الجزء الثاني - كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين - باب من أخبار المحارفين الظرفاء

باب من أخبار المحارفين الظرفاء

منهم أبو الشمقمق الشاعر وكان أديباً طريقاً محارفاً وكان صعلوكاً متبرماً بالناس وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج فينظر من فروج الباب فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه‏.‏

فأقبل إليه يوماً بعض إخوانه الملطفين له فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له‏:‏ أبشر أبا الشمقمق فإنا روينا في بعض الحديث‏:‏ إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة‏.‏

فقال‏:‏ إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازاً ثم أنشأ يقول‏:‏ أنا في حال تعالى الله ربي أي حال ليس لي شيء إذا قي ل لمن ذا قلت ذا لي ولقد أفلست حتى محت الشمس خيالي ولقد أفلست حتى حل أكلي لعيالي وله‏:‏ أتراني أرى من الدهر يوماً لي فيه مطية غير رجلي له والعوّام ولا عقب له‏.‏

وكتب يزيدُ بن عبد الملك إلى عُمال عمرَ بن عبد العزيز‏:‏ أما بعد فإن عمرَ كان مغروراً غررتموه أنتم وأصحابكم وقد رأيتُ كُتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة‏.‏

فإذا أتاكم كتابي هذا فدَعُوا ما كنتم تَعرِفون من عَهده وأعيدوا الناسَ إلى طَبقتهم الأولى أخْصَبوا أم أجْدَبوا أحبُّوا أم كَرِهوا حَيُوا أم ماتوا والسلام‏.‏

أبو الحسن المَدائني قال‏:‏ لما وَلي يزيدُ بن عبد الملك وجه الجيوشَ إلى يزيد بن المُهلب فعَقد لمسلمة بن عبد الملك على الجيش وللعبّاس بن الوليد على أهل دِمشق خاصة‏.‏

فقال له العباس‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أهل العراق قومُ إرجاف وقد خَرجنا إليهم محاربين والأحداثُ تَحدُث فلو عهدتَ إلى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك‏.‏

قال‏:‏ غداً إن شاء الله‏.‏

وبلغ مَسلمةَ الخبرُ فأتاه فقال له‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أولاد عبد الملك أحب إليك أم أولاد الوليد قال‏:‏ ولدُ عبد الملك‏.‏

قال‏:‏ فأخوك أحقُّ بالخلافة أم ابنُ أخيك قال‏:‏ بل أخي إذا لم يكن ولدي أحقُّ بها من ابن أخي‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين فإن ابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ولابنك الوليد من بعده‏.‏

قال‏:‏ غدا أن شاء اللّه‏.‏

فلما كان من الغد بايع لهشام ولابنه الوليد من بعده والوليدُ يومئذ ابنُ إحدى عشرة سنة‏.‏

فلما انقضى أمرُ يزيدَ بن المهلَّب وأدرك الوليدُ نَدِم يزيد على استخلاف هشام فكان إذا نظر فكتب إليه هشام‏:‏ إن مثلي ومثلك كما قال الأول‏:‏ ومَن لم يُغمَض عينَه عنِ صديقِه وعَن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتبُ ومَن يَتتبّع جاهداً كل عَثرة يَجدْها ولا يَبقى له الدهرَ صاحب فكتب إليه يزيد‏:‏ نحن مُغتفرون ما كان منك ومُكذَبون ما بلغنا عنك مع حِفْظ وصيّة أبينا عبد الملك وما حَضَّ عليه من صلاح ذات البين‏.‏

وإني لأعلُم أنك كما قال مَعن بن أوس‏:‏ لَعمرك ما أدْرِي وإني لأوْجلُ علىِ أيّنا تَعْدو المنية أولُ وإني على أشياء منكَ تَريبني قديماً لذو صَفْح على ذاك مُجْمِل ستَقطع في الدُّنيا إذا ما قَطعتَني يمينَك فانظر أيّ كفِّ تبدَّل إذا سُؤْتني يوماً صفحتُ وإلى غدٍ ليَعْقُبَ يوماً منك آخَرُ مُقْبِل إذا أنتَ لم تُنْصف أخاك وجدتَه على طَرَف الهِجْران إن كان يَعْقل ويَركبُ حدَ السيف مَن أنْ تَضِيمَه إذا لم يكن عن شَفْرة السيف مَزْحل وفي الناس إن رثّت حبالُك واصلٌ وفي الأرض عن دار القِلَى مُتحوَّل فلما جاءه الكتابُ رَحل هشام إليه‏:‏ فلم يزل في جواره إلى أن مات يزيد وهو معه يا عسكره بن بكار قال‏:‏ كان يزيدُ بن عبد الملك كَلِفاً بحَبابة كلفاً شديداً فلما تُوفيت أكبّ عليها يتشمّمها أياماً حتى أنتنت فأخذ في جِهازها وخَرج بين يدي نَعشها حتى إذا بلغ القبرَ نزل فيه‏.‏

فلما فَرغ من دَفنها لصق به مَسلمة أخوه يُعزَيه ويؤنسه‏.‏

فقال‏:‏ قاتل الله ابنَ أبي جُمعة‏!‏ كأنه كان يرى ما نحن فيه حيث يقول‏:‏ فإن تَسْلُ عنكِ النفسُ أو تَدَع الهوى فباليَأس تَسْلو عنك لا بالتجلدِ وكلّ خَليل زارني فهو قائلٌ من أجْلك هذا مَيِّت اليوم أو غدِ قال‏:‏ وطُعن في جَنازتها فدفنّاه إلى سبعة عشرَ يوماً‏.‏

خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان ثم بُويع هشامُ بن عبد الملك بن مَرْوان يُكنى أبا الوليد‏.‏

وأمُّه أم هشام بنت هشامِ بن إسماعيل بن هشام المخزوميّ - يومَ الجمعة لخمس ليالي بَقين من شعبان سنة خمس ومائة‏.‏

ومات بالرُّصافة يوِم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابنُ ثلاث وخمسين سنة‏.‏

وصلّى عليه الوليدُ بن يزيد‏.‏

وكانت خلافته عشرين سنة‏.‏

أسماء ولد هشام بن عبد الملك معاوية وخَلف ومَسلمة ومحمد وسُليمان وسَعيد وعبدُ اللّه ويزيد - وهو الأبكم - ومَروان وإبراهيم ويحيى ومُنذر وعَبد الملك والوليد وقُريش وعبد الرحمن‏.‏

وكان على شُرطته كعب بن عامر العَبْسي‏.‏

وعلى الرَّسائل سالم مولاه‏.‏

وعلى خاتم الخلافة الرّبيعُ مولى لبني الْحريش وهو الربيع بن ساخبور‏.‏

وعلى الخاتم الصغير أبو الزُّبير مولاه‏.‏

وعلى ديوان الخراج والجُند أسامة بن زيد ثم عَزله وولّى الحَثْحاث‏.‏

وعلى إذنه غالبُ بن مسعود مولاه‏.‏

أخبار هشام بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان عبد الملك بن مَروان رَأى في مَنامه أنّ عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المُغيرة المَخزومي فلقَت رأسَه فقطعتْه عشرين قطعة‏.‏

فغمّه ذلك فأرسل إلى سعيد بن المُسيب فقصّها عليه‏.‏

فقال سعيد‏:‏ تلَد غلاماً يملك عشرِين سنة‏.‏

وكانت عائشةُ أم هشام حَمْقاء فطلقها عبدُ الملك لحُمْقها وولدتْ هشاماً وهي طالق ولم يكن في ولد عَبد الملك أكملُ من هشام‏.‏

قال خالدُ بن صَفوان‏:‏ دخلتُ على هشام بن عبد الملك بعد أن سَخط على خالد بن عبد الله القَسْريّ وسلّط عليه يوسفَ بن عمر عاملَه على العراق فلما دخلتُ عليه استدناني حتى كنتُ أقربَ الناس إليه فتنفّس الصُّعَداء ثم قال‏:‏ يا خالد رُب خالد قعد مقعدك هذا أشهى إلىّ حديثاً منك‏.‏

فعلمتُ أنه يريد خالدَ بن عبد الله القَسرىّ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أفلا تُعيده قال‏:‏ هيهات إن خالداً أدلّ فأملّ وأوجف فأعجف ولم يَدع لمُراجع مَرجعاً على أنه ما سألني حاجةً قط‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين فلو أدْنيتَه فتفَضّلت عليه قال‏:‏ هيهات‏!‏ وأنشد‏:‏ إذا انصرفتْ نَفْسي عن الشيَّء لم تَكُن عليه بوَجهٍ آخرَ الدَهر تُقْبِلُ قال أصبغ بن الفَرج‏:‏ لم يكن في بني مَرْوان من مُلوكها أعطرَ ولا ألبس من هشام خَرج حاجًّا فحَمل ثيابَ طُهره على ستمائة جَمل‏.‏

ودَخل المدينةَ فقال لرجل‏:‏ انظر مَن في المسجد‏.‏

فقال‏:‏ رجل طويل أدْلمِ‏.‏

قال‏:‏ هذا سالمُ بن عبد اللهّ ادعه‏.‏

فأتاه فقال‏:‏ أجِبْ أمير المؤمنين وإن شئت أرْسِل فتُؤْتى بثيابك‏.‏

فقال‏:‏ ويحك‏!‏ أتيتُ اللّه زائراً في رِداء وقَميص ولا أدخل بهما على هشام‏!‏ فدخل عليه فوصله بعشرة آلاف‏.‏

ثم قَدِم مكة فقَضى حجه فلما رجع إلى المدينة قيل له‏:‏ إن سالماً شديدُ الوَجع فدَخل عليه وسأله عن حاله‏.‏

ومات سالمٌ فصلِّى عليه هشام وقال‏:‏ ما أدْري بأي الأمرين أنا أسرّ‏:‏ بحِجتي أم بصَلاتي على سالم‏.‏

قال‏:‏ ووقف هشامٌ يوماً قريباً من حائط فيه زَيتون له فسمع نَفْض الزيتون فقال لرجل‏:‏ انطلق إليهم فقُل لهم‏:‏ التقطوه ولا تَنفُضوه فتفقئوا عُيونه وتَكسروا غصونه‏.‏

وخرج هشام هارباً من الطاعون فانتهى إلى دَير فيه راهب فأدخله الراهبُ بًستانَه فجعل يَنْتقي له أطايبَ الفاكهة والبالغَ منها‏.‏

فقال هشام‏:‏ يا راهب هَبْني بستانَك هذا‏.‏

فلم يُجبه‏.‏

فقال‏:‏ مالك لا تتكلِّم فقال‏:‏ وَدِدْتُ أن الناس كلَهم ماتوا غيرَك‏.‏

قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لعلّك أن تَشبع‏.‏

فالتفت هشام إلى الأبرش فقال‏:‏ أتسمع ما يقول قال الأبرش‏:‏ بلى واللّه ما لقيك حر غيره‏.‏

العُتبيّ قال‏:‏ أنّي لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيمُ ابن محمد بن طلحة وصاحب حَرَس هشام حتى قعدا بين يديه فقال الحَرَسي‏:‏ إن أمير المؤمنين جَراني في خصومة بينه وبين إبراهيم‏.‏

قال القاضي‏:‏ شاهدَيك على الجراية‏.‏

فقال‏:‏ أتُراني قلتُ على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه الستارة قال‏:‏ لا ولكنه لا يَثْبت الحقُّ لك ولا عليك إلا ببينة‏.‏

قال‏:‏ فقام فلم يَلْبث حتى قَعقعت الأبوابُ وخرج الحرسي فقال‏:‏ هذا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فقام القاضي فأشار إليه فقَعد وبَسط له مُصلى فقعد عليه هو وإبراهيم وكُنّا حيث نَسمع بعضَ كلامهما ويحفى علينا البعضُ‏.‏

قال‏:‏ فتكلّما وأحضرت البيّنة فقضى القاضي على هشام‏.‏

فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخُرق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أبان للناس ظُلمك‏.‏

فقال هشام‏:‏ لقد هَممتُ أنْ أضربَك ضربةً يَنْتثر منها لحمًك عن عَظمك‏.‏

قال‏:‏ أما والله لئن فعلتَ لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القَرابة واجب الحقّ‏.‏

قال له‏:‏ استُرها عليّ يا إبراهيم‏.‏

قلت‏:‏ لا سَتر الله عليَّ ذنبي إذاً يومَ القيامة‏.‏

قال‏:‏ إنّي مُعطيك عليها مائة ألف‏.‏

قال إبراهيم‏:‏ فسترتُها عليه طولَ حياته ثمناً لما أخذتُ منه وأذعتُها عنه بعد موته تزييناً له‏.‏

وذكروا عن الهَيثم ابن عَدي قال‏:‏ كان سعيدُ بن هشام بن عبد الملك عاملًا لأبيه على حِمْص وكان يُرْمَى بالنساء والشراب فقَدِم حِمصيُّ لهشام فلقيه أبو جَعد الطائي في طريق فقال له‏:‏ هل تَرى أنْ أعطيَك هذه الفرس فإني لا أعلم بمكانٍ مثلَها على أنْ تُبلِّغ هذا الكتابَ أميرَ المؤمنين ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم فأخذها وأخذ الكتابَ‏.‏

