين بأبي المهاجر. فحينئذ قبض على عقبة وضيق عليه، فكتب إليه يزيد يبعثه إليه وأعاده والياً على أفريقية، فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعاً كسلة ملك البرانس من البربر كما نذكر بعد. كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة كثيرا ماً يتعرض لعلي في مجالسه وخطبه، ويترحم على عثمان ويدعو له. فكان حجر بن عدي إذا سمعه يقول: بلاياكم قد أضل الله ولعن. ثم يقول أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أحق بالذم. فبعث له المغيرة يقول: يا حجر اتق غضب السلطان وسطوته، فإنها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك.

ولما كان آخر أمارة المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول، فصاح به حجر ثم قال له: مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا وأصبحت مولعا بذم المؤمنين، وصاح الناس من جوانب المسجد صدق حجر فمر لنا بأرزاقنا، فالذي أنت فيه لا يجدي علينا نفعا. فدخل المغيرة إلى بيته وعذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن سلطانه، ويسخط عليه معاوية. فقال لا احب أن آتي بقتل أحد من أهل المصر. وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله. ثم توفي المغيرة وولي زياد. فلما قدم خطب الناس وترحم على عثمان ولعن قاتليه. وقال حجر ما كان يقول، فسكت عنه ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منهم، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص إلى الكوفة حتى دخلها، ثم خطب الناس وحجر جالس يسمع، فتهدده وقال: لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر، وأودعه نكالاً لمن بعده. ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة، فبعث صاحب الشرطة شداد بن الهيثم الهلالي إليه جماعة، فسبهم  أصحابه. فجمع زياد أهل الكوفة وتهددهم فتبرؤوا فقال: ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا، حتى إذا لم يبق معه إلا قومه، قال زياد لصاحب الشرطة: انطلق إليه فأت به طوعاً أو كرهاً. فلما جاء يدعوه امتنع عن الإجابة، فحمل عليهم وأشار إليه أبو العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه، هذا وزياد على المنبر ينتظر. ثم غشيهم أصحاب زياد وضرب عمرو بن الحمق، فسقط ودخل في دور الأزد، فاختفى وخرج حجر من أبواب كندة، فركب ومعه أبو العمرطة إلى دور قومه، واجتمع إليه الناس ولم يأته من كندة إلا قليل. ثم أرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان ليأتوه بحجر، فلما علم أنهم قصدوه تسرب من داره إلى النخع، ونزل على أخي الأشتر. وبلغه أن الشرطة تسأل عنه في النخع. فأتى الأزد واختفى عند ربيعة بن ناجد، وأعياهم طلبه. فدعا حجر محمد بن الأشعث أن يأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجاء محمد ومعه جرير بن عَبْد الله، وحجر بن يزيد وعبد الله بن الحرث أخو الأشتر، فاستأمنوا له زياداً فأجابهم. ثم أحضروا حجرا فحبسه وطلب أصحابه، فخرج عمرو بن الحمق إلى الموصل ومعه زواعة بن شداد، فاختفى في جبل هناك. ورفع أمرهما إلى عامل الموصل وهو عَبْد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية، ويعرف بابن أم الحكم. فسار إليهما وهرب زواعة، وقبض على عمرو، وكتب إلى معاوية بذلك. فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعا بمشاقص كانت معه فأطعنه كذلك فمات في الأولى والثانية. ثم جدّ زياد في طلب أصحاب حجر واتي بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه. وجاء قيس بن عباد الشبلي برجل من قومه من أصحاب حجر، فأحضره زياد وسأله عن علي فأثنى عليه، فضربه وحبسه. وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث. ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجاج فقتله. ثم أرسل زياداً إلي عَبْد الله بن خليفة الطائي من أصحاب حجر فتوارى، وجاء الشرط فأخذوه. ونادت أخته الفرار بقومه فخلصوه، فأخذ زياد عدي بن حاتم وهو في المسجد وقال: ائتني بعبد الله وخبره جهرة  فقال آتيك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فحبسه، فنكر ذلك الناس وكلموه وقالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبير طيىء قال: أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه وأمر عدي عَبْد الله أن يلحق بجبل طيىء فلم يزل هنالك حتى مات.وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر وغيره،  ولما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا رؤوس الأرباع. يومئذ وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة، وكندة وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد. فشهدوا كلهم أن حجراً جمع الجموع، وأظهر شتم معاوية، ودعا إلى حربه. وزعم أن الأمر لا يصلح إلا في الطالبيين. ووثب بالمصر، وأخرج العامل، وأظهر غدر أبي تراب والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن النفر الذين معه وهم رؤوس أصحابه على مقدم رأيه. ثم استكثر زياد من الشهود، فشهد إسحق وموسى إبنا طلحة والمنذر بن الزبير وعمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمر بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم. وفي الشهود شريح بن الحارث وشريح بن هانىء. ثم استدعى زياد وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب ودفع إليهما حجر بن عدي وأصحابه وهم: الأرقم بن عَبْد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فضيل الشيباني، وقبيضة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي، وكرام بن حبان العنزي، وعبد الرحمن بن حسّان العنزي، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد الله بن حوية السعدي. ثم أتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر، وسعد بن غوات الهمداني، وأمرهما أن يسيرا إلى معاوية. ثم لحقهما شريح بن هانىء ودفع كتابه إلى معاوية بن وائل ولما انتهوا إلى مرج غدراء قريب دمشق تقدم ابن وائل وكثير إلى معاوية، فقرأ كتاب شريح وفيه: بلغني أن زياداً كتب شهادتي، وأني أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقبله أو فدعه. فقال معاوية: ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس، وسعد بن غوات اللذين ألحقهما زياد بهما. وجاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية فأخبره بوصولهما، فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصماً وورقاء إبني عمه. وقد كتب يزيد يزكيهما ويشهد ببراءتهما، فأطلقهما معاوية. وشفع وائل بن حجر في الأرقم، وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس، وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم. وسأله مالك بن هبيرة السكوني في حجرفرده. فغضب وحبس في بيته. وبعث معاوية هدبة بن فياض القضافي، والحسين بن عَبْد الله الكلابي، وأبا شريف البدري إلى حجر وأصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله، فأتوهم وعرض عليهم البراءة من عليّ، فأبوا وصلوا عامة ليلتهم. ثم قدموا من الغد للقتل. وتوضأ حجر وصلى وقال: لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت منها. اللهم إنا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة، يشهدون علينا، وأهل الشام يقتلوننا. ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف، فارتعد. فقالوا كيف وأنت زعمت أنك لا تجزع من الموت؟ فابرأ من صاحبك وندعك. فقال وما لي لا أجزع وأنا بين القبر والكفن، والسيف. وإن جزعت من الموت لا أقول ما يسخط الرب فقتلوه وقتلوا ستة معه وهم: شيريك بن شداد، وصيفي بن فضيل، وقبيصة بن حنيفة، ومحرز بن شهاب، وكرام بن حبان ودفنوهم وصلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسان العنزي وجيء بكريم بن الخثعمي إلى معاوية فطلب منه البراءة من عليّ فسكت، واستوهبه سمرة بن عَبْد الله الخثعمي من معاوية فوهبه له، على أن لا يدخل الكوفة، فنزل إلى الموصل. ثم سأل عَبْد الرحمن بن حسان عن عليّ فأثنى خيراً. ثم عن عثمان فقال: أول من فتح باب الظلم، وأغلق باب الحق. فرده إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه حياً وهو سابع القوم. وأمَّا مالك بن هبيرة السكوني فلما لم يشفعه معاوية في حجر، جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: مات القوم. وسار إلى عدي فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركوهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه. ولما بلغ عائشة خبر حجر وأصحابه، أرسلت عَبْد الرحمن بن الحارث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء وقد قتلوا. فقال لمعاوية أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال حيث غاب علي مثلك من حلماء  قومي وحملني ابن سمية فاحتملت. وأسفت عائشة لقتل حجر وكانت تثني عليه. وقيل في سياقة الحديث غير ذلك. وهو أن زياداً أطال الخطبة في يوم جمعة، فتأخرت الصلاة، فأنكر حجر ونادى بالصلاة فلم يلتفت إليه. وخشي فوت الصلاة فحصبه بكف من الحصباء، وقام إلى الصلاة فقام الناس معه، فخافهم زياد ونزل فصلى. وكتب إلى معاوية وعظم عليه الأمر، فكتب إليه أن يبعث به موثقاً في الحديد. وبعث من يقبض عليه، فكان ما مر. ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية، فلما رآه معاوية أمر بقتله، فصلى ركعتين وأوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيداً ولا تغسلوا دماً فإني لاق معاوية غداً على الجادة وقتل 1هـ.

وقالت عائشة لمعاوية أين حلمك عن حجر؟ قال: لم يحضرني رشيد 1هـ. وكان زياد قد ولى الربيع بين زياد الحارثي على خراسان سنة إحدى وخمسين، بعد أن هلك حسن بن عمر الغفاري وبعث معه من جند الكوفة والبصرة خمسين ألفاً، فيهم بريدة بن الحصيب، وأبو برزة الأسلمي من الصحابة، وغزا بلخ ففتحها صلحاً، وكانوا انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس. ثم فتح قهستان عنوة واستلحم من كان بناحيتها من الترك، ولم يفلت منهم إلا قيزل طرخان. وقتله قتيبة بن مسلم في ولايته. فلما بلغ الربيح بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك وقال: لا تزال العرب تقتل بعده صبراً. ولو نكروا قتله منعوا أنفسهم من ذلك، لكنهم أقروا فذلوا. ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره، وقال للناس إني قد مللت الحياة، وإنى داع فأمنوا ثم رفع يديه وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمّن الناس . ثم خرج فما تواترت ثيابه حتى سقط، فحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عَبْد الله ومات من يومه. ثم مات ابنه بعد شهرين، واستخلف خليذ بن عَبْد الله الحنفي وأقره زياد.

وفاة زياد: ثم مات زياد في رمضان سنة ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه، يقال بدعوة ابن عمر، وذلك أن زياداً كتب إلى معاوية أني ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة فأشغلها بالحجاز، فكتب له عهده بذلك، وخاف أهل الحجاز وأتوا عَبْد الله بن عمريدعو لهم الله أن يكفيهم ذلك. فاستقبل القبلة ودعا معهم وكان من دعائه اللهم اكفناه، ثم كان الطاعون فأصيب فى يمينه، فأشير عليه بقطعها، فاستدعى شريحاً القاضي فاستشاره، فقال إن يكن الأجل فرغ فتلقى الله أجذم كراهية في لقائه، وإلا لتعيش أقطع، ويعير ولدك. فقال لا أبيت والطاعون في لحاف واحد، واعتزم على قطعها- فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه، وقيل تركه لإشارة شريح. وعذل الناس شريحاً في ذلك فقال المستشار مؤتمن. ولما حضرته الوفاة قال له ابنه قد هيأت لكفنك ستين ثوباً. فقال يا بني قد دنا لأبيك لباس خيرمن لباسه. ثم مات ودفن بالتوسة قرب الكوفه، وكان يلبس القميص ويرقعه. ولما مات استخلف على الكوفة عَبْد الله بن خالد بن أُسيد، وكان خليفته على البصرة عَبْد الله بن عمر بن غيلان، وعزل بعد ذلك عَبْد الله بن خالد عن الكوفة وولى عليها الضحاك بن قيس.

ولاية عبيد الله بن زياد على خراسان ثم علي البصرة

ولما قدم إبنه عبيد الله على معاوية، وهو ابن خمس وعشرين سنة قال : من استعمل أبوك على المصرين؟ فأخبره فقال: لو استعملك لاستعملتك. فقال عبيد الله:

أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك، لو استعملك أبوك وعمك استعملتك. فولاه خراسان ووصاه فكان من وصيته: اتق الله ولا تؤثرن على تقواه شيئاً، فإن في تقواه عوضاً وقِ عرضك من أن تدنسه، وإن أعطيت عهداً فأوف به، ولا تتبعن كثيراً بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك. وإذا لقيت عدوك فكبّر أكبر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطعمن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق هو له. ثم ودعه فسار إلى خراسان أول سنة أربع وخمسين، وقدم إليها أسلم بن زرعة الكلإبي، ثم قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، ففتح رامين، ونسف وسكند. ولقيه الترك فهزمهم، وكان مع ملكهم امرأته خاتون، فأعجلوها عن لبس خفيها، فأصاب المسلمون أحدهما وقوّم بمائتي ألف درهم. وكان عبيد الله ذلك اليوم يحمل عليهم، وهو يطعن حتى يغيب عن أصحابه، ثم يرفع رايته تقطر دماً. وكان هذ الزحف من زحوف خراسان المعدودة، وكانت أربعة منها للأحنف بن قيس بقهستان  والمرعات. وزحف لعبد الله بن حازم، قضى فيه جموع فاران. وأقام عبيد الله والياً على خراسان سنتين، وولاه معاوية سنة خمس وخمسين على البصرة. وذلك أن ابن غيلان خطب وهو أمير على البصرة. فحصبه رجل من بني ضبّة فقطع يده فأتاه بنو ضبّة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار عنه، وأنه قطع على أمر لم يصح، مخافة أن يعاقبهم معاوية جميعاً. فكتب لهم وسار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة، وأوفاه الضبّيّون بالكتاب، فادعوا أن ابن غيلان قطع صاحبهم ظلماً. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: أمَّا القود من عمّالي فلا سبيل إليه، ولكن أدي صاحبكم من بيت المال. وعزل عَبْد الله بن غيلان عن البصرة، واستعمل عليها عبيد الله بن زياد، فسار إليها عبيد الله، وولى على خراسان أسلم بن زرعة الكلابى فلم يغز ولم يفتح.

العهد ليزيد

ذكر الطبري بسنده قال: قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف، فاستعفاه فأعفاه وأراد أن يولي سعيد بن العاص. وقال أصحاب المغيرة للمغيرة: إن معاوية قلاك، ففال لهم رويداً، ونهض إلى يزيد وعرض له بالبيعة. وقال ذهب أعيان الصحابة وكبراء قُرَيْش ورادوا أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وسياسةً، وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العهد لك. فأدى ذلك يزيد إلى أبيه واستدعاه وفاوضه في ذلك. فقال قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف، فاعهد له يكون كهفاً للناس بعدك، فلا تكون فتنة ولا يسفك دم. وأنا أكفيك الكوفة، ويكفيك ابن زياد البصرة. فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة وأمره أن يعمل في بيعة يزيد. فقدم الكوفة وذاكر من يرجع إليه من شيعة بني أُمَيَّة فأجابوه، وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى فدعاه إلى عقد البيعة ليزيد. فقال: أو قد رضيتموه؟ قالوا: نعم ! نحن ومن وراءنا. فقال ننظر ما قدمتم له ويقضي الله أمره، والأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره بفكر. وكف عن هدم دار سعيد. وكتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الضغينة بين قرابته، ويقول لو لم نكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم، يجب عليك أن تدعي ذلك، فاعتذر له معاوية وتنصل. وقدم سعيد عليه وسأله عن مروان فأثنى خيراً، فلما كان سنة سبع وخمسين عزل مروان وولى مكانه الوليد بن عتية بن أبي سفيان وقيل سنة ثمان  وخمسين.

عزل الضحاك عن الكوفة وولاية ابن أم الحكم ثم النعمان بن بشير

عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان وخمسين، وولى مكانه عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن عثمان الثقفي، وهو ابن ام الحكم اخت معاوية، فخرجت عليه الخوارج الذين كان المفيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة، وخرجوا من سجنه بعد موته. فاجتمعوا على حيان بن ظبيان السلميئ، ومعاذ بن جرير الطائي، فسير إليهم عَبْد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما يذكر في أخبار الخوارج. ثم إن أهل الكوفة نقلوا عن عَبْد الرحمن سؤ سيرته، فعزله معاوية عنهم. وولّى مكانه النعمان بن بشير. وقال: اوليك خيرا من الكوفة، فولاه مصر، وكان عليها معاوية بن خديج السكوني وسار إلى مصرفاستقبله معاوية على مرحلتين منها، وقال ارجع إلى حالك لا تسر فينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة، فرجع إلى معاوية وأقام معاوية بن خديج فى عمله. 

ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان

وفي سنة تسع وخمسين قدم عَبْد الرحمن بن زياد وافدا على معاوية، فقال يا أمير المؤمنين أمَّا لنا حق؟ قال: بلى، فماذا قال توليني؟ قال بالكوفة النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله r، بالبصرة وخراسان عبيد الله أخوك، وبسجستان عبّاد أخوك. ولا أرى ما بشبهك إلا أن اشركك في عمل عبيد الله، فإن عمله واسع يحتمل الشركة. فولاه خراسان، فسار إليها وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمى، فأخذ أسلم بن زرعة وحبسه. ئم قدم عَبْد الرحمن فأغرمه ثلاثمائه ألف درهم. وأقام بخراسان وكان متضعفا لم يقرقط. وقدم على يزيد بين يدي قتل الحسين، فاستخلف على خراسان قيس بن الهيثم. فقال له يزيد: كم معك من مالى خراسان؟ قال عشرون ألف ألف درهم. فخيره بين أخذها بالحساب ورده إلى عمله، أو تسويغه إياها وعزله، على أن يعطي عَبْد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، فاختار تسويغها والعزل. وبعث إلى ابن جعفر بألف ألف وقال نصفها من يزيد ونصفها مني. ثم إن أهل البصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على منازلهم، ودخل الأحنف آخرهم وكان هيأ المنزلة من عبيد الله، فرحب به معاوية وأجلسه معه على سريره. ثم تكلم القوم وأثنوا على عبيد الله وسكت الأحنف، فقال معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم، فقال انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله، واطلبوا واليا ترضونه، فطفق القوم يختلفون إلى رجال بني أُمَيَّة وأشراف الشام، وقعد الأحنف في منزله ثم أحضرهم معاوية، وقال من اخترتم فسمى كل فريق رجلاً والأحنف ساكت. فقال معاوية تكلم يا أبا بحر فقال: إن وليت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن وليت من غيرهم ينظر في ذلك. قال فإني قد أعدته عليكم، ثم أوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته. ولما هاجت الفتنة لم بعزله غير الأحنف، ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم.

بيعة يزيد

 بويع يزيد بعد موت أبيه، وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عمر ابن سعيد بن العاص، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير. ولم يكن همه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد بموت معاوية، وأن يأخذ حسينأ وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة. فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية، استرجع وترحم، واستشاره الوليد في أمر اولئك النفر، فأشار عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا وإلا قتلتهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فيثب كل رجل منهم في ناحية، إلا ابن عمر فإنه لا يحب القتال، ولا يحب الولاية، إلا أن يرفع إليه الأمر. فبعث الوليد لوقته عَبْد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث، فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد، في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس. وقال أجيبا الأمير. فقالا: لا تنصرف إلا أن نأتيه، ثم حدثا فيما بعث إليهما، فلم يعلموا ما وقع. وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار إليهم فأجلسهم بالباب، وقال إن دعوتكم أو سمعتم صوتي عالياً فادخلوا بأجمعكم. ثم دخل فسلم ومروان عنده فشكرهما على الصلة بعد القطيعه، ودعا لهما بإصلاح ذات البين. فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية، ودعاه إلى البيعة، فاسترجع وترحم وقال: مثلي لا يبايع سرا ولا يكتفي بثا مني، فإذا ظهرت إلى الناس ودعوتهم كان أمرنا واحدا وكنت أول مجيب. فاقال الوليد: وكان يحب المسالمة، انصرف. فقال مروان: لا يقدر منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينهم،أ لزمه البيعة وإلا اضرب عنقه. فوثب الحسين وقال: أنت تقتلني أو هو كذبت والله وانصرف إلى منزله. وأخذ مروان في عذل الوليد. فقال يا مروان والله ما احب أن لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت الحسين أن قال لا أبايع. وأمَّا ابن الزبير فاختفى في داره وجمح أصحابه، وألح الوليد في طلبه، وبعث مواليه فشتموه وهددوه، وأقاموا ببابه في طلبه فبعث ابن الزبير أخاه جعفرا يلاطف الوليد ويشكو ما أصابه من الذعر، ويعده بالحضور من الغداة، وأن يصرف رسله من بابه فبعث إليهم وانصرفوا، وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما، وأخذا طريق الفرع إلى مكة، فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه، ورجعوا وتشاغلوا بذلك عن الحسين سائر يومه. ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال : أصبحوا وترون وفري. وسار في الليلة الثانية ببنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية، وكان قد نصحه وقال تنحّ عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث دعاتك إلى الناس، فإن أجابوك فاحمد الله، وإن اجتمعوا على غيرك فلم يضر بذلك دينك ولا عقلك ولم تذهب به مروءتك ولا فضلك. وأنا أخاف أن تأتي مصراً أو قوماً فيختلفون عليك، فتكون الأول إساءة، فإذا خير الأمة نفساً وأباً أضيعها ذماراً وأذلها. قال له الحسين: فإني ذاهب. قال انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن فاتت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال، ومن بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس، وتعرف الرأي. فقال يا أخي نصحت وأشفقت ولحق بمكة. وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع فقال: أنا أبايع أمام الناس، وقيل ابن عمر وابن عباس كانا بمكة، ورجعا إلى المدينة فلقيا الحسين وابن الزبير وأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر: لا تفرقا جماعة المسلمين، وقدم هو وابن عباس المدينة وبايعا عنه بيعة الناس. ولما دخل ابن الزبير مكة وعليها عمرو بن سعيد قال: أنا عائد بالبيت، ولم يكن يصلي ولا يقف معهم ويقف هو وأصحابه ناحية.

عزل الوليد عن المدينة وولاية عمرو بن سعيد

ولما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر، عزله عن المدينة واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق، فقدمها في رمضان، واستعمل على شرطته عمر بن الزبير بالمدينة، لمّا كان بينه وبين أخيه من البغضاء، وأحضر نفرا من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد، وعبد الرحمن بن الأسود بن عَبْد يغوث، وعثمان بن عَبْد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم. ثم جهز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها. وقال لعمر بن الزبير: من نبعث إلى أخيك؟ ة فقال لا تجد رجلاً أنكى له مني. فجهز معه سبعمائة مقاتل فيهم انس بن عمير الأسلمي. وعذله مروان بن الحكم في غزو مكة، وقال له: اتق الله ولا تحل حرمة البيت. فقال: والله لنغزونه في جوف الكعبة. وجاء أبو شريح الخزاعي إلى عمروبن سعيد فقال: سمعت رسول الله يقول: "إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس ". فقال له عمرو: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ. وقيل: إن يزيد كتب إلى عمروبن سعيد أن يبعث عمربن الزبير بالجيش إلى أخيه، فبعثه في ألفي مقاتل وعلى مقدمته أنيس. فنزل أنيس بذي طوى ونزل عمر بالأبطح، وبعث إلى أخيه أن بر يمين يزيد، فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلا أن يؤتى بك في جامعه، فلا يضرب الناس بعضهم بعضا، فإنك في بلد حرام. فأرسل عَبْد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عَبْد الله بن صَفْوان، فهزموا أنيساً بذي طوى، وقتل أنيس في الهزيمة وتخفف عن عمر بن الزبير أصحابه، فدخل دار ابن علقمة وأجاره عبدة بن الزبير. وقال لأخيه قد أجرته، فأنكر ذلك عليه. وقيل: إن صَفْوان قال لعبد الله بن الزبير اكفني أخاك، وأنا أكفيك أنيس بن عمر، وسار إلى أنيس فهزمه وقتله. وسار مصعب بن عَبْد الرحمن إلى عمر فتفرق عنه أصحابه، وأجاره أخوه عبدة، فلم يجز أخوه عَبْد الله جواره وضربه بكل من ضربه بالمدينة، وحبسه بسجن عارم ومات تحت السياط.

مسير الحسين إلى الكوفة ومقتله

ولما خرج الحسين إلى مكة لقيه عَبْد الله بن مطيع وسأله أين تريد؟ فقال مكة ! وأستخير الله فيما بعد، فنصحه أن لا يقرب الكوفة، وذكره قتلهم أباه وخذلانهم أخاه، وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس. ورجع عنه وترك الحسين بمكة فأقام والناس يختلفون إليه، وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار، ويأتي الحسين فيمن يأتي، ويعلم أن أهل الحجاز لا يلقون إليه مع الحسين. ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد ولحاق الحسين بمكة، اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان والمسيب بن محمد، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وغيرهم يستدعونه وأنهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعة ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه. وبعثوا بالكتاب مع عَبْد الله بن سبع الهمداني، وعبد الله بن وال. ثم كتبوا إليه ثانياً بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة، ثم ثالثأ يستحثونه للحاق بهم. كتب له بذلك شيث بن ربعي وحجاز بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي. فأجابهم الحسين: فهمت ما قصصتم وقد بعثت إليكم ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، يكتب إليّ بأمركم ورأيكم فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم عليكم قريباً. ولعمري ما الإمام إلى العامل بالكتاب، القائم بالقسط، يدين بدين الحق. وسار مسلم فدخل المدينة وصلى في المسجد، وودع أهله واستأجر دليلين من قيس فضلا الطريق، وعطش القوم فمات الدليلان بعد أن أشارا إليهم بموضع الماء، فانتهوا إليه وشربوا ونجوا. فتطير مسلم من ذلك، وكتب إلى الحسين يستعفيه. فكتب إليه: خشيت أن لا يكون حملك على ذلك إلا الجبن، فامض لوجهك والسلام. وسار مسلم فدخل الكوفة أول ذي الحجة من سنة ستين، واختلف إليه الشيعة وقرأ عليهم كتاب الحسين، فبكوا ووعدوه النصر. وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة، وكان حليما يجنح إلى المسالمة، فخطب وحذر الناس الفتنة. وقال: لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا آخذ بالظنة والتهمة، ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فوالله لأضربنكم بسيفي ما دام قائمته بيدي، ولو لم يكن لي ناصر. فقال له بعض حلفاء بني أُمَيَّة: لا يصلح ما ترى إلا الغشم، وهذا الذي أنت عليه مع عدوك رأي المستضعفين. فقال: أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله، ثم تركه. فكتب عَبْد الله بن مسلم وعمارة بن الوليد وعمارة بن سعد بن أبي وقاص إلى يزيد بالخبر، وتضعف النعمان وضعفه فابعث إلى الكوفة رجلا قوياً ينفذ أمرك ويعمل عملك في عدوك فأشار عليه سرجون .

مسيرة المختار إلى الكوفة وأخذها من ابن المطيع بعد وقعة كربلاء

مضى إبراهيم إلى المختار وأخبره الخبر، وبعثوا في الشيعة ونادوا بثأر الحسين، ومضى  إبراهيم إلى النخع فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلأ، وهويتجنب المواضع التي فيها الأمراء. ثم لقي بعضهم فهزمهم، ثم آخرين كذلك، ثم رجع إلى المختار فوجد شبث بن ربعي وحجاز بن أبجر العجلي يقاتلانه فهزمهما، وحاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم قبل. فولى أمرهم فركب واجتمع الناس وتوافى إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة، وبعث ابن مطيع شبث بن ربعي في ثلاثة آلاف، وربع بن إياس في أربعة آلاف. فسرح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائه راجل، ونعيم بن هبيرة لشبث في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل، واقتتلوا من بعد صلاة الصبح. وقتل نعيم فوهن المختار لقتله، وظهر شبث وأصحابه عليهم. وقاتل إبراهيم بن الأشتر راشد بن إياس فقتله، وانهزم أصحابه وركبهم الفشل. وبعث ابن المطيع جيشاً كثيفاً فهزمهم، ثم حمل على شبث فهزمه، وبعث المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة. ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش، فشجعه عمر بن الحجاج الزبيدي، وقال له اخرج واندب الناص ففعل. وقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم، وندبهم. ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين وشمر بن ذي الجوشن في ألفين، ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف. ووقف هو بكتائبه. واختلف على القصر شبث بن ربعي، فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه وأسره، ثم من عليه. ودخل ابن مطيع القصر وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثاً ومعه يزيد بن أنس وأحمد بن شميط، ولما اشتد الحصار على ابن مطيع، أشار عليه شيث  بن ربعي بأن يستأمن للمختار، ويلحق بابن الزبير وله ما يعده. فخرج عنهم مساء ونزل دار أبي موسى. واستأمن القوم للمختار، فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد فخطبهم، ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية، فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة، واللطف بأهل البيت، ووعدهم بحسن السيرة. وبلغه أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال يجهز بهذه. وكان ابن مطيع قد فرق بيوت الأموال على الناس، وسار ابن مطيع إلى وجهه وملك الكوفة، وجعل على شرطته عَبْد الله بن كامل، وعلى حرسه يهسان أبا عمرة، وجعل الأشراف جلساءه، وعقد لعبد الله بن الحارث بن الأشتر على أرمينية، ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، ولعبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، ولإسحق بن مسعود على المدائن، ولسعد بن خذيفة بن اليمان على حلوان. وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة. وولى شريحا على القضاء. ثم طعنت فيه الشيعة، بأنه شهد على حجر بن عدي، ولم يبلغ عن هانىء بن عروة رسالته إلى قومه، وأن علياًّ غرمه، وأنه عثماني. وسمع ذلك هو فتمارض، فجعل مكانه عَبْد الله بن عتبة بن مسعود، ثم مرض فولى مكانه عَبْد الله بن مالك الطائي.

