صـور

كانت بدايات صور الفينيقية، ملكة البحار، على جزيرة صغيرة، أما ثراءها الذي ذاع سيته، فقد جمعته من مستعمراتها التي انتشرت في جميع أنحاء المتوسط، فيما حصدت شهرتها صناعة الأرجوان والزجاج الشفاف فكانت قبلة أطماع كبار الفاتحين من أمثال الملك البابلي نابو قد نصر والمقدوني والاسكندر الكبير المعروف بذي القرنين.

تاريخ المدينة

يعود تأسيس صور إلى بدايات الألف الأول ق.م.. ففي تلك الحقبة كانت صور تتألف من قرية مزدوجة أقيم قسم منها على الشاطئ، فيما أقيم القسم الآخر على مجموعة من الجزر الصخرية المنتشرة قبالته. أما عصرها الذهبي فإن صوراً لم تبلغه إلا في غضون الألف الأول ق.م.

ففي بدايات تلك الحقبة، في حوالى القرن العاشر ق.م. قام ملكها حيرام بإنجاز عدد من المشاريع العمرانية، فوصل الجزر ببعضها وردم جزءاً من البحر بهدف توسيع رقعة المدينة الساحلية، ثم ما لبثت المدينة أن تجاوزت حدودها الضيقة بفضل إقدام تجارها وبحارتها الذين جابوا البحر المتوسط ووصلوا إلى سواحل الأطلسي، وأسسوا لهم المستعمرات والمحطات التجارية، ومن بينها قرطاجة على الشاطئ التونسي التي أنشأوها في حوالى العام 815 ق.م. كانت تلك الحقبة تمثل عصر صور الذهبي، فازدهرت وأثرت بفضل منتوجات مستعمراتها كما بفضل صناعاتها المحلية، التي من بينها صناعة الزجاج الشفاف وصناعة الأرجوان. بيد أن التجار الصوريين لم يكتفوا بنشر بضائعهم وسلعهم، بل تخطوها إلى نشر حضارتهم، وإليهم يعود الفضل في إيصال الأبجدية الفينيقية إلى الإغريق الذي حفظوا لهم الجميل من خلال تدوين أخبار قدموس ابن ملك صور الذي لقنهم الأبجدية وأخبار أوروبا شقيقته التي تركت اسمه على القارة المعروفة باسمها.

وإلى تلك الفترة الزاهرة في تاريخ صور تعود الجرار الجنائزية والأنصاب والمجوهرات المختلفة التي تم العثور عليها عام 1911 في جبانة المدينة الفينيقية، والتي أودعت في خزائن مصرف لبنان بانتظار عرضها في أروقة المتحف الوطني. بيد أن ازدهار صور لم يلبث أن جلب إليها المتاعب. ففي القرن السادس ق.م.، حاول الملك البابلي نابو قد نصر احتلال المدينة، غير أن أسوارها المنيعة منعته من ذلك، فحاصرها مدة ثلاث عشرة سنة. غير أن ما عصي على البابليين لم يوقف الزحف المقدوني. ففي العام 332 ق.م. قام الاسكندر الكبير بمحاصرة صور مدة سبعة أشهر بسبب عدم خضوعها له على غرار المدن الفينيقية الأخرى. ولما كان المقدوني يرغب في احتلال مصر ولم يكن باستطاعته، من الناحية الاستراتيجية، أن يترك خلفه مدينة مقاومة، تملك واحداً من أعظم المرافئ الحربية العاملة لصالح الفرس، تهدد مشروعه من خلال قطع الإمدادات البحرية والبرية عن جيوشه، فقد عمد إلى تدمير  المدينة البرية وردم المضيق الذي يفصلها عن جزئها البحري لينشئ بذلك برزخاً يمكن جيوشه من الوصول إليه براً واحتلاله. ويروى أن غيظ الإسكندر أمام المقاومة الصورية وأمام الخسائر التي تكبدها دفع بالمقدوني إلى تدمير نصف المدينة البحرية وقتل رجالها وسبي نسائها وأطفالها.