فلما قدم على هشام سأله‏:‏ ما قِصة هذه الفرس فأخبره‏.‏

فقال‏:‏ هاتِ الكتاب فإذا فيه‏:‏ أبْلِغ إليك أميرَ المُؤمِنين فقدْ أمدَدتَنا بأميرِ ليس عِنِّينَا عَوْراً يُخالف عمراَ في حَليلتِه وعند ساحته يُسْقَىَ الطِّلا دِينا قلما قرأ الكتاب بعث إلى سَعيد فأشخصه فلما قدمِ عليه عَلاه بالخَيْزرانة وقال‏:‏ يا بن الخبيثة تَزني وأنت ابن أمير المؤمنين‏!‏ ويلك‏!‏ أعجزت أن تَفْجُر فجور قريش أوَ تدري ما فُجور قريش لا أم لك قتْلِ هذا وأخْذ مال هذا واللهّ لا تلي لِه عملاً حتى تموت‏.‏

قال قال‏:‏ فما وَلى له عملاَ حتى مات‏.‏

أحمد بن عُبيد قال‏:‏ أخبرني هشام الكلْبي عن أبي محمد بن سُفيان القُرشيّ عن أبيه قال‏:‏ كُنَّا عند هشام بن عبد الملك وقد وَفد عليه وفدُ أهل الحجاز وكان شبابُ الكُتَّاب إذا قَدم الوفدُ حضروا لاستماع بلاغة خُطبائهم فحضرتُ كلامهم حتىِ قام محمد بن أبي الجهم بن حُذيفة العَدوىّ وكان أعظَم القوم قدراً وأكبَرهم سنّاَ فقال‏:‏ أصلح اللّه أميرَ المؤمنين إنّ خُطباء قريش قد قالت فيك ما قالت وأكثرتْ وأطنبت واللّه ما بلغ قائلُهم قدرَك ولا أحصى خطيبُهم فضلَك وإن أذنْتَ في القول قلتُ قالت‏:‏ قُل وأوجز‏.‏

قال‏:‏ تولاك الله يا أميرَ المؤمنين بالحُسنى وزينك بالتَقوى وجَمع لك خير الآخرة والأولى إن لي حوائج أفأذكرها قال‏:‏ هاتها‏.‏

قال‏:‏ كَبُر سني ونال الدهرُ مني فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يَجْبر كَسْري ويَنْفِيَ فَقري فَعل‏.‏

قال‏:‏ وما الذي يَنْفي فقرَكِ ويَجْبر كسرك قال‏:‏ ألفُ دينار وألفُ دينار وألفً دينار‏.‏

قال‏:‏ فأطرق هشام طويلاً ثم قال‏:‏ يا بن أبي الجهم بيتُ المال لا يَحتمل ما ذكرتَ ثم قال له‏:‏ هيه‏.‏

قال‏:‏ ما هيه أما والله إن الأمر لواحد ولكن الله آثرك بمجلسك فإن تعطنا فحقّنا أديتَ وإن تمنعنا فنَسأل الله الذي بيده ما حَويتَ‏.‏

يا أمير المؤمنين إنّ الله جعل العَطاء محبّة والمنع مَبْغضة‏.‏

والله لأن احبك أحبُّ إليً من أن أبغضك‏.‏

قال‏:‏ فألفُ دينار لماذا قال‏:‏ أقضي بها ديناً قد حان قضاؤُه وقد عَنَاني حملُه وأضرّ بي أهلُه‏.‏

قال‏:‏ فلا بأس نُنفِّس كرْبة ونؤدي أمانة‏.‏

وألفُ دينار لماذا قال‏:‏ أزوَج بها من بَلغ من وَلدي‏.‏

قال‏:‏ نِعم المَسلكُ سلكتَ أغضضتَ بصراً وأعففتَ ذكَراً وأمَّرت نسلاً‏.‏

وألفُ دينار لماذا قال‏:‏ أشتري بها أرضاً يعيش بها ولدي‏!‏ وأستعين بفضلها على نوائب دَهري وتكون ذُخراً لمن بعدي‏.‏

قال‏:‏ فإنا قد أمرنا لك بما سألت‏.‏

قال‏:‏ فالمحمودُ اللّه على ذلك وخَرج‏.‏

فأتبعه هشام بصرَه وقال‏:‏ إذا كان القُرشي فليكن مثلَ هذا ما رأيتُ رجلاً أوجزَ في مقال ولا أبلغَ في بيان منه‏.‏

ثمِ قال‏:‏ أما والله إنّا لنعوف الحق إذا نزل ونَكْره الإسرافَ والبَخَلَ وما نُعطي تَبذيراً ولا نمنع تَقتيرا وما نحن إلا خُزَّانُ اللّه في بلاده وأمناؤه على عِباده فإذا أذن أعطينا وإذا مَنع أبينا ولو كان كل قائل يَصدُق وكل سائل يَستحق ما جَبَهْنا قائلًا ولا رَدَدنا سائلًا‏.‏

ونَسأل الذي بيده ما استحفَظَنا أن يُجْرِيه على أيدينا‏.‏

فإنه يَبْسط الرِّزق لمن يشاء ويَقدر إنه بعباده خَبير بصير‏.‏

فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد تكلّمت فأبلغتَ وما بلغ في كلامه ما قَصصت‏.‏

قال‏:‏ إنه مُبتدىء وذكروا أنّ العبّاس بن الوليدَ وجماعةً من بني مَرْوان اجتمعوا عند هشام فذكروا الوليد بن يزيدَ وعابوه وذمّوه وكان هشام يُبغضه ودخل الوليدُ فقال له العبّاس‏:‏ يا وليد كيف حُبّك للروميًات فإن أباك كان مشغوفاً بهن قال‏:‏ كيف لا يكون وهُن يَلدْن مثلَك قال‏:‏ ألا تسكت يا بن البَظْراء قال‏:‏ حَسْبك أيها المُفتخر علينا بخِتان أمه‏.‏

وقال له هشام‏:‏ ما شرابُك يا وليد قال‏:‏ شرابُك يا أمير المؤمنين وقام فخرج‏.‏

فقال هشام‏:‏ هذا الذي زَعمتموه أحمق‏!‏ وقَرَّب الوليدُ بن يزيد فرسَه جراميزَه ووَثب على سرجه ثم التفت إلى ولد هشام وقال له‏:‏ هل يقدر أبوك أن يصنع مثل هذا قال‏:‏ لأبي مائة عبد يَصنعون مثلَ هذا‏.‏

فقال الناس‏:‏ لم يُنصفه في الجواب‏.‏

العُتبي عن أبيه قال‏:‏ سمعتُ معاوية بن عَمرو بن عُتبة يحدَث قال‏:‏ إني لقاعد بباب هشام بن عبد الملك وكان الناسُ يتقرّبون إليه بعَيب الوليد ابن يزيد قال‏:‏ فسمعتُ قوماً يعيبونه فقلت‏:‏ دَعُونا من عَيب مَن يلزمنا مَدْحُه ووَضْع مَن يجب علينا رَفعُه‏.‏

وكانت للوليد بن يزيد عيونٌ لا يَبرحون بباب هشام فنقلوا إليه كلامي وكلامَ القوم فلم ألبث إلا يسيراً حتى راح إليّ مولُى للوليد قد التحف على ألف دينار فقال لي‏:‏ يقوِل لك مولاي‏:‏ أنفق هذه في يومك وغداً أمامَك‏.‏

قالت‏:‏ فمُلئت رُعباً من هشام وخشيت سطوتَه ورماه الله بالعلّة فدفنّاه لثمانيةَ عشرَ يوماً بعد ذلك اليوم‏.‏

فلما قام الوليدُ بعده دخلت عليه فقال لي‏:‏ يا بن عُتبة أتراني ناسياً قُعودَك بباب الأحول يَهْدَمني وتبنيني ويَضَعني وتَرْفعني فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين شاركتَ قومَك في الإحسان وتفردّت دونهم بإحسانك إليّ فلستُ أحمد لك نفسي في اجتهاد ولا اعذُرها في تَقصير وتَشهد بذلك ألسنةُ الجائزين بنا ويُصَدِّق قولَهم الفِعالُ منا‏.‏

قال كذلك أنتم لنا آلَ أبي سُفيان وقد أقطعتُك مالي بالبَثَنِيَّة وما أعلم لقُرشي مثلَه‏.‏

وقال عبدُ الله بن عَبْد الحَكم فقيه مِصْر‏:‏ سمعتُ الأشياخ يقولون‏:‏ سنةَ خمس وعشرين ومائة أديل من الشرف وذَهبت المُروءة وذلك عند مَوْت هشام بن عبد الملك‏.‏

قال أبو الحسن المدائنيّ‏:‏ مات هشامُ بن عبد الملك بالذبْحة يوم الأربعاء بالرُّصافة في ربيع الآخر لستٍ خلَوْن منه سنة خمس وعشرين ومائة وصلّى عليه مَسْلمة بن هشام أو بعضُ ولده واشتُريَ له كفَن من السوق‏.‏

خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بُويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من ربيع الآخر سنة خَمس وعشرين ومائة‏.‏

وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف‏.‏

وقُتل بالبخراء من تَدْمر على ثلاثة أميال يومَ الخميس لليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة سنة ستٍ وعشرين ومائة وهو ابنُ خس وثلاثين أو لسِتٍ وثلاثين‏.‏

قال حاتم بن مُسلم‏:‏ ابن خَمس وأربعين وأشهر‏.‏

وكانت ولايتَه سنة وشَهرين واثنين وعشرين يوماً‏.‏

فأولُ شيء نَظر فيه الوليدُ أن كَتب إلى العباس ابن الوليد بن عبد الملك أن يَأْتي الرصافة يُحْصي ما فيها من أموال هشام وولده ويأخذُ عُماله‏!‏ وحَشمه إلا مَسلمة بن هشام فإنه كَتب إليه أن لا يَعْرض له ولا يدخل منزله‏.‏

وكان مَسلمة كثيراً ما يكلم أباه في الرفق بالوليد‏.‏

ففَعل العبًاس ما أمره به‏.‏

وكَتب الوليدُ بن يزيد إلى يوسف بن عمر فقَدِم عليه من العراق فدَفع إليه خالدَ بن عبد الله القَسريّ ومحمداً وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المَخزومي وأمره بقَتلهم‏.‏

فحدث أبو بِشْر بن السرِيّ قال‏:‏ رأيتُهم قدِم بهم يوسفُ بن عُمر الحِيرةَ وخالدٌ في عَباءة في شِقِّ مَحْمُل فعذبهم حتى قَتلهم‏.‏

ثم عَكف الوليدُ على البَطَالة وحُب القِيان والمَلاهي والشراب ومُعاشقة النساء فتَعشَق سُعدى بنت سَعيد بن عمرو بن عثمان بن عفّان فتزوّجها‏!‏ ثم تَعشَّق أختَها سَلْمى فطفَق أختَها سُعدى وتزوج سَلمى فرجعت سُعدى إلى المدينة فتزوّجت بِشْر بن الوليد بن عبد الملك‏.‏

ثم نَدِم الوليدُ على فِراقها وكلِف بحُبِّها فدَخلِ عليه أشعبُ المُضحك فقال له الوليد‏:‏ هل لك على أن تبلّغ سُعدى عني رسالةَ ولك عشرون ألفَ دِرْهم قال‏:‏ هاتِها فدَفعها إليه‏.‏

فقبَضها وقال‏:‏ ما رسالتُك قال‏:‏ إذا قدمتَ المدينة فاستأْذِنْ عليها وقل لها‏:‏ يقول لك الوليد‏:‏ أسُعْدى ما إليك لنا سَبيل ولا حَتَّى القيامة مِن تلاقِي بَلى ولعلّ دهراً أن يُؤَاتي بمَوْت مِن حلِيلكِ أو فِراق فأتاها أشعبُ فاستأذن عليها وكان نساءُ المدينة لا يَحْتجبن عنه فقالت له‏:‏ ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب قال‏:‏ يا سيدتي أرسلني إليك الوليدُ برسالة‏.‏

قالت‏:‏ هاتِها‏.‏

فأنشدها البيتين‏.‏

فقالت لجواريها‏:‏ خُذْن هذا الخبيث‏.‏

وقالت‏:‏ ما جَرأك على مثل هذه الرسالة قال‏:‏ إنها بعشرين ألفاً معجّلة مَقْبوضة‏.‏

قالت‏:‏ واللّه لأجلدنك أوْ لَتبلَغنه ما أبلغتني عنه‏.‏

قال‏:‏ فاجعلي لي جُعلا‏.‏

قالت‏:‏ بِساطِي هذا‏.‏

قال‏:‏ فقُومي عنه‏.‏

فقامت عنه وطَوى البِساط وضمه ثم قال‏:‏ هاتِي رسالتَك‏.‏

فقالت له‏:‏ قل له‏:‏ أتَبْكي على سُعْدى وأنت تَرَكْتها فقد ذَهبت سُعدى فما أنت صانعُ ولا بُدّ لك من إحداها‏:‏ إما أن أقْتلك وإما أن أطْرحك للسِّباعِ فتأكلَك وإما أن ألقيك من هذا القَصر فقال أشعبُ‏:‏ يا سيدي ما كُنتَ لتعذب عينين نَظرتا إلى سُعدى‏.‏

