جولة في الأرشيف العثماني
محمد محمود البشتاوي
 
الأرشيف العثماني ليس مجرد متحف أو مزار يمكن الذهاب إليه للشعور بحالة من التواصل مع الماضي، وإنما مجموعة المصادر التاريخية التي تعود إلى العهد العثماني، الذي ما يزال في الذاكرة القريبة من تاريخ المنطقة، وما يزيد من أهميته، أنه يقدم التاريخ بوثائق تدون تاريخ 39 بلداً مختلفاً من بينها 19 بلداً في منطقة الشرق الأوسط، و11 بلداً في البلقان، وثلاثة بلدان في القوقاز، وبلدان في وسط آسيا، وقبرص بالإضافة إلى تركيا ذاتها بطبيعة الحال يقول المؤرخ التركي الدكتور أحمد آق كوندز، في إحدى محاضراته إن الدولة العثمانية كانت حريصة على أن تحصي كل ولاية تفتحها لتسجل كل ما فيها حتى شملت (عدد الأبقار التي يملكها كل شخص)، مشيراً إلى أنه استطاع من خلال الوثائق العثمانية أن يعثر على مكان قريته قبل 175 عاماً، كما أكد أن الأرشيف يحتوي على عديد من الكنوز, ومنها وثيقة خاصة بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
 
ملايين الوثائق دون ترجمة
 
في حديثه لـ(المجلة العربية) يقول خبير الوثائق العثمانية والمترجم التركي كمال خوجة أوغلو إن الأرشيف العثماني حفل بمئات الألوف من الوثائق المتعلقة بالمقدسات الإسلامية في القدس، وفي كافة المناطق الفلسطينية؛ ففي خطوة متميزة لم تحظ بها أية دولة، أقدمت الحكومة التركية برئاسة السيد رجب طيب أردوغان على جمع كافة الوثائق الفلسطينية، وإعطاء نسخة منها للسفارة الفلسطينية في أنقرة، كان ذلك قبل سنوات، كما يقول أوغلو
 
ويضيف الخبير التركي إن حجم هذه الوثائق بلغ أكثر من مئة وأربعين ألف صفحة، ويتساءل إن كان هنالك تحرك في أي اتجاه للاستفادة من هذه الوثائق من قبل السلطة الفلسطينية، مؤكداً في الوقت ذاته أن هناك العديد من العوائق التي تحول دون الاستفادة منها في الوقت الحالي، من أهمها عدم وجود كادر يقوم بعملية الترجمة الممنهجة لهذه الوثائق، بالإضافة إلى العوائق المالية
 
ويرى أن الوثائق العثمانية المتعلقة بفلسطين لا تخص القرنين الأخيرين اللذين شهدا الهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية، وعمليات شراء لهذه الأراضي بشتى الوسائل، بل تخص قروناً سبقتهما، وبالتحديد القرن السادس عشر، وما بعده، حيث تم الفتح العثماني للمنطقة وتولت إسطنبول أمر الإشراف على الديار المقدسة في الحجاز وفلسطين والعراق وغيرها من ديار المسلمين
 
ويتابع: «في كتاب انتهيت من جمع وثائقه وترجمتها حرصت على أن يضم في دفتيه وثائق في المجالات الصحية والاجتماعية والإدارية والعسكرية والسياسية، حيث تتطرق هذه الوثائق إلى التدابير التي اتخذتها الدولة العثمانية للحفاظ على كافة حقوق السيادة فيها ودعم الأهالي الذين هم أصحاب الأرض الأصليين، كما تضم محاضر استجواب المسؤولين العثمانيين المحليين منهم والمركزيين لليهود الذين تمكنوا ولو على نطاق ضيق من الاستحواذ على بعض الأراضي، بالترغيب المالي تارة وبالترهيب تارة أخرى، وبالخداع والطرق الملتوية، كما استخدموا أصحاب الملايين من يهود العالم لتمويل عمليات الشراء، ولجؤوا إلى تزوير العملات على نطاق واسع وإغداقها على من فسدت ضمائرهم من الحكام المحليين من متصرفين وقائمقام ورؤساء بلديات)
 
