يعود أصل تسمية زحلة إلى اللغة السريانية ويعني أماكن زاحلة أي منزلقة، ذلك ان القسم الجنوبي الشرقي من وادي زحلة مكون من تربة زلقة.
مدينة زحلة معلقة على جانبي مضيق من سفح قاعدة جبل صنين شقته السيول فيما مضى من العصور وأبقته مجرى نهر رائع كريم معطاء هو نهر البردوني النابع من مغارة في سفح صنين.
وما إن تدخل المياه الزائرة المنسابة ما بين الصخور والروابي الرائعة زحلة حتى تستقبلها أشجار الحور والزيزفون والصفصاف والشربين والجوز والسنديان النابتة على جنبات مقاهي وفنادق هي الأولى في الجودة والروعة في لبنان.
لقد سميت عروس البقاع ومدينة الشعر والخمر، وعرين الأسود كلها صفات تميزت بها مدينة زحلة عاصمة البقاع حيث القرميد سيد المظاهر فيها وحيث الأبنية القديمة تتمازج مع الحديثة منها برونق لا مثل له.
أما إذا شئت النظر عن علو، فمن أعالي برج سيدة زحلة والبقاع سوف تكتشف قلعة راشيا المطمئنة في أحضان جبل حرمون (جبل الشيخ) وقلعة عنجر الأثرية وأطلال بعلبك الخالدة، وينبسط السهل أمامك كسجادة تشريف لك مما يزيد الشعور لديك أنك في حضرة عروس لبنان.
يعود تاريخ مدينة زحلة إلى أكثر من ثلاثمائة سنة خلت في منطقة يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة تقريباً. ففي أوائل القرن الثامن عشر أتاها الكثير من المهاجرين القادمين من مناطق عدة من لبنان حيث أنشأوا ثلاثة أحياء وكان على كل حي حاكم. تمتعت زحلة ولفترة وجيزة عام 1858 بحكم ذاتي فأضحت الجمهورية الأولى في الشرق حيث كان لها نشيدها وعلمها الخاص.
لقد أحرقت عامي 1777 و1791 كما أحرقت ودمرت عام 1860 بعد مؤامرات عديدة عليها. قاوم أبناؤها ببسالة حتى النهاية مما جعلها تنهض من جديد وتصبح صلة الوصل في التجارة والزراعة ما بين بيروت، دمشق، بغداد والموصل. خصوصاً بعد إقامة الخط الحديدي عام 1885.
مقاهي زحلة: تتمتع المقاهي الموجودة على جنبات نهر البردوني الشهير، النابع من مغارة في سفح جبل صنين، بمزايا رائعة هي عنوان المازة والمأكولات اللبنانية الشهيرة، وهي منتشرة من رأس النبع وحتى مدخل وادي العرائش في زحلة. يعود تاريخ هذه المقاهي إلى حوالى مئة سنة خلت، كانت مقاهي صغيرة متواضعة على ضفاف النهر، ما لبثت أن تحولت إلى مؤسسات كبيرة ذات خبرة عالمية ونوعية ممتازة يفتخر بها لبنان، تقدم لك أشهى المأكلولات إلى جانب الحلويات والقهوة العربية الأصلية. كما لن ننسى العديد من المطاعم المنتشرة على الروابي وفي السهل والتي لا تقل أهمية عن تلك التي على ضفاف النهر.
العـرق والنبيذ: علاقة زحلة بالعرق والنبيذ هي علاقة قديمة ووطيدة، ولقد ورثها الأبناء عن الآباء حيث أقاموا تمثالاُ على مدخل المدينة يرمز إلى الخمرة والشعر وقاموا بزرع دوالي العنب على الروابي المحيطة بالمدين كتلال تل شيحا، تل زينة، وادي حادي، أعالي دير الطوق، بحوشا، حرقات وبئر غزور وايضاً كسارة حيث النفق الشهير وطوله حوالى الألفي متر، وعلين حيث دوالي العنب تختلط مع بقايا آثار تعود إلى آلاف السنين.
تنتج زحلة أرفع وأرقى أنواع العرق والنبيذ وهو يضاهي المنتجات الغربية وخصوصاً الأوروبية منها، حيث تصدر زحلة كميات لا بأس بها نحو تلك البلدان. أنها كدموع البنات كما يقول الزحليون.