مسيرة ابن زياد إلى المختار وخلافة أهل الكوفة عليه

كان مروان بن الحكم لمّا استوثق له الشام، بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز مع جيش بن دلجة القينيئ وقد شاتة ومقتلة، والاخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد، فكان من أمره وأمر التوابين من الشيعة ما تقدم. وأقام محاصراً لزفر بن الحارث بقرقيسيا، وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير، فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها. ثم توفي مروان وولى بعده عَبْد الملك، فأقره على ولايته وأمره بالجد. ويئس من أمر زفر وقيس، فنهض إلى الموصل، فخرج عنها عَبْد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت. وكتب إلى المختار بالخبر، فبعث يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة آلاف إلى الموصل، فسار إليها على المدائن، وسرح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنوي في ثلاثة آلاف، فالتقيا ببابل. وعبى يزيد أصحابه وهو راكب على حمار وحرضهم. وقال إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، وإن هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري، وإن هلك فسعد الخثعمي. ثم اقتتلوا يوم عرفة وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة، وسار الفل غير بعيد، فلقيهم عَبْد الله بن حملة الخثعمي قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف، فرد المنهزمين وعاد القتال يوم الأضحى، فانهزم أهل الشام، وأثخن فيهم أهل الكوفة بالقتل والنهب، وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم. وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه، وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفته، وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد وقال: نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك. وانصرف الناس وتقدم الخبر إلى الكوفة، فأرجف الناس بالمختار، واشيع أن يزيد قتل. وسر المختار رجوع العسكر، فسرح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف، وضم إليه جيش يزيد، ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك. ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شيث بن ربعي وكان شيخهم جاهليا إِسلاميا، وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم، ودعوه إلى الوثوب به. فقال حتى ألقاه وأعذر إليه، ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما نكروه، فوعده الرجوع إلى مرادهم، وذكر له شأن الموالي وشركتهم في الفيء. فقال: إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أُمَيَّة وابن الزبير تركتهم. فقال اخرج إليهم بذلك، وخرج فلم يرجع. واجتمع رأيهم على قتاله، وهم شبث بن ربعي، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعد بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن، وكعب بن أبي كعب النخعي، وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي. وقد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشام وأهل البصرة، فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم وهم عليكم أشد، فأبوا من رأيه وقالوا لا تفسد جماعاً.

ثم خرجوا وشهروا السلاح، وقالوا للمختار- اعتزلنا فإن ابن الحنفية لم يبعثك. قال نبعث إليه الرسل مني ومنكم، وأخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات، وكف أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر، وقد بعث إليه بالرجوع. فجاء فرأى القوم مجتمعين، ورفاعة بن شذاد البجلي يصلي بهم. فلما وصل إبراهيم عبأ المختار أصحابه، وسرح بين يديه أحمد بن شميط البجيلي، وعبد الله بن كامل الشادي، فانهزم أصحابهما وصبراً، ومدهما المختار بالفرسان والرجال فوجاً بعد فوج، وسار ابن الأشتر إلى مصر وفيهم شيث بن ربعي فقاتلوه فهزمهم، فاشتد ابن كامل على اليمن، ورجع رفاعة بن شداد أمامهم إلى المختار، فقاتل معه حتى قتل من أهل اليمن عَبْد الله بن سعيد بن قيس، والفرات بن زحر بن قيس، وعمر بن مخنف. وخرج أخوه عَبْد الرحمن فمات، وانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة، وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير، فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم، فكانوا نصفهم وأطلق الباقين.

ونادى المختار الأمان، إلا من شهد في دماء أهل البيت وفر عمر بن الحجاج الزبيدي، وكان أشد من حضر قتل الحسين، فلم يوقف له على خبر. وقيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا رأسه، وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن، فقتل طالبه وانتهى إلى قرية الكلبانية، فارتاح يظن أنه نجا... وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار، بعثه مسلحة بينه وبين أهل البصرة، فنمي إليه خبره فركب إليه فقتله وألقى شلوه للكلاب.

وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً أكثرهم من اليمن، وكان آخر سنة ست وستين، وخرج أشراف الناس إلى البصرة، وتتبع المختا ر قتلة الحسين ودل على عبيد الله بن أسد الجهني، ومالك بن نسير الكندي. وحمل ابن مالك المحاربي بالقادسية فأحضرهم وقتلهم. ثم أحضر زياد بن مالك الضبعى، وعمران بن خالد العثري وعبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي، وعبد الله بن قيس الخولاني، وكانوا نهبوا من الورث الذي كان مع الحسين فقتلهم. وأحضر عَبْد الله أو عَبْد الرحمن بن طلحة وعبدالله بن وهيب الهمداني ابن عم الأعشى فقتلهم. وأحضرعثمان بن خالد الجهنيئ وأ با أسماء بشربن سميط القابسي، وكانا مشتركين في قتل عَبْد الرحمن ابن عقيل وفي سلبه، فقتلهما وحرقهما بالنار.

وبحث عن خولي بن يزيد الأصبحي صاحب رأس الحسين، فجيء برأسه وحرق بالنار. ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه عَبْد الله بن أبي جعدة بن هبيرة، فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده. فقال تعرف هذا؟ قال: نعم ! ولا خير في العيش بعده فقتله. ولقال: إن الذي بعث المختار على قتلة الحسين، أن يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية، فقال له ابن الحنفية: يزعم المختار أن لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه، فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل، وبعث برأس عمرو ابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين. ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي، وكان رمى الحسين بسهم، وأصاب سلب العباس ابنه. وجاء عدي بن حاتم يشفع فيه، فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذرأ من قبول المختار شفاعته. وبحث عن مرة بن منقذ بن عَبْد القيس قاتل علي بن الحسين، فدافع عن نفسه ونجا إلى مصعب بن الزبير، وقد شقت يده بضربة. وبحث عن زيد وفاد الحسين قاتل عَبْد الله بن مسلم بن عقيل، رماه بسهمين وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل، فأثبت كفه في جبهته وقتله بالأخرى، فخرج بالسيف يدافع. فقال ابن كامل ارموه بالحجارة، فرموه حتى سقط وأحرقوه حيا. وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فلحى بالبصرة. وطلب عمر بن صبح الصدائي فقتله طعنا بالرماح، وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره. وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين، فلحقوا بمصعب وهدم دورهم.

مقتل ابن زياد

ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين، بعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد، وبعث معه وجوه أصحابه وفرسانهم وشيعته وأوصاه. وبعث معه بالكرسي الذي كان يستنصر به وهو كرسي قد غشاه بالذهب. وقال للشيعة هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل، فكبر شأنه وعظم. وقاتل ابن زياد فكان له الظهور وافتتن به الشيعة، ويقال: إنه كرسي علي بن أبي طالب، وأن المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة، وكانت امه ام هانىء بنت أبي طالب، فهو ابن اخت علي. ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في السير وأوغل في أرض الموصل، وكان ابن زياد قد ملكها كما مر. فلما دخل إبراهيم أرض الموصل عبى أصحابه، ولما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، ونزل ابن زياد قريبأ من النهر، وكانت قيس مطبقة على بني مروان عند المرج، وجند عَبْد الملك يومئذ  ، فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر، وأوعده أن ينهزم بالمسيرة، وأشار عليه بالمشاجرة. ورأى عند ابن الأشتر ميلاً إلى المطاولة فثناه عن ذلك. وقال: إنهم ميلوا منكم رعباً وإن طاولتهم اجترؤوا عليكم. قال وبذاك أوصاني صاحبي. ثم عبى أصحابه في السحر الأول، ونزل يمشي ويحرض الناس، حتى أشرف على القوم. وجاءه عَبْد الله بن زهير السلولي بأنهم خرجوا على دهش وفشل، وابن الأشتر يحرض أصحابه ويذكرهم أفعال ابن زياد وأبيه. ثم التقى الجمعان وحمل الحصين بن نميرمن ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم، فقتل علي بن مالك الخثعمي، ثم أخذ الراية فرذ ابن علي، فقتل وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عَبْد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي، ورجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا. وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم، فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالاً شديداً. وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم، فاقتتلوا أشد قتال، حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القصارين وإبراهيم يقول لصاحب رايته انغمس برايتك فيهم. ثم حملوا حملة رجل واحد، فانهزم أصحاب ابن زياد. وقال ابن الأشتر إني قتلت رجلا ًتحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك، وضربته بسيفي فقصمته نصفين، فالتمسوه، فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه وأحرقت جثته. وحمل شريك بن جدير الثعلبي على الخصين بن نمير، فاعتقله وجاء أصحابه فقتلوا الحصين. ويقال: إن الذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا، وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع وادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي، وورقاء بن عازب الأزدي، وعبيد الله بن زهير السلمي واتبع أصحاب بن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكثر ممن قتل، وغنموا جميع ما في العسكر. وطرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى المختار فأتته بالمدائن، وأنفذ ابن الأشتر عماله إلى البلاد فبعث أخاه عَبْد الرحمن على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة. وولى زفر بن الحارث قيس وحاتم بن النعمان الباهلي حرّان والرها وشمشاط، وعمير بن الحباب السلمي كفرنوبي وطور عبدين، وأقام بالموصل وأنفذ رؤوس عبيد الله وقواده إلى المختار.

مسير مصعب إلى المختار وقتله إياه

كان ابن الزبير في أول سنة سبع وستين أو آخر ست عزل الحارث بن ربيعة وهو القباع وولى مكانه أخاه مصعباً، فقدم البصرة وصعد المنبر، وجاء الحارث فأجلسه مصعب تحته بدرجة، ثم خطب وقرأ الآيات من أؤل القصص، ونزل ولحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار، ودخل عليه شيث بن ربعي وهو ينادي واغوثاه، ثم قدم محمد بن الأشعث بعده واستوثقوه إلى المسير، وبعث إلى المهلب بن أبي صفرة وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار، فأبطأ وأغفل. وأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه، فقال المهلب: ما وجد مصعب بريداً غيرك؟ فقال: ما أنا ببريد، ولكن غلبنا عبيدنا على أبنائنا وحرمنا، فأقبل معه المهلب بالجموع والأموال، وعسكر مصعب عند الجسر، فأرسل عَبْد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سراً ليثبط الناس عن المختار، ويدعو إلى ابن الزبير. وسار على التعبية وبعث في مقدمته عبّاد بن الحصين الحبطي التميمي، وعلى ميمنته عمربن عبيد الله بن معمر، وعلى ميسرته المهلب. وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه، وقربهم إلى الخروج مع ابن شميط، وعسكر مع محمد في أعفر. وبعث رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط وأصحابه فثبتوا وحمل المهلب من الميسرة، على ابن كامل فثبت، ثم كرّ المهلب وحمل حملة منكرة، وصبر ابن كامل قتيلاً وانهزموا وحمل الناس جميعاً على ابن شميط فانهزم وقتل. واستمر القتل في الرجالة، وبعث مصعب عبادا فقتل كل أسير أخذه. وتقدم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة، فلم يدركوا منهزما إلا قتلوه. ولما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط، وحملوا الضعفاء وأثقالهم في السفن، ثم خرجوا إلى نهر الفرات وسار إلى الكوفة. ولما بلغ المختار خبر الهزيمة ومن قتل من أصحابه، وأن مصعباً أقبل إليه في البر والبحر سار إلى مجتمع الأنهار، نهر الجزيرة والمسلحين والقادسية، ونهر يسر. فسكر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار. وبقيت سفن أهل البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر وأزالوه، وقصدوا الكوفة.  وسار المختار ونزل حر وراء بعد أن حصن القصر وأدخل عدة الحصار، وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلب، وعلى ميسرته عمربن عبيد الله، وعلى الخيل عباد بن الحصين، وجعل المختارعلى ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمدانى، وعلى الخيل عمر بن عبيد الله النهدي. ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين. ولما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة، وحمل عَبْد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي على من بإزائه، فحطّم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم، وحمل مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة، فقتل ابن الأشعث وعامة أصحابه، وقتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب وقاتل المختار. ثم افترق الناس ودخل القصر وسار مصعب من الغد فنزل السبخة وقطع عنهم الميرة. وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية، ففطن مصعب لذلك فمنعه، وأصابهم العطش فكانوا يصبون العسل في الابار ويشربون. ثم إن المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنط وتصلب، وخرج في عشرين رجلا: منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله. فقال: ويحك يا أحمق، وثب ابن الزبير بالحجاز، ووثب بجدة باليمامة، وابن مروان بالشام فكنت كأحدهم إلا أني طلبت بثار أهل البيت إذ نامت عقد العرب، فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية. ثم تقدم  فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين طرفة وطراف ابني عَبْد الله بن دجاجة. وكان عَبْد الله بن جعدة بن هبيرة لمّا رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر، واختفى عند بعض إخوانه، ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب، ونزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين. وأشار عليه المهلب باستبقائهم، فاعترضه أشراف أهل الكوفة، ورجع إلى رأيهم. ثم أمر بكف المختار بن أبي عبيد فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجاج. وقتل زوجة عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أن المختار  ، فاستأذن أخاه عَبْد الله وقتلها ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته. ووعده بولاية أعنة الخيل وما غلب عليه من المغربة. وكتب إليه عَبْد الملك بولاية العراق، واختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن زياد وإشراف أهل الشام. وكتب إلى مصعب بالإجابة وسار إليه، فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلب بن أبي صفرة، وقيل إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وأنه بعث على مقدمته أحمد بن شُمَيط، وبعث مصعب عبّاد الحبطي ومعه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وتراضوا ليلاً، فناجزهم المختار من ليلته. وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم واشتد القتال، وقتل من أصحاب مصعب جماعة، منهم محمد بن الأشعث. فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب وليس عنده أحد، فانصرف ودخل قصر الكوفة وفقد أصحابه فلحقوا به، ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم. وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل، وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعاً، وكانوا ستة آلاف رجل. ولما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب، فأساء السيرة وقصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن مسمع، فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة أن ألحق بأبيك. وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهم مصعباً ففعل. وخرج حمزة بالأموال فعرض له مالك بن مسمع وقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا، فضمن له عمر بن عبيد الله العطاء فكف عنه. وقيل: إن عبيد الله بن الزبير إنما رد مصعباً إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار. ولما رده إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، وولاه حرب الأزارقة. وكان المهلب على حربهم أيام مصعب وحمزة، فلما رد مصعبا أراد أن يولي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عَبْد الملك، فاستقدمه واستخلف على عمله المغيرة. فلما قدم البصرة عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس، واستعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج.

خلاف عمرو بن سعيد الأشدق ومقتله

كان عَبْد الملك بعد رجوعه من قنسرين أقام بدمشق زمانا، ثم! سار لقتال زحر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا، واستخلف على دمشق عَبْد الرحمن بن ام الحكم الثقفي ابن أخته وسار معه عمرو بن سعيد. فلما بلغ بطنان انتقض عمرو وأسرى ليلاً إلى دمشق، وهرب ابن ام الحكم عنها فدخلها عمرو وهدم داره، واجتمع إليه الناس فخطبهم ووعدهم. وجاء عَبْد الملك على أثره فحاصره بدمشق، ووقع بينهما القتال أياماً. ثم اصطلحا وكتب بينهما كتاباً، وأفنه عَبْد الملك فخرج إليه عمرو ودخل عَبْد الملك دمشق، فأقام أربعة أيام. ثم بعث إلى عمرو ليأتيه، فقال له عَبْد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده: لا تأتيه فإني أخشى عليك منه. فقال: والله لوكنت نائمأ ما أيقظني. ووعد الرسول بالرواح إليه ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء، ومضى في مائة من مواليه، وقد جمع عَبْد الملك عنده بني مروان، وحسان بن نجد الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمرو فدخل. ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد، ونظر إلى عَبْد الملك والجماعة حوله فأحس بالشر، وقال للغلام انطلق إلى أخي يحيى وقل له يأتيني، فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك، وهولا يفهم. فقال له اغرب عني. ثم أذن عَبْد الملك لحسان وقبيصة فلقيا عمرا، ودخل فأجلسه معه على السرير، وحادثه زمنا. ثم أمر بنزع السيف عنه. فأنكر ذلك عمرو وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له عَبْد الملك: أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك؟ فأخذ عنه السيف،ثم قال له عَبْد الملك ياأبا أُمَيَّة إنك حين خلعتني حلفت يمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة، فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم وما عسيت أن أصنع بأبي أُمَيَّة؟ فقال بنو مروان أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أُمَيَّة، فقال عمرو قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت فراشه جامعة وأمر غلاما فجمعه فيها، وسأله أن لا يخرجه على رؤوس الناس. فقال أمكرا عند الموت؟ ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء. فقال عَبْد الملك: والله لو علمت أنك تبقى أن أبقيت عليك وتصلح قُرَيْش لأبقيتك، ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد. فشتمه عمرو، وخرج عَبْد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عَبْد العزيز بقتله. فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم، فأمسك عنه وجلس. ورجع عَبْد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب، فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمرا فذبحه بيده، وقيل أمر غلامه ابن الزغير فقتله. وافتقد الناس عمر مع عَبْد الملك حين خرج إلى الصلاة، فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده وكانوا ألفاً، ومعه حميد بن الحارث وحريث وزهير بن الأبرد فهتفوا باسمه، ثم كسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وخرج الوليد بن عَبْد الملك واقتتلوا ساعة. ثم خرج عَبْد الرحمن بن ام الحكم الثقفي بالرأس فألقاه إلى الناس، وألقى إليهم عَبْد العزيز بغن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا. ثم خرج عَبْد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فاخبر بجراحته، وأتى بيحيى بن سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد، ثم أخرجهم جميعا وألحقهم بمصعب، حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم. وكان بنوعمرو أربعة: أُمَيَّة وسعد وإسماعيل ومحمد. ولما حضروا عنده قال أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلأ  لن يجعله الله لكم، والذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً بل كان قديماً في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية. فقال سعيد: يا أمير المؤمنين! تعد علينا أمراً كان في الجاهلية، والإِسلام قد هدم ذلك، ووعد جنة وحذر ناراً. وأمَّا عمرو فهو ابن عمك وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت، وإن أحدثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها. فرق لهم عَبْد الملك وقال أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلتي، وأمَّا أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم. وقيل إن عمراً إنما كان خلفه وقتله حين سار عَبْد الملك لقتال مصعب، طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه، فلم يجبه إلى ذلك، فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها، وكان قتله سنة تسع وستين.

مسير عَبْد الملك إلي العراق ومقتل مصعب

ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق، وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه، فاستمهله أصحابه فأبى. وسار نحو العراق وبلغ مصعباً سيره، فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره. وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج، وولى مكانه المهلب، وذلك حين استخلف على الكوفه. وجاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن اسيد على البصرة مختفياً، واعيد لعبد الملك عند مالك بن مسمع في بكر بن وائل والأزد، وأمد عَبْد الملك بعبيد الله بن زياد بن ظبيان وحاربهم عمربن عبيد الله بن معمر، ثم صالحهم على أن يخرجوا خالدا فأخرجوه. وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر وسب أصحابه وضربهم وهدم دورهم وحلقهم، وهدم دار مالك بن مسمع واستباحها. وعزل بن معمرعن فارس وولى المهلب وخرج إلى الكوفة. فلم يزل بها حتى سار للقاء عَبْد الملك، وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة. ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلب على قتال الخوارج رده وقال له المهلب: إن أهل العراق قد كاتبوا عَبْد الملك، وكاتبهم فلا يتعدى. ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى عسكر في معسكره، وسار عَبْد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان، وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد، فنزلوا قريباً من قرقيسيا. وحضر زفر بن الحارث الكلابي، ثم صالحه. وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار معه فنزل بمسكن قريبأ من مسكن مصعب، وفر الهذيل بن زفر فلحق بمصعب. وكتب عَبْد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان، وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوماً إلى مصعب فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فأخبره مصعب بما فيه، وقال مثل هذا لا يرغب عنه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة. ولقد كتب عَبْد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعني واقتلهم أو احبسهم في أضيق محبس، فأبى عليه مصعب وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب. وعذلهم قيس بن الهيثم منهم في طاعة أهل الشام فأعرضوا عنه. ولمّا تدانى العسكران بعث عَبْد الملك إلى مصعب يقول، فقال: تجعل الأمر شورى. فقال فصعب ليس بيننا إلا السيف. فقدم عَبْد الملك أخاه محمداً، وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمده بالجيش فأزال محمداً عن موقفه، وأمده عَبْد الملك بعبيد الله بن يزيد، فاشتد القتال، وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهلي والد قتيبة، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء، فساء ذلك إبراهيم ونكره. وقال: أوصيته لا يمدني بعتاب وأمثاله. وكان قد بايع لعبد الملك، فجر الهزيمة على إبراهيم وقتله، وحمل رأسه إلى عَبْد الملك. وتقدم أهل الشام، فقاتل مصعب ودعا رؤوس العراق إلى القتال فاعتذروا وتثاقلوا. فدنا محمد بن مروان من مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل العراق فأعرض عنه، فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه. فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال: أتظنهم يعرفون لك ذلك؟ فإن أحببت فافعل. قال لا يتحدث نساء قُرَيْش إني رغبت بنفسي عنك. قال: فاذهب إلى عمك بمكة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني، فأنى مقتول فقال لا أخبر قريشاً عنك أبداً، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنهم على الطاعة، أو بأمير المؤمنين بمكة. فقال لا يتحدث قُرَيْش إني فررت. ثم قال لعيسى تقدم يا بني أحتسبك، فتقدم في ناس فقتل وقتلوا. وألح عَبْد الملك في قبول أمانه فأبى ودخل سرادقه، فتحفظ ورمى السرادق، وخرج فقاتل، ودعاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فشتمه وحمل عليه، وضربه فجرحه. وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة أنفس وأثخنته الجراحة، فرجع إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فقتله، وجاء برأسه إلى عَبْد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها. وقال: إنما قتلته بثأر أخي، وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته، وقيل: إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار. وأخذ عبيد الله رأسه، وأمر عَبْد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل. وكان ذلك سنة إحدى وسبعين. ثم دعا عَبْد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوماً، وخطب الناس فوعد المحسن، وطلب يحيى بن سعيد عن جعفة وكانوا أخواله، فأحضروه فأمنه. وولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة، ومحمد بن نمير على همدان، ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري ولم يفى لهم بأصبهان كما شرطوا عليه، وكان عَبْد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري، ويحيى بن معتوق الهمداني قد لجآ إلى علي بن عَبْد الله بن عباس، ولجأ فذيل بن زفر بن الحارث، وعمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد، فأمنهم عَبْد الملك. وصنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاماً فأخبره بالخورنق، وأذن للناس عامة فدخلوا، وجاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره وطعم الناس. ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه، ولما بلغ عَبْد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عَبْد الملك قال : أمعه عمربن معمر قيل: هو على فارس. قال فالمهلب؟ قيل في قتال الخوارج. قال فعباد بن الحسين؟ قيل على البصرة. قال: وأنا بخراسان.

خذيني فجريني جهاراً وأنشدي                بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره

ثم بعث عَبْد الملك برأس مصعب إلى الكوفة ثم إلى الشام. فنصب بدمشق وأرادوا التطاوف به فمنعت من ذلك زوجة عَبْد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فغسلته ودفنته. انتهى قتل مصعب إلى المهلب وهو يحارب الأزارقة، فبايع الناس لعبد الملك بن مروان. ولما جاء خبرمصعب لعبد الله بن الزبيرخطب الناس فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزمن يشاء ويذل من يشاء. ألا وأنه لم يذلّ الله من كان الحق معه، وإن كان الناس عليه طرّاً. وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب. فالذي أفرحنا منه أن قتله شهادة، وأمَّا الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة. ثم عَبْد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإن أهل العراق، أهل الغدر والنفاق، سلموه وباعوه بأقل الثمن فإن   فو الله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي  العاص، والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإِسلام. ولا نموت إلا طعنا بالرماح وتحت ظلال السيوف، ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ  البطور، وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين. أقول قولي هذا وأستغفرالله لي ولكم. ولما بلغ الخبر إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن ابان، وعبد الله بن أبي بكرة، واستعان حمدان بعبد الله بن الأهتم عليها، وكانت له منزلة عند بني أُمَيَّة، فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولى على البصرة خالد بن عَبْد الله بن اشيد، فاستخلف عليها عبيد الله بن أبي بكرة، فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد ثم عزل خالدا سنة ثلاث وسبعين، وولى مكانه على البصرة أخاه بشراً وجمع له المصرين، وسار بشر إلى البصرة، واستخلف على الكوفه عمر بن حريث. وولى عَبْد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين، فغزا الروم ومزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم.

مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح عليها:

قد تقدّم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث فرق، وكف فرقتين منهم. وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور، وعليهم بجير بن ورقاء الصريمي. فلما قتل مصعب بعث عَبْد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين، وبعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة. فقال ابن حازم: لولا الفتنة بين سليم وعامر، ولكن كل كتابك فأكله. وكان بكيربن وشاح التميمي خليفة ابن حازم على مرو، فكتب إليه عَبْد الملك، بعهده على  خراسان ورغبة بالمطامع أن انتهى، فخلع ابن الزبير ودعا إلى عَبْد الملك، وأجابه أهل مرو. وبلإبن حازم فخاف أن يأتيه بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بجيرا وارتحل عنه إلى مرو، ويزيد ابنه يترمد. فاتبعه بجير ولحقه قريبأ من مرو، واقتتلوا فقتل ابن حازم. طعنه بجير وآخران معه فصرعوه، وقعد أحدهم على صدره فقطع رأسه. وبعث بجير البشير بذلك إلى عَبْد الملك، وترك الرأس، وجاء بكير بن وشاح في أهل مرو، وأراد إنفاذ الرأس إلى عَبْد الملك، وأنه الذي قتل ابن حازم، وأقام في ولاية خراسان. وقيل إن ذلك إنما كان بعد قتل ابن الزبير، وأن عَبْد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة، فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة. وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير وبكير ما ذكرناه  .

كان عَبْد الملك لمّا بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة، وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمعي، فهرب الحارث وأقام ابن أنيف شهراً يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى معسكره. ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحارث إلى المدينة. وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الدورقي على خيبر وفدك. ثم بعث عَبْد الملك إلى الحجاز عَبْد الملك بن الحارث بن الحكم في أربعة آلاف، فنزل وادي القرى، وبعث سرية إلى سليمان بخيبر، وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه. وأقاموا بخيبر وعليهم ابن القمقام. وذكر لعبد الملك ذلك فاغتم وقال: قتلوا رجلاً صالحاً بغيرذنب . ثم عزل ابن الزبير الحارث بن حاطب عن المدينة، وولّى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة، فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبرا. ثم بعث عَبْد الملك طارق بن عمر مولى عثمان، وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى، ويعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار، وليسدّ خللأ، إن ظهر له بالحجاز، فبعث طارق خيلا إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا، فاصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه، وكتب ابن الزبير إلى القباع وهو عامله على البصرة يستمده ألفي فارس إلى المدينة. فبعثهم القباع وأمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل، ولقيهم طارق فهزمهم وقتل مقدمهم. وقتل من أصحابه خلقا وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم، ورجع إلى وادي القرى. ثم عزل ابن الزبير جابرا عن المدينة، واستعمل طلحة بن عَبْد الله بن عوف، وهو طلحة النداء وذلك سنة سبعين. فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق. ولما قتل عَبْد الملك مصعباً ودخل الكوفة، وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير، وكتب معه بالأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا. فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين، فلم يتعرض للمدينة، ونزل الطائف. وكان يبعث الخيل إلى غرفة، ويلقاهم هناك خيل ابن الزبير فينهزمون دائماً، وتعود خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجاج إلى عَبْد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرق أصحابه، ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمده، فكتب عَبْد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة إثنتين وسبعين، وأخرج عنها طلحة النداء عامل بن الزبير، وولى مكانه رجلاً من أهل الشام، وسار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف. ولما قدم الحجّاج مكة أحرم بحجه ونزل بئر ميمون، وحج بالناس ولم يطف ولا سعى، وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي. ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس، ورمى به الكعبة وكان ابن عمرقد حج تلك السنة، فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل، ونادى منادي الحجّاج عند الإفاضة انصرفوا فإنّا نعود بالحجارة على ابن الزبير، ورمى بالمنجنيق على الكعبة، وألحت الصواعق عليهم في يومين، وقتلت من أصحاب الشام رجالاً فذعروا. فقال لهم الحجاج لا شك فهذه صواعق تهامة وأنّ الفتح قد حضر فأبشروا.

ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسري عن أهل الشام، فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي، فلا ينصرف ولم يزل القتال بينهم، وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه وقسم لحمها في أصحابه. وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمدُّ من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق، يقوي بها نفوس أصحابه. ثم أجهدهم الحصار، وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان، فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف، وافترق الناس عنه.

وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب، وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه. وحرّض الناس الحجاج وقال: قد ترون قلّة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق، فتقدّموا واملؤوا ما بين الحجون والأبواء. فدخل ابن الزبير على امه أسماء وقال يا امَّه: قد خذلني الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أُمَيَّة. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك. وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال يا امّه أخاف أن يمثلوا بي ويصلبوني. فقالت يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال هذا رأي، والذي خرجت به، داعياً إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة وما أخرجني إلا الغضب لله، وأن تستحلَّ حرماته، ولكن أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتيني بصيرة. وإني يا امه في يومي هذا مقتول، فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم، ولم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى. اللهم لا اقر هذا تزكية لنفسي، لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني. فقالت إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. ثم قالت: اخرج حتى أنظر ما يصير أمرك جزاك الله خيراّ. قال فلا تدعي الدعاء لي، فدعت له وودّعها وودّعته، ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد ! فقال ما لبستها إلا لأشد منك. فقالت إنه لا يشد مني فنزعها وقالت له البس ثيابك مشمرة. ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه، وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال: بئس الشيخ إذن أنا في الإِسلام إذا واقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام، والحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة، وابن الزبير يحمل على هؤلاء وعلى هؤلاء وينادي أبا صَفْوان لعبد الله بن صَفْوان بن أُمَيَّة بن خلف، فيجيبه من جانب المعترك. ولما رأى الحجاج إحجام الناس عن ابن الزبير، غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين يديه، فتقدم ابن الزبير إليهم وكشفهم عنه، ورجع فصلى ركعتين عند المقام، وحملوا على صاحب الراية فقلتوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية.ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل، ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام، ويقال إنه قال لأصحابه يوم قتل: يا آل الزبيرأوطبتم لي نفساً عن أنفسكم كأهل بيتٍ من العرب اصطلمنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم، وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرىء قرنه ولا تسألوا عني. ومن كان سائلاً فإني في الرعيل الأول. ثم حمل حتى بلغ الحجون، فأصابته حجارة في وجهه فأرغش لها ودمي وجهه. ثم قاتل قتالاً شديداً وقتل في جمادى الاخرة سنة ثلاث وسبعين. وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد، وكبر أهل الشام، وثار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه، وبعث الحجاج برأسه ورأس عَبْد الله بن صَفْوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عَبْد الملك. وصلب جثته منكّسةً على ثنية الحجون اليمنى. وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى، وكتب إليه عَبْد الملك يلومه على ذلك، فخلّى بينها وبينه. ولما قتل عَبْد الله ركب أخوه عروة وسبق الحجاج إلى عَبْد الملك، فرحب به وأجلسه على سريره، وجرى ذكرعبد الله فقال عروة: إنه كان، فقال عَبْد الملك وما فعل؟ قال قتل فخّر ساجداً. ثم أخبره عروة أنّ الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمّه. فقال نعم: وكتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه، فبعث بجثته إلى امّه وصلى عليه عروة ودفنه وماتت امه بعده قريباً. ولما فرغ الحجاج من ابن الزبير دخل إلى مكة فبايعه أهلها لعبد الملك، وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين، وأساء إلى أهلها وقال: أنتم قتلة عثمان. وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة. منهم جابر بن عَبْد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد. ثم عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله، وقيل إن ولاية الحجاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين، وأن عَبْد الملك عزل عنها طارقاً واستعمله، ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير، وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذي أقره عليه النبي ، ولم يصدق ابن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة. فلما صح عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل.

ولاية أسد بن عَبْد الله على خراسان

ولما ولي بكير بن وشّاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم وأقاموا في العَصَبِيَّة له وعليه سنتين، وخاف أهل خراسان أن تفسد البلاد ويقهرهم العدو، لكتبوا إلى عَبْد الملك بذلك، وأنها لا تصلح إلا على رجل من قُرَيْش. واستشار أصحابه فقال له أُمَيَّة بن عبيد الله ان خالد بن أسيد نزكيهم لرجل منك. فقال لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها. فاعتذر وحلف أن الناس خذلوه ولم يجد مقاتلاً، فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن الهلكة، وقد كتب إليك خالد بن عَبْد الله بعذري، وقد علمه الناس فولاه خراسان. ولما سمع بكير بن وشاح بمسيره بعث إلى بجير بن ورقاء وهو في حبسه كما مر، فأبى وأشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل.

وصالح بكير أو بعث إليه بكير بأربعين ألفاً على أن لا يقاتله. فلما قارب أُمَيَّة نيسابور سار إليه بجير وعرّفه عن أمور خراسان وما يحسن به طاعة أهله. وحذره غدر بكير. وجاء معه إلى مرو فلم يعرض أُمَيَّة لبكير ولا لعماله وعرض عليه شرطته فأبى. وقال لا أحمل الجزية اليوم، وقد كانت تحمل إليّ بالأمس وأراد أن يوليه بعض النواحي من خراسان، فحذره بجير منه. ثم ولى أُمَيَّة ابنه عَبْد الله على سجستان فنزل بسْتا وغزا رتبيل الذي ملك على الترك بعد المقتول الأوّل، وكان هائباً للمسلمين فراسلهم في الصلح وبعث ألف ألف، وبعث بهدايا ورقيق. فأبى عَبْد الله من قبولها وطلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها عَبْد الله. ثم أخذ عليه الشعاب والمضايق حتى سأل منه الصلح وأن يخلي عينه عن المسلمين، فشرط رتبيل عليه ثلثمائة ألف درهم، والعهد بأن لا يغزو بلادهم. فأعطاه ذلك وبلغ الخبر بذلك عَبْد الملك فعزله.

ولاية الحجاج العراق

ثم ولى عَبْد الملك الحجاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمسة وسبعين، وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق، فسار على النجب في اثني عشر راكباً حتي قدم الكوفة في شهر رمضان. وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج، فدخل المسجد وصعد المنبر وقال: عليّ بالناس فظنوه من بعض الخوارج فهموا به، حتى تناول عمير بن ضابي البرجمي الحصباء وأراد أن يحصبه، فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه وهولا يشعر به. ثم حضر الناس فكشف الحجّاج عن وجهه وخطب خطبته المعروفة. ذكرها الناس وأحسن من أوردها المبرَّد في الكامل، يتهدد فيها أهل الكوفة ويتوعدهم عن التخلف عن المهلب. ثم نزل وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلب، فقام إليه عمير بن ضابي وقال: أنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشد مني. فقال هذا خير لنا منك. قال ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابي. قال الذي غزا عثمان في داره؟ قال: نعم. فقال يا عدو الله  إلى عثمان بدلا ًقال ! إنه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً. فقال: إني لا احب حياتك، إن في  قتلك صلاح المصرين، وأمر به فقتل ونهب ماله. وقيل إن عنبسة بن سعيد بن العاص هو الذي أغرى به الحجّاج حين دخل عليه. ثم أمر الحجاج مناديه فنادى ألا إن ابن ضابي تخلّف بعد ثالثة من النداء فأمرنا بقتله، وذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب. فتساءل الناس إلى المهلب وهو بدار هُرمْز وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر. ثم بعث الحجّاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي وأمره أن يشتد على خالد بن عَبْد الله، وبلغه الخبر فقسم في أهل البصرة ألف ألف، وخرج عنها. ويقال إن الحجّاج أول من عاقب على التخلف عن البعوث بالقتل، قال الشعبي كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي تنزع عمامته ويقام بين الناس، فلما ولي مصعب أضاف إليه حلق الرؤوس واللحى، فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط فيخرق المسماران يده وربما مات. فلما جاء الحجّاج ترك ذلك كله وجعل عقوبة من تخلى بمكانه من الثغر أو البعث القتل. ثم ولّى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، فخرج عليه معاوية بن الحارث الكلابي العلاقي وأخوه، فغلباه على البلاد وقتلاه. فأرسل الحجّاج مجاعة بن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر وغزا وفتح فتوحات بمكران لسنة من ولايته.

وقوع أهل البصرة بالحجّاج

ثم خرج الحجّاج من الكوفة، واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة، وسار إلى البصرة وقدمها وخطب كما خطب بالكوفة، وتوعد على القعود عن المهلب كما توعد، فأتاه شريك بن عمرو اليشيكري وكان به فتق، فاعتذر به وبأنّ بشر بن مروان قبل عذره بذلك، وأحضر عطاءه ليُرْد لبيت المال، فضرب الحجّاج عنقه وتتابع الناس مزدحمين إلى المهلب، ثم سار حتى كان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً. وأقام يشدّ ظهره وقال يا أهل المصرين ! هذا والله مكانكم حتى يهلك اللهُ الخوارجَ. ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية، وكانت مائة مائة. وقال: لسنا نجيزها. فقال عَبْد الله بن الجارود إنما هي زيادة عَبْد الملك، وقد أجازها أخوه بشر بأمره، فانتهره الحجّاج فقال : إني لك ناصح وإنه قول من ورائي فمكث الحجّاج أشهراً لا يذكر الزيادة، ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل الرد الأول. فقال له مضفلة بن كرب العبدي سمعاً وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا وليس لنا أن نرد عليه. فانتهره ابن الجارود وشتمه، وأتى الوجوه إلى عَبْد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وقالوا: إنّ هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة، وإنا نبايعك على إخراجه من العراق ونكتب إلى عَبْد الملك أن يولي علينا غيره وإلاّ خلعناه، وهو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق، فبايعوه سراً وتعاهدوا وبلغ الحجّاج أمرهم فاحتاط وجدّ. ثم خرجوا في ربيع سنة ست وسبعين، وركب عَبْد الله بن الجارود في عَبْد قيس على راياتهم، ولم يبق مع الحجّاج إلا خاصته وأهل بيته، وبعث الحجّاج يستدعيه فأفحش في القول لرسوله، وصرح بخلع الحجاج فقال له الرسول: تهلك قومك وعشيرتك. وأبلغه تهديد الحجاج إياه فضرب وأخرج وقال لولا أنك رسول لقتلتك. ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه، فنهبوا ما فيه من المتاع وأخذوا زجاجته وانصرفوا عنها. فكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه. وقال الغضبان بن أبي القبعثري الشيباني لابن الجارود: لا ترجع عنه وحرضه على معالجته. فقال إلى الغداة، وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمر العتكي صاحب الشرطة بالبصرة، فاستشارهما، فأشار زياد بأن يستأمن القوم ويلحق بأمير المؤمنين. وأشار عثمان بالثبات ولو كان دونه الموت. وقال لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقاك إلى ما رقاك، وفعلت ما فعلت بابن الزبير في الحجاز. فقبل رأي عثمان وحقد على زياد في إشارته، وجاءه عامر بن مسمع يقول: قد أخذ لك الأمان من الناس، فجعل الحجّاج يغالطه رافعاً صوته عليه ليسمع الناس ويقول : والله لا آمنهم حتى تؤتوني بالهذيل بن عمران وعبد الله بن حكيم ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري أن ائتني فامنعني . فقال له إن أتيتني منعتك فابى، وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد وعبد الله بن حكيم بمثل ذلك ، وأجابوه مثله . ثم إن عباد بن الحصين. ثم جاءه سبرة بن الجفطي مر بابن الجارود والهذيل وعبد الله بن حكيم تناجون ، فطلب الدخول معهم فأبوا وغضب وسار إلى الحجاج ، وجاءه قتيبة بن مسلم في بني أعصر للحمية القتيبية عليّ الكلابي وسعيد بن أسلم الكلابي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي ، فثابت إليه نفسه وعلم أنه قد امتنع . وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت عنك ، فأجابه أن أقم ، فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف . وقال ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي ؟ قال تركته أمس ولم يبق إلا الصبر.   ثم تراجعوا وعبى ابن الجارود وأصحابه على ميمنة الهذيل وعلى ميسرته سعيد بن أسلم ، وحمل ابن الجارود حتى حاصر أصحاب  الحجّاج ، وعطف الحجّاج عليه فقارب ابن الجارود أن يظفر. ثم أصابه سهم غَرِبُ فوقع ميتاً . ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وابن الحكيم ، وأمر أن لا يتبع المنهزمين ، ولحق ابن ضبيان بعمارة فهلك هنالك . وبعث الحجاج برأس ابن الجارود ورأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك ، ونصبت ليراها الخوارج ليتاسوا من الاختلاف ، وحبس الحجاج عبيد بن كعب ، ومحمد بن عمير لامتناعهما من الإتيان إليه ، وحبس ابن القبعثرى لتحريضه عليه ، فأطلقه عبد الملك وكان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك . فقال الحجاج لا أرى أنساً يعين علي . ودخل البصرة وأخذ ماله . وجاءه أنس فأساء عليه وأفحش في شتمه ، وكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه . فكتب عبد الملك إلى الحجاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس ، وأن تجيء إلى منزله وتتنصل إليه ، وإلا نبعث من يضرب ظهرك ويهتك سترك. قالوا : وجعل الحجاج في قراءته يتغير ويرتعد وجبينه يرشح عرقاً . ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه ، وفي عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة، وقد كانوا خرجوا قبل ذلك أيام مصعب ولم يكونوا بالكثير، وأفسدوا الثمار والزروع ، ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم ، وقتل بعضهم وصلبه . فلما كانت هذه الواقعة قدّموا عليهم رجلاً منهم اسمه رياح ويلقب بشير زنجي أي أسد الزنج وأفسدوا . فلما فرغ الحجّاج من ابن الجارود أمر زياد ابن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم مَن يقاتلهم ، وبعث ابنه حفصاً في جيش فقتلوه وانهزم أصحابه فبعث جيشاً فهزم الزنج وأبادهم .

عزل يزيد عن خراسان

يقال إن الحجّاج وفد إلى عبد الملك ومرّ في طريقه براهب قيل له إن عنده علماً من الحدثان فقال : هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه ؟ قال نعم : فقال مُسَمى أو موصوفا؟ قال موصوفا. قال : فما تجدون صفة ملكنا؟ قال صفته كذا . قال ثم مَن ؟ قال آخر اسمه الوليد . قال ثم مَن ؟ قال آخر اسمه ثَقَفِي . قال فمَن تجد بعدي ؟ قال رجل يدعى يزيد . قال أتعرف صفته ؟ قال لا أعرف صفته إلا أن يغدر غدرة . فوقع في نفس الحجّاج أنه يزيد بن المهلب ، ووجل منه ، وقَدِمَ على عبد الملك . ثم عاد إلى خراسان وكتب إلى عبد الملك يدعى  يزيدَ وآل المهلب وأنهم زُبَيْرِية، فكتب إليه أن وفاءهم  لآل الزبير يدعوهم إلى الوفاء لي. فكتب إليه الحجّاج يخوّفه غدرهم وما يقول الراهب . فكتب إليه عبد الملك أنك أكثرت في يزيد فانظر مَن تولي مكانه . فسمّى له قتيبة بن مسلم ، فكتب له أن يولّيه . وكره الحجّاج أن يكاتبه بالعزل ، فاستقدمه وأمره أن يستخلف أخاه المفضل ، واستشار يزيد حُصَيْن بن المُنْذِر الرَقَاشِي فقال له : أقم واعتل ، وكاتِبْ عبد الملك فإنه حسن الرأي فيك . نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره الخلاف ، وأخذ يتجهّز وأبطأ . فكتب الحجّاج إلى المفضل بولاية خراسان واستلحاق يزيد . فقال إنه لا يضرّك بعدي ، وإنما ولاّك مخافة أن أمتنع . وخرج يزيد في ربيع سنة خمس وثمانين . ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته ، وولّى قتيبة بن مسلم . وقيل سبب عزل اليزيد أن الحجّاج أذلّ العراق كلهم إلآ آل المهلب ، وكان يستقدم يزيد فيعتل عليه بالعدا والحروب . وقيل كتب إليه أن يغزو خوارزم فاعتذر إليه بانها قليلة السلَبَ شديدة الكَلَف . ثم استقدمه بعد ذلك فقال إلى أن أغزو خوارزم . فكتب الحجّاج لا تغزها، فغزاها وأصاب سُبيا وصالحه أهلها، وانفتل في الشتاء . وأصاب الناس البرد فتدثّروا بلباس الأسرى فبقوا عرايا ، وقتلهم المفضل . ولما ولّي المفضل خراسان غزا باذغِيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه ، ثم غزا شومان فغنم وقسم ما أصابه.

البيعة للوليد بالعهد

وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد والبيعة لابنه الوليد وكان قبيصة ينهاه عن ذلك ويقول : لعلّ الموت يأتيه وتدفع العَار عن نفسك ، وجاءه رَوْحُ بن زنباغ ليلة وكان عنده عظيماً ففاوضه في ذلك فقال : لو فَعلته ما انتطح فيه عنزان . فقال نصلح إن شاء الله ! وأقام روح عنده ، ودخل عليهما قُبَيْصَة بن ذؤَيب من جنح الليل وهما نائمان وكان لا يحجب عنه وإليه الخاتم والسكّة ، فأخبره بموت عبد العزيز أخيه. فقال روح كفانا الله ما نريد. ثم ضمّ مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك ، وولاّه عليها . ويقال : إن الحجّاج كتب إلى عبد الملك يزيّن له بيعة الوليد، فكتب إلى عبد العزيز إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك فكتب له أن تجعَل الأمر له من بيعَة، فكتب له إني أرى في أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب له عبد الملك أن يحمل خراج مصر، فكتب إليه عبد العزيز إني وإياك يا أمير المؤمنين قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا، ولا ندري أيّنا يأتيه الموت فلا تفسد عليَّ بقية عمري ، فرق له عبد الملك وتركه . ولما بلغ الخبر بموت عبد العَزيز عبد الملك أمر الناس بالبَيعة لابنه الوليد وسليمان ، وكتب بالبيعَة لهما إلى البلدان . وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي ، فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا، وأبى سعِيد بن المُسَيب فضربه ضرباً مبرحاً، وطاف به وحبسه . وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه ويقول : إن سعيدا ليس عنده شقاق ولا نفاق ولا خلاف ، وقد كان ابن المسيب امتنع من بيعَة ابن الزبير، فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطاً، وكتب إليه ابن الزبير يلومه . وقيل : إن بيعَة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين ، والأول أصحّ. وقيل قَدِمَ عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر، فلما فارقه وصّاه عبد الملك فقال ابسط بشرك ، وألِنْ كنفك ، وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ لك ، وانظر حاجبك ، وليكن من خير أهلك ، فإنه وجهك ولسانك . ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الذي تأذن له أو تردّه ، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك ، وتثبت ، في قلوبهم محبتك . وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المبهمة . واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ، ولن يهلك امرؤٌ من مشورة . وإذا سخطت على أحد فأخِّر عقوبته ، فإنك على العُقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردّها بعد إصابتها .

 وفاة عبد الملك وبيعة الوليد

ثم توفي عبد الملك منتصف شوّال سنة ست وثمانين ، وأوصى إلى بنيه فقال : أوصيكم بتقوى الله ، فإنها أزين حلية وأحصن كهف ، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه ، فإنه نابكم الذي عنه تفترّون ، ولحيكم الذي عنه ترمون . وأكرموا الحجّاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر، ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم مغنى الأعداء . وكونوا بني أم بررة، لا  تدب بينكم العقارب . وكونوا في الحرب أحرارا، فإن القتال لا يقرِّب منية . وكونوا للمعروف مناراً ، فإن المعروف يبقى أجره وذخره وذكره وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنه لصون له ، واشكر لما يؤتى إليهم منه ، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا ، وإن عادوا فانتقموا . ولما دفن عبد الملك قال الوليد : إنّا لله وإنا إليه راجعون والله المُستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين ، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة . فكان أوّل مَن عزّى نفسه وهنأها . ثم قام عبد الله بن همّام السامولي وهو يقول :

الله أعْطَاكَ التي لا فَوْقَها                 وقد أراد المُلْحِدُونَ عَوْقَهَا

عَنْكَ ويأبى الله إلا سَوْقَهَا               إلَيْكَ حتى قَلدُوكَ طَوْقَهَا

وبايعه ثم بايعه الناس بعده ، وقيل إن الوليد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيّها الناس لا مقدِّم لما أخّره الله ، ولا مؤخّر لما قدمه الله ، وقد كان من قضاءِ الله وسابق علمه ، وما كتب على أنبيائه وحَمَلَة عرشه الموتُ ، وقد صار إلى منازل الأبرار ووبيَ هذه الأمة بالذي يحقّ عليه في الشدّة على المذنب واللين لأهل الحق والفضل ، لإقامة ما أقام الله من منازل الإسلام وإعلائه ، من حج البيت وغزو الثغور وشنّ الغارة على أعداء الله ، فلم يكن عاجزاً ولا مُفَرطا ً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع المنفرد. أيها الناس مَن أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، ومَن سكت مات بدائه ثم نزل .

عمارة المسجد

كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين ، لأربع سنين من ولايته ، وولّى عليها عمر بن عبد العزيز، فقَدِمها ونزل دار مروان ، ودعا عشرة من فقهاء المدينة فيهم الفقهاءُ السبعة المعروفون ، فجعلهم أهل مشورته لا يقطع أمراً دونهم ، وأمرهم أن يبلّغوه الحاجات والظلامات فشكروه وجزوه خيراً ، ودعا له الناس . ثم كتب إليه سنة ثمان أن يدخل حِجْرَ أمهات المؤمنين في المسجد ويشتري ما في نواحيه ، حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها، وقدم القبلة. ومَن أبى أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل ، وادفع إليه الثمن ، واهدم عليه الملك ، ولك في عمر وعثمان أسوة . فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها وبعث الوليد إلى ملك الروم أنه يريد بناء المسجد، فبعثَ إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ، ومائة من الفعلة، وأربعين حملاً من الفُسَيْفِساء، وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز، واستكثر معهم من فعَلَة الشام ، وشرع عمر في عمارته اهـ . ووَلَّى الوليد في سنة تسع وثمانين على مكة خالد بن عبد الله القسْرِي.

وفاة الوليد وبيعة سليمان

ثم توفي الوليد في منتصف جمادى الأخيرة من سنة ست وتسعين ، وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز وكان من أفضل خلفاء بني أمية وبنى المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد القدس ومسجد دمشق . ولما أراد بناء مسجد دمشق كانت في موضعه كنيسة فهدمها وبناها مسجدا وشكوا ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال : نردّ عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنها خارج المدينة ممّا فتح عنوة ونبنيها مسجدا فتركوا ذلك. وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند، وكان يتخذ الضياع وكان متواضعاً يمّر بالبقَّال فيسأله بِكَم حزمة البَقْل ؟.ويسعّر عليه  وكان يختم القرآن في ثلاث وفي رمضان في يومين وكان أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان  فكتب إلى عمّاله ودعا الناس إلى ذلك  فلم يُجُبْه إلا الحجّاج وقتيبة وبعض خواصّه . واستقدم سليمان ثم استبطأه  فأجمع السير إليه ليخلعه فماّت دون ذلك . ولما مات بويع سليمان من يومه وهو بالرمْلَةِ فعزل عثمان بن حيّان من المدينة آخر رمضان ، وولّى عليها أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، وعزل ولاة الحجّاج عن العراق  فولّى يزيد بن المهلّب على المِصْرَيْن وعزل عنهما يزيد بن أبي مسلم . فبعث يزيد أخاه زياداً على عمّان وأمر سليمان يزيد بن المهلّب بنكبة آل أبي العُقَيْل قوم الحجّاج وبني أبيه  وبسط أصناف العذاب عليهم ، فولّى على ذلك عبد الملك بن المهلب .

وفاة سليمان وبيعة عمر بن عبد العزيز

ثم توفي سليمان بدابق من أرض قِّنسرين من سنة تسع وتسعين في صفر منها، وقد كان في مرضه أراد أن يعهد إلى ولده داود، ثم استصغره وقال له كاتبه رجاء بن حيوة ابنك غائب عنك بِقُسْطَنْطِينية ولا يعرف حياتَه من موته ، فعدل إلى عُمَرَ بن عبد العزيز وقال له : !ني والله لأعلم أنها تكون فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده ، وكان عبد الملك قد جعل ذلك له ، وكتب بعد البسملة : هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز: إني قد ولّيتك الخلافة بعدي  ومن بعدك يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم وختم الكتاب . ثم أمر كعب بن جابر العبسي  صاحب الشرطة أن يجمع أهل بيته ، وأمر رجاء بن حيوة أن يدفع لهم كتابه وقال : أخبرهم أنه كتابي فليبايعوا مَن ولّيت فيه ، فبايعوه رجلاً رجلاً وتفرقوا . وأتى عمر إلى رجاء يستعمله ويناشده الله والمودّة، يستعفي من ذلك ، فأبى  وجاءه هشام أيضاً يستعمله ليطلب حقه في الأمر فأبى، فانصرف أسفاً أن يخرج منْ بني عبد الملك . ثم مات سليمان وجمع رجاء أهل بيته فقرأ عليهم الكتاب . فلما ذكر عمر قال هشام : والله لا نبايعه أبداً فقال له رجاء: والله نضرب عنقك . فقام أسفاً يجرّ رجليه ، حتى جاء إِلى عمر بن عبد العزيز، وقد أجلسه رجاء على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه ، فبايعه واتبعه الباقون . ودفن سليمان وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، والوليد كان غائباً عن موت سليمان ، ولم يعلم بيعة عمر، فعقد لواء ودعا لنفسه وجاء إلى دمشق . ثم بلغه عهد سليمان فجاء إلى عمر واعتذر إليه وقال : بلغني أنّ سليمان لم يعهد، فخفت على الأموال أن تنهَب فقال عمر: لو قمت بالأمر لقعدت في بيتي ولم أُنازعك ، فقال عبد العزيز: والله لا أحب لهذا الأمر غيرك ! وأول ما بدأ به عمر لما استقرّت البيعة أنه رد ما كان لفاطمة بنت عبد الملك زوجته من المال والحليّ والجوهر إلى بيت المال . وقال: لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد، فردته جميعه . ولما وُلّي أخوها يزيد من بعد ردّه عليها فأبت وقالت : ما كنت أعطيه حياً أعطيه ميتاً، ففّرقه يزيد على أهله . وكان بنو أمية يسبون عليّاً، فكتب عمر إلى الأفاق بترك ذلك ، وكتب إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول بالمسلمين .

وفاة عمر بن عَبْد  العزيز وبيعة يزيد

ثم توفي عمر بن عَبْد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان، ودفن بها السنتين وخمسة أشهر من ولايته، ولأربعين من عمره، وكان يدعى أشجّ  بني أُمَيَّة، رمحته دابة وهو غلام فشجّته. ولما مات ولي بعده يزيد بن عَبْد الملك بعهد سليمان كما تقدم، وقيل لعمر حين احتضر: اكتب إيى يزيد فأوصه بالأمة، فقال بماذا اوصيه؟ إنه من بني عَبْد الملك ! ثم كتب: أمَّا بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترلى ما أترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام. ولما ولي يزيد عزل أبا بكربن محمد بن عمر بن حزم عن المدينة، وولى عليها عَبْد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهري، وغير كل ما صنعه عمر بن عَبْد العزيز، وكان من ذلك شأن خراج اليمن. فإن محمدا أخا الحجاج جعل عليهم خراجاً مجدداً، وأزال ذلك عمر إلى العشر أو نصف العشر. وقال: لئن يأتيني من اليمن حبة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوظيفة. فلما ولي يزيد أعادها وقال لعامله خذها منهم ولو صاروا حرضاً. وهلك عمه محمد بن مروان فولى مكانه على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية عمه الاخر مسملمة بن عبد الملك.

وفاة يزيد وبيعة هشام

ثم توفي يزيد بن عَبْد الملك في شعبان سنة خمس ومائة لأربع سنين من خلافتة، وولّى بعده أخوه هشام بعهده إليه بذلك كما مر، وكان بحمص فجاءه الخبر بذلك، فعزل عمر بن هبيرة عن العراق وولّى مكانه خالد بن عَبْد الله القسري فسار إلى العراق من يومه.

وفاة هشام بن عبد الملك وبيعة الوليد بن يزيد

توفي هشام بن عَبْد الملك بالرصافة في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، لعشرين سنة من خلافته، وولى بعده الوليد إبن أخيه يزيد بعهد يزيد بذلك كما مر، وكان الوليد متلاعباً، وله مجون وشراب وندمان، وأراد هشام خلعه فلم يمكنه. وكان يضرب من يأخذه في صحبته، فخرج الوليد في ناس من خاصته ومواليه، وخلف كاتبه عياض بن مسلم ليكاتبه بالأحوال، فضربه هشام وحبسه. ولم يزل الوليد مقيماً بالبرية حتى مات هشام، وجاءه مولى أبي محمد السفياني على البريد بكتاب سالم بن عَبْد الرحمن صاحب ديوان الرسائل بالخبر، فسأل عن كاتبه عياض فقال: لم يزل محبوساً حتى مات هشام، فأرسل إلى الحراق أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاماً من شيء طلبه. ثم خرج بعد موته من الحبس، وختم أبواب الخزائن. ثم كتب الوليد من وقته إلى عمه العباس بن عَبْد الملك أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده وعماله وخدمه، إلا مسلمة بن هشام فإنه كان يراجع أباه بالرفق بالوليد، فانتهى العباس لمّا أمر به الوليد. ثم استعمل الوليد العمال وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة. فجاءته بيعتهم. وكتب مروان ببيعته واستأذن في القدوم. ثم عقد الوليد من سنته لإبنيه: الحكم وعثمان بعده وجعلهما وليي عهده، وكتب بذلك إلى العراق وخراسان.

