الحضارة الفينيقية

الفينيقيون هُم في الأساس مجموعات من القبائل الكنعانية التي استقرّت منذ الألف الثالث قبل الميلاد على السواحل الشرقية للبحر المتوسّط من شمالي مصب العاصي وحتى سيناء، ومن العقبة والبحر الميت وحتى الجزيرة الفراتية، وعرفت المنطقة السّاحلية بإسم بلاد كنعان. أما تسمية "الفينيقيين" فمن المُرجّح أنّها أُطلقَت على البلاد التي شهدت ولادة الأرجوان الذي عرفته مُدُن الساحل، وأطلقه اليونانيون على العاملين بهذه التجارة.

يقول "فيلون الجبيلي" إنّ الفينيقيين كانوا يسكنون فينيقيا منذ القِدَم. ويقول "هيرودوتس" إنّهم من أصلٍ أرتيريٍّ أتوا من البحر الأحمر. كما أن هناك مَن يقول إنّ الفينيقيين وسائر الشعوب السامية قد انتقلوا من شبه الجزيرة العربية وقد سلكوا إلى المتوسط أحد الطّريقين: الأوّل عبر الخليج العربي وجنوبي العراق فصحراء سورية؛ والثاني نحو الشاطئ الغربي للجزيرة العربية بمحاذاة البحر الأحمر ومنه اتجّهوا شمالاً إلى فلسطين ولبنان وسورية.

تقع فينيقيا في الطرف الغربي لقارّة آسيا وتمتدّ من جبل الكرمل جنوبًا إلى أوغاريت قرب مصبّ العاصي شمالاً. مناخها مُعتدل إلى باردٍ، أمّا حيواناتها فكانت تعيش في غاباتها الممتدّة على السفوح الغربية للجبال، وقد انقرض معظمها. كما كان لطبيعة الأرض وتضاريسها ووعورة مسالكها الأثر الكبير في حياة السكان واستقرارهم. وأنشئت المُدُن مبتعدةً الواحدة عن الأخرى مُسيرة يوم واحد برًا أو بحرًا.

أنشأ الفينيقيون حوالى 25 مدينة كانت في معظمها مستقلةً الواحدة منها عن الأخرى، وكان أشهر هذه المُدُن: صور التي تألّفت من مدينتين: بحريةً بُنِيَت على صخرٍ بحريٍ وقامت بالمقابل لها مدينة عُرِفَت بصور البريّة.

أما صيدا فكانت تُعرَف ببنت كنعان وبُنِيَت على رأسٍ تقابله في البحر جزيرة صغيرة.

وجبيل بُنيت على تلةٍ قرب الشاطئ وهي أقدم المدن الفينيقية، يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنةٍ. وأرواد بُنِيَت على جزيرة البحر، طولها 700م وعرضها 400م ونشأت قبالتها على الساحل مدينة عمريت. أمّا أوغاريت فقد نشأت قرب اللاذقية وامتدّ نفوذها إلى المناطق الشمالية والشرقية من سورية.

وهناك أيضًا مدن فينيقية أخرى ما زالت حتى اليوم تحمل اسمها الفينيقي كاملاً أو مُحرّفًا ومنها: عكا، الصرفند (صرفتا)، الجية، بيروت، البترون، وطرابلس.

لم يُشكّل الفينيقيون عبر تاريخهم الطّويل مُجتمعًا واحدًا، بل تمتّعت كل مدينةٍ من المدن الفّينيقية باستقلالها ونظامها الخاص. ويتبّين من المعلومات حول المجمتمع الفينيقي أنّه كان مُجتمعًا هرميًا مرتكزًا على الثروة والمكانة الإجتماعية وليس على النّسب. فلم تَكُ طبقات المجتمع الفينيقي مُقفلة، بل كان بإمكان أيّ فينيقيٍّ أن يصل إلى أيّ مركزٍ أو مقامٍ اجتماعيٍ إذا توفّر فيه شرط الغنى. وعلى هذا الأساس انقسم الفينيقيون إلى ثلاث طبقاتٍِ هي: الطبقة العليا وفي طليعتها أهل الحكم والمجالس، مجلس الشيوخ ومجلس الشعب، ثم رجال الدّين الذين كانت لهم مكانة دينية واجتماعية عالية، إضافة إلى قادة الجيوش. ثم طبقة الصّناعيين والتجار، وكانوا يتجمّعون على شكل هيئاتٍ مهنيةٍ يُعرَف رئيس كلّ منها بالرّب أو السيد. أما الطبقة الثالثة فكانت عامة الشعب، وهي شكّلت السواد الأعظم من المجتمع الفينيقي، وتالّفت بمعظمها من العمال والمُزارعين.

