أميركا والعراق وداعش

يؤلمنا ويؤرّقنا ويثيرنا موقف نأبى أن نُصَدِّقه لأننا لا نفهمه ولا نفهم ما وراءه ولأنه موقف لأميركا في أعلى مستويات إدارتها. أميركا كانت ولا تزال أحيانا في باطن عقولنا دولة تدافع عن الحق وتحارب الباطل. وليست هي اليوم كذلك فالحق والباطل مفاهيم تجاوزها خُلقاً وتعداها إنسانية قوم لا خلق لديهم ولا دين، يعاملون العالم وكأنه حقل تجارب أو برميل نفط. قادة أميركا اليوم هكذا وهنا نذكر أمرين حديثين لافتَين أثارا فينا ما أثارا.

أثارنا اليوم تكرار التأكيد أن أميركا تُخطئ وتستمر في أخطائها كما يحدث في الحرب على داعش. فأوباما أعلن ودون خجل أن مخابراته أخطأت في تقديراتها وهو بنى كل إستراتيجياته الأقليمية على أخطاء تقديرات أجهزة هو فقط مسؤول عن كفاءتها ودقة عملها ودقة معلوماتها وليس فيما يقوم به بعد أن عرف مستوى معلوماته، ما يُنبيء بأن الأخطاء التي بنى عليها خططه هي قيد المعالجة وان الاستراتيجية التي أقَرّ هي قيد الدرس مجددا لعِلَّة صحتها.

وأثارنا أيضاً خطاب محمود عباس في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، المكان الصالح لمثل ما خاطب الأعضاء فيه، فقط يدعوإلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية وإنهاء الإحتلال الإسرائيلي خلال ثلاث سنوات. ورداً على هذا الخطاب أعلنت وزارة الخارجية الأميركية : "كانت في خطاب عباس توصيفات مهينة وهي في العمق مخَيِّبة للآمال ونحن نرفضها، إنها تصريحات إستفزازية وغير بناءة ومن شأنها أن تُجهض الجهود لخلق مناخ إيجابي وإعادة الثقة إلى الأطراف".

من المهين لكل ذي ضمير حَيّ أن يجيب أو يُعَلِّق على عُهْرِ هذه الألفاظ.

ونعود إلى موضوع يهمُنا، موضوع حرب داعش في سوريا والعراق ولبنان والمدى الذي تبلُغه قبل أن تضعف ثم تُهزم، ليستَقر الإهتمام على بناء ما دُمِر في حرب العراق وإيران الذي إستمر لثمانية أعوام وحربي أميركا عليها وما تلاه من حروب أتاحتها تفَتُّتات المجتمع وإنقساماته على ذاته كلها إجتمعت "فقصمت ظهر البعير" وأودت بحياة مئات الآلاف من العراقيين ومن صادف وجوده في ربوعها، وهدمت بنية تحتية كانت في أسوأ أحوالها كافية، ولم تترك ما إستطاعت هدمه إلاّ وهدمته. وجاءت داعش لتكمل ما بدأه كل معتدٍ أثيم وتزيد على ما جرى تلويثا فكريا ودينيا ومذهبيا وتدخل إلى قواميسنا كلمات وتعابير نسيتها القواميس من أزمان.

ولم تكن الجيرة بأحسن ممن ذكرنا فاحتلت إيران العراق فعلا بنفوذٍ مُزَلزِل وبمعرفة وبتشجيع من بعض دول العالم ومدّت نفوذها من خلاله إلى بلدان أخرى في المحيط العربي وأدخلت المذهبية في لَبوسٍ لا يليق بها فتوسّع الإنقسام وأصبح العراق الواحد مُقَسَما في الواقع إن لم يكن في القانون.

ما هو المستقبل القادم على العراق؟ سؤال يبدو صعب الإجابة ولكننا سنحاول وفي حسباننا أن الوقت حان ليتغير ويستقِل عن مغتصبيه ويعيد بناء نفسه ويسير إلى حيث يجب أن يسير وهو بتاريخه مؤهل لينتَفض وينفض عنه غبار السنوات الماضية القليلة إذا قيست بتاريخه، تاريخ الحضارة الإنسانية التي أسهم في خلقها وتطويرها وقدَّمها إلى العالم كي يرتقي بحضارته إلى ما وصل إليه.

قلنا في مقال سابق أن إعمار العراق له خصوصيات تتخطى في تعقيداتها ما تواجهه سوريا في إعادة إعمارها.

التعقيدات في العراق تتناول الفوارق المذهبية والإثنية فيها إضافة إلى ما طرأ من دخول داعش الى البلد وإضافته تعقيدا عل تعقيد. داعش مشكلة ولكن الأقليات التي هُجِرت وأُسيء إليها بشكل نافرٍ قبل وأثناء تهجيرها هي مشكلة أخرى تواجه إعادة الإعمار ليكتمل ويشمل كلَ أهل العراق.

داعش بدأت محاولات إضعافها وربما طردَها ولو تأخّر لأشهر ولكنها لن يُكتب لها الحياة ولا البقاء حيث أرادت وتمددت واحتلّت. هي طارئ مرحَليٍ يُخَرِّب ويسرق وينهب ويقتل وفي تَصَرُفَه نواة موته. ونعرف كما يعرف غيرنا أن بقاياه ستبقى في أجحارها وهي عَفَنٌ يسهل كنسه تحت بساط ما ولكن رائحته النَتَنِه تقوى كلما أزلنا نفايات ما يجري اليوم. النظافة المستجدة سَتُظْهِر العفن.

الشاعر العباسي الأعمى، الأسود، الأبرص،علي بن جَبلةبن مسلم بن عبدالرحمن الأبناوي من أبناء الشيعة الخراسانية يقول:

ضِدانِ لمّا استَجمَعا حَسُنا -- والضِدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ

الرحلة هذه طويلة ولكن نهايتها أكيدة. وينقلنا الحديث إلى واقع الحال العراقي المنقسم على نفسه الشيعي في جنوبه والسني في وسطه والكردي في شماله والذي كان دائما كذلك ولكن بصوتٍ خافت ورؤيا أكثر نضوجا والجيرة والأغراب كانوا أقل تأثيرا لان مصالحهم لم تستوجب ما أرادوه اليوم من تفتيت ومن نفوذٍ إستغلوه إلى أبعد الحدود.

هذا الوضع وعلاقته بالإعمار سيكون بداية بحثٍ في الأيام القادمة نرجو أن يكون ممكنا و مفيدا لمن يقرأه.

30/9/2014