فضَحِك وخَلَّى سبيله وأقامت عنده سَلْمى حتى قُتل عنها‏.‏

وهو القائل في سَلْمى‏:‏ شاع شِعْري في سُليمى وظَهرْ ورَواه كل بَدْو وحَضَرْ وتَهادَتْه الغَواني بينها وتَغَنَين به حتى انتشر لو رأينا من سُليمى أثراً لسَجدنا ألفَ ألفٍ للَّاثر واتخذناها إماماً مُرْتضى ولكانت حَجَّنا والمُعْتَمر إنما بِنْتُ سعيدٍ قمر هل حَرِجْنا إنْ سَجدنا للقمر وفيها يقول قبل تزوّجه لها‏:‏ حدَّثوا أنَّ سليمى خَرجتْ يومَ المُصلّى فإذا طيرٌ مَليح فوق غُصْن يَتفلّى قلتُ‏:‏ يا طيرُادْنُ مني فدَنا ثم تَدلّى قلتُ هل تَعْرف سَلْمى قال لا ثم تَوَلى لعلّ اللهّ يَجمعني بسَلمَى أليس الله يَفْعل ما يشاء وَيَأتي بي ويَطْرحَني عليها فيُوقِظَني وقد قُضي القَضَاء وُيرْسلَ ديمةً مِن بعد هذا فتغسلها وليس بنا عَناء وقال فيها بعد تزوّجه لها‏:‏ أنا في يُمْنى يَدَيْها وهي في يُسرى يدَيَّه إنّ هذا لقَضاء غيرُ عَدْل يا أخيه ليتَ مَن لام مُحِبًّا في الهَوى لًاقَى منيّه فاستراح الناسُ منه مِيتةً غير سويّة قال‏:‏ ولهج الوليدُ بالنساء والشرّاب والصَّيْد فأرسل إلى المدينة فحملوا له المُغَنِّين فلما قَربوا منه أمر أن يَدْخلوا العسكرَ ليلا وكَره أن يراهم الناس فأقاموا حتى أمسَوا غيِرَ محمد بن عائشة فإنه دخل نهاراً فأمر الوليدُ بحَبسه فلم يزل محبوساً حتى شرب الوليدُ يوماً فطَرِب فكلمه مَعبد فأمر الوليدُ بإخراجه ودعاه فغنَاه فقال‏:‏ أنت ابنُ مسلنطح البِطاح ولم تَطْرُق عليك الحُنِيّ والوُلجُ فرضي عنه وكان سعيدٌ الأحوصُ ومَعبَد حين قدما على الوليد نزلا في الطريق على غَدير يا بيتَ عاتكة الذي أتعزّل حَذَرَ العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ فقال لها‏:‏ يا جارية لمن أنت فقالت‏:‏ كنت لآل الوليد بن عُقبة بالمدينة فاشتراني مولاي وهو من بنى عامر بن صعصعة أحد بني الوَحيد من بني كلاب وعنده بنتُ عمّ له فوهبنى لها فأمرتني أن أستقي لها‏.‏

فقالا لها‏:‏ فلمن الشعرُ قالت‏:‏ سمعتُ بالمدينة أن الشعرَ للأحوص والغناء لمعبد فقال مَعبد للأحوص‏:‏ قل شيئاً أغنِّى عليه‏.‏

فقال‏:‏ إنّ زَين الغدير مَن كسر الْج رِّ وغَنَى غِناء فَحْل مُجيدِ قلتُ‏:‏ مَن أنتِ يا مَليحة قالت‏:‏ كنتُ فيما مَضى آل الوليد ثم قد صِرْتُ بعد عِز َقريش في بنى عامرٍ آل الوَحيد وغِنائي لمعبدٍ ونشيدِي لفتَى الناس الأحوص الصِّنديد فتضاحكت ثم قلتً أنا الأحْوص والشيخُ مَعبدٌ فأعيدي فأعادتْ وأحسنت ثم ولّت تتهادَى فقلتُ أمّ سعيد يَقْصر المال عن شِراكِ ولكن أنت في ذِمه الإمام الوليد وأمّ سعيد كانت للأحوص بالمَدينة فغنّى مَعبد على الشِّعر‏.‏

فقال‏:‏ ما هذا فاخبراه فاشتراها الوليد‏.‏

قال أبو الحسن‏:‏ وقال ابنُ أبي الزِّناد‏:‏ إنِّي كنتُ عند هشام وعنده الزّهري فذُكر الوليد فتنقّصاه وعاباه عيباً شديداً ولم أعْرض لشيء مما كانا فيه فاستأذن فأذن له فدَخل وأنا أعرفُ الغَضب لا وجهه فجَلس قليلاً ثم قام‏.‏

فلما مات هشام‏:‏ كَتب بي فحُملت إليه فرحّب بي وقال‏:‏ كيف حالك يا بن ذكوان وألطفَ المسألة‏.‏

ثم قال‏:‏ أتذكر هشاماً الأحول وعنده الفاسقُ الزُّهري وهما يَعيباني فقلت‏:‏ أذكر ذلك ولم أعْرض لشيء مما كانا فيه‏.‏

قال‏:‏ صدقتَ أرأيتَ الغُلام الذي كان على رأس هشام قائماً قلتُ‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإنه نَمّ إلىّ بما قالاه‏.‏

وايم اللّه لو بقى الفاسقُ الزهري لقتلتُه‏.‏

قلت‏:‏ قد عرفتُ الغضبَ في وجهك حين دخلتَ‏.‏

قال‏:‏ يا بن ذكوان ذَهب الأحولُ‏.‏

قلت‏:‏ يُطيل اللّه عُمرك وُيمتّع الأمة ببقائك‏.‏

ودعا بالعشاء فتعشَّينا وجاءت المغرب فصلًينا وتحدّثنا حتى حانت العشاء الآخرة فصلّينا وجلس‏.‏

فقال‏:‏ اسقني فجاؤوا بإِناء مُغطَّى وجيء بثلاث جوار فصُفِفن بيني وبينه حتى شرب وذَهَبْن فتحدثّنا واستسقى فصنعوا مثلَ ذلك‏.‏

فما زال كذلك يَستَسقى ويتحدّث ويَصنعون مثل ذلك حتى طلع الفجر فأحصيت له سبعين قدحاً‏.‏

على بن عياش قال‏:‏ إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشُراعة من الكوفة فواللّه ما سأله عن نَفسه ولا عن مَسيره حتى قال له‏:‏ يا شُراعة إني والله ما بعثتُ إِليك لأسألك عن كتاب الله وسُنِّة رسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ واللّه لو سألتَني عنهما لوجدتَني فيهما حماراً قال‏:‏ إنما أرسلتُ إِليك لأسألك عن القهوة‏.‏

قال‏:‏ دِهْقانُها الخَبير ولُقمانها الحكيم وطبيبُها العليم‏.‏

قالت‏:‏ فأخبرني عن الشراب قال‏:‏ يَسأل أميرُ المؤمنين عما بدا له‏.‏

قال‏:‏ ما تقول في الماء قال‏:‏ لا بُد لي منه والحمارُ شريكي فيه‏.‏

قالت‏:‏ ما تقول في اللَّبن ما رأيتُه قط إِلا استحييتُ من أمي لطُول ما أرْضَعتني به‏.‏

قال‏:‏ ما تقول في السويق قال‏:‏ شرابُ الحَزين والمُستعجل والمَريض‏.‏

قال‏:‏ فنبيذُ التمر قال‏:‏ سريعُ المَلْء سريعُ الآنفشاش‏.‏

قال‏:‏ فنبيذ الزَبيب قال‏:‏ تلهَّوْا به عن الشراب‏.‏

قال‏:‏ ما تقول في الخَمر قال‏:‏ أوهِ‏!‏ تلك صَديقة رُوحي‏.‏

قال‏:‏ وأنت والله صديقُ رُوحي‏.‏

قال‏:‏ فأيّ المجالس أحبُّ قال‏.‏

ما شُرب الكأسُ قطُّ على وَجه أحسنَ من السماء‏.‏

قال أبو الحسن‏:‏ كان أبو كامل مُضحكا غَزِلا مُغنّيا‏!‏ فغنّى الوليدَ يوماً فطَرِب فأعطاه قَلَنْسوة بَرُودا كانت عليه فكان أبو كامل لا يَلبسها إلا في عيد ويقول‏:‏ كَسانيها أميرُ المؤمنين فأنا أصُونها وقد أمرتُ أهلي إذا مِتُّ أن تُوضع في أكفاني‏.‏

وله يقول الوليد‏:‏ مَن مُبْلِغ عني أبا كامل أنّي إذا ما غاب كالهابِل وزادني شوقاً إلى قُرْبه ما قد مَضىَ من دَهرنا الحائل إنّي إذا عاطيتُه مُزَّةً ظَلْت بيوم الفَرَح الجاذل قال‏:‏ وجلس الوليدُ يوماً وجاريةٌ تُغَنيه فأنشدها الوليدُ‏:‏ قالت الجارية المغنية‏:‏ لو أتممتَ الشعر غنيتُ به‏.‏

قال‏:‏ لست أرويه وكتب إلى حماد الراوية فحُمل إليه‏:‏ فلما دخل عليه قال له الوليد‏:‏ قينة في يمينها إِبريق فأنشد حماد الراوية‏:‏ ثم نادى ألا أصبحُوني فقامتْ قينةٌ في يمينها إِبريقُ فَذَمَته على عُقار كعَينْ الدِّيك صَفَّى لسُلافَه الرَّاووق مُزَةً قبل مَزْجها فإذا ما مُزِجت لذَ طَعْمُها مَن يذوق وكتب الوليدُ إلى المدينة فحمل إليه أشعب فألبسه سراويل جِلد قِرْد له ذَنب وقال له‏:‏ ارقُص وغَنّ صوتاً يعجبني فإن فعلتَ أعطيتُك أسف درهم‏.‏

فرَقص‏!‏ وغَنى فأعجبه فأعطاه ألف درهم‏:‏ وأنشد الوليدُ هذا الصوتَ‏:‏ علِّلاني واسقيانِي مِن شَراب أصْفهاني من شَراب الشيخ كِسْرَى أو شرابً الهُرْمزَان إنَّ بالكأس لمِسْكاً أو بكَفَّيْ من سَقاني إنما الكأسُ ربيعٌ يُتعاطى بالبَنانْ وصَفْراء في الكأس كالزَعْفَران سَباها الدَهاقينُ من عَسْقلانِ لها حَبَبٌ كلما صفقت تراها كلَمعة بَرْق يَماني وقال أيضاً‏:‏ ليت حَظي اليومَ من كل ل مَعاش لي وزَادِ قهوة أبذُل فيها طارفي بعد تِلادي فيظل القلبُ منها هاشماً في كل وادِي إنّ في ذاك فَلاحي وصَلاحي ورشادي وقال امدح الكأسَ ومَن أعملها واهجُ قوماً قتلونا بالعَطشْ إنما الكأس ربيعٌ باكر فإذا ما لم نَذُقها لم نعِشْ وبلغ الوليدَ أن الناس يَعيبونه ويتنقصونه بالشراب وطَلب اللّذات فقال في ذلك‏:‏ ولقد قضيتُ ولم يُجَلِّل لمتي شَيب على رَغم العِدا لذَّاتي مِن كاعباتٍ كالدُّمَى ومَناصفٍ ومَراكب للصَّيد والنّشوات وقال معاويةُ بن عمرو بن عُتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناسُ وطَعنوا عليه‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه يُنطقني الأنْس بك وتُسْكتني الهيبةُ لك وأراك تأمن أشياء أخافُها عليك أفأسكت مُطيعاً أم أقول مُشفقاً قال‏:‏ كل مَقْبول منك وللهّ فينا عِلمُ غيب نحن صائرون إليه‏.‏

فقُتل بعد ذلك بأيام‏.‏

وقال الوليد إذا أكثر الناسُ القولَ فيه‏:‏ خُذوا مُلْكَكم لا ثَبت الله مُلْكَكم ثباتاً يُساوى ما حييتُ عِقالَا دَعُوا لي سُليْمى معْ طِلاء وقَيْنة وكأسٍ ألا حَسْبي بذلك مالا أبا لملكِ أرْجو أن أخلَد فيكم ألا رب مُلكٍ قد أزيل فَزالا ألا رُب دارٍ قد تحَمّل أهلُها فأضحتْ قِفاراً والقِفار حِلالا قال إسحاق بن محمد الأزرق‏:‏ دخلتُ على مَنصور بن جُمْهور الكَلْبي بعد قَتْل الوليد بن يزيد وعنده جاريتان من جَواري الوليد فقال لي‏:‏ اسمع مِن هاتين الجاريتين ما يقولان‏.‏

قالتا‏:‏ قد حدَثناك‏.‏

قال‏:‏ بل حَدَثاه كما حَدّثتُماني‏.‏

قالت إحداهما‏:‏ كُنّا أعزَّ جواريه عنده فنَكح هذه وجاء المُؤذّنون يؤذّنونه بالصلاة فأخرجها وهي سَكْرى جُنبة متلثّمة فصلّت بالناس‏.‏

مقتل الوليد بن يزيد إسماعيل بن إبراهيم قال‏:‏ حدثني عبدُ اللّه بن واقد الجَرْمي وكان شَهدَ مقتل الوليد قال‏:‏ لما أجمعوا على قَتله فقدوا أمرَهم يزيدَ بن الوليد بن عبد الملك فخرج يزيدُ بن الوليد بنِ عبد الملك فأتى أخاه العباس ليلاً فشاوره في قَتل الوليد فنهاه عن ذلك فأقبل يزيد ليلاً حتى دخل دمشقَ في أربعين رجلاً فكسروا باب المَقصورة ودخلوا على واليها فأوثقوه وحَمل يزيدُ الأموال على العَجل إلى باب المِضمار وعَقد لعبد العزيز بن الحجَّاج بن عبد الملك ونادى مًناديه‏:‏ من انتدب إلى الوليد فله ألفان فانتدب معه ألفا رجل وضَم مع عبد العزيز ابن الحجاج يعقوبَ بن عبد الرحمن ومنصور بن جُمْهور‏.‏

وبلغ الوليدَ بن يزيد بن عبد الملك ذلك فتوجّه من البلقاء إلى حِمْص وكتب إلى العباس ابن الوليد أن يأتيه في جند من أهل حمص وهو منها قريب وخرج حتى انتهى إلى قمر في بَرية ورَمل من تَدْمر على أميال وصبحت الخيلُ الوليدَ بالبخراء‏.‏

