العراق والحضارات

ألعراق ليس كغيره من البلاد التي تضررت من أعمال عنف نتجت عن ربيعٍ عربي أو مثله. فهذا البلد المميز بتاريخه الضارب في القِدم وفي نسيج أهله الُمُمثِل لحضارات لا يزالُ عالم اليوم يَغُبُّ مما أنجز واكتشف وعَلَّم في الحساب والقانون والهندسة وأخَصُها المعمارية واستعمل الحرف مُوَثِّقاً ما أنتج لنستفيد ونُفيد من يأتي بعدنا.

حضاراته تنوعت وكذلك أبناؤه وعلومه وأدبه وأخلاق بنيه كلها تنوعت لتبني وطناً ليس كغيره وهكذا كان وبقي الدارسون يَعُبّون من تراثه ولا يزالون ويكشفون أسراره ولا من يظن أن ما ربحناه منه على وشك أن يتِم. الغوص فيه سيطول وسيبقى العالم أسير تقدِمات حضاراته التي عرفها العراق على بضعة آلاف من السنين وعرفها باقي العالم منذ بضعة مئات من السنين.

عراق الألفي سنة التي إنصرمت مَهَّد للمسيحية فأنزلها منزلة خاصة فبنى رهبانها وقسُسِها أديرة فيها وأماكن عبادة ومدارس لا يزال أكثرُها ماثلاً للعيان ليس كأثَرٍ من حجر ولا تاريخٍ مضى بل واقع يصَلَي المؤمنون فيه ويدرسون ويُعَلِّمون ويُجَمِّعوا أفكارهم وينشروها على الدنيا بكرمٍ وإيمان.

وجاء الإسلام فاحتضنه وأعطى له ما أعطى للمسيحية وأكثر فازدهر الدين وعلومه وما كتَبَ أو كُتِب عنه والفن والشعر والعلم والطب والأدب وتبارى فيه مسيحيون ومسلمون وتعاونوا وصَدَّروا للعالم كل ما أنتجوا فازدهر العالم وأكمل الغرب الطرييق إلى ما هو أحسن.

نقول كلُ هذا لنعود فنقول أن تاريخاً كهذا لا تمحيه محنة طرأت أو مسيؤون عاثوا فيها فساداً ولا منظمات متكبرة لا عن وعي بل عن جهل مطبق غَرَّهم في سلوكها من فقد الضمير والخُلق والدين والإنسانية ، وهو كما صار وحشاً ضارياً ضارباً في الأرض ينظر إلى ما يسهُل هضمه ويأخذه نافعاً له أو ضارّا لأنه لا يميز بين النافع والضار.

هكذا حلَّ على أرضه حكام لا خير فيهم ولما لم يثبتوا في حكمهم حلَّ محلهم من هو أسوأ منهم وهكذا أتت الدولة الإسلامية ومصالح إيران وقبلها الغرب لتجعل من العراق ما هو عليه الآن. ولكنه العراق وقد مرّ فيه كل شرير في التاريخ ونهض وقام وأكمل رسالته التي بدأَها منذ فجر التاريخ وهو الآن وكأنه ينهض كعادته ويُكمِلُ طريقاً عرفها ولا شك فيها وفي قدرته على السير فيها رافعاً رأسَه ناسياً النافل من التاريخ ومسامحاً، وهو قادر على السماح.

هذا العراق تنتابهاليوم نوبات من أمراض السياسة تغتال بَعضَه وتُنَفِّر البعض منه وتُفَجِّر أماكن العبادة فيه وتُهَجِّر أهله إلى حيث لا يريدون وتأمر بعضهم بترك معتقداته وتسبي وتذبح وتدفن بعض أحيائه والعمامة والسيف لا يُقَصِّران، فهما سبيل الإقناع وحُجَّتهما قوية قوية.

من كل هذا العراق سينهض، ويغير الحال إلى حالٍ هو يرسِمُه ويستعيد ما أُخذ منه عنوة وبحد السيف، يستعيد الكرامة وهو يبني ما تهدّم فالبناء مهنته وشَغَفَه وإن إحتاج فأبناء العراق كُثْرٌ راغبون في بناء وطنهم وهم إلى البناء متى دُعوا قادمون .