مقتل الوليد وبيعة يزيد

ولما ولي الوليد لم يقلع عما كان عليه من الهوى والمجون. حتى نسب إليه في ذلك كثير من الشنائع. مثل رمية المصحف بالسهام، حين استفتح فوقع على قوله: {وخاب كل جبار عنيد}. وينشدون له في ذلك بيتين تركتهما لشناعة مغزاهما. ولقد ساءت القالة فيه كثيراً، وكثير من الناس نفوا ذلك عنه وقالوا: إنها من شناعات الأعداء، ألصقوها به. قال المدائني دخل ابن الغمر بن يزيد على الرشيد فسأله: ممن أنت؟ فقال: من قُرَيْش. قال: من أيها ؟  فوجم، فقال: قل وأنت آمن ولو أنك مروان. فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال: رحم الله الوليد ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة مجمعاً عليه، إرفع حوائجك فرفعها وقضاها.وقال شبيب بن شبة كنا جلوساً عند المهدي فذكر الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام ابن علانة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافه النبوَّة وأمر الأمة زنديقاً، لقد أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبه وشربه، ويراه في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة، يطرح الثياب التي عليه المصبية المصبغة. ثم يتوضأ فيحسن الوضوء، ويؤتى بثياب بيض نظيفة فيلبسها ويشتغل بربه. أترى هذا فعل من لا يؤمن بالله؟ فقال المهدي: بارك الله عليك يا ابن علانة، وإنما كان الرجل محسوداً في خلاله، ومزاحماً بكبار عشيرة بيته من بني عمومته مع لهوٍ كان يصاحبه أوجد لهم به السبيل على نفسه.وكان من خلاله قرض الشعر الوثيق ونظم الكلام البليغ. قال يوماً لهشام يعزيه في مسلمة أخيه: إن عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختل الثغر فهوى. وعلى أثر من سلف يمضي من خلف، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى. فأعرض هشام وسكت القوم.وأمَّا حكاية مقتله فإنه لمّا تعرض له بنو عمه، ونالوا من عرضه، أخذ في مكافأتهم. فضرب سليمان ابن عمه هشام مائة سوط، وحلقه وغربه إلى معان من أرض الشام، فحبسه إلى آخر دولته. وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرق بين ابن الوليد وبين امرأته، وحبس عدةً من ولد الوليد، فرموه بالفسق والكفر واستباحة نساء أبيه. وخوفوا بني أُمَيَّة منه بأنه اتخذ ميتة جامعة لهم، وطعنوا عليه في تولية إبنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما. وكان أشدهم عليه في ذلك يزيد بن الوليد، لأنه كان يتنسك فكان الناس إلى قوله أميل. ثم فسدت اليمامة عليه بما كان منه لخالد القسري. وقالوا: إنما حبسه ونكبه لامتناعه من بيعة ولديه. ثم فسدت عليه قضاعة، وكان اليمن وقضاعة أكثر جند الشام. واستعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف بن عمر، وصنعوا على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنية بشأن خالد، فازداد واختفى. وأتوا إلى يزيد بن الوليد بن عَبْد الملك فأرادوه على البيعة. وشاور عمر بن زيد الحكمي فقال: شاور أخاك العباس وإلا فأظهر إنه قد بايعك، فإن الناس له أطوع. فشاور العباس فنهاه عن ذلك فلم ينته، ودعا الناس سراً، وكان بالبادية. وبلغ الخبر مروان بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عَبْد الملك يعظم عليه الأمر ويحذره الفتنة ويذكر له أمر يزيد، فأعظم ذلك سعيد، وبعث بالكتاب إلى العباس، فتهدد أخاه يزيد فكتمه فصدقه.ولما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق لأربع ليال متنكراً، معه سبعة نفر على الحمر. ودخل دمشق ليلاً وقد بايع له أكثر أهلها سراً، وأهل المزة. وكان على دمشق عَبْد الملك بن محمد بن الحجاج، فاستوياها فنزل قطنا، واستخلف عليها إبنه محمداً. وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عَبْد الله السلمي. ونمي الخبر إليهما فكذباه، وتواعد بزيد مع أصحابه بعد المغرب بباب الفراديس. ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة، ولما قضوا الصلاة جاء حرس المسجد لإخراجهم فوثبوا عليهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين وخمسين، وطرقوا باب المقصورة، فأدخلهم الخادم، فأخذوا أبا العاج وهو سكران وخزان بيت المال وبعث عن محمد بن عَبْد الملك فأخذوه وأخذوا سلاحاً كثيراً كان بالمسجد، وأصبح الناس من الغد من النواحي القريبة متسائلين للبيعة أهل المزة والسكاسك وأهل دارا. وعيسى بن شيب الثعلبي في أهل درهة وحرستا، وحميد بن حبيب اللخمي في أهل دمرعران، وأهل حرش والحديثة ودير كاوربعي بن هشام الحرثي في جماعة من عر وسلامان. ويعقوب بن عمير بن هانىء العبسي وجهينة ومواليهم. ثم بعث عَبْد الرحمن بن مصادي في مائتي فارس، فجاء بعبد الملك بن محمد بن الحجاج من قصره على الأمان.  ثم جهز يزيد الجيش إلى الوليد بمكانه من البادية مع عَبْد العزيز بن الحجاج بن عَبْد الملك، ومنصور بن جمهور. وقد كان الوليد لمّا بلغه الخبر بعث عَبْد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فأقام بطريقه قليلأ. ثم بايع ليزيد، وأشار على الوليد أصحابه أن يلحق بحمص فيتحصن بها. قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد، وخالفه عَبْد الله بن عنبسة. وقال: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبل أن يقاتل. فسار إلى قصر النعمان  بن بشير، ومعه أربعون من ولد الضحاك وغيره. وجاء كتاب العباس بن الوليد بأنه قادم عليه، وقاتلهم عَبْد العزيز ومنصور بعد أن بعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى الكتاب والسنة. فقتله أصحاب الوليد واشتدّ القتال بينهم، وبعث عَبْد العزيز بن منصور بن جمهور لاعتراض العباس بن الوليد أن يأتي بالوليد. فجاء به كرهاً إلى عَبْد العزيز، وأرسل الوليد إلى عَبْد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي على أن ينصرف عنه فأبى. ثم قاتل قتالاً شديداً حتى سمع النداء بقتله وسبه من جوانب الحومة، فدخل القصر فأغلق الباب، وطلب الكلام من أعلى القصر، فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي فذكره بحرمه وفعله فيهم. فقال ابن عنبسة: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. قال : حسبك الله يا أخا السكاسك ! فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت. ثم رجع إلى الدار فجلس يقرأ في المصحف وقال: يوم كيوم عثمان فتسوّروا عليه، وأخذ يزيد بن عنبسة بيده يقيه لا يريد قتله، وإذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه واجتزوا رأسه، فساروا به إلى يزيد فأمر بنصبه.فتلطّف له يزيد بن فروة مولى  بني مرّة في المنع من ذلك، وقال: هذا ابن عمك وخليفة، وإنما تنصب رؤوس الخوارج، ولا آمن أن يتعصب له أهل بيته، فلم يجبه، وأطافه بدمشق على رمح، ثم دفع إلى أخيه سليمان بن يزيد وكان معهم عليه. وكان قتله آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين لسنتين وثلاثة أشهر من بيعته. ولما قتل خطب الناس يزيد فذمّه وثلبه، وإنه إنما قتله من أجل ذلك. ثم وعدهم بحسن الظفر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم، وسد الثغور والعدل في العطاء والأرزاق ورفع الحجاب،  وإلا فلكم ما شئتم من الخلع. وكان يسمى الناقص لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الناس وهي عشرة عشرة. وردّ العطاء كما كان أيام هشام، وبايع لأخيه إبراهيم بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عَبْد الملك، حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض طرقه .

ولما قتل الوليد، وكان قد حبس سليمان ابن عمه هشام بعمان، خرج سليمان من الحبس وأخذ ما كان هناك من الأموال ونقله إلى دمشق. ثم بلغ خبر مقتله إلى حمص، وأن العباس بن الوليد أعان على قتله، فانتقضوا وهدموا دار العباس وسبوها، وطلبوه فلحق بأخيه يزيد. وكاتبوا الأجناد في الطلب بدم يزيد، وأمروا عليهم مروان بن عَبْد الله بن عَبْد الملك، ومعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، وراسلهم يزيد فطردوا رسوله، فبعث أخاه مسروراً في الجيش فنزل حّوارين. ثم جاء سليمان بن هشام من    فرد عليه ما أخذ الوليد من أموالهم، وبعث على الجيش وأمر أخاه مسروراً  بالطاعة. واعتزم أهل حمص على المسير إلى دمشق، فقال لهم مروان: ليس من الرأي أن تتركوا خلفكم هذا الجيش وإنما نقاتله قبل، فيكون ما بعده أهون علينا. فقال لهم السميط بن ثابت إنما يريد خلافكم وإنما هواه مع يزيد والقدرية، فقتلوه وولّوا عليهم محمداً السفياني وقصدوا دمشق، فاعترضهم ابن هشام بغدرا فقاتلهم قتالاً شديداً. وبعث يزيد عَبْد العزيز بن الحجاج بن عَبْد الملك في ثلاثة آلاف إلى ثنية العقاب وهشام بن مضاد في ألف وخمسمائة إلى عقبة السلامية. وبينما سالم يقاتلهم إذ أقبلت عساكر من ثنية العقاب، فانهزم أهل حمص، ونادى يزيد بن خالد بن عَبْد الله القسري: الله الله على قومك يا سليمان. فكف الناس عنهم وبايعوا ليزيد. وأخذ أبا محمد السفياني ويزيد بن خالد بن يزيد وبعثهما إلى يزيد فحبسهما اهــ. واستعمل على حمص معاوية بن يزيد بن الحصين، وكان لمّا قتل الوليد وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عَبْد الملك فطردوه، وتولى منهم سعيد وضبعان إبنا روح، وكان ولد سليمان ينزلون فلسطين، فأحضروا يزيد بن سليمان وولّوه عليهم، وبلغ ذلك أهل الأردن، فولوا عليهم محمد بن عَبْد الملك. وبعث يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني على ثمانين ألفاً، وبعث إلى إبني روح بالإحسان والولاية، فرجعا بأهل فلسطين. وقدّم سليمان عسكراً من خمسة آلاف إلى طبرية فنهبوا القرى والضياع، وخشي أهل طبرية على من وراءهم، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد بن عَبْد الملك ونزلوا بمنازلهم، فافترقت جموع الأردن وفلسطين. وسار سليمان بن هشام، ولحقه أهل الأردن فبايعوا ليزيد، وسار إلى طبرية والرملة وأخذ على أهلهما البيعة ليزيد، وولّى على فلسطين ضبعان بن روح، وعلى الأردن إبراهيم بى الوليد.

وفاة يزيد وبيعة أخيه إبراهيم

ثم توفي يزيد آخر سنة ست وعشرين لخمسة أشهر من ولايته، ويقال: إنه كان قدرياً وبايعوا لأخيه إبراهيم من بعده، إلا أنه انتقض عليه الناس ولم يتم له الأمر. وكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة، وأقام على ذلك نحواًً من ثلاثة أشهر، ثم خلعه مروان بن محمد على ما يذكر. وهلك سنة إثنتين وثلاثين.

بقية الصوائف في الدولة الاموية

في إثنتين ومائة أيام اليزيد غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقاً وقتل منهم سبعمائة أسير. وغزا العباس بن الوليد الروم أيضا ففتحها لسنة. ثم غزا سنة ثلاث بعدها فافتتح مدينة رسلة. ثم غزا الجّراح الحكميّ أيام هشام سنة خمس فبلغ وراء بلنجر، وغنم وغزا في هذه السنة سعيد بن عَبْد الملك أرض الروم، وبعث ألف مقاتل في سرية فهلكوا جميعاً. وغزا فيها مروان بن محمد بالصائفة اليمنى، ففتح مدينة قريبة من أرض الزوكخ. ثم غزا سعيد بن عَبْد الملك بالصائفة أيام هشام سنة ست. ثم غزا مسلمة بن عَبْد الملك الروم من الجزيرة وهو والٍ عليها، ففتح قيساريَّة. وغزا إبراهيم بن هشام، ففتح حصناً. وغزا معاوية بن هشام في البحر قبرس، وغزا سنة تسع ففتح حصناً آخر يقال له طبسة. وغزا سنة عشر بالصائفة عَبْد الله بن عقبة الفهريّ ، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج. وغزا بالصائفة اليسرى سنة إحدى عشرة معاوية بن هشام، وبالصائفة اليمنى سعيد بن هشام، وفي البحر عَبْد الله بن أبي مريم. وافتتح معاوية في صائفة ثلاث عشرة سنة خرشفة. وغزا سنة ثلاث عشرة عَبْد الله البطّال، فانهزم فثبت عَبْد الوهاب من أصحابه فقتل. ودخل معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش. ثم غزا سنة أربع عشرة بالصائفة اليسرى وأصحاب ربض أفرق. والتقى عَبْد الله البطال مع قسطنطين، فهزمه البطال وأسره. وغزا سليمان بن هشام بالصائفة اليسرى، فبلغ قيسارّية. وهزم مسلمة بن عَبْد الملك خاقان وباب الباب. وغزا معاوية بن هشام بالصائفة سنة خمس عشرة. وغزا سفيان بن هشام بالصائفة اليسرى سنة سبع عشرة، وسليمان بن هشام بالصائفة اليمنى من ناحية الجزيرة، وفرّق السرايا في أرض الروم وبعث فيها مروان بن محمد من أرمينية    فافتتحوا من أرض اللان آهلها أخذها قومانساه صلحاً. وغزا معاوية وسليمان أيضاً أرض الروم سنة ثماني عشرة. وغزا فيها مروان بن محمد من أرمينية، ودخل أرض وارقيس، فهرب وارقيس إلى الحرور ونازل حصنه فحاصره. وقتل وارقيس بعض من اجتاز به، وبعث برأسه إلى مروان، ونزل أهل الحصن على حكمه، فقتل وسبى. وغزا سنة تسع عشرة مروان بن محمد من ارمينية ومّر ببلاد اللاّن إلى بلاد الخزر على بلنجر وسمندر، وانتهى إلى خاقان، فهرب خاقان منه. وغزا سليمان بن هشام سنة عشرين بالصائفة  فافتتح سندرة، وغزا إسحق بن مسلم الحقيلي قومانساه، وافتتح قلاعه وخرب أرضه. وغزا مروان من أرمينية سنة إحدى وعشرين، وأفنى قلعة بيت السرير فقتل وسبى، ثم قلعة أخرى كذلك، ودخل عزسك وهو حصن الملك فهرب منه الملك ودخل حصناً له يسمى جرج، فيه سرير الذهب، فنازله مروان حتى صالحه على ألف فارس كل سنة، ومائة ألف مدني. ثم دخل أرض أرزق ونصران فصالحه ملكها، ثم أرض تومان كذلك، ثم أرض حمدين فأخرب بلاده، وحصر حصناً له شهراً حتى صالحه، ثم أرض مسداد ففتحها على صلح. ثم نزل كيلان فصالحه أهل طبرستان وكيلان. وكل هذه الولايات على شاطىء البحر من أرمينية إلى طبرستان. وغزا مسلمة بن هشام الروم في هذه السنة فافتتح بها مطامير. وفي سنة إثنتين وعشرين بعدها قتل البطّال وإسمه عَبْد الله بن الحسين الأنطاكي، وكان كثير الغزو في بلاد الروم والإغارة عليهم. وقدّمه مسلمة على عشرة آلاف فارس، فكان يغزو بلاد الروم إلى أن قتل هذه السنة. وفي سنة أربعة وعشرين غزا سليمان بن هشام بالصائفة على عهد أبيه، فلقي أليون ملك الروم فهزمه وغنم، وفي سنة خمسة وعشرين خرجت الروم إلى حصن زنطره، وكان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهري وخزينة الروم، وبنى بناء غير محكم فأخربوه ثانية أيام مروان. ثم بناه الرشيد وطرقه الروم أيام المأمون فشعبوه فأمر ببنائه وتحصينه. ثم طرقوه أيام المعتصم وخبره معروف. وفي هذه السنة غزا الوليد بن يزيد بالصائفة أخاه العمر، وبعث الأسود بن بلال المحاربي بالجيش في البحر إلى قبرس ليجير أهلها بين الشام والروم فافترقوا فريقين. وغزا أيام مروان سنة ثلاثين بالصائفة الوليد بن هشام ونزل العمق وبنى حصن مرعش.

عمال بني أُمَيَّة علي النواحي

استعمل معاوية أوّل خلافته سنة أربعين عَبْد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، ثم عزله واستعمل المغيره بن شعبة على الصلاة، واستعمل على الخراج وكان على النقباء بها شريح، وكان حمران بن أبان قد وثب على البصرة عندما صالح الحسن معاوية، فبعث معاوية بشر بن أرطأة على البصرة وأمدّه، فقتل أولاد زياد بن أبيه، وكان عاملاً على فارس لعليّ بن أبي طالب. فقدم البصرة وقد ذكرنا خبره مع بني زياد فيما قبل. ثم ولّى على البصرة عَبْد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عَبْد شمس، وضم إليه خراسان وسجستان، فجعل على شرطته حبيب بن شهاب، وعلى القضاء عميرة بن تبرى، وقد تقدّم لنا أخبار قيس في خراسان. وكان عمرو بن العاص علي مصر كما تقدّم، فوّلى سنة إحدى وأربعين من قبله على أفريقية عقبة بن نافع بن عَبْد قيس، وهو ابن خالته، فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوه ثم كفروا، فغزاهم وقتل وسبى. ثم افتتح سنة إثنتين وأربعين بعدها غذامس وقتل وسبى، وافتتح سنة ثلاثة وأربعين بعدها بلد ودّان. وولّى معاوية بالمدينة سنة إثنتين وأربعين مروان بن الحكم، فاستقضى عَبْد الله بن الحرث بن نوفل، وولّى معاوية على مكّة في هذه السنة خالد بن العاص بن هشام، وكان على أرمينية حبيب بن مسلمة الفهريّ وولاه عليها معاوية ومات سنة إثنتين وأربعين فولى مكانه

 واستعمل ابن عامر في هذه السنة على ثغر الهند عَبْد الله بن سوار العبدي،  ويقال ولاّه معاوية. وعزل ابن عامر في هذه السنة قيس بن الهيثم عن خراسان وولّى مكانه الحرث بن عَبْد الله بن حازم. ثم عزل معاوية عَبْد الله بن عامر عن البصرة سنة أربع وأربعين، وولىّ مكانه الحرث بن عَبْد الله الأزدى، ثم عزله لأربعة أشهر، وولى أخاه زياداً سنة  خمس وأربعين. فولىّ على خراسان الحكم بن عمر الغفاريّ، وجعل معه على الخراج أسلم بن زرعة الكلابي. ثم مات الحكم فولىّ خليد بن عَبْد الله الحنفيّ سنة سبع وأربعين. ثم ولّى على خراسان سنة ثمان بعدها غالب بن فضالة الليثيّ، وتولى عمرو بن العاص سنة تسع وأربعين فولى مكانه سعيد بن العاص، فعزل عَبْد الله بن الحرث عن الفضاء، واستقضى أبا سلمة بن عَبْد الرحمن. وفي سنة خمسين توفي المغيرة بن شعبة فضم الكوفة إلى أخيه زياد، فجاء إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وكان يقسم السنة بين المصريين في الإقامة نصفاً بنصف. وفي سنة خمسين هذه اقتطع معاوية أفريقية عن معاوية بن خديج بمصر، وولىّ عقبه بن نافع الفهريّ، وكان مقيماً ببرقة وزويلة من وقت فتحها أيام عمرو بن العاص، فأمده بعشرة آلاف، فسار إليها. وانضاف إليه من أسلم من البربر ودوّخ البلاد وبنى بالقيروان، وأنزل عساكر المسلمين، ثم استعمل معاوية على مصر وأفريقية مولاه أبا المهاجر، فأساء عزل عقبة. وجاء عقبة إلى الشام فاعتذر إليه معاوية ووعده بعمله، ومات معاوية فولاّه يزيد سنة إثنتين وستين. وذكر الواقدي أن عقبة ولي سنة إثنتين وستين واستعمل أبا المهاجر فولي الأمصار، فحبس عقبة وضيق عليه، وأمره يزيد بإطلاقه، فوفد عقبة فأعاده إلى عمله. فحبس أبا المهاجر وخرج غازياً وأثخن حتى قتله كسيلة كما يأتي في أخباره. وفي سنة إحدى وخمسين ولّى زياد على خراسان الربيع بن زياد الحرث مكان خليد بن عَبْد الله الحنفي. وفي سنة ثلاث وخمسين توفي زياد واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وعلى الكوفة عَبْد الله بن خالد بن أسيد. ثم ولى الضحّاك بن قيس سنة خمس بعدها. وفي هذه السنة مات الربيع بن زياد عامل خراسان قبل موت زياد، واستخلفه ابنه عَبْد الله، ومات لشهرين. واستخلف خليد بن يربوع الحنفي، وكان على صفا بيروز الديلميّ من قبل معاوية، فمات سنة ثلاث وخمسين. وفي سنة أربع وخمسين عزل معاوية عن المدينة سعيد بن العاص، وردّ إليها مروان بن الحكم، ثم عزله سنة سبعة وولىّ مكانه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان. وعزل سنة تسعة وخمسين عن البصرة ابن جندب، وولىّ مكانه عَبْد الله بن عمر بن غيلان، وولىّ على خراسان عبيد الله بن زياد، ثم ولاّه سنة خمس بعدها على البصرة مكان بن غيلان. ثم ولىّ على خراسان سنة ستة وخمسين سعيد بن عثمان بن عفّان. وفي سنة ثمانية وخمسين عزل معاوية عن الكوفة الضحّاك بن قيس، واستعمل مكانه ابن أمّ الحكم وهي أخته، وهو عَبْد الرحمن بن عثمان الثقفي، وطرده أهل الكوفة فولاّه مصر.فردّه معاوية بن خديج، وولىّ مكانه على الكوفة سنة تسعة وخمسين النعمان بن بشير، وولى فيها  على خراسان عَبْد الرحمن بن زياد. فقدم إليها قيس بن الهيثم السلمي، فحبس أسلم بن زرعة، فأغرمه ثلثمائة ألف درهم. ثم مات معاوية سنة ستين وولاته على النواحي من ذكرناه، وعلى سجستان عبّاد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور. وعزل يزيد لأّول ولايته الوليد بن عقبة عن المدينة والحجاز، وولاّها عمر بن سعيد الأشدق. ثم عزله سنة إحدى وستين، ورد الوليد بن عقبة، وولىّ على خراسان سالم بن زياد، فبعث سالم إليها الحرث بن معاوية الحرثي، وبعث أخاه يزيد إلى سجستان، وكان بها أخوهما عبّاد فخرج عنهما. وقاتل يزيد أهل كابل فهزموه، فبعث مسلم على سجستان طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عَبْد الله بن خلف الخزاعي فبقي سنة، وبعث سنة إثنتين وستين عقبة بن نافع إلى أفريقية، فحبس أبا المهاجر واستخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي كما نذكر في أخباره. وتوفي في هذه السنة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ أمير مصر. ثم هلك يزيد سنة أربع وستين، واستخلف على أهل العراق عبيد الله بن زياد. وولى أهل البصرة عليهم عَبْد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عَبْد المطّلب ويلقب ببَّة، وهرب ابن زياد إلى الشام. وجاء إلى الكوفة عامر بن مسعود من قبل ابن الزبير، وبلغه خلاف أهل الري وعليهم الفرَّخان، فبعث عليهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب فهزموه، فبعث عّتاب بن ورقاء فهزمهم. ثم بويع مروان وسار إلى مصر فملكها من يد عبد الرحمن بن حجَّام القرشيّ داعية ابن الزبير وولىّ عليها عمر بن سعيد. ثم بعثه للقاء مصعب بن الزبير، لمّا بعثه أخوه عَبْد الله إلى الشام، وولّى على مصر ابنه عَبْد العزيز فلم يزل عليها والياً إلى أن هلك لسنة خمسة وثمانين، فولىّ عَبْد الملك عليها ابنه عَبْد الله بن عَبْد الملك. وخلع أهل خراسان بعد يزيد سالم بن زياد، واستخلف المهلّب بن أبي صفرة، ثم ولىّ مسلم عَبْد الله بن حازم، فاستبدّ بخراسان إلى حين. ثم أخرج أهل الكوفة عمر بن حريث خليفة بن زياد، وبايعوا لابن الزبير، وقدم المختار بن أبي عبيد أميراً على الكوفة من قبله بعد ستة أشهر من مهلك يزيد، وامتنع شريح من القضاء أيام الفتنة واستعمل ابن الزبير على المدينة أخاه مصعباً سنة خمس وستين مكان أخيه عَبْد الله، وثار بنو تميم بخراسان على عَبْد الله بن حازم فغلبه عليها بكير بن وشّاح. وغلب المختار على ابن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة سنة ست وستينثم مات مروان سنة خمس وستين، وولي عَبْد الملك. وولى ابن الزبير أخاه مصعباً على البصرة، وولى مكانه بالمدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري. ثم ملك عَبْد العزيز العراق سنة إحدى وسبعين، واستعمل على البصرة خالد بن عَبْد الله بن أسد، وعلى الكوفة أخاه بشر بن مروان، وكان على خراسان عَبْد الله بن حازم بدعوة ابن الزبير، فقام بكير بن وشاح التميمي بدعوة عَبْد الملك وقتله، وولاه عَبْد الملك خراسان. وكان على المدينة طلحة بن عَبْد الله بن عوف بدعوة ابن الزبير بعد جابر بن الأسود، فبعث عَبْد الملك طارق بن عمر مولى عثمان، فغلبه عليها. ثم قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، وانفرد عَبْد الملك بالخلافة، وولى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمداً. وعزل خالد بن عَبْد الله عن البصرة، وضمها إلى أخيه بشر، فسار إليها واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وولى على الحجاز واليمن واليمامة الحجاج بن يوسف، وبعثه من الكوفة لحرب ابن الزبير. وعزل طارقاً عن المدينة وسار من جنده.  وفي سنة أربع وسبعين استقضى أبا إدريس الخولاني، وأمر بشر أخاه أن يبعث المهلب بن أبي صفرة لحرب الأزارقة. وعزل عن خراسان بكير بن وشاح، وولى مكانه أُمَيَّة بن عَبْد الله بن خالد بن أسيد، فبعث أُمَيَّة ابنه عَبْد الله على سجستان. وكان على أفريقية زهير بن قيس البلوي، فقتله البربر سنة تسع وستين. وشغل عَبْد الملك بفتنة ابن الزبير، فلما فرغ منها بعث إلى أفريقية سنة أربع وسبعين حسان بن النعمان القيساني في عساكر لم ير مثلها، فأثخن فيها وافترقت جموع الروم  والبربر. وقتل الكاهنة كما يذكر في أخبار أفريقية.

ثم ولى عَبْد الملك سنة خمس وسبعين الحجاج بن يوسف على العراق فقط، وولى على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، وقتل في حروبها، وكان أمر الخوارج. وفي سنة ست وسبعين ولى على المدينة إبان بن عثمان، وكان على قضاء الكوفة شريح. وعلى قضاء البصرة زرراة بن أبي أوفى بعد هشام بن هبيرة، وعلى قضاء المدينة عَبْد الله بن قشير بن مخرمة. ثم كانت حروب الخوارج كما نذكر في أخبارهم. وفي سنة ثمان وسبعين عزل عَبْد الملك أُمَيَّة بن عَبْد الله عن خراسان وسجستان وضمهما إلى الحجاج بن يوسف، فبعث الحجاج على خراسان المهلب بن أبي صفرة، وعلى سجستان عَبْد الله بن أبي بكرة، وولى على قضاء البصرة موسى بن أنس، واستعفى شريح بن الحرث من القضاء بالكوفة، فولى مكانه أبا بردة بن أبي موسى، ثم ولى على قضاء البصرة عَبْد الرحمن بن اذينة. وخرج عَبْد الرحمن بن الأشعث، فملك سجستان وكرمان وفارس والبصرة، ثم قتل ورجعت إلى حالها، وذلك سنة إحدى وثمانين.

وفي سنة إثنتين وثمانين مات المهلب بن أبي صفرة، واستخلف ابنه يزيد على خراسان، فأقره الحجاج. وفي هذه السنة عزل عَبْد الملك أبان بن عثمان عن المدينة، وولى مكانه هشام بن إسماعيل المخزومي، فعزل هشام نوفل بن مساحق عن القضاء، وولى مكانه عمر بن خالد الزرقي. وبنى الحجاج مدينة واسط. وفي سنة خمس وثمانين عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان، وولى مكانه هشام أخاه المفضل قليلاً، ثم ولي قتيبة بن مسلم وتوفي عَبْد الملك. وعزل الوليد لأول ولايته هشام بن إسماعيل عن المدينة وولى مكانه عمر بن عَبْد العزيز، فولى على القضاء أبا بكر بن عمرو بن حزم، وولى الحجاج على البصرة الجراح بن عَبْد الله الحكمي، وولى على قضائها عَبْد الله بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبا بكر بن أبي موسى الأشعري. وفي سنة تسع وثمانين ولى الوليد على مكة خالد بن عَبْد الله القسري، وكان على ثغر السند محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، وهو ابن عم الحجاج. ففتح السند وقتل ملكه. وكان على مصر عَبْد الله بن عَبْد الملك، ولاه عليها أبوه ففل ملكها. فعزله الوليد في هذه السنة وولى مكانه قرة بن شريك، وعزل خالداً عن الحجاز، وولى عمر بن عَبْد العزيز.

وفي سنة إحدى وتسعين عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية، وولى مكانه أخاه مسلمة بن عَبْد الملك، وكان على طندة في قاصية المغرب طارق بن زياد عاملاً لمولاه موسى بن نصير عامل الوليد بالقيروان، فأجاز البلاد والبحر إلى بلاد الأندلس، وافتتحها سنة إثنتين وتسعين كما يذكر في أخبارها. وفي سنة ثلاث وتسعين عزل عمر بن عَبْد العزيز عن الحجاز وولى مكانه خالد بن عَبْد الله على مكة، وعثمان بن حيان على المدينة.

ومات الحجاج سنة خمس وتسعين، ثم مات الوليد سنة ست وتسعين، وفيها قتل قتيبة بن مسلم لانتقاضه على سليمان، وولاها سليمان يزيد بن المهلب. وفيها مات قرة بن شريك   ، وكان على المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم، وعلى مكة عَبْد العزيز بن عَبْد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى، وعلى قضاء البصرة عَبْد الرحمن بن أذينة وفي سنة سبع وتسعين، عزل سليمان بن موسى بن نصير عن أفريقية وولى مكانه محمد بن يزيد القرشي حتى مات سليمان فعزل. واستعمل عمر مكانه إسمعيل بن عَبْد الله. وفي سنة ثمان وتسعين كان فتح طبرستان وجرجان أيام سليمان بن عَبْد الملك على يد يزيد بن المهلب.

