الله الناطق بالعربية

يذكر القديس بولس الرسول في رسالته الى أهل غلاطية انه بعيد اهتدائه الى الايمان المسيحي انطلق الى "ديار العرب‫"‬ ثم رجع الى دمشق.‬ وديار العرب كانت تعني آنذاك شبه الجزيرة العربية والأردن وسوريا الجنوبية وصولا الى دمشق‫.‬ وكانت تضم مملكة الأنباط والبتراء العربية وجرش وفيلادلفيا ‫(‬عمان‫) وبصرى وحوران. ومن الراجح ان يكون بولس قد ذهب الى بلاد العرب المتاخمة لدمشق، ‫إلى تلك الصحراء الجبلية الجرداء، إلى مدينة بصرى وجوارها.‬

في بداية القرن الثاني للميلاد أطلقت الامبراطورية الرومانية اسم "ولاية العربية" على بلاد الانباط بعدما تم الحاقها باراضي الامبراطورية. وشهدت مدينة بصرى ازدهارا زراعيا وتجاريا وعمرانيا غداة اعلانها عاصمة للولاية عام ١٠٦ على عهد الامبراطور تراجان‫.‬

لا ريب ان في ديار العرب وخاصة عاصمتها بصرى ‫-‬ هي من أولى المناطق التي اعتنق سكانها المسيحية‫.‬ فموقعها القريب من فلسطين ‫،‬ حيث عاش المسيح ‫، جذب اليها الرسل منذ بداية انطلاقهم حاملين البشارة الانجيلية الى أطراف المسكونة كافة‫.‬ وورد في التراث الكنسي أن طيمن الرسول ‫، احد الشمامسة السبعة ‫، قد اقيم اسقفا على بصرى‫.‬ وقد شارك اساقفتها في العديد من المجامع الكنسية المحلية والمسكونية على السواء‫.‬ وكتب المقريزي أن متى الرسول هو ‫"‬أول من صدع بالانجيل في بصرى‫".‬ كما ورد عند الطبري ذكر ‫"‬أسقف العرب الغسانيين‫".‬

في القرنين الخامس والسادس بلغت المسيحية كل قرى حوران ومدنها حتى اصبح كل سكان الولاية العربية مسيحيين‫.‬ واشتهرت العربية بالحياة الكنسية وتكاثرت الاديرة التي لا يزال بعضها أو بعض آثارها قائمة الى اليوم‫.‬ وحظى الرهبان وحماية برعاية الامراء الغساسنة الذين شيدوا بعض تلك الاديار على نفقتهم‫.‬ وكان للرهبان فضل كبير في نشر الايمان المسيحي بين القبائل العربية التي اعتنقت المسيحية‫.‬ وقد تأسست في ولاية العربية أسقفيات عديدة منذ القرن الرابع‫، وتكاثر عددها في كل المناطق والمدن التي سيطرت عليها القبائل العربية وانتشرت فيها‫، منها بالضافة الى بصرى‫:‬ جرش،‬ عمان،‬ مأدبا‫، درعا‫، صنمين‫، سويداء،‬ شهبا‫،‬ وصولا الى حران والرصافة وتدمر وبعلبك‫…‬ منذ اللحظة الاولى لنشأة الكنيسة‫،‬ نطقت المسيحية باللغة العربية‫.‬ فيوم العنصرة‫،‬ يوم حل الروح القدس على التلاميذ، يوم "امتلأوا كلهم من الروح القدس وطفقوا يتكلمون بلغات اخرى كما اعطاهم الروح أن ينطقوا"، يوم دهش الحاضرون، ومنهم العرب، كيف يسمعون الرسل الجليليين "ينطقون بألسنتنا بعظائم الله" (أعمال الرسل ١١ - ١،٢)‬ ‫، نطق الله بالعربية‫.‬

في ذلك اليوم،‬ قبل ألفي عام‫,‬ نطق الله بالعربية‫.‬ وبالعربية انتشر الله وكلمته وروحه وانجيله في المدن والقرى والبراري‫،‬ وفي الكنائس والصوامع‫، وفي الصلوات والأصوام، ‬والأدعية والترانيم،‬ وفي حيوات القديسين والشهداء والأبرار والنساك والرهبان‫.‬

تبنى الله العربية وجعلها مسيحية تشهد له ولكنيسته الحية على الدوام‫.‬ عمدها بالروح والماء والدم‫.‬ وستظل المسيحية العربية وفية لهذه الامانة النفسية.

هذه المعمودية التي تحصل مرة واحدة وإلى الأبد‫.‬ ولن يسع أحد أن يقتلعها من جذورها الضاربة في الماضي والحاضر والآتي من الدهور‫.‬

الاب جورج مسوح
من جريدة النهار ٩ تشرين الاول ٢٠١٣