الاحتفالات: تحتفل زحلة في كل سنة وخلال شهر أيلول بمهرجان الكرمة والزهور حيث يقام العديد من النشاطات ومنها عرض سيارات من الزهور تمثل رموزاً وطنية وسياحية إلى جانب انتخاب ملكة جمال الكرمة، كما تشتهر زحلة بإقامة احتفالات خميس الجسد والذي يعود تاريخه إلى عام 1825 حيث يقام سنوياً وفي الخميس الاول من شهر حزيران تطواف مقدس يسبقه في ليلة العيد تجوال بالمشاعل في كافة أرجاء المدينة.
ماذا في زحلة: إن فن البناء والهندسة المعمارية في زحلة جميل جداً وهو يعود إلى عدة مئات من السنين جمع فيه الزحليون الكثير من الفنون المعمارية الملائمة لطبيعة أرضهم، ومن البيوت الخاصة الجميلة والقديمة على سبيل المثال وليس الحصر، نجد دار اشيخ خليل جحا حيث العقود الجميلة يعلوها بهو كبير تتشابك فيه القناطر بشكل رائع حامية نفق مقفل اليوم بطول ألفي متر يصل هذه الدار بدير مار الياس الطوق، كان في ما مضى نفق التواصل والوحدة بين الزحليين. كما يظهر الفن المعماري أيضاً في بيت الهندي وبيت وديع سكاف والمركز الثقافي الفرنسي وبناء يوسف عازار وغيرها من البيوت ذات الوجهات الجميلة والقناطر الشامخة، إنها حكاية شعب مزج ما بين الفن والثقافة والرجولة.
السراي القديم: يعود بناء السراي القديم إلى عام 1885 أيام الحكم العثماني. ولقد شيد بطريقة تلحظ تصريف المياه عند إقامة الأساسات بأساليب نادرة. أبرزها المزج ما بين الخشب الصلب والصخور القاسية وذلك خوفاً من زحل التربة، إلى جانب ذلك، نجد طرازاً جميلاً من القناطر داخل بهو السراي وفيه الكثير من الفنون المعمارية الرائعة. إن السراي اليوم هو مركز لبلدية زحلة المعلقة.
الأسواق القديمة: منها سوق البلاط وهو السوق القديم لزحلة وكان مركزاً للتجارة والتواصل ما بين القادمين من سوريا وبيروت وبغداد وفلسطين. لقد سمي هكذا نظراً لرصفه بالبلاط عام 1888. هناك مشروع أعدته وزارة السياحة لترميم السوق وتحويله إلى سوق حرفي، تراثي وسياحي لزحلة. إن سوق البلاط سوف يغدو مكاناً مميزاً يقف الزوار لزيارته. وهناك أيضاً العديد من الأسواق كسوق حوش الزراعة الذي أنشئت فيه عدة خانات وكان مركزاً للصناعات والأواني النحاسية والحرفية، وفيه الكثير من الأبنية والجدرانيات الجميلة والتي تجمع ما بين الفن العربي والغربي بأسلوب مميز.
أماكن العبادة: لقد بنى الزحليون أولى كنائسهم حوالى عام 1700 فكانت سيدة الزلزلة ومن ثم بنيت كنيسة مار الياس المخلصية وهي ثاني أقدم الكنائس، وفي حوالى عام 1720 بني دير سيدة النجاة ذو الفن الهندسي المعماري الجميل والبرج العالي. داخل هذا الدير أيقونة رائعة للعذاراء قدمها ملك بفاريا لزحلة. وحوالى سنة 1748 بنيت كنيسة مار ميخائيل ذات القناطر الداخلية الرائعة ومن بعدها بنت الرهبنة الشويرية دير مار الياس الطوق سنة 1755 بعقوده الرائعة وهندسته البديعة، إلى جانب العديد من الكنائس والمزارات أبرزها تمثال سيدة زحلة والبقاع. ففي عام 1968 افتتح أعلى برج في البقاع بعلو 54 متراً تستطيع من خلاله مشاهدة مناظر رائعة وهو مقام لسيدة زحلة والبقاع، في داخل مصعد يصلك إلى تمثال من البرونز بعلو عشرة أمتار للعذراء مريم من صنع الفنان الإيطالي بيروتي.
تكتنز زحلة آثاراً قديمة تدل على أن تاريخها يعود على الأقل إلى (3000-1200 ق.م.) لكن ليس هناك من دراسات علمية في هذا المجال، إذ يمكننا مشاهدة كهوف ما بين صخور وادي العرائش وفي التلال المحيطة بالمدينة، كما نجد آثار مقابر من حجر وبرونز، والعديد من بقايا الجرر والفخاريات القديمة.
