المواقع الدينية في الشمال اللبناني

وادي قاديشا أو الوادي المقدس 

في شمال لبنان جبل شامخ مهيب، على صخره حَفَرت المسيحية منذ مطلعها (2000 عام) تاريخها الطويل معابدَ وصوامعَ نسك. وفي سكونه الخاشع المستوحد، وجدَت الحياة الرهبانية والنسكية عبر العصور أحد أفضل أماكنها للصلاة والتأمل والخشوع والانصراف إلى عبادة الله، في مغاور طبيعية نادراً ما مسَّتها يد الانسان، وأخرى محفورة للتقوى والإماتة، حيث الحياة انصراف إلى حوار صامت دائم للقاء وجه الله. الوادي المقدس (المعروف ب"زادي قاديشا") يتردد في حنواته صدى سكونه، وينفتح على أقدام مدينة بشري عميقاً عميقا، تتماوج فيه تعرجاتٌ صغيرة وكثيرة تنتهي به إلى البحر. وكلمة "قاديشا" سريانية الجذر، تعني "المقدس"، ومن هنا تسميته "الوادي المقدس"، بسبب وهادٍ فيه هائلة العلو، يطل منها أكثر من جرف وعر شديد التحدُّر، وقد ينبجس منه شلالٌ تجمعت مياهه ذوبان الثلوج. في بطون هذا الوادي، مغاور كثيرة في أفواه الصخور، سكنها النساك الأقدمون منذ أيام الرومان (القرن الثالث). وفي القرون الوسطى، بنيت فيه كنائسُ وصوامعُ ومناسك وأديار منحوتة في الصخر، سكنها رهبان وزهاد من جميع المذاهب، بينهم صوفيون مسلمون انسحبوا إليها كي يعيشوا حياةَ انكفاءٍ وتأمُّلٍ، وصلوات بالعربية واليونانية والسريانية والإثيوبية.

دير مار إليشاع

كأنه القلب النابض في صدر وادي قنوبين. مبنيٌّ في فجوة صخرية كبيرة أنشأ فيها الزهاد غرفاً لهم وخلايا، وردَ ذكرها في كتابات رحالة زاروه في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كنيسته، في جوف الصخر، تنقسم أربعة مذابح صغيرة محفورة في الصخر. لم يذكر أحد تاريخ بنائه السحيق، لكن الثابت أن أسقفاً مارونياً سكنه في القرن الرابع عشر، وأنَّ فيه وُلِدَت الرهبانية المارونية اللبنانية عام 1695.

دير الصليب

في سبحة الأديار والكنائس داخل الوادي المقدس، يلفت دير الصليب بمغائره المحفورة في الصخر حتى ليصعب الوصول إليها بالحبال والسلالم، فيها قسوة حياة عاشها نساكٌ لا رفيق لهم سوى وجه الله. ولا تزال في بعضها كتاباتٌ (بعضها من القرن الثالث عشر) وجدرانياتٌ غير واضحة، منها الخلقدوني ومنها العربي والسريلني، تحتَّتَتْ مع الوقت أو تعرَّضت للتخريب. وكان دير الصليب يجتذب إليه الزهّاد والنُّسَّاك من جميع الأقطار، حتى بات مَعْلَماً رئيسياً من معالم العبادة المسيحية في لبنان.