وقدم العباسُ بن الوليد بغير خَيل فحَبسه عبدُ العزيز ابن الحجّاج خلفه ونادى مُنادي عبد العزيز‏:‏ مَن أتى العبّاسَ بن الوليد فهو آمن وهو بيننا وبينكم‏.‏

وظَن الناس أن العبّاس مع عبد العزيز فتفرقوا عن الوليد وهجم عليه الناس‏.‏

فكان أول من هجم عليه السريّ بن زياد بن أبي كَبشة السَّكْسكيّ وعبد السلام اللِّخمي فأهوى إليه السري بالسيف وضَربه عبد السلام على قَرنه فقُتل‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وحدَثني عبدُ الله بن واقد قال‏:‏ حدّثني يزيد بن أبي فَرْوة مولى بني أمية قال‏:‏ لما أتي يزيدُ برأس الوليد بن يزيد قال لي‏:‏ انْصِبه للناس قلتُ‏:‏ لا أفعل إنما ينصب رأسُ الخارج‏.‏

فحلف ليُنصبنّ ولا يَنصبه غيري‏.‏

فوُضع على رمح ونصب على دَرج مَسجد دمشق‏.‏

ثم قال‏:‏ اذهب فطُف به في مدينة دمشق‏.‏

خليفة بن خَيّاط قالت‏:‏ حدِّثني الوليد بن هشام عن أبيه قال‏:‏ لما أحاطوا بالوليد أخذ المُصْحف وقال‏:‏ أقتل كما قُتل ابن عمي عثمان‏.‏

أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان الوليدُ صاحبَ لهو وصَيْد وشرِاب ولذَّات‏.‏

فلما وَلي الأمرَ جعل يَكره المواضعَ التي يراه الناسُ فيها فلم يدخل مدينةَ من مدائن الشام حتى قُتل ولم يزل يتنقلِ ويتصيّد حتى ثَقُل على الناس وعلى جُنده‏.‏

واشتد على بني هشام وأضرّ بهم وضرب سليمانَ بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولِحيته وغرّ به إلى عُمان فلم يزل محبوساً حتى قُتل الوليد‏.‏

وحَبس يزيد بن هشام وهو الأفقم فرَماه بنو هشام وبنو الوليد‏.‏

وكان أشدَّهم قولاً فيه يزيدُ بن الوليد وكان الناسُ إلى قوله أميلَ لأنه كان يُظهر النُّسك‏.‏

ولما دفع الوليدُ خالدَ بن عبد الله القَسريّ إلى يوسف بن عمر فقَتله غَضبت له اليمانية كلها وغيرُهم فأتوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البَيعة وخَلْع الوليد فامتنع عليهم وخاف أن لا تُبايعه الناس ثم لم يزل الناسُ به حتى بايعوه سرًا‏.‏

ولما قتل الوليد بن يزيد قام يزيدُ بن الوليد خطيباً فحمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنّي واللهّ ما خرجتً أشراً ولا بطراً ولا حِرْصاً على الدنيا ولا رغبةً في المُلك وما بي إطرِاء نَفْسي وتزكيةُ عمَلي وإنّي لَظَلوم لنفسي إن لم يَرْحمني ربي ولكنني خرجتُ غضباَ للهّ ودينه وداعياً إلى كتاب اللهّ وسُنّة نبيّه حين دَرَستْ معالمُ الهدى وطَفِىء نور التقوى وظهر الجبّار العنيد المُستحلّ للحًرمة والرَّاكب للبِدْعة والمُغيّر للسنة فلما رأيتُ ذلك أشفقتُ أن غَشِيتَكم ظلمة لا تُقلع عنكم على كَثرةٍ من ذنوبكم وقَسوة من قلوبكم وأشفقتُ أن يدعو كثيراً من الناس إلى ما هو عليه فيُجيبه من أجابه منكم فاستخرتُ اللهّ في أمري وسألتهُ أن لا يَكِلَني إلى نفسي ودعوتُ إلى ذلك مَن أجابني من أهلي وأهل ولايتي وهو ابنُ عمّي في نسبي وكُفْئي في حَسبي فأراح الله منه العباد وطَفر منه البلاد ولايةً من الله وعونَاَ بلا حَوْل منّا ولا قُوة ولكنْ بحَوْل الله وقوته وولايته وعَوْنه‏.‏

أيها الناس‏:‏ إنّ لكم علي إن وَليت أمورَكم أنْ لا أضعَ لَبِنةً على لبنة وحجراً على حجر ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسُد ثُغَرَه وأقسّم بين أهله ما يَقْوون به فإن فَضل رددتُه إلى أهل البلد الذي يَليه ومَن هو أحوج إليه حتى تستقيمَ المعيشةُ بين المُسلمين وتكونوا فيه سواء ولا أجمركم في بُعوثكم فَتُفْتنوا ويُفْتن أهاليكم فإن أردتُم بَيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به وإن مِلْتُ فلا بيعةَ لي عليكم وإن رأيتم أحداً هو أقوى عليها مني فأردتم بيعتَه فأنا أولُ من بايع ودَخل في طاعته أقوله قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم‏.‏

وقال خلفُ ين خليفة في قَتل الوليد بن يزيد‏:‏ لقتل خالد بن عبد الله‏:‏ لقد سَكَنتْ كلبٌ وأسيافُ مَذْحج صَدىً كان يَزْقْو ليلَه غيرَ راقدِ ترَكْنَا أميرَ المؤمنين بخالدٍ مُكِبا على خَيْشومه غيرَ ساجدِ فإن تَقطعوا منّا مَناط قِلادةٍ قَطعنا بها منكم مَناط قَلائد وإن تَشغلوه عَن أذان فإنّنا شَغلنا الوليدَ عن غِناء الولائد ولاية يزيد الناقص ثم بُويع يزيدُ بن الوليد بن عبد الملك في أول رجب سنة ستّ وعشرين ومائة‏.‏

وأمه ابنة يَزْدجرد بن كِسْرى سَباها قُتيبة بن مُسلم بخُراسان وبَعث بها إلى الحجّاج بن يوسف فبعث بها الحجَّاج إلى الوليد بن عبد الملك فاتخذها فولدتْ له يزيدَ الناقص ولم تَلده غيرَه‏.‏

ومات يزيدُ بن الوليد بدمشق لعشر بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة‏.‏

وهو ابن خس وثلاثين سنة‏.‏

وصلّى عليه أخوه إبراهيم بنُ الوليد بن عبد الملك‏.‏

قال عبدُ العزيز‏:‏ بُويع وهو ابنُ تسع وثلاثين سنة ومات ولم يبلغ الأربعين وعلى شُرطته بُكَير بن الشماخ اللَّخْمي‏.‏

وكاتب الرسائل ابنُ سليمان ابن سعد‏.‏

وعلى الخراج والجُنْد والخاتَم الصغير والحَرس النَصرُ بن عَمرو من أهل اليمن‏.‏

وعلى خاتَم الخلافة عبدُ الرحمن بن حًميد الكلْبيّ ويقاد قَطن مولاه‏.‏

وكتب يزيدُ بنُ الوليد إلى مَروان بن محمد بالجزيرة وبَلغه عنه تلكّأ في بَيعته‏:‏ أما بعد‏.‏

فإني أراك تُقدّم رجلاً وتُؤخِّر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئتَ والسلام‏.‏

ثم قَطع إليه البُعوث وأمر لهم بالغطاء‏.‏

فلم يَنْقُص‏!‏ عطاؤهم حتى مات يزيد‏.‏

ولما بلغ مروانَ أنّ يزيد قَطع البعوث إليه كتب ببيعته وبَعث وفداً عليهم سليمانُ بن عُلاثة العُقيلي‏.‏

ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع العلاء بن يزيد بن سِنان قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حضرت يزيدَ بن الوليد حين حضرتْهُ الوفاةُ فأتاه قَطن فقال‏:‏ أنا رسوِلُ مَن وراءَ بابك يسألونك بحق الله لو ولًيتَ أمرهم أخاك إبراهيمَ بن الوليد‏.‏

فغضِب وضرب بيده على جَبهته وقال‏:‏ أنا أوَلّي إبراهيم‏!‏ ثم قال لي‏:‏ يا أبا العلاء إلى مَن ترى أن أعهد قلت‏:‏ أمر نهيتُك عن الدخول قي أوله فلا أشير عليك بالدُّخول في آخره‏.‏

قال‏:‏ فأصابتْه إغماءةٌ حتى ظننتُ أنه قد مات ففعَل ذلك غير مرة ثم خرجتُ من عنده‏.‏

فقعَد قَطن وافتعل عهداً على لسان يزيدَ بن الوليد لإبراهيم بن الوليد ودعا ناساً فأشهدهم عليه‏.‏

قال‏:‏ والله ما عَهد إليه يزيدُ شيئاً ولا إلى أحد من الناس‏.‏

وقال يزيدُ في مرَضه‏:‏ لو كان سعيدُ بن عبد الملك قريباً مني لرأيتُ فيه رأيي‏.‏

وفي رواية أبي الحسن المَدائنيّ قال‏:‏ لما مَرض يزيدُ قيل له‏:‏ لو بايعتَ لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعدَه فقال له قيسُ بن هانيء العبسي‏:‏ اتق اللّه يا أمير المؤمنين وانظُر لنفسك وأرْض الله في عباده فاجعل وليّ عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك‏.‏

فقال يزيد‏:‏ لا يَسألني الله عن فلك ولو كان سعيدُ بن عبد الملك منّي قريباً لرأيتُ فيه رأي‏.‏

وكان يزيدُ يرى رأي القَدَرية ويقول بقَوْل غيلان‏.‏

لا يَحل لك إهمالُ أمر الأمة فبايعْ لأخيك إبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده‏.‏

فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده‏.‏

ومات يزيدُ لعشرٍ بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة‏.‏

وكان ولايتهُ خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً‏.‏

فلما قَدم مروان‏.‏

نبش يزيدَ من قَبره وصَلبه‏.‏

وكان يُقرأ في الكتب‏:‏ يا مُبذّر الكُنوز يا سجّاداً بالأسحار كانت ولايتُك لهم رحمة وعليهم حجة‏.‏

نَبشوك فَصَلبوك‏.‏

وبويع إبراهيم بن الوليد وأمه بَرْبَرية فلم يَتم له الأمر وكان يدخل عليه قومٌ فيسلِّمون بالخلافة وقوم يسلّمون بالإمرة وقوم لا يُسلمون بخلافة ولا بإمرة وجماعة تُبايع وجماعة يَأبون أن يبايعوا‏.‏

فمكث أربعة أشهر حتى قدم مروانُ بن محمد فخَلع إبراهيم وقَتل عبد العزيز بن الحجَّاج ووَلِي الأمر بنفسه‏.‏

وفي رواية خَليفة بن خَياط قال‏:‏ لما أتى مروانَ بن محمد وفاةُ يزيدَ بن الوليد دعا قيساً وربيعة ففرَض لستَّة وعشرين ألفاً من قيس وسَبعة آلاف من ربيعة وأعطاهم أعطياتهم وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي وعلى ربيعة المساور بن عقبة ثم خرج يريد الشام واستخلف على الجزيرة أخاه عبدَ العزيز بن محمد بن مَروان فتلقّاه وُجوه قيس‏:‏ الوثيق بن الهُذَيل بن زُفَر ويزيدُ بن عمر بن هُبيرة الفَزاري وأبو الوَرْد بن الهُذَيل بن زفر وعاصم بن عبد اللّه بن يزيد الهلاليّ في خمسة آلاف من قَيس‏.‏

فساروا معه حتى قَدِم حلب وبها بِشر ومَسرور ابنا الوليد بن عبد الملك أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسيرُ مروان بن محمد فالتقوا فانهزم بِشْر ومَسرور من ابن محمد من غير قتال فأخذهما مَروان فحبسهما عنده‏.‏

ثم سار مَروان حتى أتى حِمْص فدعاهم للمسَير معه والبيعة لوليي العهد‏:‏ الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد وهما مَحبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق فبايعوه وخرجوا معه حتى أتى عسكر سًليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتال شديد‏.‏

وبلغ عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سُليمان وهو مُعسكر في ناحية عَيْن الجَرّ فأقبل إلى دمشق وخرج إبراهيمُ بن الوليد من دمشق ونزل بباب الجابية وتهيأ للقتال ومعه الأموال على العجل ودعا الناس فخَذلوه‏.‏

وأقبل عبدُ العزيز بن الحجاج وسُليمان بن الوليد فدَخلا مدينة دمشق يُريدان قتل الحكم وعثمان ابني الوليد وهما في السجن‏.‏

وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القَسري فدخل السجن فقَتل يوسف بن عمر والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد وهما الحَمَلان وأتاهم رسولُ إبراهيمُ فتوجّه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليُخرج عياله فثار به أهل دمشق فقَتلوه واحتزّوا رأسه فأتوا به أبا محمد بن عبد اللّه بن يزيد ابن معاوية وكان محبوساً مع يوسف بن عمر وأصحابه فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قُيوده ورأسُ عبد العزيز بين يديه وحلّوا قُيوده‏.‏

فخطبهم وبايع لمروان وشَتمٍ يزيد وإبراهيم ابني الوليد وأمر بجُثة عبد العزيز فصُلبت على باب الجابية منكوسا وبعث برأسه إلى مروان بن محمد‏.‏

واستأمن أبو محمد لأهل دمشق فأمنهم مروان ورضي عنهم‏.‏

وبلغ إبراهيمَ فخرج هارباً حتى أتى مروان فبايعه وخلع نفسه فقَبِل منه وأمنه فسار إبراهيمُ فنزل الرّقة على شاطىء الفرات ثم أتاه كتابُ سليمان بن هشام يَستأمنه فأمّنه فأتاه فبايعه‏.‏