الآثار المحيطة
الكـرك: تروي التقاليد المحلية أن مياه الطوفان العظيم غمرت سهل البقاع وحولته إلى بحيرة رست على ضفافها سفينة نوح فعاش بقية حياته فيها، وهذا ما يفسر وجود قبره في الكرك وهو عبارة عن قبر طوله 42 متراً وعرضه 2.5 متراً موجود داخل البلدة. ولقد بنيت جدرانه من بقايا أبنية رومانية تزينها نقوش وكتابات عربية قديمة.
الفرزل: تقع بلدة الفرزل البقاعية على بعد ستة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من زحلة في لحف سلسلة جبال لبنان التي يشرف عليها جبل صنين. وهي بلدة قديمة اشتهرت في القرن الميلادي كمركز أسقفي، بيد أن تاريخها المؤكد يعود إلى العصر الروماني على أقل تحديد.
وتحتوي الفرزل في وسطها على بقايا معبد روماني بني على الطراز الكورنثي، وكان مكرساً على ما يبدو لعبادة الإله أبولون. وما زالت أٍساسات هذا المعبد ظاهرة للعيان حتى اليوم، في حين تنتشر بينها بعض حجارته المزخرفة والمرموقة بعدد من الكتابات التذكارية.
وعلى مسافة تنازهر كيلومتر ونصف من بلدة الفرزل، وفي المنطقة المعروفة بوادي حبيس، ترتفع جروف صخرية شاهقة تحيط بالوادي ويخترقها عدد من المغاور المتقاربة التي أٍهمت الطبيعة من جهة ويد الإنسان من جهة أخرى في حفرها وإعطائها شكلها الحالي. وفي العصور المسيحية الأولى وفي غضون العصر البيزنطي، تحولت هذه المغاور بعد تهذيبها إلى مستقر لجماعة من النساك الذين اختاروا العيش فيها، بحيث أضحت تعرف بمغر الحبيس. وتحتوي غالبية هذه المغاور على حوض أو بركة محفورة في وسطها، كانت تستعمل لجمع المياه. وفي الموقع أيضاً كوة أو مشكاة محفورة في الصخر، تظهر في داخلها منحوتة مخروطية الشكل، وتبدو وكأنها تمثل معبوداً معيناً بحسب تقاليد محلية بعيدة عن التأثيرات الرومانية من حيث رفضها إعطاء المعبودات أشكالاً بشرية.
أما صخور ضفة الوادي اليمني، فقد قطعت لتشكل فناء مربع الشكل يفضي إلى قاعة محفورة في الجرف عبر أربع درجات.
مهما يكن من أمر هذه المغاور وجهة استعمالها وتاريخ تهذيبها، فمن المؤكد أنه جرى استعمال بعضها لأغراض مدفنية من جهة ودينية عبادية من جهة أخرى. أما من حيث استعمالها للسكنى، فلا بد من القول ان استكشاف مغاور الجبال اللبنانية أثبت أن عدداً كبيراً منها يحتوي على بقايا سكنية ومتاع يعود إلى فترات تاريخية مختلفة، منذ الألف الرابع قبل الميلاد حتى القرون الوسطى.
وعلى مسافة نحو عشرين دقيقة من مغر الحبيس سيراً على الأقدام، يؤدي الدرب الترابي إلى منحوتة صخرية تتوسطها نخلة وإلى يسارها صورة إله شاب فارس تحيط برأسه هالة من نور، ويرتدي وشاحاً مبكلاً على كتله. ويمسك الفارس بلجام حصانه بيده اليمنى، فيما يحمل كرة أو قرصاً مستديراً بيده اليسرى. وإلى يمين النخلة صورة شخص، قد يمثل جنياً عارياً، إلا من رداء يتدلى على كتفيه، حاملاً في يده اليمنى عذق بلح وفي اليسرى جدياً وباقة ضخمة من السنابل أو النباتات الأخرى. وعلى الرغم من صعوبة تفسير المنحوتة بسبب التشويه الذي لحق بها، فهي تمثل بدون شك إلهاً شمسياً يشرف على تجدد الكون وخصوبته.
ومن هذا الموقع الفريد يمكن إلقاء نظرة على المقالع الرومانية الضخمة التي تحاكي أشكالها مدينة أشباح قائمة بين الصخور والجروف.
نـيحـا: في بلدة نحيا معبد فينيقي للإله حدارانيس وبقربه معبد صغير لإله المياه، وعند دخولك نحو ثلاثة مئة متر سوف تظهر أمامك قلعة نيحا الأثرية وحصنها الجميل وهي آثار رومانية ما زالت حتى اليوم تحافظ على رونقها وجمالها.