وفي سنة تسع وتسعين استعمل عمر بن عَبْد العزيز على البصرة عدي بن أرطاة الفزاري، وأمره بإبقاء يزيد بن المهلب موثوقاً، فولى على القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري، ثم إياس بن معاوية، وعلى الكوفة عَبْد الحميد بن عد الرحمن بن يزيد بن الخطاب. وولى على المدينة عَبْد العزيز بن أرطاة، وولى على خراسان الجراح بن عَبْد الله الحكمي، ثم عزل سنة مائة. وولي عَبْد الرحمن بن نعيم القرشي، وولى على الجزيرة عمر بن هبيرة الفزاري، وعلى أفريقية إسمعيل بن عَبْد الله مولى بني مخزوم، وعلى الأندلس السمح بن مالك الخولاني.

ثم في سنة إحدى ومائة عزل إسمعيل عن أفريقية، وولاها يزيد بن أبي  مسلم كاتب الحجاج، فلم يزل عليها إلى أن قتل. وفي سنة إثنتين ومائة ولى يزيد بن عَبْد الملك أخاه مسلمة على العراق وخراسان، فولى على خراسان سعيد بن عَبْد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العاص بن أُمَيَّة، ويقال له سعيد خدينة. ثم استحيا من مسلمة في أمر الجراح فعزله، وولى مكانه ابن يزيد بن هبيرة. فجعل على قضاء الكوفة القاسم ابن عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن مسعود، وعلى قضاء البصرة عَبْد الملك بن يعلى. وكان على مصر أسامة بن زيد، وليها بعد قرة بن شريك، وولى ابن هبيرة على خراسان سعيداً الحرشي مكان حذيفة.

وفي سنة ثلاث ومائة جمع يزيد مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك،وعزل عَبْد العزيز بن عَبْد الله بن خالد عن مكة وعن الطائف، وولى مكانه عَبْد الواحد بن عَبْد الله البصري.

وفي سنة أربع ومائة ولى يزيد على أرمينية الجراح بن عَبْد الله الحكمي، وعزل عَبْد الرحمن بن الضحاك عن مكة والمدينة لثلاث سنين من ولايته، وولى عليهما مكانه عَبْد الواحد البصري، وعزل ابن هبيرة سعيداً الحرشي عن خراسان، وولى عليها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي. وولى على قضاء الكوفة الحسين بن حسين الكندي.

ومات يزيد بن عَبْد الملك سنة خمس، وولي هشام فعزل ابن هبيرة عن العراق، وولي مكانه خالد بن عَبْد الله القسري، واستعمل خالد على خراسان أخاه أسداً سنة سبع  ومائة. وعزل مسلم بن سعيد وولى على البصرة عقبة بن عَبْد الأعلى، وعلى قضائها ثمامة بن عبدالله بن أنس. وولى على السند الجنيد بن عَبْد الرحمن. واستعمل هشام على الموصل الحر بن يوسف، وعزل عَبْد الواحد البصري عن الحجاز، وولى مكانه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، واستقضى بالمدينة محمد بن صفوان الجمحي، ثم عزله واستقضى الصلت الكندي. وعزل الجراح بن عَبْد الله عن أرمينية وأذربيجان، وولى مكانه أخاه مسلمة، فولى عليها الحرث بن عمرو الطائي.

وكان على اليمن سنة ثمان يوسف بن عمر. وفي سنة تسع عزل خالد أخاه أسداً عن خراسان، وولى هشام عليها أشرس بن عَبْد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالداً بعد أن كان خالد ولى الحكم بن عوانة الكلبي مكان أخيه فلم يقر، فعزله هشام. ومات في سنة تسع عامل القيروان بشر بن صفوان، فولى هشام مكانه عبيدة بن عَبْد الرحمن بن الأغر السلمى، فعزل عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس، واستعمل حذيفة بن الأخوص الأشجعي. ثم عزل لستة أشهر، ووليها عثمان بن أبي تسعة الخثعمي. وفي سنة عشر ومائة جمع خالد الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بردة، وعزل ثمامة عن القضاء. وفي سنة إحدى عشرة عزل هشام عن خراسان أشرس بن عَبْد الله، وولى مكانه الجنيد بن عَبْد الرحمن بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري، وولى على أرمينية الجراح بن عَبْد الله الحكمي، وعزل مسلمة. وفيها عزل عبيدة بن عَبْد الرحمن عامل أفريقية، وعثمان بن أبي تسعة عن الأندلس، وولى مكانه الهيثم بن عبيد الكناني.

وفي سنة إثنتي عشرة قتل الجراح بن عَبْد الله صاحب أرمينية، قتله التركمان فولى هشام مكانه سعيدا الحرشي، ومات الهيثم عامل الأندلس، وولوا على أنفسهم مكانه محمد بن عَبْد الله الأشجعي شهرين، وبعده عَبْد الرحمن بن عَبْد الله الغافقي من قبيل ابن عَبْد الرحمن السلمي عامل أفريقية، وغزا إفرنجة فاستشهد. فولى عبيدة مكانه عَبْد الملك بن قطن الفهري، وعزل عبيدة عن أفريقية وولى مكانه عبيد الله بن الحجاب، وكان على مصر فسار إليها.

وفي سنة أربع عشرة عزل هشام مسلمة عن أرمينية وولى مكانه مروان بن محمد بن مروان، وعزل إبراهيم بن هشام عن الحجاز، وولى مكانه على المدينة خالد بن عَبْد الملك بن الحرث بن الحكم، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام المخزومي. وفي سنة ست عشرة ومائة عزل هشام الجنيد بن عَبْد الرحمن المري عن خراسان، وولى مكانه عاصم بن عَبْد الله بن يزيد الهلالي. وفيها استعمل عَبْد الله بن الحجاب على الأندلس عقبة بن الحجاج القيسي  مكان عَبْد الملك بن قطن ففتح خليتيه. وفي سنة سبع عشرة ومائة عزل هشام عاصم بن عَبْد الله عن خراسان وولى مكانه خالد بن عَبْد الله القسري، فاستخلف خالد أخاه أسداً. وولى هشام على أفريقية والأندلس عبيد الله بن الحجاب، وكان على مصر فسار إليها. واستخلف على مصر ولده. وولى على الأندلس عقبة بن الحجاج، وعلى طنجة ابنه إسمعيل. وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازياً إلى المغرب، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان وفتح وغنم. وأغزاه إلى صقلية سنة إثنتين وعشرين ومائة ففتح أكثرها. ثم استدعاه لفتنة ميسرة كما نذكره في أخبارهم.

وفي سنة ثمان عشرة عزل هشام عن المدينة خالد بن عَبْد الملك بن الحرث، وولى مكانه محمد بن هشام بن إسمعيل. وفي سنة عشرين مات أسد بن عَبْد الله الخراساني وولي مكانه نصر بن سيار. وعزل هشام خالد القسري عن جميع أعماله بالعراقين وخراسان، وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي استقدمه إليها من ولاية اليمن. فأقر نصر بن سيار على خراسان، وكان على قضاء الكوفة ابن شرمة وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة. وولى يوسف بن عمر بن شرمة على سجستان، واستقضى مكانه محمد بن عَبْد الرحمن بن أبي ليلى. وكان على قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة، فمات في هذه السنة. وفي سنة ثلاث وعشرين، قتل كلثوم بن عياض الذي بعثه هشام لقتال البربر بالمغرب. وتوفي عقبة بن الحجاج أمير الأندلس، وقيل بل خلعوه. وولي مكانه عَبْد الملك بن قطن ولايته الثانية كما يذكر. وفي سنة أربع وعشرين ظهر أمر أبي مسلم بخراسان، وتلقب بلخ على الأندلس، ثم مات. وكان سار إليها من فل كلثوم بن عياض لمّا قتله البربر بالمغرب. وولى هشام على الأندلس أبا الخطار حسام بن ضرار الكلبي، فأمر حنظلة بن صفوان أن يوليه فولاه. وكان ثعلبة بن خزامة سلامة الجرابي قد ولوه بعد بلخ، فعزله أبو الخطار.

وفي هذه السنة ولي الوليد بن يزيد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي على الحجاز فأسره. ثم قتل الوليد سنة ست وعشرين، فعزل يزيد عن العراق يوسف بن عمر، وولى مكانه منصور بن جمهور، فبعث عامله على خراسان، فامتنع نصر بن سيار من تسليم العمل له. ثم عزل يزيد منصور بن جمهور وولى مكانه على العراق عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز، وغلب حنظلة على أفريقية عَبْد الرحمن بن حبيب كما يذكر في خبرها. وعزل يزيد عن المدينة يوسف بن محمد بن يوسف، وولى مكانه عَبْد العزيز بن عمر بن عثمان، وغلب سنة سبع وعشرين عَبْد الله بن معاوية بن عَبْد الله بن جعفر على الكوفة، وولى مروان على الحجاز عَبْد العزيز بن عمر بن عَبْد العزيز، وعلى العراق النضر بن سعيد الحرشي. وامتنع ابن عمر من استلام العمل إليه، ووقعت الفتنة بينهم. ولحق ابن عمر بالخوارج كما يذكر في أخبارهم. واستولى بنو العباس على خراسان.

وفي سنة تسع وعشرين ولي يوسف بن عَبْد الرحمن الفهري على الأندلس بعد نوابة  بن سلامة كما يأتي في أخبارهم. وولى مروان على الحجاز عَبْد الواحد  وعلى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة. وفي سنة ثلاثين ملك أبو مسلم خراسان، وهرب عنها نضر بن سيار فمات بنواحي همذان سنة إحدى وثلاثين. وجاء المسودة وعليهم قحطبة، فطلبوا ابن هبيرة على العراق وملكوه، وبايعوا خليفتهم أبا العباس السفاح. ثم غلبوا مروان على الشام ومصر وقتلوه. وانقرض أمر بني أُمَيَّة، وعاد الأمر والخلافة لبني العباس. والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده. وهذه أخبار بني أُمَيَّة مخلصة من كتاب أبي جعفر الطبري.

الخلافة الأموية في الاندلس

تمكن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك من الفرار من بطش العباسيين هو ومولاً له اسمه بدر حيث تمكن من بناء بيت الحكم بالأندلس ويجمع حوله مؤيدي الأمويون وكون جيش قوي استطاع بعدها ان يقيم الدولة الأموية من جديد في الاندلس، وحارب عبد الرحمن الداخل العباسيين وانتصر عليهم وهزمهم شر هزيمة واعاد امجاد البيت الأموي، ولقبه أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني العباسي بـ صقر قريش، وفي سنة 756 م استطاع أن يؤسس حكما أمويا جديدأ في الاندلس، واتخذ مدينة قرطبة عاصمة له وجعلها على غرار دمشق وأصبحت منارة للعالم الإسلامي في أوروبا كما دمشق كانت منارة للعالم في المشرق. وأعلن عبد الرحمن الثالث بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل نفسه خليفة امتدادا للخلافة الأموية.

جاء في "تاريخ ابن خلدون" المجلد الرابع عن الدولة الأموية في الأندلس:

" كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية عن عدوة البحر الرومي، وبالجانب الغربي منها يسمى عند العرب أندلوش. وتسكنه أمم من إفرنجة المغرب أشدهم وأكثرهم الجلالقة. وكان القوط قد تملكوها وغلبوا على أمره لمائتين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة. ثم عقدوا معهم السلم على أن تنصرف القوط إلى الأندلس فساروا إليها وملكوها. ولما أخذ الروم واللطينيون لبسلة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أهل إفرنجة والقوط عليها فدانوا بها وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة، وكانت دار ملكهم. وربما انتقلوا ما بينها وبين قرطبة وماردة واشبيلية، واقاموا كذلك نحو أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح. وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لزريق وهو سمة لملوكهم كجرجير سمة ملوك صقلية، ونسب القوط وخبر دولتهم قد تقدم. وكانت لهم خطوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية خصوها من فرضة المجاز بطنجة، ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم. وكان ملك البرابرة بذلك القطر الذي هو اليوم جبال غمارة يسمى بليان، وكان يدين بطاعمهم وبملتهم، وموسى بن نصير أمير العرب إذ ذاك عامل على أفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك، ومنزله بالقيروان. وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ودوّخ اقطاره، وأوغل في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزقاق، واستنزل بليان لطاعة الإسلام، وخلف مولاه طارق بن زياد الليثي واليا بطنجة، وكان بليان ينقم على لزريق ملك القوط لعهده بالأندلس لفعله بابنته في داره كما زعموا على عادتهم في بنات بطارقتهم فغضب لذلك وأجاز إلى لزريق فأخذ ابنته منه. ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلهم على غرة فيهم أمكنت طارقا فانتهزها لوقته، وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلاثمائة من العرب، وانتهب معهم من البربر زهاء عشرة آلاف فصيرهم عسكرا و نزل بهم جبل الفتح فسمي به وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصين. وبلغ الخبر لزريق فنهض إليهم يجر أمم الأعاجم، وأهل ملة النصرانية في زهاء أربعين ألفاً فالتقوا بفحص شريش فهزمه إليه ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم. وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم فحركته الغيرة، وكتب إلى طارق يتوعّده بأنه يتوغّل بغير إذنه، ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به، واستخلف على القيروان ولده عبد الله، وخرج معه حسين بن ابي عبد الله المهدي الفهري.ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، ووافى خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس، وتلقّاه طارق وانقاد واتبع، وتمم موسى الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق، وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب ودوخ أقطارها وجمع غنائمها. وجمع أن يأتي المشرق على القسطنطينية وبتجاوز إلى الشام ودروب الأندلس، ويخوض ما بينها من بلاد الأعاجم أمم النصرانيّة مجاهداً فيهم مستلحماً لهم إلى أن يلحق دار الخلافة. ونمى الخبر إلى الوليد فاشتدّ قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما همّ به موسى غرر بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف. وأسر إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين أن لم يرجع هو، وكتب له بذلك عهده ففت ذلك في عزم موسى، وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها، واستعمل إبنه عبد العزيز لغزوها وجهاد أعدائها، وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة، واحتلّ موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين، وارتحل إلى الشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر. يقال: كان من جملتها ثلاثون ألف فارس من السبي وولّى على إفريقية ابنه عبد الله. وقدم على سليمان فسخطه ونكبه. وسارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته، وكان خيّراً فاضلا، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة. وولي من بعده أيوب بن حبيب اللّخميّ وهو ابن أخت موسى بن نصير فتولى عليها ستة أشهر. ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس فتارة من قبل الخليفة، وتارة من قبل عامله على القيروان، وأثخنوا في أمم الكفر وافتتحوا برشلونة من جهة الشرق، وحصون بشتالة وبسائطها، من جهة الجوف، وانقرضت أمم القوط وأرزا الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصّنوا بها، وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلّوا بسائط وراءها، وتوغّلوا في بلاد الفرنجة وعصف ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع، أوجب للعدّو بعض الكرة فرجع الفرنج ما كانوا غلبوهم عليه. وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك، لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير، بعث إلى الأندلس الحارث بن عبد الرحمن بن عثمان فقدم الأندلس وعزل أيوب بن حبيب، وولي سنتين وثمانية أشهر. ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السمح بن مالك الخولاني على رأس المائة من الهجرة، وأمره أن يخمس أرض الأندلس فخمسها، وبنى قنطرة قرطبة واستشهد غازياً بأرض الفرنجة سنة إثنتين ومائة فقدم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، إلى أن قدم عنبسة بن شحيم الكلبيّ من قبل يزيدا بن مسلم عامل إفريقية. وكان أوّلهم يحيى بن سلمة الكلبيّ، أنفذه حنظلة بن صفوان الكلبيّ والي إفريقية، لما استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع، وأقام في ولايتها سنتين ونصفا ولم يغز ثم قدم إليها عثمان بن أبي والياً من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية، وعزله لخمسة أشهر مجذيفة بن الأحوص العتبي فوافاها سنة عشر، وعزل قريباً يقال لسنة من ولايته، واختلف هل تقدمه عثمان أم هو تقدم عثمان. ثم ولي بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا قدم في المحرم سنة احدى عشرة وغزا أرض مقرشة فافتتحها وأقام عشرة أشهر. وتوفي سنة ثلاث عشرة لسنتين من ولايته، وقدم بعده محمد بن عبيد الله بن الحجاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا إفرنجة. وكانت له فيهم وقائع وأجبَّ عسكره في رمضان سنة أربع عشرة فولي سنتين. وقال الواقدي :أربع سنين، وكان ظلوماً جائراً في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة، وأوقع بهم وغنم، ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولي عتبة بن الحاج السلولي، من قبل عبيد الله بن الحجاب فقدم سنة سبع عشرة. وأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهداً مُظَفَّراً حتى بلغ سكنى المسلمين أرمونة، وصار مساكنهم على نهر ودوُّنة. ثم قام عليه عبد الملك بن قطن الفِهريّ سنة احدى وعشرين فخلفه وقتله. ويقال أخرجه من الأندلس وولّي مكانه إلى أن دخل بلخ بن بِشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين كما مر فغلب عليه، وولي الأندلس سنة أو نحوها. وقال الرازي: ثار أهل الأندلس بعقبة بن الحجّاج أميرهم في صفر من سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك، وولوا عليهم عبد الملك ابن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر. وتوفي بسَرقٌوسَة في صفر سنة ثلاث وعشرين، واستقام الأمر لعبد الملك. ثم دخل بلخ بن بِشر من أهل الشام، ناجياً من وقعة كلثوم بن عيّاض، مع البربر فثار على عبد الملك وقتله، وانحاز الفهريّون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه، واجتمع عليهم من نكر فعلته بابن قطن، وقام بأمرهم قطن وأميّة ابنا عبد الملك بن قطن والتقوا فكانت الدبرة على الفهِريّين، وهلك بلخ من الجراح التي أصابته في حربهم، وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي، غلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلخ وانحاز عنه الفهريّون فلم يطيعوه، وولي سنين أظهر فيها العدل، ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن ثار بالعصبة اليمانية فعسر أمره، وهاجت الفتنة. وقدم أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية، وركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدانت له أهل الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي سعد، وإبنا عبد الملك فلقيهم واحسن إليهم واستقام أمره. وكان شجاعا كريما ذا رأي وحزم، وكثر أهل الشام عنده، ولم تحملهم قرطبة ففرّقهم في البلاد، وأنزل أهل دمشق البيرة لشبهها بها وسمّاها دمشق، وأنزل أهل حمص أشبيلية وسماها حمص لشبهها بها، وأهل قنسرين حسان وسمّاها قّنسرين، وأهل الأردن ريّة وهي مالقة وسمّاها الأردن، وأهل فلسطين شدونة وهي شريش وسمّاهافلسطين، وأهل  مصر تدمير وسمّاها مصر. وقفل ثعلبة إلى الشرق، ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه وكان أبو الخطاب أعرابياً عصبياً أفرط عند ولايته في التعصٌّب لقومه من اليمانية وتحامل على المصريّة، وأسخط قيساً، وأمر في بعض الأيام بالضميل بن حاكم كبير القيسية، وكان من طوالع بلخ، وهو الضّميل بن حاكم بن شمر بن ذي الجوشن، ورأس على الحصرية فأمر به يوما فأقيم من مجلسه، وتقنع فقال له بعض الحجّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجوشن، فقال أن كان لي قوم فسيقيمونها فسار الضميل بن حاتم زعيمهم يومئذ وألب عليه قومه، واستعان بالمنحرفين عنه من اليمنّية فخلع أبا الخطاب سنة ثمان وعشرين، لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته، وقدم مكانه ثوابة بن سلامة الجذامي وهاجت الحرب المشهورة. وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس، منسلخ رجب سنة تسع وعشرين فضبط الأندلس، وقام بأمره الضّميل، واجتمع عليه الفريقان. وهلك لسنتين من ولايته. ووقع الخلاف بإفريقية، وتلاشت أمور بني أميّة بالمشرق وشغلواعن قاصية المغرب بكثرة الخوارج وعظم أمر المسودة فبقي أهل الأندلس فوضى، ونصبوا للأحكام خاصة عبد الرحمن بن كثّير. ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضريّة واليمنيّة، وإدالتها بين الجندين سنة لكل دولة. وقدم المضرية على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ سنة تسع وعشرين، واستقّر سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة. ثم وافقتهم اليمنية لميعاد إدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم فبيتهم يوسف بمكان نزلهم من شقندة من قرى قرطبة من الضّميل بن حاتم والقيسّية والمضريّة فاستلحموهم، واستبدّ يوسف بما وراء البحرين عدوة الأندلس، وغلب اليمنية على أمرهم فاستكانوا للغلبة، وتربصوا بالدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل، فكان يوسف بن عبد الرحمن قد ولى الضميل بن حاتم سرقسطة، فلما ظهر أمر المسودة بالمشرق ثار الحباب بن رواحة الزهري بالأندلس داعيا لهم، وحاصر الضميل بسرقسطة، واستمد يوسف فلم يمده رجاء هلاكه بما كان يغص به. وأمدّته القيسّية فأخرج عنه الحبحاب، وفارق الضميل سرقسطة فملكها الحباب وولى يوسف الضميل على طليطلة إلى أن كان من أمر عبد الرحمن الداخل ما نذكره.

مسير عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وتجديده الدولة بها

لما نزل ما نزل ببني أمية بالمشرق، وغلبهم بنو العبّاس على الخلافة، وأزالوهم عن كرسيّها، وقتل عبد الله بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وتتّبع بنو مروان بالقتل فطلبوا من بعدها بطن الأرض. وكان ممن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وكان قومه يتحيّنون له ملكاً بالمغرب، ويرون فيه علامات لذلك يؤثرونها عن مسلمة بن عبد الملك، وكان هو قد سمعها منه مشافهة فكان يحدّث نفسه بذلك فخلص إلى المغرب، ونزل على أخواله نفرة من برابرة طرابلس. وشعر به عبد الرحمن بن حبيب، وكان قتل ابني الوليد بن عبد الملك لما دخلا إفريقية من قبله فلحق عبد الرحمن بمغيلة ويقال بمكناسة، ويقال نزل على قوم من زناتة فأحسنوا قبوله واطمأنّ فيهم. ثم لحق بمَليلة، وبعث بَدراً مولاه إلى من بالأندلس مَن موالي المروانيين وأشياعهم فاجتمع بهم، وبثّوا له بالأندلس دعوةً، ونشروا له ذكراً. ووافق ذلك ما قدمناه من الفتنة بين اليمنية والمضرية فاجتمعت اليمنيّة على أمره، ورجع إليه بدر مولاه بالخبر فأجاز البحر، سنة ثمان وثلاثين في خلافة ابي جعفر المنصور، ونزل بساحل السّند، واتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه. ثم انتقل إلى كورة رحب فبايعه عاملها عيسى بن مسّور، ثم رجع إلى شدونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخميّ. ثم أتى مورور فبايعه ابن الصبّاح، ونهزإلى قرطبة واجتمعت عليه اليمنيّة. ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري وكان غازياً بجلّيقة فانفض عسكره، وسار إلى قرطبة، وأشار عليه وزيره الضّميل بن حاتم بالتلطف له، والمكر به فلم يتم له مراده. وارتحل عبد الرحمن من المنكب فاحتل بمالقة فبايعه جندها، ثم بِرَندَة فبايعه جندها، ثم بشريش كذلك، ثم بإشبيلية فتوافت عليه الإمداد والإمصار، وتسايلت المضرية إليه حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهرية والقيسية لمكان الضميل منه، زحف إليه حينئذ عبد الرحمن بن معاوية وناجزهم الحرب، بظاهر قرطبة فانكشف، ورجع إلى غرناطة فتحصن بها وأتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله. ثم رغب إليه يوسف في الصلح فعقد له على أن يسكن قرطبة، وأقفله معه، ثم نقض يوسف عهده وخرج سنة إحدى وأربعين ولحق بطٌليطِلَة، واجتمع إليه زهاء عشرين ألفاً من البربر، وقدم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني، كان وفد عليه من المشرق، وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم، في كفالة أخيه عبد العزيز بمصر فلما هلك سنة خمس عشرة بقي عبد الملك بمصر فلما دخلت المسودّة أرض مصر، خرج عبد الملك يوم الأندلس في عشرة رجال من بيته مشهورين بالبأس والنجدة، حتى نزل على عبد الرحمن سنة إحدى وأربعين فعقد له على إشبيلية، ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور. وسار يوسف إليهما وخرجا إليه فلقياه، وتناجز الفريقان فكانت الدبرة على يوسف، وأبعد العزّ واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة، واحتز رأسه، وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره، واستقر بقرطبة، وبنى القصر والمسجد الجامع. أنفق ثمانين ألف دينار، ومات قبل تمامه. وبنى مساجد، ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق، وكان يدعو للمنصور، ثم قطعها لما تم له الملك بالأندلس، ومهّد أمرها وخلد لبني مروان السلطان بها، وجددّ ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها. واستلحم الثوار في نواحيها وقطع دعوة العبّاسيين من منابرها وسد المذاهب منهم دونها. وهلك سنة إثنتين وسبعين ومائة، وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل، لأن أول داخل من ملوك بني مروان هو وكان أبو جعفر المنصور يسميه صقر بني أمية لما رأى ما فعل بالأندلس، وما ركب إليها من الأخطار. وأنه صمد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا قوة ولا أنصار فغلب على أهلها، وعلى أميرهم، وتناول الملك من ايديهم بقوة شكيمة ومضاء عزم. ثم تحفى وأطيع، وأورثه عقبه. وكان عبد الرحمن هذا يلقب بالأمير، وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين، إذ بايع الخلافة بمقر الإسلام ومبتدا العرب، حتى كان عبد الرحمن الناصر وهو الثامن منهم على ما نذكره فتسمّى بأمير المؤمنين، وتوارث ذلك بنوه واحداً بعد واحد. وكان لبني عبد الرحمن الداخل بهذه العدوة الأندلسية ملك ضخم، ودولة ممتعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة كما نذكر. وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الخلافة، واستفحل سلطانه، وتجهّز فرويلة بن الأدفونش ملكهم، وسار إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها وملكها من أيديهم ورد مديزلك وبريعال وسمورة وسلمنقة وقشتالة وسقونية، وصارت للجلاقة حتى افتتحها المنصور بن ابي عامر رئيس الدولة كما نذكر في أخباره. ثم استعادوها بعده من بلاد الأندلس واستولوا على جميعها. وكان عبد الرحمن عندما تمهد له الأمر بالأندلس، ودعا للسفّاح، ثم خلعه، واستبد بأمره كما ذكرناه، وجد هشام بن عبد ربه الفهري مخالفاً بطليطلة على يوسف من قبله، بقي على خلافه ثم أغزاه عبد الرحمن سنة تسع وأربعين بدراً مولاه وتمام بن علقمة فحاصراه- ومعه حيوة بن الوليد الحصبي، وحمزة بن عبد الله بن عمر- حتى غلباه، وجاءا بهم إلى قٌرطٌبة فصلبوا. وسار من إفريقية سنة تسع وأربعين العلاء بن مغيث اليحصبي، ونزل باجة من بلاد الأندلس داعياً لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه، ولقيه بنواحي إشبيلية فقاتله أياماً. ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه، وبعث عبد الرحمن برؤوس كثيرة منهم إلى القيروان ومكة فألقيت في أسواقها سراً، ومعها اللواء الأسود. وكاتب المنصور العلاء، ثم ثار سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بمدينة لبلة طالباً بثأر من قتل من اليمنية مع العلاء، وملك إشبيلية. وسار إليه عبد الرحمن فامتنع ببعض الحصون فحاصره، وكان عتاب بن علقمة اللخمي بمدينة شدونة فأمدّ المطري، وبعث عبد الرحمن بدراً مولاه فحال دون المدد، ودون المطري. ثم طال عليه الحصار، وقتل في بعض أيامه ووَلي مكانه بالقلعة خليفة بن مروان. ثم استأمن من بالقلعة إلى عبد الرحمن، وأسلموا إليه الحصن فخربه وقتل عبد الرحمن خليفة ومن معه. ثم سار إلى غياث فحاصره بشدونة حتى استأمنوا فأمنهم، وعاد إلى قرطبة فخرج عليه عبد الرحمن بن خراشة الاسدي بكورة جيان. وبعث إليه العساكر فافترق جمعه واستأمن فأمنه ثم حرج عليه سنة خمس غياث بن المستبد الاسدي فجمع عامل باجة العساكر، وسار إليه فهزمه وقتله، وبعث برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة. وفي هذه السنة شرع عبد الرحمن في بناء السور على قرطبة ثم ثار رجل بشرق الأندلس من بربر مكناسة يعرف بشقنا بن عبد الواحد، كان يعلم الصبيان، وادعى أنه من ولد الحسين الشهيد، وتسمى بعبد الله بن محمد، وسكن شنة برية، واجتمع إليه خلق من البربر فسار إليه عبد الرحمن فهرب في الجبال، واعتصم بها فرجع وولى على طٌليطلة حبيب بن عبد الملك فولى حبيب شنة بَرِيَّة سليمان بن عثمان بن مروان بن عثمان بن مروان بن عثمان بن عفّان. فسار إليه سليمان وقتله، وغلب على ناحية فورية فسار إليه عبد الرحمن سنة اثنتين وخمسين ومائة.