أمّا فيما يتعلّق بنظام الحكم، قبل نشأة المدن، فكان نظامًا قبليًا حيث كان شيخ القبيلة هو سيّدها وزعيمها وهو الحُكم والحَكم فيها. بعد ذلك تطوّر النظام القبلي نتيجةً للإستقرار ونموّ الزراعة والتجارة، وأفرز واقعًا سياسيًا جديدًا فتحوّل إلى نظامٍ مَلَكيٍّ.

أمّا النظام الجمهوري، فقد عرفت بعض المدن الفينيقية هذا النظام. إلاّ أن مدينة قرطاجة التّي بنوها في تونس اعتمدت هذا النظام منذ نشأتها واستمرّت عليها.

ينقسم تاريخ فينيقيا السياسي إلى ثلاثة أقسامٍ هي:

1- فترة التاريخ الفينيقي القديم وهي فترة ما قبل الإستقلال، وتميّزت باستقرار الفينيقييّن وانفتاح مدنهم على البلدان المجاورة في مصر وبلاد ما بين النهرين وجزر بحر إيجة.

2- فترة الإستقلال والإزدهار والتي تميّزت بتنازع مصر وبلاد ما بين النهرين للنفوذ، وظهور الخطر الحثّي، وتقلص خطر القوى الخارجية عن مدن الفينيقيين التي نعمت بالإستقلال وبلغت درجةً عاليةً من التّطور الإجتماعي والحضاري والسياسي والإقتصادي.

3- فترة الضّغوط الخارجية حيث عاد الخطر يُهدّد من جديد المُدن الفينيقية ممثَّلاً بالخطر الأشوري. وتعرّض الفينيقيون بعد ذلك للخطر الكلداني أيام نبوخذنصّر، وخضعت فينيقيا بعدها للإحتلال الفارسي. واستقبل الفينيقيون الإسكندر المقدوني اليوناني كمُخلّصٍ، فدخل معظم المدن الفينيقية سِلمًا باستثناء صور.

إن مصادر الدّيانة الفينيقية هي الكتابات التي وُجِدَت في المدن والمتعلقة بأحداث ذات طابع دينيّ، وهذه الكتابات قليلة، لا تذكر سوى بعض أسماء الآلهة. فقد عَبَد الفينيقيون، كغيرهم من الشعوب القديمة، مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر، ولاحظوا تقلّبات الطقس وتعاقب الفصول فنسبوا ذلك إلى قوى خارقة وخفية عجزوا عن تفسيرها فألهوها واحترموها ومنها الهواء والبحر والنهر والغيم والمطر والبرق والرعد. ومن أبرز مظاهر العبادة عند الفينيقيين أنها كانت تدور حول الخصب وعبادته، والبكاء والنواح على موت إلهة الخضرة عشتروت أيام الصيف، والابتهاج بقيامة الإله بَعل من الموت عندما تهطل الأمطار.

والفينيقيون شعب مُتديّن قدّموا لآلهتهم الصلوات وطقوس العبادة والإحترام. فقليلاً ما كانوا يذكرون آلهتهم بأسمائها، بل رمزوا لها من خلال صفاتها وذلك احترامًا لها وخوفًا منها. وكانت العبادة تُقام في هياكل خاصةٍ أعطى الفينيقيون اهتمامًا بالغًا لإختيار أماكنها. أما أشهر آلهتهم فهي:

- إيل وهو كبير الآلهة عند الفينيقيين والأعظم قدرًا ومكانةً.