دير مار أنطونيوس قزحيا

من أقدم أديار الوادي المقدَّس، وهو نموذجٌ للحياة النُّسكية. "قزحيا" (صيغة لاسم إشعيا) تعني بالسريانية "كنز الحياة"، أي المسيح، الذي لا يجده الرهبان إلاَّ حين يتخلَّون عن متع الحياة الأرضية وينصرفون بالتجرُّد والزهد إلى الصلاة، وسط "ماء الحياة" المتدفق باستمرار في سرير الوادي المهيب. يتميز هذا الدير بموقعه العجيب. يعود بناؤه إلى مطلع القرن الخامس، إبان انتشار الحياة النسكية في تلك المنطقة. فيه نشأت أول مطبعة في الشرق (نحو عام 1585) صدر عنها أول كتاب: "المزامير" (نحو عام 1610 وما زالت نسخة منه محفوظة في مكتبة جامعة الروح القدس- الكسليك)، ثم عددٌ من الكتب الليتورجية والدينية. كنيسة الدير من عمل الطبيعة والانسان معاً: مغارة طبيعية محفورة في الصخر، حجرها ورديّ كأنه مغمس في الرصاص لا في الكلس، في قسمها الأعلى قناطر مرتكزة على اثنتَي عشرة قاعدة وردية تستند إلى مقاعد من نحاس. وتنتأُ عن الجرف قليلاً واجهتُها ذات العُمُد، وبوّابتُها المهيبة، وقبَّتُها المثلّثة الأجراس. وفي الصخر أيضاً غرفٌ صغيرةٌ كأنها أعشاش طيور أوى إليها في الماضي السحيق نسَّاكٌ كانوا سكارى بالله. وفي الدير أيضاً مغارة معروفة محلياً بـ "مغارة المجانين" (الممسوسين والمسكونين بالهواجس والشياطين)، يؤتى بهم كي يشفيهم القديس أنطونيوس. ولا تزال فيها حتى اليوم بقايا سلاسل كانت تقيِّد أقدام المرضى. واليوم في محبسة غبتا التابعة لهذا الدير، يعيش راهبٌ حبيس: الأب أنطونيوس شَيْنا (دكتور في اللاهوت) يواصل التقليد القديم للنساك الأوائل بإماتة الجسد، وبالصلاة والانصراف التام إلى الله.

كنيسة سيدة حَوْقا

تشكِّلُ، مع بعض الحجرات الصغيرة داخل تجويفٍ صخريّ، ديراً يرجِّحُ المؤرِّخون بناءه في أواخر القرن الثالث عشر. يظلُّ مهجوراً معظم أيام السنة، ويؤمه المؤمنون إلى قدّاس احتفالي عشية عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء (14 آب).

الديمان

على مسافةٍ قصيرة من بشري وحصرون وبقرقاشا، وبين أشجارٍ من الأرز والسرو، المقرُّ الصيفي للبطريركية المارونية: قرميد أحمر، جرس كبير يخترق صوته الوادي، قناطر جميلة، وباحة واسعة مطلّة على وادي قاديشا. في كنيسته جدرانيات رائعة للفنان اللبناني صليبا الدويهي.

كنيستا مار أنطونيوس والسيدة العذراء في تنورين

في إطار هادىءٍ وخشوعي، وفي ظلِّ أشجار الحَوْر والجَوْز، تقوم هاتان الكنيستان ملتصقتَين، وهي ظاهرةٌ فريدة في منطقة تنورين. لم تُبْنَيا في وقت واحد، إنما يجمع بينهما باب داخلي، ولهما بابان خارجيان مستقلان.

دير مار أنطونيوس حوب

"حوب" بالسريانية: حوبو أي الحب. وهذه المنطقة من تنورين (تعلو 1400 متر، وفبها نحو خمسين كنيسة) اشتهرت بهذا الاسم لما فيها من جمالٍ وغنىً طبيعيِّين وينابيع. ودير مار أنطونيوس- في قلب منطقةٍ خضراء، غنية بالينابيع والبساتين، عند سرير نهر الجوز- يعود إلى مطلع القرن الثامن عشر، وهو مبنىً كبير من طابقين يتطربش بالقرميد الأحمر، كانت فيه كنيسة تمَّ ترميمها مؤخراً.

سيِّدة النورية

على قمّة جُرْفٍ صخريٍّ أخّاذِ المنظر يراقبُ شاطىء لبنان الشمالي، يقوم دير لبنورية أو دير سيِّدة النور. وهو مَعْلَمٌ أرثوذكسي عجائبي، بني بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، بشكل رواق يحيط بباحته الداخلية. كنيستُهُ بازليكية التصميم، لها جناحٌ واحد ذو فاصل أيقوني حديث من المرمر. وعلى خاصرة الدير درجٌ حاد العلو يؤدّي إلى مغارةٍ في الصخر يضربها الهواء ويواجهها البحر، أسطورتها أعطت اسمها للدير: كاد بحاران يغرقان في البحر الهائج، حين ظهرت لهما العذراء منوَّرةً وقادتهما بأمانٍ إلى الشاطىء.

دير كفتون

في إطارٍ طبيعيٍّ جميل منقَّطٍ بالحصى، ومغشّىً بخضرة الزيتون والأشجار المثمرة، يقوم هذا الدير الأرثوذكسيّ على طرف غابة حامات، عند جرفٍ صخريٍّ صلصاليّ، يضمُّ كنيسةً صغيرةً محفورةً في في الصخر. ويقوم قريباً منه جير ماروني قديم.