الموسيقى في العصر الأندلسي

    حدثت النهضة الموسيقية في الأندلس ما بين القرنين الثامن والخامس عشر الميلادي، تلك النهضة التي ما كادت تنطفئ في الأرض العربية منذ القرن الخامس عشر حتى تلقفها الغرب لتشتعل من جديد في أوروبا منذ أوائل القرن السادس عشر. وقد دخل الإسلام إسبانيا عام 713م ونشأت خلافة أموية منفصلة أقامت عاصمتها في قرطبة عام 755م حيث مارست هذه الخلافة سياسة مستقلة تماما عن الخلافة الشرقية في بغداد.

أنشأ المغاربة مدارس مختلفة في الأندلس في القرن التاسع الميلادي قصدوا بها أن تتفوق على المدارس التي نشأت قبل ذلك في بغداد. وأصبحت قرطبة بعد ذلك مركزاً موسيقياً وثقافياً ممتازاً. ومن أبرز الموسيقيين العرب الذين ظهروا في ذلك الوقت
زرياب العظيم كما أسمته معظم دوائر الغرب. ولا شك أن زرياب يعتبر إمام الغناء العربي وأبرز من ظهر خلال الحضارتين العباسية في بغداد والأموية في قرطبة. وقد تتلمذ زرياب على إسحق الموصلي ودرس الموسيقى الفارسية والعربية الشرقية وأصبح ذا ثقافة عريقة مكّنت عبقريته وتفرده اللحني أن يصل مكانة لم يصل إليها موسيقي عربي من قبل. وقد غنى زرياب في بلاط عبد الرحمن بن الحكم الذي استدعاه وأكرم وفادته بعد أن فرّ من بغداد. وقد كانت فرصة سانحة لتزدهر الموسيقى العربية التقليدية وتنتقل إلى آفاق جمالية جديدة.

أعظم شخصية موسيقية ظهرت في تاريخ الموسيقى العربية في إسبانيا هي شخصية
الفارابي الذي استخدم العود ذو الأوتار الخمسة بدل الأربعة، وكذلك استخدم الطنبور والشهرود والقيثارة والزهر والكنّارة والقانون
والرباب والكمنجة والمزمار والسرناي (آلة تركية الأصل) والناي والشبابة والصفارة، إضافة إلى الآلات الإيقاعية وآلات النفخ النحاسية.

أهم الفنون الموسيقية التي ابتكرت أثناء الحضارة العربية في الأندلس كان فن الموشح. وقد استحدث الموشح عندما شعر عرب الأندلس بحاجتهم في هذه البيئة الجديدة إلى التحرر من قيود أوزان الشعر التي التزموها طوال حياتهم في غنائهم. لذا نظمت الموشحات لتلائم الغناء والموسيقى دون أي التزام جامد بعلوم العروض والقافية التي خضع لها الشعر العربي عامة والغنائي خاصة منذ نشأته. وقامت في العصر الأندلسي حركة ترجمة واسعة النطاق. فقد نقل من العربية إلى اليونانية ما كتبه فحول المفكرين العرب أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد. كما نقل إلى العربية الكثير من الكتب اليونانية، خصوصا في النظريات وباقي العلوم الموسيقية. كما ترجمت كتب عربية كثيرة إلى لغات أجنبية، ومن هذه الكتب مؤلفات ثابت بن قرة وزكريا الرازي و
إخوان الصفا وابن باجة.

وبعد سقوط الأندلس، انتقلت الآلات الموسيقية العربية كالعود والقيثارة والطنبور.. إلى أوروبا، كما انتقلت أيضا ألحان هذه الآلات. وبعد ذلك بدأت أوروبا بفضل هذا التأثير العربي الواضح أن تعد نفسها لتقيم أكبر نهضة موسيقية عرفها التاريخ. وعند سقوط حضارة العرب في الأندلس، انتقل عدد كبير من سكان هذه البلاد إلى شمال إفريقيا. لذا، فإن الموسيقى الأندلسية تركت أثرا كبيرا في طابع موسيقى هذه البلاد، يمكن أن نلحظ أثره حتى وقتنا هذا.

وفي الميدان الموسيقي كانت أوروبا لا تعرف سوى شذرات ضئيلة من النظريات الموسيقية الإغريقية، بينما توصل العرب منذ القرن الثامن الميلادي إلى عمل بحوث ودراسات فاقت النظريات والدراسات الموسيقية الإغريقية ذاتها. وقد ترجمت بحوث الفارابي إلى اللغة اللاتينية وأصبحت مراجع قيّمة للباحثين والدارسين الأوروبيين فيما بعد.

ومن الدلائل الواضحة على تأثر أوروبا بالحضارة العربية أن طائفة التروبادور في فرنسا اتصلت اتصالا وثيقا بالثقافات الشرقية، خصوصا أثناء الحرب الصليبية. لذا يظهر في الفن التروبادوري الطابع العربي والشرقي بصورة واضحة، وبصفة خاصة طابع الغناء الأندلسي. وكذلك أتيحت فرصة للمنشدين المتجولين التابعين للبلاد العربية في أن يتجولوا في أوروبا عارضين غناءهم التقليدي الذي صادف هوى في نفوس كثير من الشعوب الأوروبية. ومن المعتقد أن الغناء الأوروبي خلال القرن الثالث عشر كان ذا نكهة شرقية واضحة. وبعض الإيقاعات التي كانت تستخدم في أوروبا في ذلك الوقت انحدرت من أصل مغربي وثبتت نسبتها إلى أصول عربية.

تلت هذه المرحلة، أي بعد سقوط حضارة العرب في الأندلس استيلاء الأتراك على القسطنطينية. وكانوا يحبون الموسيقى حبا شديداً حتى إنهم شجعوا ممارستها والاستماع إليها. وقد كان الخلفاء العثمانيون يحتفظون في قصورهم بعدد من الموسيقيين والمغنين الممتازين. لذا ازدهرت موسيقاهم إلى درجة أنها أثرت في موسيقى الشرق الأدنى وشبه جزيرة البلقان. وقد تُرجم كثير من الأعمال والنظريات الموسيقية العربية إلى اللغة التركية التي اتخذها هؤلاء المغنون لغة لهم.

 



بغداد
الفارابي
اسحق الموصلي