اليهود وتزوير الوثائق
 
ويشير أوغلو إلى أنه قد لاحظ في الفترة الأخيرة إقدام بعض الجهات اليهودية على تزوير الوثائق نفسها سعياً لإثبات أحقيتهم في بعض الأراضي والأوقاف التي تخص المسلمين والعرب في فلسطين، و«الشيء الوحيد الذي يفصل بين صحة هذه الوثائق وبين تعرضها للتزوير هو الأرشيف العثماني الذي نشط في الفترة الأخيرة في جمع الوثائق التي يزيد عددها على مئتين وخمسين مليون وثيقة في أقراص مدمجة، وتقديمها للباحثين في أقصر وقت ممكن»
 
ويعود ويؤكد خبير الوثائق أن العائق أمام الاستفادة من هذه الوثائق بالنسبة للعالم العربي بشكل عام وفلسطين بشكل خاص؛ ندرة المترجمين من اللغة العثمانية إلى اللغة العربية ولابد -حسب رأيه- من الإسراع في فتح معاهد لتعليم اللغة العثمانية، وتشجيع من يرغب في تعلم هذه اللغة بالدعم المالي، وتأمين العمل بعد التخرج من هذه المعاهد
 
ويختم اللقاء معرفاً باللغة العثمانية، وهي لغة مركبة من التركية والعربية والفارسية ويشترط فيمن يريد أن يكون مترجماً في هذا المجال أن تكون (العربية) لغة ثقافته الأصلية، بالإضافة إلى إجادته اللغة التركية، وله أن يستعين بالمعاجم لمعرفة المعاني العثمانية للكلمات الفارسية المستخدمة في هذه الوثائق
 
تاريخ مشترك للشعوب
 
الأكاديمي التركي، والباحث بالأرشيف العثماني، الدكتور سهيل صابان، في حديثه للمجلة العربية، يرى أن أهمية الأرشيف العثماني للعالم العربي أمر محسوم ولا يقبل النقاش؛ ذلك أن الحكم العثماني استمر لمدة أربعمئة سنة في البلاد العربية، فالتاريخ العثماني هو تاريخ مشترك بين شعوب الدولة العثمانية ومنها العرب، مشيراً إلى أن بعض التفصيلات حول ذلك توجد في المدونات التاريخية (العربية والتركية)، إلا أن بعض الأحداث التاريخية الدقيقة موجودة في الوثائق وليست في تلك المدونات
 
ويضيف أستاذ التاريخ المشارك في جامعة الملك سعود في الرياض وعلى سبيل المثال إلى فتوى علماء الدين حول الموقف من الاحتلال الفرنسي في مصر عام 1798م؛ إذ أن وثائق الأرشيف تكشف أسماء هؤلاء العلماء والأسباب التي دفعتهم لإصدار هذه الفتاوى، فأحدها مؤيد للاستعمار الفرنسي، والثاني معارض، كما يكشف الأرشيف أيضاً حجج كل فريق ويشير أيضاً إلى مثال ثان فلو «اطلعنا على الجهود التي بذلتها الدول الأوروبية في البلاد العربية ضد الدولة العثمانية لعرفنا حقيقة موقف تلك الدول من البلاد العربية؛ حيث تأكد ذلك الموقف بعد الانتهاء من الحرب العالمية الأولى، ولما أصبح العالم العربي لقمة سائغة في فم الاستعمار الغربي»
 
ويؤكد الأستاذ الجامعي، أن حجم الوثائق العثمانية ضخم جداً، ويتجاوز مئة وخمسين مليون وثيقة (وفق تصريحات بعض المسؤولين)، ويقدم معظمها الآن لخدمة الباحثين، وبحسب ما يعتقد فلا يوجد «وثائق محظورة على الباحثين»، مشيراً إلى أنه وخلال ثلاث وعشرين سنة ماضية تابع خلالها الأرشيف، كان يقوم بتصوير ما يحتاجه من الوثائق، وقد حصل على كل ما يريده من وثائق، إلا ما يتعلق بالخرائط، فقد عكفت إدارة الأرشيف على إدراجها ضمن نظام حاسوبي إلكتروني، حيث كان هذا التصنيف في العام الماضي مغلقاً
 