واستقامت لمروان بن محمد‏.‏

وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهراً‏.‏

قال أبو الحسن‏:‏ شَهرين ونصفاً‏.‏

ولاية مروان بن محمد بن مروان ثم بويع مَروان بن محمد بن مروان بن الحكم‏.‏

أمه بنت إبراهيم بن الأشتر‏.‏

قال بعضهم‏:‏ بل كانت أمه لخباز لمصعب بن الزبير أو لابن الأشتر‏.‏

واسم الخَبّاز رُزبا وقال بعضهم‏:‏ كان رُزبا عبداً لمسلم بن عمرو الباهلي‏.‏

وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح‏:‏ الحمد لله الذي أبدلنا بحِمار الجزيرة وابن أمة النخع ابنَ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنَ عبد المطلب‏.‏

وكان مروان بن محمد أحزَم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر ألا فِتْيَانَ من مُضرٍ فَيحْمُوا أسارى في الحديد مُكَبلينا أتذهبُ عامر بدمي ومُلْكي فلا غَثا أصبتُ ولا سَمينا فإن أهلك أنا ووليّ عَهدي فمروانٌ أميرُ المؤمنينا فأرِّثْ لا عدمتُك حربَ قيس فتُخرجَ منهمُ الداءَ الدًفينا ألا من مُبلغ مروانَ عني وعمي الغَمْرَ طال بدا حَنينا بأني قد ظُلمت وطال حَبْسي لدى البَخْراء في لِحِفِ مَهينا وقُتل مروانُ ببُوصير من أرض مصر في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏

الوليد بن هشام عن أبيه وعبد الله بن المُغيرة عن أبيه وأبو اليَقْظان قالوا‏:‏ وُلد مَروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين وقُتل بقَرية من قُرى مِصر يقال لها بوصير يومَ الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏

وكانت ولايتهُ خمسَ سنين وستة أشهر وعشرة أيام وأم مَروان أمة لمُصعب ابن الزبير‏.‏

وقُتل وهو ابنُ ستين سنة‏.‏

ولد مروان عبدُ الملك ومحمد وعبد العزيز وعُبيد اللّه وعبد الله وأبان ويزيد ومحمد الأصغر وأبو عثمان‏.‏

وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد مولى بني عامر بن لُؤي وكان معلَماً وكان على القضاء سُليمان بن عبد الله بن عًلاثة وعلى شُرطته الكوثر بن عُتبة وأبو الأسود الغَنوي‏.‏

وكان للحرس نُوب في كل ثلاثة أيام نوبة يلي ذلك صاحبُ النَوبة‏.‏

وعلى حِجابته صقلا ومقْلاص‏.‏

وعلى الخام الصغير عبدُ الأعلى ابن ميمون بن مِهران وعلى ديوان الجُند عمْران بن صالح مولى بني هذيل‏.‏

مقتل مروان بن محمد بن مروان قالوا‏:‏ والتقى مروانُ وعامرُ بن إسماعيل ببوِصِيرَ من أرض مِصر فقاتلوهم ليلاً وعبدُ الله وعبيدُ اللّه ابنا مروان واقفان ناحيةَ في جَمع من أهل الشام فحمل عليهم أهل خُراسان فأزالوهم عن مَراكزهم ثم كروا عليهم فهزموهم حتى ردُوهم إلى عَسْكرهم ورَجعوا إلى موِقفهم‏.‏

ثم إنّ أهلَ الشام بدَأوهم فحملوا على أهل خراسان فكُشفوا كَشْفاً قَبيحاَ ثم رجعوا إلى أماكنهم وقد مَضى عبيدُ اللّه وعبدُ الله فلم يروا أحداً من أصحابهم فمَضوا على وجوههم وذلك في السحر‏.‏

وقُتل مروان وانهزم الناسُ وأخذوا عسكر مَروان وما كان فيه وأصبحوا فاتّبعوا الفَلّ وتفرق الناس فجلعوا يَقتلون من قَدروا عليه ورجع أهلُ خراسان عنهم‏.‏

فلما كان الغدً لَحِق الناسُ بعبد الله وعُبيد اللّه ابني مروان وجعلوا يأتونهما مُتقطّعين العشرةَ والعشرين وأكثرَ وأقلَّ فيقولان‏:‏ كيف أميرُ المؤمنين فيقول بعضُهم‏:‏ تركناه يُقاتلهم ويقول بعضهم‏:‏ انحاز وثاب إليه قومٌ ولا ينْعونه حتى أتوا الحَرونَ فقال‏:‏ كنت معه أنا ومولىً له فصُرع فجرَرتُ برجله فقالت‏:‏ أوجعتَني‏.‏

فقاتلت أنا ومولاه عنه وعلموا أنه مروان فألحّوا عليه فتركتُه ولحقتُ بكم‏.‏

فبكى عبدُ اللّه‏.‏

فقال له أخوه عبيدُ اللّه‏:‏ يا ألأمَ الناس‏!‏ فررتَ عنه وتبكي عليه‏!‏ ومَضوا‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ كانوا أربعة آلاف‏!‏ وقال بعضُهم كانوا ألفين‏.‏

فأتوا بلادَ النوبَة فأجرى عليهم ملكُ النوبة ما يُصلحهم ومعهم أمُّ خالد بنت يزيد وأمُّ الحكم بنت عًبيد الله - صبية جاء بها رجل من عسكر مَرْوان حين انهزموا فدَفعها إلى أبيها - ثم أجمع ابنا مَروان على أن يَأتيا اليمن وقالا‏:‏ نأتيها قبل أن يأتيها المسوِّدة فنتحصن في حُصونها ونَدْعو الناس‏.‏

فقال لهم صاحب النُّوبة‏:‏ لا تفعلوا إنكم في بلاد السًودان وهم في عدد كَثير ولا آمن عليكم فأقيموا فأبَوْا‏.‏

قال‏:‏ فاكتُبوا إلي كتاباً فكتبوِا له‏:‏ إنا قَدِمنا بلادَك فأحسنتَ مَثْوانا وأشرت علينا أن لا نَخرج من بلادك فأبينا وخرجنا من عندك وافرَيْن راضيَيْن شاكرَيْن لك بطيبِ أنْفُسنا‏.‏

وخرجوا فأخذوا في بلاد العدوّ‏.‏

فكانوا ربما عَرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاحَ وأكثرَ من ذلك لا يعرضون له‏.‏

حتى أتوا بعضَ بلادهم فتلقّاهم عظيمُهم فاحتبسهم فطلبوا الماء فمَنعهم ولم يُقاتلهم ولم يُخلّهم وعطًشهم وكان يبيعهم القِرْبة بخمسين درهماً حتى أخذ منهم مالا عظيماً‏.‏

ثم خَرجوا فساروا حتى عَرض لهم جبلٌ عظيم بين طريقين فسلك عبدُ الله أحدَهما في طائفة وسلك عبيدُ اللّه الآخر في طائفة أخرى وظنُوا أن للجبل غايةً يَقطعونها ثم يَجْتمعون عند آخرها فلم يلتقوا‏.‏

وعَرض قومٌ من العدوّ لعُبيد الله وأصحابه فقاتلوهم فقُتل عبيد الله وأخذت أم الحكم بنته وهي صبية وقُتل رجلٌ من أصحابه وكَفُوا عن الباقين وأخذوا سلاحَهم‏.‏

وتقطع الجيشُ فجعلوا يتنكّبون العُمران فيأتون الماء فيُقيمون عليه الأيامَ فتَمْضي طائفة وتُقيم الأخرى حتى بلغ العطشُ منهم فكانوا يَنْحرون الدابّة فيَقْطعون أكراشها فيشربونه حتى وَصلوا إلى البحر بحيال المندب ووافاهم عبدُ اللّه وعليه مِقْرمة قد جاء بها‏.‏

فكانوا جميعاً خمسين أو أربعين رجلاً فيهم الحجاجُ بن قُتيبة بن مسلم الحَرون وعفْان مولِى بني هاشم فعبّر التجار السُّفن فعبروا بهم إلى المندب فأقاموا بها شهراً فلم تحملهم فخرجوا إلى مكة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أعْلِم بهم العاملُ فخرجوا مع الحُجاج عليهم ثيابٌ غِلاظ وجِباب الأكرياء حتى وافَوْا جَدّة وقد تقطعت أرجلهم من المشي‏.‏

فمروا بقوم فرقُّوا لهم فحملوهم‏.‏

وفارق الحُجاج عبد الله بجدة‏.‏

ثم حجّوا وخرجوا من مكة إلى تَبَالة‏.‏

وكان على عبد اللهّ فصّ أحمر كان قد غيّبه حين عَبَر إلى المَندب فلما أمِن استخرجه وكانت قيمتُه ألفَ دينار وكان يقول وهو يمشي‏:‏ ليتَ به دابّة‏.‏

حتى صار في مِقْرَمة تكون عليه بالنهار وَبلْبسها بالليل‏.‏

فقالوا‏:‏ ما رأينا مثلَ عبد اللهّ قاتلوا فكان أشدَّ الناس ومَشَوا فكان أقواهم وجاعُوا فكان أصبرهم وعَرُوا فكان أحسنهم عُرياً‏.‏

وَبعَث وهو بالمندب إلى العدو الذين أخذوا أمَّ الحكم بنتَ أخيه عُبيد اللّه ففداها وردّها إليه فكانت معه‏.‏

ثم أخذ عبدُ اللّه فقُدم به على المهديّ فجاءت امرأتُه بنت يزيد بن محمد بن مَروان بن الحكم فكلّمت العباسَ بن يعقوب كاتِب عيسى بن عليّ وأعطتْه لُؤلؤاً ليكلِّم فيه عيسى‏:‏ فكلَّمه وأعلمه بما أعطته فلم يُكلّم فيه عيسى بنً عليّ المهديَ وأراد المهديُّ أن يقتله فقال له عيسى‏:‏ إن له في أعناقنا بَيعة وقد أعطى كاتبي قيمةَ ثلاثين ألف درهم فحَبسه المهديُ‏.‏

وكان عبد اللهّ بن مروان تزوّج أمّ يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان وكانت في الحبس فلما أخرجهم العبّاس خرجت إلى مكة فأقامت بها وقدم عبدُ اللّه بن مروان سًّراً فتزوّجها‏.‏

وقال مولى مروان‏:‏ كنتُ مع مَروان وهو هارب فقال لي يوماً‏:‏ أين عزبت عنا حلومُنا في نِسائنا‏!‏ ألا زوّجناهم من أكفائهن من قُريش فكُفينا مُؤْنتهن اليومَ‏.‏

وقال‏:‏ بعض آل مروان ما كان شيء أنفعَ لنا في هَربنا من الجوهر الخفيف الثّمن الذي يُساوي خمسة دنانير فما دون كان يُخرجه الصبيّ والخادم فيَبيعه وكنا لا نستطيع أن نُظهر الجوهرَ الثّمين الذي له وقيمة كثيرة‏.‏

وقال مصعب بن الرَّبيع الخَثْعَميّ كاتبُ مروان بن محمد‏:‏ لما انهزم مروانُ وظَهرَ عبد اللهّ بن عليّ على أهل الشام طلبتُ الإذنَ فأنا عنده يوماً جالس وهو مُتَكىء إذ ذَكر مروانَ وانهزامه فقال‏:‏ شهدتَ القتالَ قلت‏:‏ نعم أصلح اللهّ الأمير وقال لي مروان‏:‏ احزُر القوم فقلت‏:‏ إنما أنا صاحبُ فلم ولستُ بصاحب حَرْب فأخذ يَمنة ويسَرة ثم نظر فقال لي‏:‏ هم اثنا عشرَ ألف رجل‏.‏

وقال مصب‏:‏ قيل لمروان‏:‏ قد انتُهب بيت المال الصغير فانصرفَ يُريد بيتَ المال‏.‏

فقيل له‏:‏ قد انتُهب بيتُ المال الأكبر انتهبه أهلُ الشام‏.‏

وقال أبو الجارود السُّلميّ‏:‏ حدثني رجل من أهل خراسان قال‏:‏ لقِينا مروانَ على الزاب فحمَل علينا أهلُ الشام كأنّهم جبالُ حديد فجَثونا على الرّكَب وأشْرعنا الرماح فزالوا عنّا كأنهم سَحابةٌ ومَنَحنا اللّه أكتافَهم وانقطع الجسْر مما يليهم حين عَبروا فبقي عليه رجلٌ من أهل الشام فخرج إليه رجلٌ منّا فَقتَله الشاميُّ‏.‏

ثمِ خرج إليه آخر فقَتله حتى والَى بين ثلاثة‏.‏

فقال رجل منَّا‏:‏ اطلُبوا إليَّ سيفاً قاطعاً وتُرساً صلبا فأعطيناه ومشى إِليه فضَر به بالشافي فأتقاه بالتُّرس وضَرب رجلَه فقَطعها وقَتله ورجع فحملناه وكَبَّرنا فإِذا هو عُبيد اللّه الكابُلي‏.‏

سَمَر المنصورُ ذاتَ ليلة فذَكر خُلفاء بني أمية وسيرَهم‏.‏

وأنهم لم يَزالوا على استقامة حتى أفضى أمرُهم إلى أبنائهم المُترفين وكانت هِمتهم مع عِظم شأن المُلك وجَلالة قَدْره قَصْدَ الشهوات وإِيثارَ اللذات والدخولَ في معاصي اللّه ومساخطه جهلاً باستدراج اللهّ وأمْنا لمَكْره فسَلبهم الله العزَ ونَقل عنهم النِّعمة‏.‏