وأعياه أمره وصار ينتقل في البلاد ويهزم العساكر وكان سكن بحصن شيطران من جبال بلنسيه فسار إليه عبد الرحمن سنة ست وخمسين، واستخلف على قرطبة ابنه سليمان فأتاه الخبر بعصيان أهل أشبيلية، وثورة عبد الغفّار، وحيوة بن قلاقس مع اليمانية فرجع عن شقنا، وهاله أمر أشبيلية. وقدم عبد الملك بن عمر لقتالهم فساروا إليه ولقيهم مستميتاً فهزمهم واثخن فيهم. ولحق بعبد الرحمن فشكرها له وجزاه خيراً، ووصله بالصهر وولاّه الوزارة ونجا عبد الغفار وحيوة بن قلاقس إلى إشبيلية فسار عبد الرحمن سنة سبع وخمسين إليها فقتلهم وقتل خلقاً ممن كان معهم واستراب من يومئذ بالعرب إلى اصطناع القبائل من سواهم واتخاذ الموالي. ولما كانت سنة إحدى وستين غدر بشقنا رجلان من أصحابه وجاءا برأسه إلى عبد الرحمن. ثم سار عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ المعروف بالقلعي من إفريقية إلى الأندلس مظهراً للدعوة العبّاسيّة، ونزل بتدمير، واجتمع إليه البربر. وكان سليمان بن يقظان عاملا على برشلونة فكتب إليه يدعوه إلى أمره فلم يجبه فسار إليه في البربر، ولقيه سليمان فهزمه وعاد إلى تدمير. وزحف إليه عبد الرحمن من قرطبة فاعتصم بجبل بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه الأموال فاغتاله رجل من أصحابه البربر وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، وذلك سنة اثنتين وستين. ورجع عبد الرحمن إلى قرطبة. ثم خرج دحية الغساني في بعض حصون البيرة فبعث إليه شهيد بن عيسى فقتله، وخالف البربر وعليهم بحرة بن البرانس، فبعث بدرا مولاه فقتله، وفرق جموعهم. وفر القائد السلمي من قرطبة إلى طليطلة وعصى بها فبعث حبيب بن عبد الملك، وحاصره فهلك في الحصار. وزحف عبد الرحمن سنة أربع وستين إلى سرقسطة، وبها سليمان بن يقظان، والحسين بن عاصي، وقد حاصرهما ثعلبة بن عبيد من قواده فامتنعت عليه، وقبض سليمان، على ثعلبة، وبعث إلى ملك الفرنج فجاء وقد تنفّس عنه الحصار، فدفع إليه ثعلبة. ثم غلب الحسين على سليمان وقتله، وانفرد فحاصره عبد الرحمن حتى صالحه. وسار إلى بلاد الفرنج والبشكنس ومن وراءهم من الملوك، ورجع إلى وطنه. وغدر الحسين بسرقسطة فسار إليه عامله ابن علقمة فأسر أصحابه ثم سار إليه عبد الرحمن سنة ست وستين وملكها عنوة، وقتل الحسين وقت  أهل سرقسطة. ثم خرج سنة ثمان وستين أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن فلقيه بقسطلونة وهزمه، وأثخن في أصحابه. ثم لقيه ثانية سنة تسع وستين فهزمه. ثم هلك سنة سبعين في أعمال طليطلة، وقام مكانه أخوه قاسم وغزاه عبد الرحمن فحاصره فجاء بغير أمان فقتله. ثم توفي عبد الرحمن سنة إثنتين وسبعين ومائة لثلاثة وثلاثين سنة من إمارته.

وفاة عبد الرحمن الداخل وولاية ابنه هشام

ولما هلك عبد الرحمن كان إبنه الأكبر سليمان والياً على طليطلة وكان إبنه هشام على ماردة، وكان قد عهد له بالأمر. وكان ابنه عبد الله المسكين حاضراً بقرطبة فاخذ البيعة لأخيه هشام، وبعث إليه بالخبر فسار إلى قرطبة، وقام بالدولة، وغص بذلك أخوه سليمان فأظهر الخلاف بطليطلة، ولحق به أخوه عبد الله. وبعث هشام في أثره فلم يلحق. وسار هشام في العساكر فحاصرهم بطليطلة، وخالفه سليمان إلى قرطبة فلم يظفر بشيء منها وبعث هشام بن عبد الملك في أثره فقصد ماردة فحاربه عامله، وهزمه الله بغير أمان ودخل في طاعته فأكرمه. ثم بعث سنة أربع وسبعين ابنه معاوية لحصار أخيه سليمان بتدمير فدّوخ نواحيها، وهرب سليمان إلى جبال بلنسية فاعتصم بها، ورجع معاوية إلى أبيه بقرطبة. ثم طلب سليمان العبور إلى عدوة البربر بأهله وولده فأحازه هشام، وأعطاه ستين ألف دينار صلحا على تركه أبيه. وأقام بعدوة المغرب، وسار معه أخوه عبد الله. ثم خرج على هشام سعيد بن الحسين بن يحمى الانصاري بطرسوسة من شرق الاندلس، وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه. ودعى إلى اليمانية فملكها، وأخرج عاملها يوسف العبسي فعارضه موسى بن فرقوق في المضرية بدعوة هشام، وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وملك مدينة سرقسطة وواشقة، وكان هشام في شغل بأمر أخَوَيه فلما فرغ منهما بعث أبا عثمان عبيد الله بن عثمان بالعساكر إلى مطروح فحاصره بسرقسطة أياماً، ثم أفرج عنه ونزل بطرسوسة قريبا، وأقام بتحيفة، ثم غدر بمطروح بعض أصحابه، وجاء برأسه إلى ابي عثمان فبعث به إلى هشام وسار إلى سرقسطة فملكها. ثم دخل إلى دار الحرب غازيا، وقصد ألبة والقلاع فلقي العدو وظفر بهم، وفتح الله عليه وذلك سنة خمس وسبعين، وبعث هشام العساكر مع يوسف بن نحية إلى جليقة فلقي ملكه ابن مند، وهزمه، وأثخن في العدوّ. وفي هذه السنة دخل أهل طليطلة في طاعة الأمير هشام بعد منصرف أخويه عنهم فقلبهم، وأمّنهم وبعث عليها ابنه الحكم واليا فضبطها وأقام بها. وفي سنة ست وسبعين بعث هشام وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدو فبلغ ألبة والقلاع وأثخن في نواحيها. ثم بعثه في العساكر إلى اربٌونَة وجَرَندَة فأثخن فيهما، ووطىء أرض سلطانية، وتوغّل في بلادهم، ورجع بالغنائم التي لا تحصى. واستمدّ الطاغية بالبشكنس وجيرانه من الملوك فهزمهم عبد الملك، ثم بعث بالعساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى بلاد جلّيقة فأثخنوا في بلاد العدو، وغنموا ورجعوا. وفي هذه السنة هاجت فتنة بتاكدنا، وهي بلاد رندة من الأندلس، وخلع البربر هنالك الطاعة فبعث إليهم هشام بن عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى معاوية بن ابي سفيان فأبادهم، وخرّب بلادهبم، وفّر من بقي منهم فدخلوا في القبائلى وبقيت تاكدنا قفراء خالية سبع سنين. وفي سنة تسع وسبعين بعث هشام الحاجب عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث في العساكر إلى جليقة فانتهى إلى مَيٌورقَةٌ فجمع ملك الجلالقة واستمد بالملوك ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه، وأتبعه عبد الملك وتوغل في بلادهم. وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك، وأثخنوا في البلاد واعرضهم عسكر الأفرنج فنالوا منهم بعض الشيء، ثم خرجوا ظافرين سالمين.

وفاة هشام وولاية ابنه الحكم

ثم توفي هشام بن عبد الرحمن سنة ثمانين ومائة، لسبع سنين من إمارته وقيل ثمان سنين، وكان من أهل الخير والصلاح، وكان كثير الغزو والجهاد، وهو الذي أكمل بناء الجامع بقٌرطٌبة الذي كان أبوه شرع فيه، وأخرج المصرف لآخذي الصدقة على الكتاب والسنة. ولما مات ولي ابنه الحكم بعده فاستكثر من المماليك وارتباط الخيل، واستفحل ملكه وباشر ا أمور بنفسه. ولأول ولايته أجاز ابنه عبد الله البَلَنسِي من عدوة المغرب فملك بلنسية، ثم أخوه سليمان من طنجة فحاربهما الحَكَم سنة، ثم ظفر بعمّه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين. وأقام عبد الله ببلنسية وكفّ عن الفتنة، وارسل الحكم في الصلح على يد يحيى بن الفقيه وغيره فصالحه سنة ست وثمانين. وفي خلال الفتنة مع عمّيه سليمان وعبد الله اغتنم الفرنج الفرصة واجتمعوا وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين، وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها. وبعث الحَكَم العساكر إلى برشلونة مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة فأثخن فيها، وخالفهم العدو إلى المضايق فرجع إلى التعبيه وظفر بهم، ورجع إلى بلاد الإسلام ظافراً .وفي سنة إحدى وثمانين ثار البهلول بن مرزوق بناحية الثغر، وملك سرقٌسطة. وفيها جاء عبد الله البلنسيّ عم الحكم كما ذكرناه وفي هذه السنة خالف عبيدة بن عمير بطليطلة، وكان القائد عَمروس بن يوسف من قواد الحكم بطلبيرة فكتب إلى هشام بحصارهم فحاصرهم. ثم استمال بني مخشي من أهل طليطلة فقتلوا عٌبيدة وبعثوا برأسه إلى عمروس فبعث به إلى الحَكَم، وأنزل بني مخشي عنده فقتلهم البربر بطلبيرة بثار كاتب لهم، وقتل عمروس الباقين واستقامت تلك الناحية. واستعمل عمروس ابنه يوسف على مدينة طليطلة، ولحق بالفرنج سنة تسع وثمانين بعض أهل الحرابة، وأطمعوا الفرنج في ملك طليطلة فزحفوا إليها، وملكوها وأسروا أميرها يوسف وحبسوه بصخرة قيسر وسار عمروس من فوره إلى سرقسطة ليحميها من العدو وبعث العساكر مع ابن عمه فلقي العدوّ وهزمهم، وسار إلى صخرة قيسر وقد وهن الفرنج من الهزيمة فافتتحها، وبعث عمروس نائبه وخلص يوسف وعظم صيته.

وقعة الربض

كان الحَكًمٌ في صدر ولايته قد انهمك في لذّاته، واجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي، وطالوت الفقيه وغيرهما فثاروا به، وامتنع فخلعوه وبايعوا محمد بن القاسم من عمومة هشام. وكان الربض الغربي من قرطبة محلّة متصلة بقصره، وحصروه سنة تسعين ومائة، وقاتلهم فغلبهم وافترقوا، وهدم دورهم ومساجدهم، ولحقوا بفاس من أرض العدوة، إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر وافتتحها، وأجازهم إلى جزيرة إقريطش كما مرّ. وكان مقدمهم أبا حفص عمر البلوطي فلم يزل رئيسا عليهم، وولده من بعده إلى أن ملكها الفرنج من أيديهم.

وقعة الحفرة بطليطلة

كان أهل طليطلة يكثرون الخلاف، ونفوسهم قويّة لحصانة بلدهم فكانت طاعتهم ملتانة فأعيا الحكم أمرهم، واستقدم عمروس بن يوسف من الثغر، وكان أصله من أهل مدينة وشقة من المولّدين، وكان عاملا عليها فداخله في التدبير على أهل طليطلة، وكتب له بولايتها فأنسوا به، واطمأنوا إليه. ثم داخلهم في الخلع وأشار عليهم ببناء مدينة يعتزل فيها مع أصحاب السلطان فوافقوه، وامضي رأيه في ذلك. ثم بعث صاحب الأعلى إلى الحَكَم يستنجده على العدّو فبعث العساكر مع ابنه عبد الرحمن والوزراء، ومرّوا بطليطلة ولم يعرض عبد الرحمن لدخولها ثم رجع العدو، وكفى الله شره فاعتزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة، فأشار عمروس عند ذلك على أهل طليطلة بالخروج إلى عبد الرحمن فخرج إليه الوجوه، وأكرمهم، ودس خادم الحكم كتابه إلى عمروس بالحيلة على أهل طليطلة فأشار عليهم عمروس بأن يدخلوا عبد الرحمن البلد، وأنزله بداره واتخذ صنيعاً للناس، واستعد له على موعد لذلك فكان يدخلهم من باب، ويخرجهم من آخر خشية الزحام فيدخلون إلى حفرة في القصر وتضرب رقابهم عليها إلى أن قتل معظمهم، وفطن الباقون فنفروا وحسنت طاعتهم من بعد ذلك إلى أيام الفتنة كما نذكر. ثم عصى اصبغ بن عبد الله بمارِدَة، وأخرج عامل الحكم فسار إليه الحكم وحاصره وجاءه الخبر بعصيان أهل قٌرطٌبة فرجع وقتلهم. ثم استنزل أصبغ من بعد ذلك وأنزله قرطبة. وفي سنة اثنتين وتسعين جمع لزريق بن قارله ملك الإفرنج وسار لحصار طرطوسة فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه، وفتح الله على المسلمين. ثم عاود أهل ماردة الخلاف عن الحكم سنة أربع وتسعين فسار إليهم وقاتلهم ثلاث سنين. وكثر عيث الفرنج في الثغور فسار إليهم سنة ست وتسعين فافتتح الحصون، وخرّب النواحي وأثخن في القتل والسبي والنهب، وعاد إلى قرطبة ظافرا. وفي سنة مائتين بعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج فسار فيها وخربها ونهبها، وهدم عدة من حصونها، وأقبل إليه ملك الجلالقة في جموع عظيمة، وتنازلوا على نهر واقتتلوا عليه أياماً، ونال المسلمون منهم أعظم النيل، وأقاموا على ذلك ثلاث عشرة ليلة، ثم كثرت الأمطار ومدّ النهر، وقفل المسلمون ظافرين.

وفاة الحكم وولاية ابنه عبد الرحمن الأوسط

ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته، وهو أول من جند بالأندلس الأجناد والمرتزقة وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه، واتّخذ المماليك، وكان يسميّهم الخرس لعجمتهم وبلغت عدّتهم خمسة آلاف، وكان يباشر الأمور بنفسه، وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس. وكان يقرب الفقهاء والعلماء والصالحين، وهو الذي وطأ المٌلْكَ لعقبه بالأندلس. ولما مات قام بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن فخرج عليه لأول إمارته عبد الله البلنسي عم أبيه، وسار إلى تدمير يريد قرطبة فتجهّز له عبد الرحمن فخام عن اللقاء، ورجع إلى بلنسية ومات أثر ذلك فنمل عبد الرحمن ولده وأهله إلى قرطبة. ثم غزا لأوّل ولايته إلى جليقة فأبعد وأطال الغيبة، وأثخن في أمم النصرانية هنالك ورجع. وقدم عليه سنة ست ومائتين من العراق زرآب المغنّي مولى المهدي، ومعلم إبراهيم الموصلّي، وإسمه علي بن نافع فركب لتلقيه وبالغ في إكرامه، وأقام عنده بخير حال. وأورث صناعة الغناء بالأندلس، وخلف ولده مخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته. وفي سنة سبع كانت وقعة بالثغر، كان الحكم قد قبض على عاملها ربيع، وصلبه حيّاً لما بلغه من ظلمه. وهلك الحكم أثر ذلك فتوافى المتظلمون من ربيع إلى قرطبة يطلبون ظلاماتهم، ومعظمهم جند إلبيرة ووقفوا بباب القصر، وشغبوا، وبعث عبد الرحمن من يسكتهم فلم يقبلوا فركبت العساكر إليهم وأوقعوا بهم. ونجا الفل منهم إلى البيرة وبالشر، وتتبعهم عبد الرحمن.

وفي هذه السنة نشأت الفتنة بين المضرية واليمانّية واقتتلوا، فهلك منهم نحو من ثلاثة آلاف. وبعث عبد الرحمن إليهم يحيى بن عبد الله بن خالد في جيش كثيف، ليكفهم عن الفتنة فكفّوا عن القتال لما أحسوا بوصوله. ثم عاودوا الحرب عند مغيبه، وأقاموا على ذلك سبع سنين.

وفي سنة ثمان أغزا حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى ألبة والقلاع فخرب كثيراّ من البلاد وانتسفها، وفتح كثيراً من حصونهم، وصالح بعضا على الجزية واطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافراً. وفي سنة ثلاث عشرة انتقض عليه أهل ماردة وقتلوا عامله فبعث إليهم العساكر فافتتحوها، وعاودوا الطاعة، وأخذوا رهائنهم وخرّبوا سورها، ورجعوا عنهم. ثم أمر عبد الرحمن بنقل حجارة السور إلى النهر فعاودوا الخلاف، وأسروا العامل، وأصلحوا سورهم فسار إليهم عبد الرحمن سنة أربع عشرة، وحاصرهم فامتنعوا عليه. ثم بعث العساكر سنة سبع عشرة فحاصرها فامتنعوا، ثم حاصرها سنة عشرين وافتتحها، ونجا فلهم مع محمود بن عبد الجبار منهم إلى ملت شلوط فاعتصم بها سنة عشرين ومائتين، فبعث عبد الرحمن العساكر لحصاره فلحق بدار الحرب، واستولى على حصن من حصونهم، أقام به خمسة أعوام حتى حاصره أدفونش ملك الجلالقة وافتتح الحصن وقتل محمودا وجميع أصحابه سنة خمس وعشرين.

وفي سنة خمس عشرة خرج بمدينة طليطلة هاشم الضراب من أهل واقعة الربض، واشتدّت شوكته واجتمعت له الخلق، وأوقع بأهل شنت بريّة، فبعث عبد الرحمن العساكر لقتاله فلم يصيبوا منه. ثم بعث عساكر أخرى فقاتلوه بنواحي دورقة فهزموه، وقتل هو وكثير من أصحابه. واستمر أهل طليطلة على الخلاف. وبعث عبد الرحمن ابنه أمية لحصارها فحاصرها مدة، ثم أفرج عنها ونزل قلعة رياح، وبعث معسكراً للاغارة عليها. وكان أهل طليطلة قد خرجوا في أتباعه إلى قلعة رياح فكمن لهم فأوقعوا به فاغتم لذلك، وهلك لأيام قليلة. وبعث عبد الرحمن العساكر لحصارها ثانيا فلم يظفروا وكمن المغيرون عليها بقلعة رياح يعاودونها بالحصار كل حين.

ثم بعث عبد الرحمن أخاه الوليد في العساكر سنة إثنتين وعشرين لحصارها، وقد أشرفوا على الهلكة، وضعفوا عن المدافعة فاقتحمها عنوة وسكن أهلها، وأقام إلى آخر ثلاث وعشرين، ورجع. وفي سنة أربع وعشرين بعث عبد الرحمن قريبه عبيد الله بن البلنسي لي العساكر لغزو بلاد ألبة والقلاع، ولقي العدّو فهزمهم، وكثر السبي والقتل، ثم خرج لزريق ملك الجلالقة، وأغار على مدينة سالم بالثغر، فسار إليه فرنون بن موسى وقاتله فهزمه، وأكثر القتل في العدو والأسر. ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل البة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه وهدمه. ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقة فدوخّها وافتتح عدة حصون منها، وجال في أرضهم، ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم. وفي سنة ست وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض سرطانية، وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تَطِيلَة، ولقيهم العدو فصبروا حتى هزم الله عدوهم، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود، ووقعت بينه وببن بعض قواد عبد الرحمن ملاحاة، وأغلظ له القائد فكان ذلك سبباً لانتقاضه فعصى على عبد الرحمن، وبعث إليه الجيوش مع الحارث بن بزيغ فقاتله موسى، وانهزم وقتل ابن عمه. ورجع الحارث إلى سرقسطة. ثم زحف إلى تطيلة، وحاصر بها موسى حتى نزل عنها على الصلح إلى أربط وأقام الحارث بتطيلة أياماً. ثم سار لحصار موسى في أربط فاستنصر موسى بغرسية من ملوك الكفر فجاءه، وزحف الحارث وأكمنوا له فلقيهم على نهر بَلْبَة، فخرجت عليه الكمائن بعد أن أجاز النهر، وأوقعوا به وأسروه، وقد فقئت عينه. واستشاط عبد الرحمن لهذه الواقعة، وبعث ابنه محمداً في العساكر سنة تسع وعشرين. وحاصر موسى بتطيلة حتى صالحه، وتقدم إلى يَنْبَلٌونَة فأوقع بالمشركين عندها، وقتل غرسية صاحبها الذي أنجد موسى على الحارث. ثم عاود موسى الخلاف فزحفت إليه العساكر فرجع إلى المسالمة، ورهن ابنه عند كبد الرحمن على الطاعة، وقبله عبد الرحمن وولاّه تطيلة فسار إليها، واستقّرت في عمالته. ثم كان في هذه السنة خروج المجوس في أطراف بلاد الأندلس، ظهروا سنة ست وعشرين بساحل أشبونة ، فكانت بينهم وين أهلها الحرب ثلاثة عشر يوماً. ثم تقدموا إلى قادس، ثم إلى أشدونة، فكانت بينهم وبين المسلمين بها وقعة. ثم قصدوا إشبيلية ونزلوا لريبا منها، وقاتلوا أهلها منتصف المحّرم من سنة ثمان وعشرين فهزمهم المسلمون وغنموا. ثم مضوا إلى باجة، ثم إلى مدينة أشبونة. ثم أقلعوا من هنالك، وانقطع خبرهم وسكنت البلاد، وذلك سنة ثلاثين. وتقدم عبد الرحمن الأوسط بإصلاح ما خربوه من البلاد، وأكثف الحامية بها. وذكر بعض المؤرخين حادثة المجوس هذه سنة ست وأربعين، ولعلّها غيرها والله أعلم.وفي سنة إحدى وثلاثين بعث عبد الرحمن العساكر إلى جليقة فدوخوها وحاصروا مدينة ليون، ورموا سورها فلم يقدروا عليه، لأنّ عرضه سبعة عشر ذراعاً فثلموا فيه ثلمة ورجعوا. ثم اغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم بن مغيث في العساكر إلى بلاد برشلونة فجاز في نواحيها، وأجاز الدروب التي تسمى السرب إلى بلاد الفرنجة فدوخها قتلا واسراً وسبياً، وحاصر مدينتهم العٌظْمَى وعاث في نواحيها وقفل. وقد كان ملك القسطنطينية توفلس بن نوفلس بن نوفيل بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية، ويطلب مواصلته فكافأه عبد الرحمن عن هديته، وبعث إليه يحيى العزال من كبار الدولة. وكان مشهورا في الشعر والحكمة فأحكم بينهما المواصلة، وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس. وفي سنة ست وثلاثين هلك نصر الحفي القائم بدولة الأمير عبد الرحمن، وكان يضغن على مولاه، ويمالىء ابنه عبد الرحمن على ابنه الآخر وليّ عهده، بما كانت أم عبد الله قد اصطنعته وكانت حظية عند السلطان، ومنحرفة عن ابنه محمد ولي العهد فداخلت نصراً هذا في أمرها، وداخل هو طبيب الدار في أن يسم محمداً ولي العهد. ودس الطبيب بذلك إلى الأمير مع قهرمانة داره، وأن نصراً أكرهه على إذابة السمّ فيه، وباكر نصر القصر ودخل على السلطان يستفهمه عن شراب الدواء فوجده بين يديه، وقال له أن نفسي قد بشعته فاشربه أنت فوجم، فأقسم عليه فلم يسمه خلافه فشربه، وركب مسرعاً إلى داره فهلك لحينه، وحسم السلطان علّة ابنه عبد الله، وكان من بعدها مهلكه.

وفاة عبد الرحمن الأوسط وولاية ابنه محمد

ثم توفى عبد الرحمن الأوسط بن الحكم بن هاشم بن عبد الرحمن الداخل، في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من إمارته، وكان عالماً بعلوم الشريعة والفلسفة، وكانت أيامه هدوّ وسكون. وكثرت الأموال عنده واتخذ القصور والمنتزهات، وجلب إليها الماء، وجعل له مصنعاً اتخذه الناس شريعة. وزاد في جامع قرطبة رواقين، ومات قبل أن يستتمه فأتمه ابنه محمد بعده. وبنى بالأندلس جوامع كثيرة، ورتّب رسوم المملكة واحتجب عن العامّة، ولما مات ولي مكانه ابنه محمد فبعث لأوّل ولايته العساكر مع أخيه الحكم إلى قلعة      رباح لإصلاح أسوارها. وكان أهل طليطلة خربوها فرمَّها وأصلح حالها، وتقدم إلى طليطلة فعاث في نواحيها. ثم بعث الجيوش مع موسى بن موسى صاحب تطيلة فعاث في نواحي ألبة والقلاع، وفتح بعض حصونها ورجع، وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها فعاثوا فمها، وفتحوا حصون برشلونة ورجعوا. ثم سار محمد سنة أربعين في جيوشه إلى طليطلة فاستمدوا ملك جليقة، وملك البشكنس فساروا لإنجادهم مع أهل طليطلة فلقيهم الأمير محمد على وادي سليط، وقد أكمن لهم فأوقع بهم. وبلغ عدة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفاً. ثم سار إليهم سنة ثلاث وأربعين فأوقع بهم ثانية، وأثخن فيهم وخرب ضياعهم فصالحوه ثم نكثوا. وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس، ونزلوا بإشبيلية والجزيرة، وأحرقوا مسجدها. ثم عادوا إلى تدمير، ودخلوا قصر اريٌولة وساروا إلى سواحل الفرنجة وعاثوا فيها، وانصرفوا فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم، وغنموا منهم مركبين، واستشهد جماعة من المسلمين، ومضت مراكب المشركين إلى ينبلونة، واشروا صاحبها غرسية وفدّى نفسه منهم بسبعين ألف دينار. وفي سنة سبع وأربعين حاصر طليطلة ثلاثين يوماً. ثم بعث الأمير محمد سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي البة والقلاع فعاثوا فيها، وجمع لزريق للقائم فلقيهم وانهزم، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر وكان فتحاً لا كفاء له. ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة فأثخن وخرب، وانتقض عليه عبد الرحمن بن مروان الجليقي فيمن معه من المولدين، وساروا إلى التخم، ووصل يده بأذفونش ملك جليقة فسار إلى الوزير هاشم بن عبد الرحمن في عساكر الأندلس، سنة ثلاث وستين فهزمه عبد الرحمن وحصل هاشم في أسره. ثم وقعت المراودة في الصلح على أن ينزل عبد الرحمن بطليوس ويطلق الوزير هاشماً فتم ذلك سنة خمس وستين، ونزل عبد الرحمن بطليوس، وكانت خربة فشيدها وأطلق هاشماً بعد سنتين ونصف من أمره. ثم تغير أذفونش لعبد الرحمن بن مروان وفارقه، وخرج من دار الحرب بعد أن قاتله ونزل مدينة أنْطانية بجهات ماردة وهي خراب فحصّنها، وملك ما إليها من بلاد اليون وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى بطليوس. وكان مظفر بن موسى بن ذي النون الهواري عاملاً بشنت برية فانتقض، وأغار على أهل طليطلة فخرجوا إليه في عشرين ألفاً، ولقيهم فهزمهم، وانهزم معهم مطرف بن عبد الرحمن، وقتل من أهل طليطلة خلقٌ. وكان مطرّف بن موسى فردأ في الشجاعة ومحلاً من النسب، ولقي شنجة صاحب ينبلونة أمير البشكنس فهزمه شنجة وأسره، وفرّ من الأسر، ورجع إلى شنت برّية فلم يزل بها قويم الطاعة إلى أن مات آخر دولة الأمير محمد. وفي سنة إحدى وستين انتقض أسد بن الحارث بن بديع بتاكرتا وهي رندة فبعث إليهم الأمير محمد العساكر، وحاصروهم حتى استقاموا على الطاعة. وفي سنة ثلاث وستين اغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب، وجعل طريقه على ماردة، وكان بها ابن مروان الجليقي، ومرت طائفة من عساكر المنذر بماردة فخرج عليهم ابن مروان، ومعه جمع من المشركين استظهر بهم فقتل تلك الطائفة عن آخرهم وفي سنة أربع وستين بعث ابنه المنذر ثانية إلى بلد ينبلونة، ومر بسرَقٌسْطَة فقاتل أهلهما، ثم تقدّم إلى تطيلة وعاث في نواحيها وخرّب بلاد بني موسى، ثم لوجهه إلى ينبلونة فدوخها ورجع. وفي سنة ست وستين أمر الأمير محمد بإنشاء المراكب بنهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط، ويأتي جليقة من ورائها فلما تمّ إنشاؤها، وجرت في البحر أصابها الريح  وتقطعت فلم يسلم منها إلا القليل. وفي سنة سبع وستين انتقض عمر بن حفصون بحصن يشتر من جبال مالقة، وزحف إليه عساكر تلك الناحية فهزمهم، وقوي أمره، وجاءت عساكر الأمير محمد فصالحهم ابن حفصون واستقام أمر الناحية. وفي سنة ثمان وستين بعث الأمير محمد ابنه المنذر لقتال أهل الخلاف فقصد سرقٌسطَة، وحاصرها، وعاث في نواحيها، وفتح حصن ريطة. ثم تقدم إلى دير بروجة، وفيه محمد بن لبّ بن موسى ثم قصد مدينة لاردة وقرطاجنة، ثم دخل دار الحرب وعاث في نواحي البة والقلاع، وفتح منها حصونا ورجع. وفي سنة سبعين سار هاشم بن عبد العزيز بالعساكر لحصار عمر بن حفصون بحصن يشتر، واستنزله إلى قرطبة فأقام بها، وفيها شرع إسمعيل بن موسى ببناء مدينة لاردة فجمع صاحب برشلونة لمنعه من ذلك، وسار إليه فهزمه إسمعيل وقتل أكثر رجاله، وفي سنة إحدى وسبعين سار هاشم بن عبد العزيز في العساكر إلى سرقسطة فحاصرها هاشم وافتتحها، ونزلوا جميعا على حكمه. وكان في عسكره عمر بن حفصون واستدعاه من الثغر فحضر معه هذه الغزاة فهرب، ولحق بيشتر فامتنع به، وسار هاشم إلى عبد الرحمن بن مروان الجليقي، وحاصره بحصن منت مولن. ثم رجع عنه فأغار ابن مروان على إشبيلية ولقنت. ثم نزل منت شلوط فامتنع فيه، وصالح عليه الأمير محمداً، واستقام على طاعته إلى أن هلك الأمير محمد. وكان ملك رومة والفرنجة لعهده اسمه فرلبيب بن لوزنيق.