تمنين الفوقا: تحتوي تمنين الفوقا على معبد روماني يسمى جب الجيش، ولقد أقيم إكراماً لإله الماء. وسوف تعجب بمظهره الخارجي ذو الرونق الجميل وهندسته البديعة.
قصرنبا: في أعالي بلدة قصرنبا يقع معبد روماني جميل جدا وعلى مدخله تصادف مدرجاً رائعاً يتجه إلى الشرق حيث يقال إنه يصل بك إلى نبع عين السفلي بطول حوالى كيلومتر، ومن الجهة الشمالية للآثار سوف تجد مقلعاً جميلاً أخذت منه الحجارة لبناء هذا المعبد.
تعنايل: إنها على الطريق الممتدة ما بين شتورة والحدود السورية وهي دير ومزرعة تخص الآباء اليسوعيين، أنشأوا فيها مركزاً جامعياً للهندسة الزراعية. تحتوي تعنايل على بحيرة طبيعية جميلة جداً إلى جانب مناظر خلابة.
كفر زبد وعين كفر زبد: في وسط سلسلة جبال لبنان الغربية وبالتحديد في الجهة المقابلة لمدينة زحلة وعلى بعد حوالى 14 كلم من مدخل زحلة غرباً سوف تجد أمامك بقايا آثار معبدين رومانيين ومنحوتات على الصخور تمثل الآلهة فينوس المعروفة في المنطقة ببنت الملك، وفي سفح الجبل هناك مغارة جميلة جداً تزينها رواسب كلسية متحجرة من الطوالع والنوازل يستطيع الهاوي الولوج إلى داخلها لمسافة 125 متراً مستعملاً الجبال.
عـنـجـر
تعتبر مدينة عنجر الأثرية الواقعة على بعد 58 كلم إلى الشرق من بيروت نموذجاً لما كانت عليه المحطات التجارية الكبرى التي يتحدث عنها التاريخ القديم والوسيط. فقد أقيمت على مقربة من أحد أهم منابع أو عيون نهر الليطاني في موقع مميز على خارطة الطرقات التي كانت تشق البقاع في الأزمنة القديمة والوسيطة.
يشكل موقع عنجر عقدة رئيسة تلتقي عندها الطرق التي كانت تصل مناطق سوريا الشمالية بشمال فلسطين وتلك التي كانت تصل الساحل بغوطة دمشق. وقد أسهم في ازدهارها في العصور القديمة والوسيطة، ولا يزال، وجود عين تتفجر عند سفوح جبال لبنان الشرقية، وهي العين التي أعطت المدينة اسمها الحالي. فقد أطلق على تلك العين اسم "عين جرا" نسبة إلى جرّا، وهي حصن قديم ورد ذكره في أيام حكم خلفاء الاسكندر المقدوني، أي في غضون ما يسمى بالعصر المتأغرق أو الهلنستي.
وعلى الرغم من موقعها المميز هذا، تختلف عنجر اختلافاً أساسياً عما سواها من المواقع والمدن الأثرية الأخرى في لبنان. فعلى عكس صيدا وصور أو بيروت وجبيل أو طرابلس وبعلبك التي شهدت تسلسلاً تاريخياً متواصلاً منذ إنشائها حتى اليوم، تعاقبت فيه الحقب والثقافات بشكل قل مثيله، فإن عنجر تبدو وكأنها منشأة عابرة لم تعش أكثر من بضع عشرات من السنين في بدايات القرن الثامن للميلاد.
وباستثناء مسجد بعلبك الأثري الكبير الذي بني في الفترة عينها، فإن عنجر تشكل الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العصر الأموي، تلك الحقبة الزاهرة في تاريخ الحضارة العربية.