فقال له صالح بن عليّ‏:‏ يا أمير المؤمنين إن عبد اللّه بن مَروان لما دخل النّوبة هارباً فيمن تَبعه سأل ملكُ النوبة عنهم فأخبر فركب إلى عبد اللّه فكلّمه بكلام عَجيب في هذا النَّحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده فإِن رأى أمير المؤمنين أن يَدْعو به من الحَبس بحَضرتنا في هذه الليلة وشماله عن ذلك فأمر المنصورً بإحضاره وسأله عن القصة‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قَدمنا أرض النوبة وقد خُبِّر المَلِك بأمرنا فدخل عليّ رجلٌ أقنى الأنف طُوالٌ حسنُ الوجه فقَعد على الأرض ولم يَقْرُب الثياب‏.‏

فقلت‏:‏ ما يَمنعك أن تَقعد على ثيابنا قال‏:‏ لأنّي ملك ويحقّ على الملك أن يتواضع لعَظمة اللّه إذ رَفعه الله‏.‏

ثم قال‏:‏ لأي شيء تَشْربون الخمر وهي مُحرمة عليكم قلتُ‏:‏ اجترأ على ذلك عبيدُنا وغِلْماننا وأتباعنا لأنّ المُلك قد زال عنا‏.‏

قال‏:‏ فلم تطئون الزروع بدوابكم والفسادُ مُحرّم عليكم في كتابكم قلت‏:‏ يَفعل ذلك عبيدُنا وأتباعُنا بجَهلهم‏.‏

قال‏:‏ فلِم تَلبَسُون الدِّيباج والحَرير وتَسْتعملون الذهبَ والفِضة وذلك مُحَرم عليكم قلت‏:‏ ذهب الملكُ عنّا وقَل أنصارُنا فانتصرنا بقوم منِ العَجم دخلوا في دِيننا فلبَسوا ذلك على الكُرْه منَا‏.‏

قال‏:‏ فأطرَق مليا وجَعلً يقلَب يدَه ويَنْكُث الأرض ويقول‏:‏ عبيدُنا وأتباعنا وقومٌ دخلوا في دِيننا وزال المُلك عنا‏!‏ يردّد مراراً‏.‏

ثم قال‏:‏ ليس ذلك كذلك رب أشتم قومٌ قد استحلَلْتم ما حَرم الله ورَكِبتم ما نهاكم عنه وظَلمتم من مَلَكْتم فَسَلَبكم اللّه العز وألبسكم الذّل بذُنوبكم وللّه فيكم نِقْمة لم تَبْلغ غايتَها وأخاف أن يَحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيُصيبني معكم وإنما الضيافةُ ثلاثة أيام فتزوّدوا ما احَتجتم أخبار الدولة العباسية الهيثم بن عديّ قال‏:‏ حدّثني ابن عيّاش قال‏:‏ حدثني بُكير أبو هاشم مولى مَسْلمة قال‏:‏ لم يزل لبني هاشم بيعةُ سرّ ودَعْوَة باطنة منذ قتل الْحُسين بن عليِّ بن أبي طالب ولم نزل نَسمع بخروج الرايات السُّود من خُراسان وزوال مُلك بني أمية حتى صار ذلك‏.‏

وقيل لبعض بني أمية‏:‏ ما كان سببُ زوال مُلْككم قال‏:‏ اختلافنا فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا‏.‏

الهيثم بن عدىّ قال‏:‏ حدثني غيرُ واحد ممن أدركت من المَشايخ أنّ علي بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحَسن فأصاره إلى مُعاوية وكَره ذلك الحسينُ ومحمد بن الحنفية‏.‏

فلما قُتل الحسينُ بن عليّ صار أمرُ الشَيعة إلى محمد بن الحنفيّة - وقال بعضُهم‏:‏ إلى عليّ بن الحسين - ثم إلى محمد بن عليّ ثم إلى جعفر بن محمد‏.‏

والذي عليه الأكثر أنّ محمدَ بن الحنفية أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبدِ اللهّ بن محمد بن الحنفيّة‏.‏

فلم يزل قائماً بأمر الشِّيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويُؤدُّون إليه الخِراج حتى استُخلف سليمانُ بن عبد الملك فأتاه وافداً ومعه عِدّة من الشيعة فلما كلمه سليمان قال‏:‏ ما كلمتُ قط قرشيّاً يُشبه هذا وما نَظن الذي كنا نُحدَّث عنه إلا حقاً فأجازه وقَضى ضربوا له أبنية في الطريق ومعهم اللَبن المَسموم فكلَما مرّ بقوم قالوا‏:‏ هَلْ لكمِ في الشراب قال‏:‏ جُزيتم خيراً ثم بآخرين فعَرضوا عليه فقال‏:‏ هاتوا فلما شرب واستقر بجوفه قال لأصحابه‏:‏ إني ميّت فانظُروا مَن القوم فنظروا فإِذا هم قَوًضوا أبنيَتهم وذَهبوا‏.‏

فقال‏:‏ ميلوا بي إلى ابن عمي وما أحسبني أدركه‏.‏

فأسرعوا السير حتى أتوا الحُمَيْمَة من أرض الشَراة وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فنزل به فقال‏:‏ يا بنَ عمَي إني ميّت وقد صرتُ إِليك وأنت صاحبُ هذا الأمر وولدُك القائم بِه ثم أخوه مِن بعده واللّه ليتمّن الله هذا الأمرَ حتى تَخرج الراياتُ السود من قَعْر خُراسان ثم ليَغْلِبُنّ على ما بين حَضرموت وأقصى إِفريقية وما بين الهِنْد وأقصى فَرْغانة‏.‏

فعليك بهؤلاء الشيعة واستَوْص بهم خيراً فهم دعاتُك وأنصارُك‏.‏

ولتكن دَعوتُك خُراسان ولا تَعْدها لا سيما مَرْو واستَبْطن هذا الحيً من اليمن فإِن كل مُلْك لا يقوم به فمصيره إِلى انتقاض وانظُر هذا الحيَّ من رَبيعة فألحقهم بهم فإِنهم معهم في كل أمر وانظُرْ هذا الحي من قَيس وتميم فأقْصهم إلا مَن عصم الله منهم وذلك قليل ثم مرُهم أن يَرْجعوا فَلْيجعلوا اثني عشرَ نقيباً وبعدهم سبعين نقيباً فإن اللّه لم يُصلح أمرَ بني إِسرائيل إلا بهم وقد فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا مضت سنة الحِمَار فوجِّه رُسلك في خُراسان منهم من يُقتل ومنهم مَن ينجو حتى يُظهر اللّه دعوتكم‏.‏

قال محمد بن علي‏:‏ يا أبا هاشم وما سَنة الحِمَار قال‏:‏ إِنه لم تمض مائةُ سنة من نُبَوّةِ قط إِلا انتَقَض أمرها لقول اللّه عز وجل‏:‏ ‏"‏ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏.‏

قال أنى يحي هذه الله بعد موتها‏.‏

فأماته الله مائة عام ثم بعثه ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ‏"‏‏.‏

واعلم أن صاحب هذا الأمر مِن ولدك عبدُ اللّه بن الحارثية ثم عبدُ الله أخوه‏.‏

ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولدٌ يسمى عبد الله فوُلد من الحارثيّة ولدان سَمّىِ كل واحد منهما عبدَ الله وكنى الأكبر أبا العباس والأصغر أبا جعفر فوَليا جميعاَ الخلافة‏.‏

ثم مات أبو هشام وقام محمدُ بن علي بالأمر بَعده فاختلفت الشيعةُ إِليه‏.‏

فلما وُلد أبو العباس أخرجه إليهم في خِرقة وقال لهم‏:‏ هذا صاحبُكم فجعلوا يَلْحسون أطرافَه ووُلد أبو العبّاس في أيام عمرَ بن عبد العزيز‏.‏

ثم قدم الشيعةُ على محمد بن عليً فأخبروه أنهم حًبسوا بخُراسان في السجن وكان يَخْدُمهم فيه غلام من السًراجين ما رأوا قطُّ مثلَ عقله وظَرْفه ومحبّته في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له‏:‏ أبو مسلم‏.‏

قال‏:‏ أحر أم عبد قال‏:‏ أمّا عيسى فيزعم أنه عَبد وأما هو فيزعم أنه حُر‏.‏

قال‏:‏ فاشتَرُوه واعتقوه واجعلوه بينكم إِذ رَضيتموه‏.‏

وأعْطَوْا محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم‏.‏

فلما انقضت المائةُ السنة بعثَ محمدً بن علي رُسلَه إِلى خراسان فغرسوا بها غَرْساً وأبو المُقدًم عليهم وثارت الفِتنة في خراسان بين المُضرية واليمانية فتمكًن أبو مُسلم وفَرّق رُسله في كُوَرِ خُراسان يدعو الناس إلى آل الرسول فأجابوه‏.‏

ونَصْر بنُ سيار عاملُ خًراسان لهشام بن عبد الملك فكان يَكتب لهشام بخَبرهم وتمضي كتبه إِلى ابن هُبيرة صاحب العراق ليُنفذها إلى أمير المؤمنين فكان يَحْبسها ولا يُنْفذها لئلا يقوم لنَصر بن سيّار قائمة عند الخليفة‏.‏

وكان في ابن هُبيرة حسد شديد‏.‏

فلما طال بنَصر بن سيّار ذلك ولم يأته جوابٌ من عند هشام كتب كتاباً وأمضاه إلى هشام على غير طريق ابن هُبيرة وفي جَوف الكتاب هذه الأبياتُ مُدْرَجة يقول فيها‏:‏ أرَى خَلَل الرماد وميضَ جَمْرٍ فيُوشِكُ أنْ يكون لها ضِرَام فإنّ النارَ بالعُودين تُذْكَى وإن الحربَ أولًها الكلام فإِنْ لم تُطْفئوها تَجْن حَربا مُشَمِّرة يَشيب لها الغُلام فقلتُ من التعجّب ليتَ شِعرِي أأيقاظُ أمَيّة أم نِيام فإن كانوا لحينهمُ نياماً فقُل قوموا فقد حان القِيام فِفِري عن رِحالك ثم قُولي على الإسلام والعَرب السلام فكتب إِليه هشام‏:‏ أنِ احسم ذلك الثؤلول الذي نجم عندكم‏.‏

قال نصر‏:‏ وكيف لنا بحَسمه‏!‏ وقال نَصْر بن سيّار يُخاطب المضرية واليمانية ويُحذِّرهم هذا العدو الداخل عليهم بقوله‏:‏ أبْلغ ربيعةَ في مَرْوٍ وإخْوَتهم فلَيْغضبوا قبل أن لا يَنْفع الغَضَبُ وَلْينصبوا الحربَ إن القومَ قد نَصَبوا حرباً يُحرَّق في حافاتها الحَطب ما بالُكم تَلقَحون الحربَ بَينكم كأنّ أهل الحِجا عن فِعْلكم غَيَب وتَتْركون عدوًّا أظلِّكم مما تَأشب لا دِينٌ ولا حَسَب قِدْماً يدينون ديناً ما سمعتُ به عن الرَّسول ولم تَنزل به الكُتب فمن يَكن سائلاً عن أصْل دِينهم فإنّ دينَهم أنْ تُقْتل العرب ومات محمد بن عليّ في أيام الوليد بن يزيد وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد فقام بأمر الشِّيعة‏.‏

وقَدَّم عليهم أبا مسلمِ السرَّاج وسُليمان بن كَثير وقال لأبي مُسلم‏:‏ إن استطعت أن لا تَدع بخُراسان لساناً عربياً فافعل ومَن شَكَكت في أمره فاقتُلْه‏.‏

فلما استَعْلى أمرُ أبي مُسلم بخُراسان وأجابته الكُور كلها كتب نصرُ بن سيّار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكَثرة مَن تَبعه وانّه قد خاف أن يَسْتولي على خُراسان وأن يَدْعو إِلى إِبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس‏.‏

فأتى الكتابُ مَروان وقد أتاه رسول لأبي مُسلم بجوابِ إِبراهيم إلى أبي مُسلم‏.‏

فكتب مروانُ إلى الوليد بن مُعاوية بن عبد الملك بن مروان وهو عامله على دمشق‏:‏ أن أكتُب إلى عاملك بالبَلقاء ليسير إلى الْحُميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشدّه وَثاقاً ثم يَبْعث به إِليك ثم وجهْه إليّ‏.‏

فحمُل إِلى مَروان وتبعه من أهله عبدُ الله بن علي وعيسى بن موسى فأدخل على مروان فأمر به إلى الحبس‏.‏

وقال الهيثم‏:‏ حدثني أبو عُبيدة قال‏:‏ كنتُ آتيه في السجن ومعه فيه سعيدُ بن عبد الملك وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز فواللهّ إني ذاتَ ليلة في سَقيفة السجن بين النائم واليقظان إذ بمَوْلى لمَروان قد استفتح البابَ ومعه عشرون رجلاً من موالي مروان الأعاجم ومعهم صاحب السجن فأصبحنا وسعيدٌ وعبدُ الله وإِبراهيم قد ماتوا‏.‏

قال الهيثم‏:‏ حدثني أبو عُبيدة قال‏:‏ حدثني وصيفُ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمُه في الحَبس‏:‏ إِنه غَمّ عبدَ اللّه مولاه بِمرْفقه‏.‏

وإِبراهيمَ بن محمد بجراب نُورة وسعيدُ بن عبد الملك أخرجه صاحبُ السجن فلقيه بعضُ حَرس مروان في ظُلمة الليل فوَطئته الخيلُ وهم لا يعرفون من هو فمات‏.‏