وفاة الأمير محمد وولاية ابنه المنذر

ثم توفي الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في شهر صفر من سنة ثلاث وسبعين، لخمس وثلاثين سنة من إمارته، ووليَ بعده ابنه المنذر فقتل لأوّل ولايته هاشم بن عبد العزيز وزير أبيه، وسار في العساكر لحصار ابن حفصون فحاصره بحصن يشتر سنة أربع وسبعين، وافتتح جميع قلاعه وحصونه. وكان منها ريّة وهي مالقة، وقبض على واليها من قبله عيشون فقتله. ولما اشتد الحصار على ابن حفصون سأل الصلح فأجابه، وأفرج عنه فنكث فرجع لحصاره، وصالح ثم نكث مرتين فأقام المنذر على حصاره وهلك قريباٍ فانفرج عن ابن حفصون.                 

وفاة المنذر وولاية أخيه عبيد الله ابن الأمير محمد

ثم توفي المنذر محاصراً لابن حفصون بجبل يشتر سنة خمس وسبعين لسنتين من إمارته، فولي مكانه أخوه عبد الله ابن الأمير محمد، وقفل بالعساكر إلى قرطبة، وقد اضطربت نواحي الأندلس بالثوار. ولما كثر الثوّار قلّ الخراج لامتناع أهل النواحي من الأداء. وكان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار، مائة ألف منها للجيوش، ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض، ومائة ألف ذخيرة ووفرا فأنفقوا الوفر في تلك السنين، وقل الخراج.

أخبار الثوار وأولهم ابن مروان ببطليوس وأشبونة

قد تقدّم لنا أن عبد الرحمن بن مروان انتقض على الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة خمس وخمسين في غزاته إلى بلاد الجلالقة، واجتمع إليه المولّدون وصار إلى التخم، ووصل يده باذفونش ملك الجلالقة فعرف لذلك بالجلّيقي. وذكرنا كيف سار إليه هاشم بن عبد العزيز سنة ثلاثين في عساكر الأندلس فهزمه ابن مروان، وأسره. ثم وقع الصلح على إطلاق هاشم، وأن ينزل ابن مروان بطليوس فتمّ ذلك سنة خمس، ونزل عبد الرحمن بطليوس فشيّدها وترسّ بالدولتين. ثم تغيّر له اذفونش وقاتله ففارق دار الحرب، ونزل مدينة أنْطانِية جهات ماردة فحصّنها، وهي خراب، وملك ما إليها من بلد اليون وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى بطليوس، واستعجل له الأمير عبد الله على بطليوس وكان معه بدار الحرب سعدون السرساقي وكان من الأبطال الشجعان، وكان دليلا للغزو، وهو من الخارجين معه. فلما نزل عبد الله بطليوس انتزى سعدون ببعضى الحصون ما بين قلنيرة  وباجة. ثم ملك قلنيرة وترس بأهل الدولتين إلى أن قتله أذفونش في بعض حروبه معه.

ابن تاكيت بماردة:

كان محمد بن تاكيت من مصمودة، وثار بناحية الثغر أيام الأمير محمد، وزحف إلى ماردة وبها يومئذ جند من العرب وكتامة فأعمل الحية في إخراجهم منها، ونزلها هو وقومه مصمودة. 

بقية خبر ابن مروان:

ولما ملك ابن تاكيت ماردة زحفت إليه العساكر من قرطبة وجاء عبد الرحمن مروان من بطليوس مدداً له فحاصروهم اشهراً، ثم اقلعوا. وكان بماردة جموع من العرب ومصمودة وكتامة فتحيل محمد بن تاكيت على العرب، وكتامة وأقاربهم فأخرجهم واستقل بماردة هو وقومه، وعظمت الفتنة بينه وبين عبد الرحمن بن مروان صاحب بطليوس بسبب مظاهرته عليه، وحاربه فهزمه أن مروان مراراً كانت إحداها على لقنت، استلحم فيها مصمودة فقصّت من جناح ابن تاكيت واستجاش بسعدون السرساقي صاحب قلنيرة فلم يغنه، وعلا كعب ابن مروان عليهم وتوثق أمره، وطلبه ابن حفصون في الولاية فامتنع ثم هلك أثر ذلك سنة أيام الأمير عبد الله وولي ابنه عبد الرحمن بن مروان، وأثخن في البرابرة المجاورين له، وهلك لشهرين من ولايته فقعد الأمير عبد الله على بطليوس لأميرين من العرب ولحق من بقي من ولد عبد الرحمن بحصن شونة، وكانا إثنين من أعقابه، وهما مروان وعبد الله ابنا ابنه محمد، وعمّهما مروان. ثم خرجا من حصن شونة ولحقا بآخر من أصحاب جدّهما عبد الرحمن. ثم اضطرب الأميران ببطليوس وتنازعا، وقتل أحدهما الأخر، واستقل ببطليوس، ثم تسور عبد الله منها سنة ست وثمانين فقتله وملك بطليوس، واستفحل أمره، والمعجّل له الأمير عبد الله عليها. ونازل حصون البرابرة حتى طاعوا له، وحارب ابن تاكيت صاحب ماردة. ثم اصطلحوا وأقاموا جميعاً طاعة الأمير عبد الله، ثم تحاربوا فاتصلت حروبهم إلى آخر دولته.

ثورة لب بن محمد بسرقسطة وتطيلة

ثم ثار لب بن محمد بن موسى بسرقٌسطة سنة ثمان وخمسين ومائتين، أيام الأمير محمد فتردّدت إليه الغزوات حتى استقام، وأسجل له الأمير على سرقسطة وتطليلة وطرسونة فأحسن حمايتها، واستفحلت إمارته فيها. ونازله ملك الجلالقة أذفونش في بعض الأيام بطرسونة فنزل إليه وردّه على عقبه منهزماً وقتل نحواً من ثلاثة آلاف من قومه، وانتقض على الأمير عبد الله وحاصر تطيلة.

ثورة مطرف بن موسى بن ني النون الهواري بشنة بريه

كان لمطرف صيت من الشجاعة ومحل من النسب والعصبيّة فثار في شنت برية، وكانت بينه وبين صاحب ينبلونة سلطان البشكنس من الجلالقة حروب أسرة العدو في بعضها ففر من الأسر، ورجع إلى شنت بريّة، واستقامت طاعته إلى آخر دولة الأمير محمد.

ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة ورندة واليس

وهو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن اذفونش القس، هكذا نسبه ابن حيان، أوّل ثائر كان بالأندلس، وهو الذي افتتح الخلاف بهما وفارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن في سني السبعين والمائتين. خرج بجبل يشتر من ناحية ريّة ومالقة، وانضم إليه الكثير من جند الأندلس ممن في قلبه مرض في الطاعة، وابتنى قلعته المعروفة به هنالك، واستولى على غرب الأندلس إلى رندة وعلى السواحل من الثجة إلى البيرة، وزحف إليه هاشم بن عبد العزيز الوزير فحاصره واستنزله إلى قرطبة سنة سبعين. ثم هرب ورجع إلى حصن يشتر ولما توفي الأمير محمد تغلب على حصن الحامة ورية ورندة والثجة، وغزاه المنذر سنة أربع وسبعين فافتتح جميع قلاعه وقتل عامله برية، ثم سأل الصلح فعقد له السمنذر. ثم نكث ابن حفصون وعاد إلى الخلاف فحاصره المنذر إلى أن هلك محاصراً له فرجع عنه الأمير عبد الله، واستفحل أمر ابن حفصون والثوار، وتوالت عليه الغزوات والحصار. وكاتب ابن الأغلب صاحب أفريقية، وهاداه وأظهر دعوة العباسية بالأندلس فيما إليه، وتثاقل ابن الأغلب على إجابته لاضطراب إفريقية فأمسك وأكثر الاجلاب على قرطبة، وبنى حصن بلاية قريباً منها، وغزاه عبد الله وافتتح بلاية والثجة. ثم قصده في حصنه فحاصره أياماً وانصرف عنه فاتبعه ابن-فصون فكر عليه الأمير عبد الله وهزمه، وأثخن فيه، وافتتح البيرة من أعماله. ووالى عليه الحصار في كل سنة، فلما كانت وثمانين عمر بن حفصون وخالص ملك الجلالقة فنبذ إليه أمراؤه بالحصون عهده، وسار الوزير أحمد بن أبي عبيدة لحصاره في العساكر فاستنجد بإبراهيم بن حجّاج الثائر بإشبيلية، ولقياه فهزمهما وراجع ابن حجّاج الطاعة، وعقد له الأمير عبد الله على إشبيلية وبعث ابن حفصون بطاعته للشيعة عندما تغلبوا على القيروان من يد الأغالبة، وأظهر بالأندلس دعوة عبيد الله.ثم راجع طاعة بني أمية عندما هيأ الله للناصر ما هيأه من استفحال الملك، واستنزل الثوار، واستقام إلى أن هلك سنة ست وثلاثمائة لسبع وثلاثين سنة من ثورته. وقام مكانه ابنه جعفر فأقره الناصر على أعماله. ثم دسّ إليه أخوه سليمان بن عمر بعض رجالاتهم فقتله لسنتين أو ثلاثة من ولايته. وكان مع الناصر فسار إلى أهل يشتر، وملكوه مكان أخيه، وذلك سنة ثمان وثلاثمائة، وخاطب الناصر فعقد له كما كان أخوه، ثم نكث وتكرر إنكاثه ورجوعه. ثم بعث إليه الناصر وزيره عبد الحميد بن سبيل بالعساكر، ولقيه فهزمه وقتله، وجيء برأسه إلى قرطبة. وقدّم المولّدون أخاه حفص بن عمر فانتكث ومضى على العصيان، وغزاه الناصر، وجهزّ العساكر لحصاره حتى استأمن له، ونزل إلى قرطبة بعد سنة من ولايته. وخرج الناصر إلى يشتر فدخله وجال في أقطاره، ورفع أشلاء عمر وابنه جعفر، وسليمان فصلبهم بقرطبة، وخرب جميع الكنائس التي كانت في الحصون التي بنواحي ريّة وأعمال مالقة، ثلاثين حصنا فأكثر، وانقرض أمر بني حفصون، وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة والبقاء لله.

ثوار إشبيلية المتعاقبون

ابن أبي عبيدة وابن خلدون وابن حجاج وابن مسلمة، وأوّل الثّوار كان بإشبيلية أمية بن عبد الله المغافر بن أبي عبيدة، وكان جده أبو عبدة عاملاً عليها من قبل عبد الرحمن الداخل. قال ابن سعيد، ونقله عن مؤرّخي الأندلس: الحجازي ومحمد بن الأشعث. وابن حيّان قال: لما اضطربت الأندلس بالفتن أيام الأمير عبد الله وسما رؤساء البلاد إلى التغلب، وكان رؤساء إشبيلية المرشّحون لهذا الشأن أميّة بن عبد الغافر، وكليب بن خلدون الحضرمي وأخوه خالد، وعبد الله بن حجاج. وكان الأمير عبد الله قد بعث على إشبيلية ابنه محمداً، وهو أبو الناصر والنفر المذكورون يحومون على الاستبداد فثاروا بمحمد بن الأمير عبد الله، وحصروه في القصر مع أمه وانصرف ناجياً إلى أبيه. ثم استبد أمية بولايتها على مداراتهم، ودسّ على عبد الله بن حجاج من قتله فقام أخوه إبراهيم مكانه فثاروا به، وحاصروه في القصر، ولما أحيط به خرج إليهم مستميتاً بعد أن قتل أهله، وأتلف موجودة فقتل، وعاثت العامّة برأسه، وذلك أعوام الثمانين والثلاثمائة. وكتب ابن خلدون وأصحابه بذلك إلى الأمير عبد الله، وأن أميّة خلع وقتل فتقبل منهم للضرورة، وبعث عليهم عمّه هشام بن عبد الرحمن، واستبدوا عليه، وتولى كبر ذلك كريب ابن خلدون، واستبدّ عليهم بالرياسة. قال ابن حيان ونسبهم في حضرموت، وهم بإشبيلية نهاية في النباهة. مقتسمين الرياسة السلطانية والعلمية، وقال ابن حزم إنهم من ولد وائل بن حجر، ونسبهم في كتاب الجمهرة، وكذلك قال ابن حيان في بني حجّاج. قال الحجازي: ولما قتل عبد الله بن حجّاج قام أخوه إبراهيم مقامه، وظاهر بني خلدون على قتل أمية وأنزل نفسه منهم منزلة الخديم. واستبد كريب، وعسف أهل إشبيلية فنفر عنه الناس وتمكن لإبراهيم الغرض، وصار يظهر الرفق كلما أظهر كريب الغلظة، وينزل نفسه منزلة الشفيع والملاطف. ثم دس للأمير عبد الله بطلب الولاية ليشتد بكتابه على كريب بن خلدون، وكتب له بذلك عهده فاظهر للعامّة، وثاروا جميعا بكريب فقتلوه. واستقام إبراهيم بن حجاج على الطاعة للأمير عبد الله، وحصن مدينة قرمونة، وجعل فيها مرتبط خيوله، وكان يتردّد ما بينها وبين إشبيلية. وهلك ابن حجاج، واستبد ابن مسلمة بمكانه. ثم استقرت إشبيلية آخراً بيد الحجّاج بن مسلمة، وقرمونة بيد محمد بن إبراهيم بن حجاج، وعقد له الناصر. ثم انتقض، وبعث له الناصر بالعساكر، وجاء ابن حفصون لمظاهرة ابن مسلمة فهزمته العساكر، وبعث ابنه شفيعاً فلم يشفعه فبعث ابن مسلمة بعض أصحابه سراً فداخل الناصر في المكر به وعقد له. وجاء بالعساكر وخرج ابن مسلمة للحديث معه فغدروا به، وملكوا عليه أمره، وحملوه إلى قرطبة. ونزل عامل السلطان إشبيلية، وكان من الثوار على الأمير عبد الله قريبه، وغدر به أصحابه فقتل.

مقتل الأمير محمد ابن الأمير عبد الله ثم مقتل أخيه المطرف

كان المطّرف قد أكثر السعاية في أخيه محمد عند أبيهما، حتى إذا تمكنت سعايته، وظهر سخطه على ابنه محمد لحق حينئذ ببلد ابن حفصون. ثم استأمن ورجع، وبالغ المطرفّ في السعاية إلى أن حبسه أبوه ببعض حجر القصر وخرج لبعض غزواته، واستخلف ابنه المطرف على قصره فقتل أخاه في محبسه مفتاتا بذلك على أبيه، وحزن الأمير عبد الله على ابنه محمد، وضم إبنه عبد الرحمن إلى قصره وهو ابن يوم فربي مع ولده. ثم بعث الأمير عبد الله ابنه المطّرف بالصائفة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، ومعه الوزير عبد الملك بن أمية ففتك المطرف بالوزير لعداوة بينهما وسطا به أبوه الأمير عبد الله، وقتله أشّر قتله ثأر فيها منه بأخيه محمد وبالوزير. وعقد مكان الوزير لابنه أميّة فسنح على الفقراء بأنفه، وترفّع على الوزراء فمقتوه وسعوا فيه عند الأمير عبد الله بأنه بايع جماعة من سماسرة الشّر لأخيه هشام بن محمد، ولفقت بذلك شهادات اعتمد القاضي حينئذ قبولها وأشار للساعين أن يجعلوا في الجماعة للمشهود عليهم بالبيعة بعض أعدائه فتمّت الحيلة وقتل هشام أميّة الوزير وذلك سنة أربع وثمانين.

وفاة الأمير عبد الله بن محمل وولاية حافده عبد الرحمن الناصر بن محمد

ثم توفي الأمير عبد الله في شهر ربيع الاول من آخر المائة الثالثة لستٍ وعشرين سنة من إمارته، وولي حافده عبد الرحمن ابن إبنه محمد قتيل أخيه المطّرف، وكانت ولايته من الغريب لأنه كان شاباً وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون فتصدّى إليها، وحازها دونهم، ووجد الأندلس مضطربة فسكنها، وقاتل المخالفين حتى أذعنوا، واستنزل الثوّار ومحا أثر ابن حفصون كبيرهم، وحمل أهل طليطلة على الطاعة، وكانوا معروفين بالخلاف والانتفاض. واستقامت الأندلس وسائر جهاتها في نيّف وعشرين سنة من أيامه ودامت أيامه نحواً من خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أمية بتلك النواحي، وهو أوّل من تسمّى بأمير المؤمنين عندما تلاشى أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع  وعشرين وثلاثمائة فتلقّب بألقاب الخلفاء، وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إنى دار الحرب، إلى أن انهزم عام الخندق سنة ثلاث وعشرين ومحص الله المسلمين فقعد عن الغزو بنفسه، وصار يردّد الصوائف في كل سنة فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الفرنج ما لم يطأه قبل أيام سلفه، ومدت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان، وأوفدوا إليه رسلهم وهداياهم من رومة القسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم، والاحتمال فيما يعنّ من مرضاته. ووصل إلى سدنة ملوك الجلالقة من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين، كجهات قشتالة وينبلونة وما إليها من الثغور الجوفية فقّبلوا يده، والتمسوا رضاه، واحتقبوا جوائزه وامتطوا مركبه. ثم سما إلى ملك العدوة فتناولى سبتة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة البربر، وأجاز إليه الكثير منهم كما نذكر في أخباره وبدأ أمره لأول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا، واستحجب موسى بن محمد بن يحمى.  واستوزر عبد الملك بن جهور بن عبد الملك بن جوهر، وأحمد بن عبد الملك بن سعد، واهدى له هديته المشهورة المتعددة الأصناف. ذكرها ابن حيان وغيره وصب مما نقل من ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها، وهي خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين، وأربعمائه رطل من التبر، ومصارفه خمسة وأربعين ألف دينار، ومن سبائك الفضة مائتا بدرة وإثنا عشر رطلاً من العود الهندي يختم عليه كالشمع، ومائة وثمانون رطلاً من العود الصمغي المتخير، ومائة رطل من العود الشبه المنقّى، ومائة أوقية من المسك الذكي المفضّل في جنسه، وخمسمائة أوقية من العنبر الاشهب المفضّل في جنسه على خليقته من غير صناعة ومنها قطعة ململمة عجيبة الشكل، وزن مائة أوقية، وثلاثمائة أوقية من الكافور المترفع الذكاء. ومن اللباس ثلاثون شقة من الحرير المختم المرقوم بالذهب للباس الخلفاء، مختلفة الألوان والصنائع، وعشرة أفرية من عالي جلود الفنك الخراسانية، وستة من السرادقات العراقية، وثمان وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب، وثلاثون شقة الغريون من الملاحف لسروج الهبات، وعشرة قناطير من السمور فيها مائة جلد، وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول، وألف رطل من الحرير المنتقى للاستغزال، وثلاثون بساطاً من الصوف وعشر مائة منقاة مختلفة، ومائة قطعة مصليات من وجوه الفرش المختلفة، وخمسة عشر من نخاخ الخزّ المقطوع شطرها. ومن السلاح والعدة ثمانمائة من تخافيف الزينة أيام البروز والمواكب، وألف ترس سلطانية، ومائة ألف سهم من النبال البارعة الصنعة، ومن الظهر خمسة عشر فرساً من الخيل العراب المتخيرة لركاب السلطان فائقة النعوت، وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة بمراكب خلافية، ولجم بغال مجالس سروجها خزّ جعفري عراقيّ، ومائة فرس من عتاق الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات، ومن الرقيق أربعون وصيفا ًوعشرون جارية متخيرات بكسوتهن وزينتهنّ ومن سائر الأصناف ومن الصخر سيات ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار، وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه واقدمه، قيمته خمسون ألف دينار. وعرضت الهدية على الناصر سنة سبع وعشرين فشكرها وحسن لديه موقعها. 

سطوة الناصر بأخيه القاضي ابن محمد

كان محمد بن عبد الجبار ابن الأمير محمد، وعبد الجبّار هو عمّ ابي الناصر، قد سعى عنده في أخيه القاضي ابن محمد، وأنه يريد الخلاف والبيعة لنفسه. وسعى القاضي في محمد بن عبد الجبّار، وأنه يروم الانتقاض، واستطلع على الجلي من أمرهما، وتحقق نقضهما فقتلهما سنة ثمان وثلاثمائة.

سطوة الناصر ببني إسحق المروانيين

وهو إسحق بن محمد بن إسحق بن إبراهيم بن الوليد بن إبراهيم بن عبد الملك بن مروان، دخل جدهم أوّل الدولة ولن يزالوا في إكرام وعزّ، واستقرت الرياسة في إسحق، وسكن إشبيلية أيام الفتنة عند ابن حجّاج. ثم هلك ابن حجّاج وولي ابن مسلمة فاتهمه، وقبض عليه وعلى ولده وصهره يحمى بن حكم بن هشام بن خالد بن أبان بن خالد بن عبد الله بن عبد الملك بن الحارث بن مروان فقتل الولد والصهر.

وكان عنده سفير لابن حفصون فشفع في الشيخ إسحق وولده أحمد. ثم ملك الناصر إشبيلية من يد ابن مسلمة فرحل إسحق إلى قرطبة، واستوزره الناصر، واستوزره  بنيه أحمد وإبنه ومحمد وعبد الله ففتحوا الفتوحات، وكفوا المهمات، وعلت مقاديرهم في الدولة. وتوفي أبوهم إسحق فورثوا مكانه في كل رفيعة. ثم هلك كبيرهم عبد الله، وكان مقدمهم عند الناصر، واستوزره ثم اتهمه الناصر بالخلاف، وكثرت فيهم السعايات، وصاروا في مجال الظنون فسطا بهم الناصر وغرّبهم في النواحي فانزوى أمية منهم في تسترين سنة خمس وعشرين، وخلع الطاعة وقصده الناصر في العساكر فدخل دار الحرب، وأجاره رزمير ملك الجلالقة. ثم تغير له فجاء إلى الناصر من غير عهد وعفا عنه، وبقي في غمار الناس إلى أن هلك. وأما أحمد فعزل عن سرقسطة لما نكب أبوه، وبقي خاملا مغضياً. ثم تكاثرت السعاية فيه فقتل. وأما أحمد فبقي في جملة الناصر، حتى إذا تحرك إلى سرقسطة نمى عنه ففر ولقي في مفره جماعة من أهل سرقسطة فقتلوه.

أخبار الناصر مع الثوار

كان أول فتحه أبيح له أسجه بعث إليها بدراً مولاه، وحاجبه فافتتحها من يد ابن حفصون سنة ثلاثمائة وغزا في أثرها بنفسه فافتتح أكثر من ثلاثين حصنا من يد ابن حفصون منها البيرة، ودوّخ سائر أقطاره، وضيّق مخنقه بالحصار، واستنزل سعيد بن مزيل من حصن المنتلون، وحصن سمنان. وفي سنة إحدى وثلاثمائة ملك إشبيلية من يد أحمد بن مسلمة كما ذكرناه. ثم سار سنة إثنتين في العساكر فنازل حصون ابن حفصون وانتهى إلى الجزيرة الخضراء، وضبط البحر، ونظر في أساطيله واستكثر منها. ومنع ابن حفصون من البحر، وسأله في الصلح على لسان يحى بن إسحق المرواني فعقد له. ثم أغزى إسحق بن محمد القرشيّ إلى الثوار بمرسية وبلنسِيَة فأثخن في نواحيها، وفتح أريولة وأغزى بدراً مولاه إلى مدينة لبة فاستنزل منها عثمان بن نصر الثائر بها، وساقه مقّيداً إلى قرطبة، ثم أغزى إسحق بن محمد سنة خمس وثلثمائة مدينة قرمونة فملكها من يد حبيب بن سواره، كان ثائراً بها. وفتح حصن ستمرية سنة ست، وحصن طرش سنة تسع. وأطاعه أحمد بن أضحي الهمداني الثائر بحصن الجامة، ورهن إبنه على الطاعة. وغزا ابن حفصون سنة أربع عشرة فردته العساكر المجمّرة لحصاره، ورجع وبعث إليه حفص يستأمنه فأمنه وجاء إلى قرطبة، وملك الناصر يشتر كما مر. ثم انتقض سنة خمس وعشرين أميّة بن إسحق في تسترين، وقد مر ذكر أوليته ومحمد بن هشام التجيبي في سرقسطة، ومطرّف بن مندف التجيبي في قلعة أيوب فغزاهم الناصر بنفسه، وبدأ بقلعة أيوب فحاصرها، وقتل مطرف في أوّل جولة عليها، وقتل معه يونس بن عبد العزيز. ولجأ أخوه إلى القصبة حتى استأمن وعفا عنه، وقتل من كان معهم من النصرانية أهل ألبة. وافتتح ثلاثين من حصونهم، وبلغه انتقاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة، ودوّخ أرضها واستباحها ورجع. ثم غزا سنة سبع وعشرين غزوة الخندق إلى جليّقة فانهزم، وأصيبت فيها المسلمون وأسر محمد بن هاشم التجيبي، وحاول الناصر إطلاقه فأطلق بعد سنتين وثلاثة أشهر. وقعد الناصر بعدها عن الغزو بنفسه، وصار يردد البعوث والصوائف. وثار سنة ثلاث وأربعين بجهات ماردة ثائر، وتوجهت إليه العساكر فجاؤوا به وبأصحابه ومثل بهم وقتلوا.

أخبار طليطلة ورجوعها إلي الطاعة

قال ابن حبان اختطها ديرنيقيوش الجبار، وكان قوّاد رومة ينزلونها دار ملك. ثم ثار بها برباط من نجدانية فملكها، واختلف قوّاد رومة على حصاره. ثم وثب به بعض أصحابه فقتله وملكها. ثم قتل ورجعت إلى قوّاد رومة، ثم انتقض أهلها وولّوا أميراً منهم أسمه أنيش. ثم قتل ورجعت إلى قواد رومة، وقام أولهم شنتيلة، وأطاعه أهل الأندلس، وامتنع على ملوك رومة. ثم غزاهم وحاصر رومة، وفتح كثيرا من بلادها، ورجع إلى طليطلة، وثار عليه البشكنس فظهر عليهم، وأوقع بهم، ولحقوا بالجبال. وهلك شنتيلة بعد تسع، وملك مكانه على الغوط بسيلة ست سنين، ولم يغن فيها. ثم ولي منهم حندس، وغزا إفريقية، وولي بعده قتبان وبنى الكنائس، وبلغه خبر المبعث فقال له بليان، وكان من أكابر الغوط، وأعاظمهم: وجدت في كتاب مطريوس العالم عن دانيال النبيّ أنهم يملكون الأندلس. ثم هلك فتبادر وملك أبنه ، ست عشرة سنة وكان سيء السيرة وليَ بعده لزريق. ثم لم تزل طليطلة دار فتنة وعصبية ومنعة، أتعبت عبد الرحمن الداخل سبع سنين، وانتقضت على هشام والحكم، وعلى عبد الرحمن الأوسط، إلى أن جاء الناصر فأدخلهم في الطاعة كرهاً، لما أكمل فتح ماردة وبطليوس وتسترين، سار إليهم في العساكر وحاصرهم، وجاء الطاغية يظاهرهم فدافعه الناصر، وجثم عليها فخرج أميرهم ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث إلى الناصر فاستقال واستأمن فأمنّه وعفا عنه، ودخلها الناصر وجال في أقطارها، ورجع عنها فلم يزالوا مستقيمين على الطاعة بعد.

أخبار الناصر مع أهل العدوة

ثم سما للناصر أمل في ملك عدوة البربر من بلاد المغرب فافتتح أمره بملك سبتة من بني عصام ولاتها، واستدعى أمراء البربر بالعدوة، وبلغ الخبر إبراهيم بن محمد أمير بني إدريس فبادر إلى سبتة، وحاصرها أنفة من عبور الناصر إليهم. ثم استقال وكاتب الناصر بالولاية. وأمّا إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكوك من الأدارسة فبادر بولاية الناصر، وكاتبه وأهدى إليه وتقبل أثره في ذلك محمد بن خزر أمير مغراوة، وموسى بن أبي العافية أمير مكناسة، وهو يومئذ صاحب المغرب بعد أن ملك قواعد المغرب الأوسط، وهي تنس ووهران وشرشال والبطحاء. وأهدوا إلى الناصر فقبل وكافأهم وأحكم ولايتهم، وبادر جماعة من الأدارسة إلى مثل ذلك منهم: القاسم بن إبراهيم، والحسن بن عيسى وأهدى صاحب فاس هدية عظيمة، وعقد له الناصر على أهل بيته. ولما فشت دعوة الناصر في المغرب الأقصى بعث عبيد الله المهدي قائده ابن يصل أمير مكناسة، وعامل تاهرت فزحف في العساكر إلى المغرب سنة إحدى وعشرين، وكتب موسى بن أبي العافية إلى الناصر يستنجده فأخرج إليه قاسم بن طملس في العساكر، ومعه الأسطول فوصل إلى سبتة، وبلغه الخبر بأنّ موسى بن أبي العافية هزم عساكر حميد فأقصر ورجع حسبما هو مذكور في أخبارهم.