تاريخ عنجر: دام حكم بني أمية الذين أسسوا أول سلالة وراثية حاكمة في الإسلام، زهاء مئة سنة، إذ استمروا في الحكم من 660م حتى 750م. وبفضل عدد من الخلفاء العظام اتسعت حدود الدولة الإسلامية حتى بلغت السند شرقاً وجنوب فرنسا غرباً. بيد أن الخلفاء الأمويين، وعلى الرغم من انشغالهم بإدارة شؤون امبراطورية مترامية الأطراف، احتضنت في كنفها ثقافات وحضارات وتقاليد مختلفة. فقد أبقوا على الأواصر التي كانت تربطهم بالقبائل البدوية التي كان لها شأن كبير في بسط سيطرتهم على تلك الأصقاع الواسعة. فكانوا لا يعزفون عن مغادرة العاصمة دمشق، ولا سيما في أيام الربيع، لقضاء بعض الوقت على تخوم بادية الشام، متنقلين بين تلك القبائل، فيمضون أوقاتهم في الصيد برفقة شيوخها ويستمتعون بسماع شعرائها وقصاصيها. ورغبة في البقاء على اتصال بهذه القبائل، أما الخلفاء على تلك التخوم مضارب صيد واستجمام، ما لبثت أن تحولت إلى مستقرات مشيدة بالحجر، تلعب دوراً متشعب الوجوه. فكانت تلك المنشآت قصوراً وقلاعاً من جهة، ومراكز إنتاج زراعي وتجارة من جهة أخرى، بالإضافة إلى دورها في نشر نمط عيش مدني، كان من شأنه استجلاب البدو إلى التحضر والاستقرار.
في هذا الإطار الحضاري وفي ظل تلك السياسة التي أنتهجها خلفاء بني أمية، أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بإنشاء مدينة عنجر المحصنة على بعد نحو كيلومتر واحد إلى الجنوب الغربي من النبع المعروف بعين جرا. ولتنفيذ مشروعه، استعان الخليفة بعدد من المهندسين والحرفيين والصناع البيزنطيين والسوريين العارفين بتقاليد العمارة والزخرف القديمة الموروثة من أيام الرومان والإغريق. وقد استخرج هؤلاء الحجارة اللازمة للمشروع من عدد من المقالع المجاورة كمقالع بلدة كامد اللوز، كما نقلوا أعداداً من العناصر البنائية الأخرى، كالأعمدة وقواعدها وتيجانها وتعتيباتها، من بقايا الأبنية الرومانية والبيزنطية التي عثروا عليها في جوار، الموضع الذي كان يقوم فيه حصن جرا.
غير أن حياة عنجر لم تدم طويلاً بعد وفاة مؤسسها. فقد دمرها الخليفة مروان سنة 744 على إثر انتصاره على منازعه إبراهيم بن الوليد في معركة دارت رحاها على مقربة منها. وما لبثت البلدة أن أخذت تتداعى حتى تحولت في القرن الرابع عشر إلى تلال من الأطلال والتراب وسط مساحات شاسعة من المستنقعات. وظلت على هذه الحال حتى سنة 1943، عندما بدأت المديرية العامة للآثار اللبنانية أعمال استكشافها.
وعلى الرغم من أن الحفريات الأثرية وأعمال الترميم قد تناولت موقع عنجر منذ الخمسينات، فإن الموقع ما زال يحتفظ ببعض أسراره ولا سيما من حيث علاقته بحص جرا. ومن الملاحظ، من ناحية أخرى، أن مدينة الوليد لم تكن بعد قد اكتملت عندما دمرها مروان الثاني، وهذا ما يظهر من خلال وجود أجزاء واسعة في داخلها لم يعثر فيها على أية بنى من أي نوع كانت، اللهم إلا إذا كانت تلك المساحات تشكل ما يمكن اعتباره حيزاً من الخضرة أعد للتنزه داخل أسوارها.
زيارة الموقع: بنيت مدينة عنجر على مخطط مستطيل الشكل، وأقيم حولها سور يبلغ طوله 370 متراً وعرضه 310 أمتار. وقد دعمت الأسوار من الجهة الخارجية بستة وثلاثين برجاً نصف دائري كما دعمت زواياها بأربعة أبراج دائرية. وتبلغ سماكة هذه الأسوار نحو مترين، فيما يربو ارتفاعها عن سبعة أمتار. وهي مشيدة بالحجر الكلسي بشكل جعلت فيه وجهتا البناء، الخارجية المطلة على السهل والداخلية المطلة على المدينة، من الحجر المقصوب. فيما ركم الفراغ بينهما بمزيج من الحجر الغشيم والحصى وطين الكلس. وتنتشر هنا وهناك على واجهة السور الخارجية خربشات يصل عددها إلى ستين خربشة نقشها بعض الزائرين أو سكان المدينة في العصر الأموي، ومن بينها واحدة تعود إلى عام 741ميلادي.