- البعل ومعناه الرّب أو السيد، يعمل للحياة ويكره الموت.

- الداجون هو إله المطر والمجاري المائية.

- أدون أو أدونيس أو أدوني الذي اشتهرت عبادته في مدينة جبيل.

- موت هو إله الجفاف والموت.

- ملقارت أي ملك القرية أو المدينة. كان إلهًا لمدينة صور.

- أشمون هو إله الشّفاء.

- عشتروت هي إلهة الحب والجمال.

- البعلات، مفردها بعلة، وهي زوجة البعل.

ومن مظاهر تكريم الفينيقيين لآلهتهم تخصيص يومٍ معيّنٍ أو أسبوع معيّن في السنة يحتفلون فيه بعيد إلهٍ معيّنٍ، فيقيمون لذلك احتفالات دينية يتوافد الناس لحضورها من مختلف المناطق.

لم يعتبر الفينيقيون أن الموت هو نهاية الإنسان، كما آمن بذلك معظم سكّان بلاد ما بين النهرين. كما لم يؤمنوا بعودة الروح إلى الجسد، كما آمن بذلك المصريون. لكنّهم اعتقدوا أن النفس خالدةٌ وأن القبر هو بيت الإنسان الأزلي، وأن الروح تخرج من الجسد لكنّها لا تقطع علاقتها به إنّما تبقى بجواره. لذلك فقد وضعوا في قبور موتاهم إلى جانب الجثة بعض الأدوات والحلي.

عمل الفينيقيون لبناء اقتصادٍ مزدهرٍ، فاعتنوا بالزراعة واستغلوا الثروة الحرجية وربّوا الماشية وابتكروا صناعات تتلاءم مع المواد الأولية المتوافرة في بلادهم، كما مارسوا التجارة ومهروا فيها.

اعتبر الفينيقيون الزراعة المورد الأساسي لكسب عيشهم، فنوّعوا زراعاتهم تبعًا لموقع الأرض ونوّعوا تربتها، واعتمدوا على مياه الأمطار لريّها. ورغم كل الجهود التي بذلها الفينيقيون، فقد جاء محصولها غير كافٍ لتأمين الإحتياجات المحلّية. وكانت أهم المزروعات: الحبوب من قمحٍ وشعيرٍ والبقول والأشجار المثمرة كالكرمة والزيتون والتين والرمان والنخيل.

استعمل الفينيقيون الأدوات الزراعية التي كانت معروفة في أيامهم، فكان من أدواتهم: المحراث، والنير الخشبي، والسكة والمذراة والمنجل والغربال وغيرها من الأدوات. كما اعتنوا بتربية الدواجن، كالأرانب والدّجاج والإوز، وكذلك تربية النحل.

استفاد الفينيقيون من الثروة الحرجية التي كانت تغطّي قمم وسفوح جبالهم فأخذوا منها الأثمار والصمغ والأخشاب، ومن أشجار الأرز والصنوبر والسنديان بَنوا سقوف بيوتهم كما صنعوا منها أثاثهم وسفنهم.

انصرف قسم من السكان إلى الإعتناء بالصّناعة كمورد عيش، وأخذوا الصّناعات التي كانت معروفة عند جيرانهم كالمصريين فتعلموها. وأهم الصناعات التي عرفها الفينيقيون: صناعة النسيج. فكانت هي الأكثر أهمية عند الفينيقيين، فأنتجوا الثياب الملوّنة بلون الأرجوان المُستخرج من صدف ا"لموركس" والتي تراوح لونها بين اللون الزّهري والبنفسجي القاتم. بالإضافة إلى صناعة الزجاج التي أخذوها عن المصريين فطوروها وحسنوها، فصنعوا منها الأباريق والكؤوس والأواني ورسموا عليها ولوّنوها. هذا بالإضافة إلى صناعة السفن وصناعة الأثاث وبناء الهياكل وصناعة المعادن والعاج والخزف.