ثم استولى أبو مُسلم على خُراسان كُلها فأرسل إلى نصر بن سيّار فهَرَب هو وولده وكاتبه داود حتى انتهوا إلى الرَّيْ فمات نصرُ بن سيّار بساوَة وتفرّق أصحابه ولَحِق داود بالكُوفة وولدُه جميعاً‏.‏

واستعمل أبو مُسلم عُمّاله على خُراسان ومَرْو وسَمَرقند وأحوازها ثم أخرج الراياتِ السود وقَطع البعوث وجَهَّز الخيل والرجال عليهم قحطبةُ بن شَبيب وعامر بن إسماعيل ومُحرز بن إِبراهيم في عِدّة من القُوّاد فَلَقُوا مَن بطُوس فانهزموا ومَن مات في الزِّحام أكثرُ ممن قُتل فبلغ القتلَى بضعةَ عشرَ ألفاً‏.‏

ثم مَضى قَحْطبة إلى العِراق فبدأ بجُرجان وعليها نُباتة بن حَنْظلة الكِلابيّ‏.‏

وكان قَحْطبة يقول لأصحابه‏:‏ والله ليُقْتلن عامرُ بن ضُبارة ويَنْهزمنّ ابنُ هُبيرة ولكني أخافُ أن أموتَ قبل أن أبلغ ثأري وأخاف أن أكون الذي يَغْرق في الفرات فإِن الإمام محمدَ بن عليّ قال لي ذلك‏.‏

قال الهيْثمُ‏:‏ فقَدِم قحطبةُ جُرجانَ فقَتل ابنَ نُباتة ودخل جُرجان فانتهبها وقسّم ما أصاب بين أصحابه ثم سار إلى عامر بن ضُبارة بأصْبهان فلقيه فقُتل ابنُ ضُبارة وقتل أصحابه ولم يَنجُ منهم إِلا الشّرَيد ولَحق فَلُهم بابن هُبيرة‏.‏

وقال قَحْطبة لما قُتل ابن ضُبَارة‏:‏ ما شيءٌ رأيتُه ولا عدوٌ قتلتُه إلّا وقد حَدّثني به الإمام صلواتُ الله عليه إلا أنه حدّثني أني لا أعْبُر الفُرات‏.‏

وسار قَحطبةُ حتى نزل بحلوان ووجّه أبا عون في نحو ثلاثين ألفاً إلى مَروان بن محمد فأخذ على شهر زور حتى أن الزَّاب وذلك برَأي أبي مُسلم‏.‏

فحدّث أبو عون عبدُ الملك بن يزيد قال قال لي أبو هشام بُكَير بن ماهان‏:‏ أنت والله الذي تسير إلى مرْوان ولتَبْعثنّ إليه غُلاماً مِن مَذْحِج يقال له عامر فلَيقتلنّه‏.‏

فأمْضيت واللّه عامرَ بن إسماعيل على مُقدَمتي فلقي مروان فقتله‏.‏

ثم سار قَحطبة من حُلوان إلى ابن هُبيرة بالعراق فالتقوا بالفرات فاقتتلوا حتى اختلط الظلامُ وقُتل قَحطبة في المَعركة وهو لا يُعرف‏.‏

فقال بعضُهم‏:‏ غَرِق في الفُرات‏.‏

ثم انهزم ابنً هُبيرة حتى لحق بواسط وأصبح المُسوِّدة وقد فَقدوا أميرَهم فقدَموا الحسنَ بن قَحطبة‏.‏

ولما بلِغ مروانَ قتلُ قَحطبة وهَزيمةُ ابن هُبيرة قال‏:‏ هذا واللّه الإدبار وإلا فمتى رأيتُم ميِّتاً هَزم حَيًّاً‏!‏ وأقام ابن هُبيرة بواسط وغلبت المُسوَدة على العراق وبايعوا لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عبَّاس لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏

ووجهَ عَمَّة عَبدَ اللهّ بن علي لقتال مَروان وأهل الشام وقدّمه على أبي عَون وأصحابه‏.‏

ووجه أخاه أبا جَعفر إلى واسط لقتال ابن هُبيرة‏.‏

وأقام أبو العباس بالكُوفة حتى جاءته هَزيمةُ مَرْوان بالزاب وأمضى عبد اللّه بن علي أبا عون في طَلبه وأقام على دِمَشق ومدائن الشام يأخذ بَيعتها لأبي العباس‏.‏

وكان أبو سَلمة الخلّال واسمه حَفْص بن سليمان يدعى وزيرَ آل محمد وكان أبو مُسلم يدعى أمينَ آل محمد‏.‏

فقَتل أبو العباس أبا سَلمة الخلاّل واتهمه بحُب بني فاطمة وأنه كان يَحْطِب في حِبالهم‏.‏

وقتل أبو جعفر أبا مسلم وكان أبو مُسلم يقول لقواده إذا أخرجهم‏:‏ لا تُكلموا الناسَ إِلا رَمْزا ولا تَلحظوهم إلا شزرا لتمتلىء صدورُهم من هَيبتكم‏.‏

مقتل زيد بن علي أيام هشام بن عبد الملك كَتب يوسف بن عُمر إلى هشام بن عبد الملك‏:‏ إنّ خالدَ بن عبد اللّه أوْدع زيدَ بن عليّ بن حُسين بن عليّ بن أبي طالب مالاً كثيراً‏.‏

فبعث هشامٌ إلى زَيد فقَدِم عليه فسأله عن ذلك فأنكر فاستحلفه فحلف له فخلّى سبيله وأقام عند هشام بعد ذلك سنة‏.‏

ثم دخل عليه في بعض الأيام فقال له هشام‏:‏ بَلغني أنك تحدِّث نفسَك بالْخِلافة ولا تَصْلح لها لأنك ابنُ أمة‏.‏

قال‏:‏ أمّا قولكُ إني ابن أمة فهذا إسماعيل صلى الله عليه وسلم ابنُ أمة أخرج الله من صُلبه خيرَ البشر محمداً صلى الله عليه وسلم وإِسحاقُ ابن حُرة أخرج اللّه من صُلبه القِردَة والخنازير وعَبدة الطاغوت‏.‏

وخرج زيد مُغضباً‏.‏

فقال زيد‏:‏ ما أَحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذل قال له الحاجب‏:‏ لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد‏.‏

وخرج زيدٌ حتى قَدم الكوفة فقال‏:‏ شرَده الخوْفُ وأزْرَى به كذاك مَن يَكره حَرّ الجلادْ مُحتفي الرَّجلين يَشْكو الوجَى تَنْكُبه أطرافُ مَرْوٍ حِدَاد قد كان في المَوْت له راحة والموتُ حَتْم في رِقاب العِبادْ ثم خَرج بخُراسان فوجّه يوسف بنُ عمر إِليه الخيلَ وخرج في إثرها حتى لقيه فقاتَله فرُمي زيدٌ في آخر النهار بنشّابة في نَحْره فمات فدَفنه أصحابهُ في حمأة كانت قريبةً منهم‏.‏

وتتبع يوسف أصحابَ زيد فانهزم من انهزم وقُتل من قُتل‏.‏

ثم أتي يوسفَ فقيل له‏:‏ إن زيداً دُفن في حَمأة‏.‏

فاستخرجه وبَعث برأسه إلى هشام ثم صَلبه في سُوق الكُنَاسة‏.‏

فقال في ذلك أعورُ كلب وكان مع يوسف في جَيش أهل الشام‏:‏ نَصبنا لكم زيداً على جِذْع نخلةٍ وما كان مَهْدي على الجذْع يُنصبُ الشَيباني قال‏:‏ لما نزل عبدُ الله بن علي نهر أبي فُطرس حضر الناسُ بابَه للإذن وحَضر اثنان وثمانون رجلاً من بني أمية فخَرج الآذن فقال‏:‏ يا أهل خراسان قُوموا‏.‏

فقاموا سِماطين في مجلسه ثم أذن لبني أمية فأخذت سيوفُهم ودخلوا عليه‏.‏

قال أبو محمد العَبْدي الشاعر‏:‏ وخَرج الحاجبُ فأدخلني فسلمتُ عليه فردّ عليّ السلام ثم قال أنشدني قولك‏:‏ وَقَف المُتَيّم في رُسوم دِيار فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قولي‏:‏ أما الدعاةُ إلى الجنان فهاشمٌ وبنو أمية من دُعاة النارِ مَن كان يَفْخر بالمكارم والعُلا فلَها يَتمُّ المجد غيرَ فَخَارِ والغَمْرُ بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المُصَلى وبنو أمية على الكَراسي فألقى إليّ صُرة حرير خَضراء فيها خَمسُمائة دينار فقال‏:‏ لك عندنا عَشرة آلاف درهم وجارية وبرْذون وغلامٌ وتخت ثياب‏.‏

قال‏:‏ فوفّى واللهّ بذلك كُلّهُ‏.‏

ثم انشأ عبدُ اللهّ بن علي يقول‏:‏ حسِبتْ أمية أنْ سَيرضى هاشم عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها كلا وربِّ محمدٍ وإِلهِه حتى تُباح سهولُها وحُزونها ثم أخذ قَلنسوته من رأسه فضَرب بها الأرض فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخَبطوهم بالسّيوف والعَمد‏.‏

وقال الكلْبي الذي كان بينهم وكان من أتباعهم‏:‏ أيها الأمير إني والله ما أنا منهم‏.‏

فقال عبدُ الله بن علي‏:‏ ومُدْخلٍ رأسَه لم يَدْعُه أحد بين العرينَيْن حتى لَزَه القَرَنُ اضربوا عُنقه ثم أقبل على الغَمْر فقال‏:‏ ما أحسبُ لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا‏.‏

فقال‏:‏ أجل‏.‏

قال‏:‏ يا غلام اضرب عُنقه فأقيم مِن المُصلى فضرُب عنقه‏.‏

ثم أمر ببساط فطُرح عليهم ودعا بالطعام فجعل يأكل وانين بعضهم تحت البِساط‏.‏

وفي رواية أخرى قال‏:‏ لما قَدم الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلاً من بني أمية فوُضعت لهم الكراسي ووُضعت لهم نمارق وأجْلسوا عليها وأجلس الغمرَ مع نَفْسه في المُصلى ثم أذن لشِيعته فدخلوا ودخل فيهم سُديف بن مَيمون وكان مُتوشِّحاً سيفاً متنكّباً قوساً وكان طويَلاً آدم فقام خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيزعُم الضُلال بما حَبِطت أعمالُهم أنّ غَير آل محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالخلافة فلِم وبم أيها الناس ألكم الفَضل بالصَحابة دون ذوي القرابة والشُرِكاء في النسب الأكفاء في الحسب الخاصَّة في الحياة الوُفاة عند الوفاة مع ضربهم على الأمر جاهلكم وإطعامهم في الَّلأواء جائعكم فلكم قَصم الله بهم من جبّار باغ وفاسِقٍ ظالم‏.‏

لم يسمع بمثل العباس لم تَخضع له الأمة بواجب حق الحُرمة أبو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد أبيه وجِلْده ما بينَ عيْنيه أمنيةُ ليلة العقبة ورسولُه إلى أهل مكة وحاميه يوم حُنين لا يَردّ له رأياً ولا يُخالف له قَسَمِا‏.‏

إنكم واللّه معاشرَ قُريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار اللّه لكم تيميّ مرةَ وعدويّ مرة وكُنتم بين ظَهْراني قوم قد اثروا العاجلَ على الآجل والفاني على الباقي وجَعلوا الصدقاتِ في الشهوات والفَيءَ في اللّذات والمغانم في المحارم إذا ذُكِّروا باللّه لم يذكروا وإذا قُدِّمُوا بالحق أدبروا فذلك كان زمانُهم وبذلك كان يَعمل سلطانهم‏.‏

فلما كان الغد أذن لهم فدَخلوا ودخل فيهم شبِل فلما جلسوا قام شِبْل فاستأذن في الإنشاد فأذِن له فأنشد‏:‏ طَلبوا وِتْر هاشمٍ فَلَقُوها بعد مَيْل من الزَمان وباس لا تُقِيلن عبدَ شمس عِثاراً اقطعُوا كل نخلة وغِراس ولقد غاظَني وغاظَ سَوائِي قُرْبُهم من مَنابر وكَراسي واذكُروا مَصْرع الحُسين وزيداً وقَتيلاً بجانب المهرَاس وقتيلاً بجَوْف حَرَّان أضحَى تَحْجُل الطيرُ حوله في الكِناس نِعم شبْل الهراش مولاك شِبْل لو نجا من حَبائل الإفلاس ثم قام وقاموا‏.‏

ثم أذن لهم بعد فدخلوا ودخل الشَيعة‏.‏

فلما جلسوا قام سُديف بن ميمون فأنشد‏:‏ قد أتتك الوُفود من عبد شَمْس مستعدين يُوجعون المِطيا عَنوِة أيها الخليفة لا عَن طاعةٍ بل تَخوَفوا المَشرفيّا لا يَغرَنْك ما‏.‏

ترى من رجالٍ إن تحتَ الضلوع داءً دَوِيّا فضَع السيفَ وارفع السَّوط حتى لا ترى فوقَ ظَهْرها أمويا ثم قام خَلَف بن خَليفة الأقطع فأنشد‏:‏ فالتفت أبو العباس إلى الغَمر فقال‏:‏ كيف ترى هذا الشعر قال‏:‏ والله إن هذا لشاعر ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا‏.‏

قال‏:‏ وما قال فأنشده‏:‏ شَمس العَداوة حتى يستقادَ لهم وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قَدَروا فشرَق وجهُ أبي العباس بالدم وقال‏:‏ كذبتَ يا بن اللَخناء إني لا أرى الخُيلاء في رأسك بعد ثم قاموا‏.‏