أما الأبنية التي تقوم داخل المدينة، فقد بنيت على أسلوب شاع استعماله في العصر البيزنطي، ويعتمد على تعاقب مداميك الحجر ومداميك طوب الفخار. ويشكل هذا الأسلوب وسيلة للتخفيف من ثقالة البنيان ولإعطاء البناء شيئاً من المرونة تمكنه من مواجهة خطر الزلازل، بالإضافة إلى كونه يعتمد على تقنية بنائية سريعة التنفيذ ومتواضعة الكلفة.
أقيم السور بشكل تواجه فيه واجهاته الأربع الجهات الأربع الرئيسية، وفتح في وسط كل منها باب يحيط به برجان نصفيان. وتم شق طريقين رئيسيين يصل إحداهما الباب الشمالي بالباب الجنوبي. ويصل الآخر الباب الشرقي بالباب الغربي، بحيث أنهما يلتقيان في وسط المدينة ويقطعانها إلى أربعة أحياء، بموجب النمط العمراني الذي كان يعتمد عند إنشاء الثكن العسكرية الرومانية، والذي شاع استعماله عند بناء المدن الحديثة منذ أيام الرومان وحتى العصر البيزنطي. ويشكل التقاء هذين الطريقين ما يعرف في تاريخ العمارة بالبوابة الرباعية التي استخدمت في إنشائها عناصر بنائية قديمة تم استخراجها من أحدى المنشآت الرومانية. كما تخترق وسط شوارع المدينة شبكة من المجارير المعدة لتصريف المياه المبتذلة وقد جهزت بالفتحات اللازمة لمراقبتها وتنظيفها. وبهدف التركيز على دور عنجر كمركز للتبادل التجاري، أقيم في المدينة نحو 600 حانوت، يتم الدخول إليها والخروج منها من الأروقة المسقوفة الواقعة على جانبي الطريقين.
ويحتل الحي الجنوبي الشرقي مكانة مرموقة بين أحياء عنجر، إذ يحتوي ما يعرف بالقصر الكبير ومسجد المدينة، فيما تتوزع البيوت والمساكن أنحاء الحي الجنوبي الغربي. أما الحي الشمالي الشرقي فيحتوي قصراً آخر يعرف بالقصر الصغير. يقوم في الجهة المقابلة للمسجد، كما يحتوي حماماً أقيم على مقربة من بوابة المدينة الشمالية. أما الحي الشمالي الغربي، فيحتوي بدوره على حمام صغير بالإضافة إلى بنية لم تحدد وظيفتها بعد، وقد تكون أساساً لقصر ثالث لم يكن العمل فيه قد انتهى بعد عند تدمير المدينة وهجرها.
ومن الملفت للنظر أن هذه القصور الثلاثة قد اعتمدت تصميماً يكاد يكون واحداً. فمجمعها يتألف من أربعة أبنية أقيمت حول فناء داخلي واحد ويحيط بها جدار مشترك يشكل لها حرماً. ويفضي هذا الفناء إلى قاعتي استقبال تتألفان من ثلاثة أسواق متوازية، ينتهي سوقها الرئيسي بحنية، فيما يفضي من جانبيه الآخرين إلى الغرف الخاصة وإلى الغرف الواقعة في الطابق العلوي.
أما مسجد المدينة المحاذي للقصر الكبير من جهة الشمال، فمقاييسه متواضعة نسبياً، إذ يبلغ عمقه نحو 10 أمتار، واتساعه 20 متراً، ومحرابه يتوسط جداره القبلي المطل على القصر. ويتألف هذا المسجد من قاعة صلاة ومن صحن لا سقف عليه، يحتوي بئراً تؤمن الماء لحوض الوضوء. ولصحن المسجد بابان أحدهما يفضي إلى الشارع الرئيسي الممتد من ال شرق إلى الغرب، وآخر يفضي إلى السوق الواقع عند تقاطع الشارعين. أما مساكن الحي الجنوبي الغربي، فقد توزعت بين عدد من الحارات التي تفصل بينها أزقة متعامدة، وتتألف كل واحدة منها من بيتين إلى أربعة أو ستة بيوت. وتكاد جميع بيوت عنجر تعتمد التصميم عينه، إذ تتألف من صحمن غير مسقوف يحيط به عدد من الغرف.
وعلى مقربة من بوابة المدينة الشمالية حمام يعتمد في تصميمه على النمط التقليدي الشائع في الحمامات الرومانية والبيزنطية، والذي وصل إلينا عبر الحمامات العربية والتركية. ويتألف هذا الحمام من غرفة انتظار أو استراحة، تعلوها قبة مرفوعة على اربع دعائم، تليها الغرفة الباردة فالفاترة فالحارة.