حقّقت التجارة ربحًا وفيًا للفينيقيين أسهمَ في رفع مستوى معيشتهم، كما خلقَت فرص عملٍ للعديد من الشباب الفقراء الذين عملوا لدى التّجار الأغنياء واكتسبوا من إقامتهم في المستعمرات مالاً وفيرًا.

وأكسبت التجارة البريّة والبحرية الفينيقيين خبرة وذاع صيتهم، وأفادت الحضارة الإنسانية من تجارة الفينيقيين الذين مكنتهم براعتهم في التعامل مع الشعوب في جميع المناطق من نشر الحرف والمعرفة وتسهيل تبادل العلم والخبرات.

تأثّر الفينيقيون بالكتابات التي سبقت أبجديتهم وهي الكتابة الهيروغليفية التي اعتمدها المصريون والكتابة المسمارية التي اعتمدها سكان بلاد ما بين النهرين وكلتاهما معقّدتان. فبَسّط الفينيقيون في جبيل الكتابة الهيروغليفية بأبجديةٍ مبتكرةٍ، رموزها سهلة الكتابة، كما بَسّط الفينيقيون في أوغاريت الكتابة المسمارية.

لم تكن الأبجدية الفينيقية مجرّد صورة مختزلة أو رسم يرمز إلى شيءٍ، إنّما كانت اختراعًا واستنباطًا واصطلاحًا علّمه الفينيقيون بعد ذلك إلى اليونانن الذين نشروها في سائر أقطار العالم، ولذلك أطلق العلماء على الأبجدية الفينيقية إسم "أم الأبجديات في العالم".

أمّا التراث الأدبي عندهم فقد بدأ منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وامتدّ على مدى ألفيّ سنة. وفيه نُظُم دينية وقوانين عائلية وسياسية: ملاحم وأساطير ومراسلات دولية ورسوم مالية أو عينية ومعاملات تجارية. فالنّصوص الدينية كانت تتّميز بذكر الآلهة وتدخّلها في حياة البشر. والنصوص السياسية أشهرها على الإطلاق رسائل تل العمارنة، والنصوص المدفنية تبدأ بذكر الميت ومَن صنع له التابوت (ناووس أحيرام).

أمّا أهم ما تركه التراث الفينيقي، فقد تمثّل في الملاحم، وأشهرها "ملحمة عنت" و"ملحمة كيريت" و"ملحمة دان إيل" و"أسطورة كار واقهات"، ما يدلّ على أن الفينيقييّين كانوا شعبًا عرف الفن الملحمي في العالم وتأثّر بهم في هذا المجال اليونانيون تلامذة الفينيقيين في الأبجدية.

اهتمّ الفينيقيون بعلم الفلك من خلال علاقتهم بملاحتهم البحرية فتوصّلوا إلى اكتشاف النجم القطبي الدب الأصغر والذي سمّاه اليونانيون "النجم الفينيقي". وتعرّفوا إلى مبدأ المد والجزر خصوصًا في المحيط الأطلسي، كما أنّهم قسّموا الأرض إلى خطوط طولٍ وخطوط عرضٍ لتحديد الأمكنة وتسهيل الإنتقال. وكانوا بذلك أوّل مَن وَضَع ورَسَم خطوط الطول والعرض على الخرائط.

وكَونُ الفينيقي تاجرًا حُتّم عليه أن يكون مُلمًا بالحسابات لضبط موارده ومعرفة مدى ربحه أو خسارته، لذلك فقد أتقن علم الحساب مستخدمًا حروف الأبجدية كأرقامٍ حسابيةٍ.

كذلك اعتنى الفينيقيون بالطبّ واستفادوا من تنوّع الأعشاب في بلادهم لإيجاد العقاقير المناسبة.

كذلك اهتمّوا بعلم الكيمياء من خلال المواد التي كانوا يستعملونها في تحضير مادة الصباع الأرجواني والتي احتفظوا بسرّ تركيبها، بالإضافة إلى فنّ العمارة وهندسة البناء وفن النحت والفنون الكمالية كالتماثيل البرونزية والأواني الفضية وأوانٍ أخرى مُمَوّهة بالذهب والحلى العاجيات والنقود والزجاجيات.