بعد مضي نحو ثلاثة قرون على ذلك الحدث خضعت صور للسيطرة الرومانية، على غرار سائر المدن الفينيقية. غير أنها تمكنت في تلك الأيام من الاحتفاظ بشيء من الإدارة الذاتية، ولا سيما بحق سك العملة الفضية والرونزية. وأقيم فيها في العصر الروماني عدد من المنشآت الهامة، كقناة المياه المعلقة وقوس النصر وميدان سباق عربات الخيل، الذي يعتبر من أكبر ميادين العالم الروماني.

وعرفت صور الديانة المسيحية في وقت مبكر، وهي التي يردد اسمها مراراً في نصوص العهد الجديد. وفي العصر البيزنطي عرفت صور فترة من الازدهار، تشهد عليها آثار أبنيتها ومدافنها وكتاباتها، وقد كان لأسقفها مركز الرئاسة بين اسقفيات المدن الفينيقية.

وفي عام 634، دخلت جيوش المسلمين المدينة من دون أية مقاومة تذكر، فتابعت مسيرة ازدهارها في ظل الخلفاء الأمويين والعباسيين، فازدانت بسبل الماء وامتلأت أسواقها بأصناف البضائع من السجاد إلى الحلى الذهبية والفضية ونشطت فيها تجارة السكر والمصنوعات الزجاجية. غير أن ضعف الخلافة العباسية ووصول الفاطميين إلى الحكم في مصر وسيطرتهم الفعلية على مدن الساحل مكن المدينة من بلوغ شيء من الاستقلال الذاتي في ظل حكم قضائها من أسرة بني عقيل.

وكان من شأن أسوار صور المنيعة أن يؤخر سقوطها في أيدي الصليبيين الذين لم يتمكنوا من احتلالها إلا في عام 1124، أي بعد عشر سنوات من سقوط آخر مدينة ساحلية في قضتهم. وظلت المدينة تحت السيطرة الصليبية حتى عام 1291 حين استولى عليها المماليك. وفي بدايات القرن السادس عشر، دخلت صور، كسائر مدن المنطقة في فلك الدولة العثمانية، وبقيت على هذه الحال إلى أن أصبحت جزءاً من دولة لبنان الكبير غداة الحرب الكونية الأولى.

مواقع صور الأثرية

منذ نحو خمسين سنة ومديرية الآثار اللبنانية تقوم بحملات تنقيب واسعة في نطاق صور وفي محيطها بحثاً عن آثار المدينة وتاريخها، مركزة نشاطاتها على ثلاثة قطاعات من المدينة القديمة والوسيطة، ونتيجة تلك التنقيبات وما أسفرت عنه من نتائج هامة، قامت منظمة الأونسكو عام 1979 بإدراج صور على لائحة مواقع التراث العالمي.

القطاع الأول: يحتل هذا القطاع جزءاً من الموقع الذي كانت تقوم عليه في ما مضى المدينة البحرية، ويشتمل على مجمعات واسعة من الأحياء السكنية والحمامات العامة والمجمعات الرياضية والشوارع ذات الاروقة وذات الأرضية المرصوفة بالفسيفساء. وتعود تلك المنشآت بمجملها إلى العصور الرومانية والبيزنطية ناهيك عن بعض بقايا أرصفة المرفأ الفينيقي الجنوبي، أو المرفأ المصري التي ما تزال منتشرة قرب البحر.

القطاع الثاني: يقع هذا القطاع إلى الغرب من القطاع الأول وعلى بعد نحو خمس دقائق منه. ويتمحور حول بقايا كاتدرائية صور الصليبية التي استخدمت في عمارتها أعمدة من الغرانيت الأحمر وأحجار تم استخراجها في حينه من المنشآت الرومانية. وتنتشر حول الكنيسة وعلى مستويات أدنى منها، شبكة من الطرقات والمساكن التي تعود إلى العصور الرومانية والبيزنطية.