الأرشيف يثبت الملكية في فلسطين
 
يقول أحمد مروات، مدير أرشيف الناصرة -فلسطين المحتلة- إن الأرشيف العثماني يعد من أكبر دور الأرشفة العالمية من حيث كمية ما يحويه من الوثائق القديمة والحديثة، التي تؤرخ لمرحلة الدولة العثمانية في مختلف أنحائها المترامية الأطراف، حيث يضم وثائق عن عهد السلطان عثمان الأول - مؤسس الدولة العثمانية, ووثائق عن فترة ما قبل تكوين الإمبراطورية مع بدايات العام 1517 كما أنه يحوي وثائق عن أوضاع الدولة العثمانية في الفترة الأخيرة وهذه الوثائق تتناول مختلف النواحي الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنـها تسجل المباحثات التي جرت بين الدولة العثمانية والدول الأخرى، وتكشف النقاب عن الصراعات الداخلية سواء بين الدولة والحركات التي قامت في وجهـها، أو النزاعات التي جرت بين المواطنين العثمانيين في مختلف مناطق الدولة
 
ويتابع الباحث في الأرشيف العثماني «تضم الوثائق كذلك الدفاتر الخاصة بالضرائب ونوعيتها ومقدار الدخل، والموضحة للمنتجات الزراعية والحيوانية، ودفاتر الصادر والوارد من وإلى مختلف الولايات العثمانية»، وفيما يتعلق بالملف الفلسطيني، فإنه يشير إلى وثائق الطابو (ملكية الأرض)، ومن ذلك سندات وسجلات ملكية تخص فلسطين، وهي كثيرة ومتنوعة تشمل جميع اللألوية والأقضية وتثبت بالدقة عدد القرى التابعة لكل قضاء أو مركز اللواء
 
وخلال بحثه في الأرشيف العثماني في إسطنبول، وجد أن كافة السجلات دون في بدايتها نبذة بسيطة عن مركز القضاء وعدد القرى التي تدخل لقضائها، مشيراً في حديثه لـ(المجلة العربية) أن الوثائق والسجلات في الأرشيف صنفت حسب نظام الأصل أو المصدر الذي يعتمد على تصنيف الوثائق حسب المنشأ الأصلي ثم التسلسل الزمني، ثم الانتهاء من تصنيف الأوراق الخاصة بالتشكيلات المركزية العثمانية، وبحسب جدول عملي منظم يقوم الأرشيف بفتح وثائق جديدة أمام الباحثين وفي كافة المواضيع وبأغلبها تكون سياسية بين صكوك معاهدات أو فرامانات في السنوات الأولى المبكرة أو مع منتصف القرن السابع عشر وهي الفترة التي شهدت عدة معاهدات بين الدول وصدرت بها الكثير من الرسميات والمخطوطات
 
ويضيف مؤلف كتاب (الناصرة إعلان وشخصيات) أن وثائق فلسطين المؤرشفة ما تزال مجهولة وغير خاضعة للبحث، والمبحوث منها لا يتجاوز 5 %، ليس بسبب التعتيم الإداري أو المعاملة البيروقراطية التي تتبعها إدارة الخارجية التركية، والسبب يعود إلى أن المؤسسات الفلسطينية تعمل بشكل فردي وبدون أي تعاون وخاصة في موضوع الأرشفة أو التوثيق
ويتابع قائلاً «من بين القضايا المهمة ما يتعلق بالأوقاف العامة الإسلامية والمسيحية في فلسطين كونها أصبحت في خطر وشيك نحو الاندثار أو بسط النفوذ والهيمنة التي تعتمدها الحركات الصهيونية، إذ أن كل هذه (الوقفيات) سجلت ودونت من قبل المحاكم والهيئات الشرعية التي كانت تحت كنف الدولة العثمانية أثناء الحكم المطول، ففي أرشيف دار الإفتاء دونت بها هذه الصكوك والتي تشهد بملكية وشرعية هذة الوقفيات للعرب والمسلمين، وسبب الوقف، واسم الواقف، وسنة الهبة وأسماء الشهود وغيرها من المراسيم الإدارية الدقيقة»
 
ويشير إلى أن بعض الدارسين الأكاديميين استطاعوا أن يشكلوا دراسة موسعة لبعض المدن الفلسطينية من الأرشيف، ومن ذلك بحث أكاديمي أنجزه الدكتور محمود يزبك (حيفا في أواخر العهد العثماني)، حيث اعتمد يزبك في أغلب بحثه على دراسة شاملة لمحتوى السجلات الشرعية والاجتماعية لحيفا في الفترة العثمانية