الموسيقى في العصر العباسي

    حين قام بنو عباس على أنقاض بني أمية، بدأ عصر جديد للعرب ووضعت أسس الحياة الفكرية العظيمة في القرون التالية، وانتقل مركز النشاط الموسيقي من دمشق إلى بغداد. ودخلت الموسيقى مع سائر الفنون والآداب في عصرها الذهبي خصوصا في عهد هارون الرشيد الذي أصبح اسمه يقترن، في الفكر العربي والعالمي دون استثناء، بالأمجاد العربية في الفنون والآداب والتي صورت أحيانا كالأساطير. وقد ورد ذكر هارون الرشيد مئات المرات في قصص ألف ليلة وليلة التي كانت كلها حافلة بأعظم ما يصوره الإنسان من عظمة الرقص والغناء.

ولا بد أن مجموعة المواهب الموسيقية التي اجتمعت في بلاط الرشيد لقيت الملايين من الأموال المنفقة عليها. ومن أهم الذين استفادوا: إبراهيم الموصلي، ابن جامع، زلزل، إسحاق الموصلي وغيرهم. وكان ابن هارون الرشيد المفضل يسمى أبا عيسى، موسيقيا مجيدا ونجده يشترك في الحفلات الموسيقية في البلاط مع أخيه أحمد.

كذلك كان شغف معظم الخلفاء العباسيين عميقاً بالفن والموسيقى. فقد كان الواثق أول خليفة يعتبر موسيقيّاً حقيقياً. ويشهد حماد بن إسحق الموصلي بأنه أعلم الخلفاء بهذا الفن، وأنه كان مغنيا بارعا وعازفا ماهرا على العود. وقد لقي الفن من التشجيع والكرم في بلاطه ما يجعل المرء يظن أنه تحول إلى معهد للموسيقى على رأسه
إسحق الموصلي، بدلا من كونه مجلسا لأمير المؤمنين. وكان هارون ابن الخليفة موسيقيا موهوبا وعازفا لامعا.

رغب العباسيون في التفوق على مجد الساسانيين القدماء فبزخوا في سبيل العلم والفن. فتأسست في عهدهم المكتبات وبنيت المعاهد والمستشفيات والمعامل.

ومن الطبيعي أن يتقدم فن الموسيقى في هذه الظروف الملائمة. فظهر في العهد أشهر المغنين في
الإسلام. ولعل كتابات الكندي في الموسيقى هي أول بحوث جادة في هذا الفن في تاريخنا العربي. والجدير بالذكر أن الكندي في "رسالة في خبر تأليف الألحان" استعمل الرموز والأحرف الأبجدية للتدوين. فكان أول تدوين موسيقي عرفه العرب.

يتضح أن الموسيقى العربية في العصر العباسي بلغت ذروة مجدها من ناحيتي الأداء الغنائي وانتشار العلوم والبحوث والدراسات الموسيقية. واستمرت بغداد حتى منتصف القرن التاسع الميلادي مركزاً حيوياً تنبعث منه إشعاعات النهضة الموسيقية العربية. وكان الغناء هو مظهر النشاط الوحيد في الموسيقى العربية. وفي أوائل القرن العاشر الميلادي بدأت الموسيقى العربية تتأثر بأذواق دخيلة، بعضها من الفرس والبعض الآخر من المغول والأتراك وغيرهم من الشعوب التي اتصلت من طريق الحرب أو التجارة بالشعوب العربية.. وكانت نتيجة هذا الاتصال ظهور سِمة غريبة في الموسيقى العربية لم تكن مألوفة من قبل، وهي الاهتمام البالغ بالموسيقى الآلية وتفضيلها غالبا على الغناء العربي التقليدي. وكان القالب الموسيقي المعروف في ذلك الوقت هو نوع من المتتبعات الغنائية تسمى النوبة، وهي عبارة عن متتاليات تتكون من عدة أجزاء يسبق كل جزء منها افتتحاية موسيقية خاصة. وقد أتاحت هذه الطريقة لعازفي الآلات فرصة الأداء الآلي المتتابع. وتمت بعد ذلك مرحلة مهمة هي بدء تقديم هذه المتتبعات بأداء موسيقي مرتجل تمخضت عنه التقاسيم الموسيقية التي ترتجل على الآلات العربية والتي لا تزال حتى اليوم مصاحبة الموال. ورغم انتشار العود في ذلك الوقت، إلا أن بعض الآلات الموسيقية الأخرى أخذت تستخدم بكثرة، وأهمها القانون الذي استخدم في سورية كثيرا منذ القرن العاشر الميلادي. وخلال هذا القرن استخدمت أول آلة موسيقية ذات القوس وهي الرباب. وكان القوس حينئذ يشبه القوس المستخدم في الحروب.

استطاع العرب منذ القرن التاسع الميلادي أن يترجموا معظم البحوث التي كتبت عن الموسيقى الإغريقية إلى اللغة العربية. وكان أهم هذه البحوث ما تعلق بالسلم الموسيقي اليوناني والنظريات الموسيقية بصفة عامة. وقد اقتبس العرب كثيرا من النظريات الموسيقية اليونانية، حتى إن طريقة العزف على العود تغيرت بناء على ما أحدثه هذا الاقتباس من تغيير جذري في الأداء.

كما استطاع العرب في سنوات قلائل أن يتفوقوا على الإغريق أنفسهم بعد أن أضافوا من عبقريتهم قواعد وأساليب جديدة في العزف والتلحين والأداء. وقد اعترف الإغريق بذلك اعترافا صحيحا لا لبس فيه. وبعد ذلك أدخلت الموسيقى العربية كمادة تعليمية في المدارس والجامعات. وتعترف الدوائر الموسيقية الغربية أن العرب استطاعوا بين القرن التاسع والثالث عشر الميلادي أن يضعوا حوالى مائتي مصنف متفرع في سائر الفنون والعلوم الموسيقية، كما اعترفوا أن أربعة من هذه المصنفات ذات أهمية بالغة، حتى إنها أثرت في الموسيقى الغربية وهي:

1- رسالة في خبر تأليف الألحان للكندي ويوجد هذا المخطوط الآن في المتحف البريطاني. وهو يشتمل على أول بحث في نظرية الموسيقى العربية، وفيه طرق خاصة للتدوين الموسيقي.

2- كتاب الموسيقى الكبير للفارابي وهو أعظم الكتب الموسيقية التي كتبت على الإطلاق.

3- الجزء الخاص في كتاب الشفاء للرئيس
ابن سينا، وفيه جزء مهم للغاية عن النظرية الموسيقية العربية.

4- كتاب الأدوار لصفي الدين. ويعترف كروسلي هولاند أن كل من كتب في النظريات الموسيقية بعد صفي الدين اعتمد اعتماداً كبيراً على كتاب الأدوار وجعله أساسا لبحوثه ودراساته.

يتضح من كل ما تقدم، أن الموسقى العربية بلغت شأنا عظيما عندما امتدت الإمبراطورية الإسلامية من الخليج إلى المحيط، ثم امتدت شمالا إلى أواسط أوروبا وجنوبا إلى الهند.. ولا شك أنها أثرت تأثيراً مباشراً أو ملموساً في موسيقى هذه الرقعة الشاسعة من العالم. حتى إن النهضة الموسيقية الغربية التي ظهرت منذ القرن السادس عشر في أوروبا، بدأت خطواتها الأولى باعتمادها تماما على ما وصل إليه العرب من تقدم في المجالين النظري والعملي في موسيقاهم.

 



بغداد
الفارابي
اسحق الموصلي