القطاع الثالث: يقع هذا القطاع على بعد نحو ثلاثين دقيقة إلى الشرق من القطاعين السابقين، ويتألف من شارع رئيس يتجه من الشرق إلى الغرب ويصل المدينة بضاحيتها الشرقية. وقد أقيم هذا الشارع في العصر الروماني، وجرى ترميمه في العصر البيزنطي، في وسط البرزخ الذي أنشأه الاسكندر الكبير، وتحيط بجانبي هذا الشارع الأروقة ويقطعه قوس نصر عظيم ذي ثلاثة مداخل. وتجري على جانبه الجنوبي قناة معلقة على قناطر كانت معدة لجر مياه نبع رأس العين إلى المدينة.

وعلى جانبي الشارع تمتد جبانة واسعة تتداخل فيها العمائر الجنائزية والتوابيت الرخامية والكلسية والبازلتية ذات الأشكال والزخارف والمنحوتات المختلفة. وقد دامت فترة استخدام هذه الجبانة من القرن الثاني إلى القرن السادس ب.م.

وإلى الجهة الجنوبية من الجبانة، يقوم ميدان سباق عربات الخير الذي تم ترميم بعض أجزائه. ويبلغ طول هذا الميدان 480 متراً وكان يتسع لنحو 20.000 مشاهد كانوا يراهنون فيه على المتبارين. وقد كان على كل هؤلاء أن يدوروا بعرباتهم سبع مرات حول الشوكة التي تتوسطته.

الأسواق القديمة

لا بد للزائر من أن يجول في أسواق صور القديمة، حيث يرتفع خان من العهد العثماني، ومنزل قديم وجميل من العصر عينه تملكه إحدى أسر صور العريقة من آل المملوك، وهو منزل تعد المديرية العامة للآثار العدة لترميمه، بالإضافة إلى مسجد الطائفة الشيعية ذي القبتين والعمارة الرائعة.

وعلى مقربة من السوق، يعج مرفأ الصيد القديم بالحياة، وقد حل المرفأ الفينيقي الشمالي الذي كان يعرف بسبب موقعه بالمرفأ الصيدوني.

ويقود الطريق الملازم للرصيف إلى الحي المسيحي الذي ما يزال يحتفظ بأزقته وأبنيته ذات النمط التقليدي. وقد يفاجئك وجود برج مراقبة من العهد الصليبي في أحد البساتين، فيما يقوم برج آخر من العصر عينه على مقربة من المنارة، يشهدان على أهمية صور في تلك الأيام.

صور المعاصرة وجوارها

تفتح المواقع الأثرية أبوابها للزائرين طيلة أيام الأسبوع. غير أن المدينة تزخر بعدد من المطاعم التي تقدم أشهى ثمار البحر، بالإضافة إلى المطاعم التي تقدم الأطباق المحلية والمقاهي المنتشرة على طول أرصفة المرفأ. وفي حال سنح الوقت لك، فلا بد من زيارة عدد من المواقع القريبة من صور وأهمها:

محلة رأس العين: على بعد 6 كلم إلى الجنوب من صور، حيث يقع مصدر المياه الرئيسي الذي كان منذ العصور الفينيقية وما يزال يغذي صور. فقد كان يتم تخزين مياه الآبار الأرتوازية في خزانات حجرية ما زالت تقاوم أذى الأيام. ثم  يتم جر المياه من الخزانات إلى المدينة بواسطة قناة معلقة على قناطر بمحاذاة الطريق الرئيسية المؤدية إلى المدينة. وما زال جزء من هذه القناة يشكل قسماً  من شبكة مياه صور حتى يومنا هذا.

الصرفند: على بعد 28 كلم إلى الشمال من صور، وهي مدينة قديمة ورد اسمها في التوراة في حادثة إيليا النبي والأرملة، وقد أجرت فيها بعثة أميركية حفريات كشفت عن منشآت دينية تعود إلى العصور الكنعانية- الفينيقية، بالإضافة إلى بقايا مرفأ من العصر الروماني. والصرفند مشهورة في أيامنا بصناعة الأواني الزجاجية بالطرق التقليدية.

قبر حيرام: على بعد 6 كلم إلى الجنوب الشرقي من صور، وهو عبارة عن ناووس حجري ضخم من العصر الفارسي، يقوم على بضع درجات حجرية. وتروي التقاليد المحلية أنه قبر حيرام، المعمار الفينيقي الشهير، الذي وضع تصميم هيكل سليمان.