أخبار الناصر مع الفرنجة والجلالقة

وكان في أوّل المائة الرابعة ملك على الجلالقة أردون بن رذمير بن برمند بن قريولة بن اذفونش بن بيطر. وخرج سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الثغر الجوفي لأوّل ولاية الناصر، وعاث في جهات ماردة، وأخذ حصن الحنش. وبعث الناصر وزيره أحمد بن عبدة في العساكر إلى بلاده فدوخها. ثم أغزاه ثانية سنة خمس فنكث وقتل. ثم أغزى بدراً مولاه فدوخ ورجع. ثم غزا بنفسه بلاد جليقة سنة ثمان. واستنصر أردون بشانجة ابن غرسية ملك البشكنس وصاحب بنبولة فهزمهم الناصر، ووطىء بلادهم وخربها وفتح حصونها وهدمها وردّد الغزو بعد ذلك في بلد غرسية إلى أن هلك أذفونش وولي بعده إبنه فرويلة. قال ابن حيان: لما ملك فرويلة بن أردون بن رذمير ملك الجلالقة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة ملك أخوه أذفونش، ونازعه أخوه شانجة واستقل غرسية بليون من قواعد ملكهم، وظاهر أذفونش على أمره ابن أخيه، وهو أذفونش بن فرويلة، وصهره شانجة فانهزموا وافترقت كلمتهم. ثم اجتمعوا ثانية وخلعوا شانجة وأخرجوه عن مدينة ليون ففّر إلى قاصية جليقة، وولىّ أخاه رذمير بن أردون على ملكه بغربي جليقة إلى قلنسرية. وهلك شانجة أثر ذلك ولم يعقب. واستقل أذفونش، وخرج على أخيه رذمير، وملك مدينة سنت ماذكش. ثم أكثروا عليه العذل في نزوعه عن الرهبانية فرجع إلى رهبانيته. ثم خرج ثانياً وملك مدينة ليون، وكان رذمير أخوه غازيا إلى سمورة فرجع إليه وحاصره بها حتى اقتحمها عليه عنوة سنة عشرين وثلاثمائة فحبسه، ثم سمله في جماعة من ولد أبيه أردون، خافهم على أمره. وكان غرسية بن شانجة ملك البشكنس لما هلك قامت بأمرهم بعده أخته طوطة، وكفلت وٌلده. ثم انتقضت سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرب نواحي بليونة، وردد عليها الغزوات. وفي أثناء هذه الغزوات نازل محمد بن هشام التجيبي سرقٌسطة، حتى أطاع كما مر، وكذا أمية بن إسحق في تسترين. وكان الناصر سنة إثنتين وعشرين قد غزا إلى وحنشمة، واستدعى محمد بن هشام من سرقسطة فامتنع ورجع إليه، وافتتح حصونه، وأخذ أخاه يحيى من حصن روطة. ثم رحل إلى ينبلونة فجاءته طوطة بنت أنثير بطاعتها، وعقد لابنها غرسية بن شانجة على ينبلونة. ثم عدل إلى البلة وبسائطها فدوّخها وخرب حصونها. ثم اقتحم جلّيقة، وملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن اللقاء، ودخل هو وحشمه فنازله الناصر فيها، وهدم برغث وكثيرا من معاقلهم، وهزمهم مراراً ورجع. ثم كانت بعدها غزوة الخندق ولم يغز الناصر بعدها بنفسه. وكان يرّدد الصوائف، وهابته أمم النصرانية. ووفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب القٌسطنطينّية وهديته، وهو يومئذ قسنطين بن ليون بن شل واحتفل الناصر للقائهم في يوم مشهود، وكتب فيه العساكر بالسلاح في أكمل هيئة وزي ّوزيّن القصر الخلافي ّبأنواع الزينة وأصناف الستور، وجمّل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والأخوة والأعمام والقرابة، ورتب الوزراء والخدمة في مواقفهم، ودخل الرسل فهالهم ما رأوا وقربوا حتى أدّوا رسالتهم. وأمر يومئذ الاعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل، ويعظموا أمر الإسلام والخلافة، ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه، وذلّة عدوّه فاستعدوا لذلك. ثم بهرهم هول المجلس فرجعوا وشرعوا في الغزل فارتج عليهم، وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق، كان في جملة الحكم ولي العهد، وندبه لذلك استئثاراً لفخره، فلمّا وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي من غير استعداد ولا رويّة، ولا تقدّم له أحد في ذلك بشيء فخطب واستخفر وعى في ذلك القصد، وأنشد آخره شعراً طويلاً ارتجله في ذلك الغرض ففاز بفخر ذلك المجلس، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع. واعجب الناصر به وولاّه القضاء بعدها، وأصبح من رجالات العالم، وأخباره مشهورة، وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان وغيره. ثم انصرف هؤلاء الرسل، وبعث الناصر معهم هشام بن كليب إلى الجاثليق ليجدد الهدنة، ويؤكد المودة، ويحسن الإجابة. ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء، وجاءت معه رسل قسطنطين. ثم جاء رسل ملك الصقالبة، وهو يومئذ هوتو، وأخر من ملك اللمان، وأخر من ملك الفرنجة وراء المغرب، وهو يومئذ أفوه. وأخر من ملك الفرنجة بقاصية المشرق، وهو يومئذ كلدة. واحتفل السلطان لقدومهم، وبعث مع رسل الصقالبة ريفاً الأسقف إلى ملكهم هوتو، ورجعوا بعد سنتين. وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون بن رذمير، وأبوه رذمير، هو الذي سمل أخاه أذفونش، وقد مرّ ذكره، بعث يخطب السلم فقعد له. ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال قومس قشتيلية فردلند، وقد مرّ ذكره، ومال إلى أردون بن زذمير كما ذكرناه. وكان غرسية بن شانجة حافد الطوطه بنت أسنين، ملكة البشكنس فامتعضت لحل حافدها غرسية، ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك وأعانه حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدّوة وجاء ملك جلّيقة فرّد عليه ملكه وخلع الجلالقة طاعة أردون، وبعث إلى الناصر يشكوه على فعلته وكتب إلى الأمم في ّالنواحى بذلك ،وبما غرتكبه فردلند خمس قشتيلة وعظيم قوامسه في نكسة ، ووثبه ، ونفر لذلك عند الامم ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك .ولما وصل معه رسول كلدة ملك الإفرنجة بالمشرق كما تقدّم ،وصل معه رسول مغيرة بن شبير ملك برشلونة وطركونة، راغباً في الصلح فأجابه الناصر، ووصل بعده رسول صاحب رومة يطلب المودّة فأجيب.

سطوة الناصر بابنه عبد اللّه

كان الناصر قد وشحه ابنه الحكم وجعله وليّ عهده وآثره على جميع ولده، ودفع إليه كثيراً من التصرف في دولته، وكان أخوه عبد الله يساميه في الرتبة فغص لذلك وأغراه الحسد بالنكثة فنكث، وداخل في قلبه مرض من أهل الدولة فأجابوه، وكان منهم ياسر الفتى وغيره. ونمى الخبر بذلك إلى الناصر فاستكشف أمرهم حتى وقف على الجليّ فيه، وقبض على ابنه عبد الله وعلى ياسر الفتى، وعلى جميع من داخلهم وقتلهم أجمعين سنة ثلاث وتسعين.

مباني الناصر

ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد المباني والقصور، وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد اختلفوا في ذلك، وبنوا قصورهم على أكمل الاتفاق والضخامة، وكان منها المجلس الزاهر، والبهو الكامل، والقصر المنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم، وسمّاه دار الروضة، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنّائين من كل قطر،فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية. ثم أخذ في بناء المنتزهات فاتخذ مينا الناعورة خارج القصور، وساق لها الماء من أعلى الجبل على بعد المسافة. ثم اختط مدينة الزهراء، واتخذها منزله وكرسيا لملكه فأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ماعلا على مبانيهم الأولى واتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء، متباعدة السياح ومسارح الطيور، ومظللة بالشباك واتخذ فيها داراً لصناعة آلات السلاح للحرب، والحلي للزينة، وغير ذلك من المهن. وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس.

وفاة الناصر وولاية ابنه الحكم المستنصر

ثم توفي الناصر سنة خمسين وثلثمائة أعظم ما كان سلطانه، وأعز ما كان الإسلام بملكه. وكان له قضاة أربعة: مسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن بقى بن مخلد، ومحمد بن عبد الله بن أبي عيسى، ومنذر بن سعيد البلوطي. ولما توفي الناصر ولي ابنه الحكم وتلقّب المستنصر بالله، وولّى على حجابته جعفر المصحفي، وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأنصاف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة، كاملو الشيكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندويّة، وثلاثمائة ونّيف وعشرون درعاً مختلفة الأجانس، وثلثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هندية، وخمسون خوذة حبشية من حبشيات الإفرنجة غير الحبش التي يسمّونها الطاشانية، وثلثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية الجنس، وعشرة جواشن نقية مذهبة، وخمسة وعشرون قرناً مذهبة من قرون الجاموس. ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور فغزا الحكم بنفسه، واستباحها، وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه. ثم أغزى غالباً مولاه بلاد جلّيقة، وسار إلى مدينة سالم قبل الدخول لدار الحرب فجمع له الجلالقة، ولقيهم على أشتة فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلاد فردلند القومس، ودوّخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض فأغزاه الحكم يحمى بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر. وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم، وامتنعوا في حصونها. وعاث في نواحيها، وأغزى الهذيل بن هاشم، ومولاه غالباً فعاثا فيها وقفلا. وعظمت فتوحات الحَكَم وقوّاد الثغور في كل ناحية، وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب فعمّرها الحكم واعتنى بها. ثم فتح قَطْريبة على يد قائد وَشْقَة، وغنم ما فيها من الأموال والسلاح والآلات والأقوات. وغنم ما في بسيطة من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى. وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلاد ألبة ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فأخذ حصن غرماج، ودوّخ بلادهم وانصرف. وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسايط أحشبونة وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم. وأخرج الحكم القوّاد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماجس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأنّ العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل. ثم كانت وفادة اردون بن أذفونش ملك الجلالقة. وذلك أنّ الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير، وهو ابن عمّه، وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية. واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلية. ثم توقع مظاهرة الحَكَم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر بالوفادة علم الحَكَم مستجيراً به فاحتفل لقدومه، وكان يوماً مشهوداً وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله. ووصل إلى الحَكَم وأجلسه ووعده بالنصر على عدوه، وخلع عليه لما جاء ملقياً بنفسه، وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس، واعطى على ذلك صفقة يمينه، ورهن وَلَدَه غرسية، ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابِه. وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة بقرطبة ولبد بن مغيث القاضي، وأصْبَغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق، وعبد الله بن قاسم مطران طٌليطلة ليوطؤا له الطاعة عند رسميته، ويقبضوا رهنه، وذلك سنة إحدى وخمسين. وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قَوْلب من أهل جلّيقة وسمورة وأساقفهم يرغب في قبوله، ويبقي بما فعل أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين. ثم بعث قومس الفرنجة برسل ومسيرة أثناء سيرملك برشلونة وطركونة وغيرها يسألان تجديد العهد، وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية وهي عشرون صبياً من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطاراً من الصوف السمور، وخمسة قناطير من الفرصدس، وعشرة أذراع صقلية ومائتا سيف إفرنجية فقبل هديتهم، وعقد لهم على أن يهدموا الحصون التي بقرب الثغور، وعلى أن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم وأن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف فعقد لهم الحَكَم، ورجعوا. وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة وردت أمّ لزريق بن بلاكش القومس بالقرب من جلّيقة، وهو القومس الأكبر فأخرج الحَكَم لتلقّيها، واحتفل لقدومها في يوم مشهود فوصلها وأسعفها، وعقد السلم لابنها كما رغبت وأحبت، ودفع لها مالاً تقسّمه بين وفدها، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج. ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت. ثم أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته ملوك زناتة من مَغْراوة ومِكْنَاسة فبثوها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم، وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم. ووفد عليه ملوكهم من آل خزر، وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف وأجازهم البحر إلى قرطبة، ثم أجلاهم إلى الإسكندريّة حسبما نشير إلى ذلك كله بعد. وكانم محباً للعلوم مكرماً لأهلها جَمَّاعَةً للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله. قال ابن حزم: أخبرني بٌكيَّة الخِصِيّ  وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان- أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلاّ ذكر أسماء الدواوين لا غير. فأقام للعلم والعلماء سلطاناً نفقت فيها بضائعه من كل قطر. ووفد عليه أبو علي الغالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه، وحسنت منزلته عنده وأورث أهل الأندلس علمه. واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه، وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجّار، ويسرّب إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه، قبل أن يخرجه بالعراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الابهريّ المالكيّ في شرحه لمختصر ابن عبد الحَكَم، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النَسْخ، والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كلّه، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من تبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العبّاسي بن المستضيء. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، أمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر. ونٌهِبَ ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة، واقتحامهم إيّاها عنوة كما نشير إليه بعد. واتصلت أيام الحَكَم المٌستنصر، وأوطأ العساكر أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته هلوك زناتة ومغراوة ومكناسة فبثّها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم.

وفاة الحكم المستنصر وبيعة ابنه هشام المؤيد

ثم أصابت الحكم العلّة فلزم الفراش إلى أن هلك سنة ست وستين وثلثمائة لست عشرة سنة من خلافته، ووليَ من بعده إبنه هشام صغيراً مناهز الحٌلٌم، وكان الحَكَم قد استوزر له محمد ابن أبي عامر نقله من خطة القضاء إلى وزارته، وفّوض إليه في أموره فاستقل وحسنت حاله عند الحَكَم، فلما توفي الحَكَم بويع هشام ولقَب المؤيد، بعد أن قتل ليلتئذ أخو الحَكَم المرشّح لأمره، تناول الفتك به محمد بن عامر هذا بممالأة جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه، وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم، ومن خصيان القصر ورؤسائهم فائق وجودر فقتل محمد بن أبي عامر المغيرة وبايع لهشام.

أخبار المنصور ابن أبي عامر

ثم سما محمد بن أبي عامر المتغلب على هشام لمكانه في السن، وثاب له رأي في الاستبداد فمكر بأهل الدولة، وضرب بين رجالها، وقتل بعضها ببعض. وكان من رجال اليمنية من مغافر وإسمه محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن عبد الله بن عامر بن محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المغافري، دخل جدّه عبد الملك مع طارق، وكان عظيماً في قومه، وكان له في الفتح أثر فاستوزره الحكم لابنه هشام كما ذكرنا. فلما مات الحكم حجبه محمد، وغلب عليه، ومنع الوزراء من الوصول إليه إلاّ في النادر من الأيام يسلمون وينصرفون. وأرخص للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء، وقمع أهل البِدَع، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين. ثم تجّرد لرؤساء الدولة ممن عانده، وزاحمه فمال عليهم وحطّهم عن مراتبهم، وقتل بعضها ببعض. كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقعيه، حتى استأصل بهم وفرّق جموعهم. وأوّل ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدّام بالقصر، فحمل الحاجب المصحفي على نكبتهم فنكبهم، وأخرجهم من القصر، وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم اصهر إلى غالب مولى الحكم، وبالغ في خدمته والتنصّح له، واستعان به على المصحفي فنكبه ومحا أثره من الدولة، ثم استعان على غالب بجعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة الفازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن كان معه من زناتة والبربر. ثم قتل جعفر عماله ابن عبد الودود وابن جوهر وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم. ثم لما خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشحين للرياسة، رجع إلى الجند فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتب منهم جنداً، واصطنع أولياء، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة، وبني يفرن وبني برزال ومكناسة، وغيرهم فتغلّب على هشام وحجره واستولى على الدولة، وملأ الدنيا وهو في جوف بيته، مع تعظيم الخلافة والخضوع لها، وردّ الأمور إليها وترديد الغزو والجهاد، وقدّم رجال البرابرة زناتة، وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر، وابتنى لنفسه مدينة فنزلها وسمّاها الزاهرة. ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة، وقعد على سرير الملك، وأمر أن يُحيّا بتحيّة الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والأوامر والمخاطبات باسمه وأمر بالدعاء له على المنابر، وكتب اسمه في السكّة والطرز، وعمر ديوانه بما سوى ذلك وجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرغبة، وقهر من يطاول إليها من الغلبة فظفر من ذلك بما أراد، وردّد الغزو بنفسه إلى دار الحارث فغزا اثنتين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم ينكسر له فيها راية، ولا فلّ له جيش ولا أصيب له بعث، ولا هلكت سرية وأجاز عساكره إلى العدوة وضرب بين ملوك البرابرة بعضهم في بعض فاستوثق ملكه بالمغرب وأذعنت له ملوك زناتة وانقادوا لحكمه وأطاعوا لسلطانه، وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر لما سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه من إعلانه بالنيل منه والغض من ملكهم، والتأنف لحجر الخليفة هشام فأوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين، ونزل بفاس وملكها، وعقد لملوك زناتة على المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها على ما نشير إليه بعد. وشرد زيري بن عطية إلى تاهرت، وأبعد المفر، وهلك في مفرّه. ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة واستعمل واضحا على المغرب. وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا وأشد استيلاء سنة أربع وسبعين ثلاثمائة بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته، ودفن هنالك وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه.

المظفر بن المنصور

ولما هلك المظفر قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن، وتلقب بالناصر لدين الله وجرى على سنن أبيه وأخيه في حجر الخليفة هشام، والاستبداد عليه والاستقلال بالملك دونه. ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه، وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى، وأهل الحل والعقد فكان يوماً مشهوداً. وكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصه: هذا ما عهد هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عافة، وعاهد الذي عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه بيعه تامة بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمّه ما جعل الله إليه من الإمامة، ونصب إليه من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي أن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدوره به، ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوي إليه، وملجأ تنعطف إليه، أن يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطاً ساهياً عن أداء الحق إليها. وأعتبر عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يستند هذا الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته، بعد إطراح الهوى والتحّري للحق والتزلف إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأقاصي وأسخط الأقارب فلم يجد أحداً يولّيه عهده، ويفوض إليه الخلافة بعده غيره لفضل نسبه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته، وعلو منصبه مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه وتفاوته، المأمون العيب الناصح الحبيب أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر وفقه الله تعالى، إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شانه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات، سابقاً إلى الجليات، مستولياً على الغايات، جامعا للمأثرات. ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البرمداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه. مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الغيب، رأى أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه، فلما استوى له الاختيار، وتقابلت عنده الآثار، ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته، وفوض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعا راضيا مجتهدا، وامضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه ثنياً ولا خياراً، وأعطى على الوفاء به في سره وجهره، وقوله وفعله عهد الله وميثاقه وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذمة الخلفاء الراشدين من أبائه، وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول. وأشهد على ذلك الله والملائكة وكفى بالله شهيدا، وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون ابي المظفر عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله تعالى، وقيد له ما قلده والزمه نفسه ما في الذمة. وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكتب الوزراء والقضاء وسائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم. وتسمى بعدها بولي العهد ونقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه، وانقراض دولته ودولة قومه، والله وارث الأرض ومن عليها. 

ثورة المهدي ومقتل عبد الرحمن المنصور وانقراض دولتهم

ولما حصل عبد الرحمن المنصور على ولاية العهد، ونقم ذلك الأمويون والقرشيون وغصوا بأمره، واتفقوا على تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتمعوا لشأنهم، وتمشت من بعض إلى بعض رجالاتهم، وأجمعوا أمرهم في غيبة من الحاجب الناصر ببلاد الجلالقة في غزاه من صوائف، ووثبوا بصاحب الشرطة ففتكوا به بمقعدة من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وخلعوا هشاماً المؤيد، وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعياص الملك، وأعقاب الخلفاء، ولقبوه المهدي، وطار الخبر إلى الحاجب بمكانه من الثغر فانفض جمعه، وقفل إلى الحضرة مدلا بمكانه زعيماً بنفسه، حتى إذا قرب من الحضرة نسلل عنه الجند ووجوه البربر، ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي القائم بالأمر، وأغروه بالناصر واعترضه منهم من تقبض عليه، واحتز رأسه وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة وذهبت دولة العامريين.

ثورة البربر وبيعة المستعين وفرار المهدي

كان الجند من البرابرة وزناتة قد ظاهروا المنصور على أمره، وأصبحوا شيعة لبنيه من بعده ورؤساؤهم يومئذ زاوى بن مناد الصنهاجي وبنو ماكير ابن أخيه زيري، ومحمد بن عبد الله البرزالي، ونصيل بن حميد المكناسي الفازع أبوه عن العبيديين إلى الناصر، وزيري بن عزانة المتيطي، وأبو زيد بن دوناس اليفرني، وعبد الرحمن بن عطاف اليفرني وأبو نور بن ابي قُرَّة اليفرني، وأبو الفتوح بن ناصر وحزرون بن محصن المغراوي، وبكساس بن سيد الناس، ومحمد بن ليلى المغراوي فيمن إليهم من عشائرهم فلحقوا بمحمد بن هشام لما رأو من انتقاض أمر عبد الرحمن وسوء تدبيره. وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين وتنسب إليهم تغلب المنصور وبنيه على أمرهم فسخطتهم القلوب، وخزرتهم العيون، وتنفست بذلك صدور الغوغاء من أذيال الدولة، ولفظت به ألسنة الدهماء من المدينة. وأمر محمد بن هشام أن لا يركبوا ولا يتسلحوا وردوا في بعض الأيام من باب القصر، وانتهت العامّة يومئذ دورهم، ودخل زاوي وابن أخيه حساسة وأبو الفتوح بن ناصر على المهدي شاكين بما أصابهم فاعتذر إليهم، وقتل من آذاهم من العامّة في أمرهم، وكان مع ذلك مظهراً لبغضهم مجاهراً بسوء الثناء عليهم. وبلغهم أنه سره الفتك بهم فتشمت رجالاتهم، وأسروا نجواهم. واتفقوا على بيعة هشام بن سليمان بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وفشا في الخاصة حديثهم فعوجلوا عن أمرهم ذلك، واغرى بهم السواد الأعظم فثاروا بهم وأزعجوهم عن المدينة. وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر، واحضرا بين يدي المهدي فضرب عنقيهما، ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر وزناتة، وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتآمروا فبايعوه ولقبوه المستعين بالله، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أذفونش. ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة، وبرز إليهم المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة، وكانت الدبرة عليهم، واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفا، وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتم ومؤذنيها عالم. ودخل المستعين قرطبة خاتم المائة الرابعة، ولحق ابن عبد الجبار بطليلة. 

رجوع المهدي إلى ملكه بقرطبة

ولما استولى المستعين على قرطبة خالفه محمد بن هشام المهدي إلى طليطلة، واستجاش بابن أذفونش ثانية فنهض معه إلى قرطبة، وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر من ظاهرها في آخر باب سبتة، ودخل المهدي قرطبة وملكها.

هزيمة المهدي وبيعته للمؤيد هشام ومقتله

ولما دخل المهدي إلى قرطبة خرج المستعين إلى البرابرة، وتفرّقوا في البسائط والقرى فينهبون ويقتلون ولا يبقون على أحد. ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء فخرج المهدىّ وابن أدفونش، واتبعهم المستعين والبرابرة أثناء ذلك يحاصرونهم، حتى خشي الناس من اقتحام البرابرة عليهم فأغروا أهل القصر وحاجبه المدبر بالمهدي، وإن الفتنة إنما جاءت من قبله، وتولّى كبر ذلك واضح العامري فقتلوا المهدي محمد بن هشام، واجتمعت الكافة على تجديد البيعة لهشام المؤيد ليعتصموا به من معرّة البرابرة، وما يسومونهم به ملوكهم من سوء العذاب، وعاد هشام إلى خلافته وأقام واضح العامري لحجابته، وهو من موالي المنصور بن أبي عامر.

حصار قرطبة واقتحامها عنوة ومقتل هشام

واستمر البرابرة على حصار قرطبة والمستعين بينهم ولم يفرّ عن أهل قرطبة، تبعه هشام المؤيد، والبرابرة يترددون إليها ذاهبين وجائين بأنواع النهب والفتك، إلى أن هلكت القرى والبسائط، وعدمت المرافق، وصافت أحوال أهل قرطبة وجهدهم الحصار. وبعث المستعين البرابرة إلى ابن أذفونش يستقدمونه لمظاهرتهم فبعث إليه هشام المؤيد، وحاجبه واضحاً يكفونه عن ذلك، بأن نزلوا له عن ثغور قشتالة التي كان المنصور اقتحمها فسكن عزمه، وسكن عن مظاهرتهم. ثم اتصل الحصار بمخنق البلد، وصدق البرابرة القتال فتقتحموها عنوة سنة ثلاث وأربعمائه، وفتكوا بهشام المؤيد، ودخل المستعين. ولحق بأهل قرطبة من البرابرة في نسائهم ورجالهم وبناتهم وأبنائهم ومنازلهم. وظن المستعين أن قد استحكم أمره، وتوثبت البرابرة العبيد على الأعمال فولوا المدن العظيمة، وتقلدوا الأعمال الواسعة مثل باديس بن حبوس في غرناطة، ومحمد بن عبد الله البرزالي في قرمونة وابوثور بن ابي شبل * بالأندلس، وصار الملك صوائف في آخرين من أهل الدولة، مثل ابن عباد باشبيلية، وابن الأفطس ببطليوس وابن ذي النون بطليطلة، وابن ابي عامر ببلنسية ومرسية، وابن هود بسرقسطة، ومجاهد العامري بدانية والجزائر منذ عهد هذه الفتنة كما نذكر في أخبارهم.

ثورة ابن حمود واستيلاؤه وقومه علي ملك قرطبة

ولما افترق شمل جماعة قرطبة وتغلّب البرابرة على الأمر، وكان عليّ بن حمود وأخوه قاسم من عقب إدريس قد أجازوا معهم من العدوة فدعوا لأنفسهم، وتعصب معهم الكثير من البربر، وملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائه، وقتلوا المستعين ومحوا ملك بني امثة. واتصل ذلك في خلق منهم سبع سنين. ثم رجع الملك في بني أمية، وفي ولد الناصر نحواً من سبع سنين. ثم خرج عنهم وافترق الأمرفي رؤساء الدولة من العرب والموالي والبربر، واقتسموا الأندلس اممالك ودولاً، وتلقبوا بألقاب الخلفاء كما نذكر ذلك كله مستوفى في أخبارهم.

عود الملك إلي بني أمية وأولاد المستظهر

لما قطع أهل قرطبة دعوة المحموديًين يعد سبع من ملكهم، وزحف إليهم قاسم بن حمود في جموع من البربر فهزمهم أهل قرطبة، ثم اجتمعوا واتفقوا على ردّ الأمر إلى بني أمية، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي، وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائه، ولقبوه المستظهر. وقام بأمره المستكفي. ثم ثار على المستظهر لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر أمير المؤمنين. كان المنصور بن أبي عامر قتل أباه عبد الرحمن لسعيه في الخلاف فثار الآن محمد هذا وتبعه الغوغاء وفتك بالمستظهر واستقلّ بأمرقرطبة، وتلقب بالمستكفي.

عود الأمر إلى بني حمود

وبعد ستة عشر شهراً من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى يحيى ابن علي بن حمود، وهو المعتلي كما يذكر في أخبارهم، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مفرّه.

المعتمد من بني أمية

ثم خلع أهل قرطبة المعتلي بن حمود ثانياً سنة سبع عشرة، وبايع الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة، وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود. ولما بلغه خبر البيعة له انتقل إلى البرنث، واستقرّ عند التغلب عليها محمد بن عبد الله بن قاسم، وكانت البيعة له انتقل سنة ثمان عشرة وأربعمائه، وتلقب المعتمد بالله، وأقام متردداً في الثغر ثلاثة أعوام، واشتدت الفتن بين رؤساء الطوائف، واتفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة فاستقدمه ابن جهور والجماعة، ونزلها آخر سنة عشرين وأقام يسيراً. ثم خلعه الجند سنة اثنتين وعشرين، وفر إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين، وانقطعت دولة الأموية والله غالب على أمره.

قائمة الخلفاء وبعض الأحداث الهامة

في دمشق

معاوية بن أبي سفيان 662-680

- تاسيس الخلافة الأموية وعاصمتها دمشق.

- توحيد البلاد الإسلامية

- وقعة صفين في عام 36 هجري.

- معركة سيلايوم في عام 677 ميلادي.

- تأسيس اول اسطول بحري إسلامي في عهد معاوية

يزيد بن معاوية 680-683

- اتساع الدولة الأموية.

- ملاحقة المناهضين لخلافته.

- معركة كربلاء 61 هجري.

- معركة الحرة 63 هجري.

معاوية بن يزيد 683-684

مروان بن الحكم 684-685

عبد الملك بن مروان 685-705

- مزيد من اتساع الدولة الأموية واستمرار الفتوحات.

- بناء قبة الصخرة بالقدس.

- تنقيط القرآن الكريم.

- وصول الفتوحات الأموية إلى مشارف الصين.

- فتح الهند بقيادة محمد بن القاسم الثقفي.

- صك النقود الإسلامية الأموية دينار عبد الملك بن مروان.

الوليد بن عبد الملك 705-715

- فتح بخارى وسمرقند.

- فتح الاندلس ووصول الأمويون إلى أوروبا.

- بناء الجامع الأموي في دمشق عاصمة الخلافة.

- فتح بلاد آسيا الوسطى.

- الخلافة الأموية في أكبر اتساع لها لتصبح أكبر خلافة إسلامية في التاريخ.

- الاهتمام بالعلماء ودمشق منارة العلم والعلماء.

سليمان بن عبد الملك 715-717

- مقتل قتيبة بن مسلم.

عمر بن عبد العزيز 717-720

- وقف العطايا.

- الحكم بالعدل في أرجاء الخلافة.

يزيد بن عبد الملك 720-724

هشام بن عبد الملك 724-743

- عصر ازدهار للدولة الأموية.

- تعريب الدواوين.

- ازدهار العلم والاهتمام بالعلماء.

- الاهتمام بالعمارة وبروز فن العمارة الأموية بشكل واضح.

- خروج زيد بن علي ومقتله.

- إخماد ثورة الخوارج والقضاء على الفتنة.

الوليد بن يزيد 743-744

يزيد بن الوليد 744

إبراهيم بن الوليد 744

مروان بن محمد 744-750

- وصول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس.

- انتصار عبد الرحمن الداخل وهزيمة العباسين على يدية.

- قيام الدولة الأموية في الأندلس.

في الأندلس

عبد الرحمن الداخل - صقر قريش.

هشام بن عبد الرحمن الداخل.

الحكم بن هشام.

عبد الرحمن الثاني.

محمد بن عبد الرحمن.

المنذر بن محمد.

عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن.

عبد الرحمن "الناصر لدين الله".

الحكم المستنصر بالله.

هشام المؤيد بالله.

هشام الرشيد.

محمد المهدي بالله.

سليمان المستعين بالله.

علي المتوكل على الله.

عبد الرحمن المرتضى.

عبد الرحمن بن هشام المستظهر بالله.

محمد المستكفي.

هشام المعتمد على الله.