وأمر بهم فدُفعوا إلى الشَيعة فاقتَسموهم فضربوا أعناقَهم ثم جَزوا بأرجلهم حتى ألقوها في الصحراء بالأنبار وعليهم سراويلاتُ الوَشيْ فوقف عليهم سُديف مع الشِّيعة وقال‏:‏ طَمِعتْ أمية أنْ سيرضى هاشمٌ عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها كلا ورب محمد وإلهه حتى يباد كَفُورها وخَؤُونها وكان أشدَ الناس على بني أمية عبدُ اللّه بن علي وأحنهم عليهم سليمان بن علي‏.‏

وهو الذي كان يسميه أبو مُسلم كَنف الأمان وكان يُجير كل من استجار به وكتب أبي العباس‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَا لم نُحارب بني أمية على أرْحامهمِ وإنما حار بناهم على عُقوقهم وقد دافت إلي منهم دافّة لم يَشْهروا سلاحاً ولم يُكَثروا جَمْعا فأحبّ أن تكتب لهم منشورَ أمان‏.‏

فكتب لهم منشورَ أمان وأنفذه إليهم‏.‏

فمات سليمانُ بن علي وعنده بِضْع وثمانون حُرمة لبني أمية‏.‏

خلفاء بني أمية بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبدُ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك‏.‏

وَلي الملكُ يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة‏.‏

وتوفي في عَشرة من جُمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة‏.‏

فكان مُلْكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر‏.‏

وكان يقال له صَقْر قُريش وذلك أن أبا جعفر المنصور قال لأصحابه‏:‏ أخْبروني عن صَقْر قُريش‏.‏

من هو قالوا‏:‏ أمير المؤمنين الذي راضَ المُلك وسَكَّن الزَّلازل وحَسم الأدواء وأباد الأعداء‏.‏

قال‏:‏ ما صنعتم شيئاً‏.‏

قالوا‏:‏ فمعاوية‏.‏

قال‏:‏ ولا هذا‏.‏

قالوا‏:‏ فعبدُ الملك بن مروان‏.‏

قال‏:‏ ولا هذا‏.‏

قالوا‏:‏ فمن يا أمير المؤمنين قال‏:‏ عبدُ الرحمن بن معاوية الذي عَبر البحر وقَطع القَفز ودَخل بلداً أعجمياً مُفْرداً فمصر الأمصار وجَنَّد الأجناد ودَوّن الدَواوين وأقام مُلكاً بعد انقطاعه بحُسن تدبيره وشِدة شَكيمته‏.‏

إنَّ معاوية نَهض بمَرْكب حَمله عليه عمر وعثمان وذلّلا له صعبه وعبدَ الملك ببَيعةٍ تقدَم له عَقْدُها وأمير المؤمنين بطلب عشيرته واجتماع شيعته وعبدَ الرحمن منفرد بنفسه مؤيَّد برأيه مُسْتصحب لعَزْمه‏.‏

وقالوا‏:‏ لما توطَّد مُلْك عبد الرحمن بن مُعاوية عَمِل هذه الأبيات وأخْرجها إلى وزرائه فاستَغربتُ من قوله إذ صدَقها فعلُه وهي‏:‏ ما حَق مَن قام ذا امتعاض بِمُنْتَضى الشَّفرتَين نَصلاَ فبزّ مُلكاً وشاد عِزَا ومِنْبراً للخِطاب فَمصلا فجاز قفراً وشَقَّ بَحْراً مُسامِياً لُجَّة ومَحْلَا وجَنَّد الجُنْدَ حين أوْدَى ومَصَّر المِصْر حين أجْلى ثم دَعا أهلَه جميعاً حيثُ انتأوا أن هَلمَ أهْلا فجاء هذا طَريد َجُوع شريد َسَيْف أبيد قَتْلا فَحلّ أمناً ونال شِبْعاً وحاز مالاً وضَمّ شَملا ألم يَكُن حق ذا على ذا أوجبَ من مُنْعم‏.‏

ومَوْلى وكتب أميّة بن يزيد عنه كتاباً إلى بعض عُمَّاله يَسْتقصره فيما فَرّط فيه من عمله فأكثر وأطال الكتاب فلما لَحظه عبدُ الرحمن أمر بقَطْعه وكتب‏:‏ أما بعد فإنْ يكن التَقصير منك مُقدَّما‏.‏

فحَرِيّ أن يكون الاكتفاءُ عنك مُؤَخَراً وقد علمتَ بما تقَدَمت فاعتمد على أيّهما أحْببت‏.‏

وكان ثار عليه ثائرٌ بغربي بَلْدة فغزاه فظَفِر به وأسره فبينما هو مُنْصَرِف وقد حُمل الثائرُ على بغل مَكْبولاً نظر إليه عبدُ الرحمن بني مُعاوية وتحته فرس له فقنع رأسَه بالقناة وقال‏:‏ يا بغل ماذا تحمل من الشَقاق والنًفاق قال الثائر‏:‏ يا فَرس ماذا تحمل من العَفو والرحمة فقال له عبدُ الرحمن‏:‏ والله لا تذوق موتاً على يدي أبداً‏.‏

هشام بن عبد الرحمن ثم وَلي هشامُ بن عبد الرَّحمن لسبع خَلَون من جُمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة ومات في صَفَر سنة ثمانين ومائة‏.‏

فكانت ولايتُه سبعَ سنين وعشرةَ أشهرِ‏.‏

ومات وهو ابنُ إحدى وثلاثين سنة‏.‏

وهو أحسنُ الناس وجهاً وأشرفهم نفساً الكامل المُروءة الحاكم بالكتاب والسنة الذي أخذ الزكاة على حِلِّها ووَضعها في حَقها لم يُعرف منه هفوة في حداثته ولا زَلة في أيام صِباه‏.‏

ورآه يوماً أبوه وهو مُقبل مُمتلىء شباباً فأعجبه فقال‏:‏ يا ليتَ نساء بني هاشم أبصرنه حتى يَعُدن فواركَ‏.‏

وكان هشامَ يصرِّر الصُّرر بالأموال في ليالي المَطر والظلْمة ويَبعث بها إلى المساجد‏.‏

فيُعطي مَن وُجد فيها‏.‏

يريد بذلك عمارة المساجد وأوصى رجلٌ في زمن هشام بمال في فكّ سَبَّيه من أرْض العدو فطُلبت فلم توجد احتراساً منه للثغر واستنقاذاً لأهل الحكم بن هشام ثم وَلي الخلافة الحكمُ بنِ هشام في صَفر سنة ثمانين ومائة وكانت ولايتُه ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهراَ‏.‏

ومات يومَ الخميس لثلاث بَقِين من ذي الحجّة سنة ست ومائتين‏.‏

وهو ابنُ اثنتين وخمسين سنة‏.‏

وكانت فيه بَطالهّ إلا أنه كان شُجاعَ النفس باسطَ الكَف عظيم العَفْو متخيراً لأهلٍ عمله ولأحكام رعيته أورعَ من يقدر عليهم وأفضلَهم فيسلطهم‏.‏

على نَفسه فضلاً عن ولده وسائر خاصّته‏.‏

وكان له قاض قد كَفاه أمورَ رعيّته بفَضْله وعَدله ووَرعه وزُهده فمرض مرضاً شديداً واغتمَ له الحَكَم غمًّا شديداً‏.‏

فذكر يزيدُ فتاه أنه أرِق ليلة وبَعُد عنه نومُه وجَعل يَتململ على فراشه فقلت‏:‏ اصلح اللّه الأمير إني أراك متململاً وقد زال النومُ عنك فلم أدْرِ ما عَرض لك قال‏:‏ ويحك‏!‏ إني سمعتُ نائحة هذه الليلة وقاضينا مريض فما أراه إِلا قد قَضي نحبه وأين لنا بمثله ومَن يقوم للرعية مَقامه ثم إن القاضي مات واستقضى الحكمُ بعده سعيدَ ابن بَشير‏.‏

فكان أقصدَ الناس إلى حق أخذهم بعَدل وأبعَدهم من هوى وأنفذَهم لحُكم‏.‏

رَفع إليه رجلٌ من أهل كُورة جَيَّان أنّ عاملاً للحَكم اغتصبه جاريةً وعَمِل في تَصْييرها إلى الحَكم فوقعت من قَلبه كلَّ موقع وأن الرجل أثبتَ أمرَه عند القاضي وأتاه ببيّنة وشُهود يَشْهدون على مَعْرفة ما تظلم منه وعلى عَين الجارية ومَعْرفتهم بها‏.‏

وأوجبت البيّنةُ أن تحضر الجارية واستأذن القاضي على الحَكم فأذِن له فلما دخل عليه قال‏:‏ إنه لا يتم عَدْل في العامّة دون إِفاضته في الخاصَّة وحَكى له أمرَ الجارية وخَيّره في إبرازها إليه‏.‏

أو عَزْله عن القضاء‏.‏

فقال له‏:‏ ألا أدْعوك إلى خير من ذلك تَبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها‏.‏

فقال‏:‏ إنَّ الشَهودَ قد شَخصوا من كُورة جَيان يَطلبون الحق في مظانّه فلما صاروا ببابِك تَصرْفهم دون إنفاذ الحقّ لأهله ولعلّ قائلاً أن يقول‏:‏ باعَ ما يملك بيعَ مُقتسَر على أمْره‏.‏

فلما رأى عَزْمه أمَر بإخراج الجارية من قَصرِه وشهِد الشَّهودُ على عَيْنها وقَضى بها لصاحبها‏.‏

وكان سعيدُ بن بَشير القاضي إذا خَرج إلى المسجد أو جَلس في مَجلس الحُكم جلس في رِداء مُعَصفر وشعر مُفَرق إلى شَحْمة أذنيه فإذا طُلب ما عنده وُجد أوْرعَ الناس وأفضلهم‏.‏

وكانت للحكم ألف فَرس مَرْبوطة بباب قَصره على جانب النَهر عليها عَشرة عُرفاء تحت يدِ كل عَريف منها مائةُ فرس لا تُندب ولا تَبْرح فإذا بلغه عن ثائر في طَرفٍ من أطرافه عاجَله قبل استحكام أمره فلا يَشعر حتى يحاط به‏.‏

وأتاه الخبر‏:‏ أن جابرَ بنَ لَبيد يُحاصر جيّان وهو يَلْعب بالصولجانِ في الجِسرِ‏.‏

فدكا بعَريف من أولئك العُرفاء فأشار إليه أن يخرج مَن تحت يده إلى جابر بن لبيد ثم فَعل مثلَ ذلك بأصحابه من العرفاء‏.‏

فلم يَشْعر ابنُ لَبيد حتى تساقطوا عليه مُتساوين فلما رأى ذلك عدوُّه سُقط في أيديهم وظَنّوا أن الدنيا قد حُشرت لديهم فولّوا مُدبرين‏.‏

وقال الحَكم يوم الهيجاء بعد وقعةِ الرَّبض‏:‏ رأبت صُدوعَ الأرْض بالسَّيف راقعاً وقِدْماً رأبتُ الشَّعب مُذ كُنتُ يافعَا فسائلْ ثُغوري هل بها اليوم ثُغْرةٌ أبادِرُها مُسْتنْضيَ الصيف دارِعا وشافِه علىِ أرْض الفَضاء جَماجماً كأقحاف شِرْيان الهَبيد لَوَامِعا تنبئْك أني لم أكن عن قراعهم بوانٍ وأني كنت بالسيف قارعا ولما تَساقَينا سِجال حُروبنا سَقَيتُهم يسُمًا من المَوت ناقِعا وهل زِدْت أنْ وَفَّيتُهم صاعَ قَرْضهم فوافَوْا مَنايا قُذَرت ومَصارعا قال عثمانُ بن المُثنى المؤدَب‏:‏ قَدم علينا عباس بن ناصح من الجَزيرة أيامَ الأمير عبد الرحمن بن الحكم فاستنشدني شِعْرَ الحَكم فأنشدْتُه فلما انتهيتُ إلى قوله‏:‏ هل زِدْت أن وَفيتهم صاعَ قَرْضهم قال‏:‏ لو جوثي الحكم في حُكومة لأهل الربض لقام بعُذره هذا البيت‏.‏

عبد الرحمن بن الحكم ثم ولي بعده عبدُ الرحمن بن الحَكم أندى الناس كَفَاً وأكرمُهم عَطفاً وأوسعُهم فَضْلاً في ذي الحجَّة سنة لسِتٍّ ومائتين فمَلك إحدى وثلاثين سنة وخمسةَ أشهر‏.‏

ومات ليلةَ الخميس لثلاث خَلَون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وهو ابن اثنتين وستِّين سنة وكتب إليه بعضُ عُماله يسأله عملاً رفيعاً لم يكن مِن شاكلته فَوقع في أسفل كتابه‏:‏ مَن لم يُصِبْ وَجْهَ مَطلَبه كان الحِرمان أولى به‏.‏

محمد بن عبد الرحمن ثم ولي المُلكَ محمدُ بن عبد الرحمن يومَ الخميس لثلاث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين فملك أربعاً وثلاثين سنة وتُوفي يومَ الجمعة مُستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين وهو ابنُ سبع وستين سنة‏.‏

وكتب عبد الرحمن بن الشَّمر إلى الأمير محمد بن عبدِ الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن وكان يتجنّب الوُقوف ببابه مخافةَ نصر الفَتى فلما مات نصرٌ كتب ابنُ الشَمِر هذه الأبياتَ إلى محمد يقوله فيها‏:‏ لئن غابَ وَجْهي عنكَ إنَّ مَودَّتي لشاهدة في كلِّ يومٍ تُسَلّمُ ولم يَسْتطل إلّا بكم وبعزّكم ولا يَنبغي أن يُمْنح العِز َّمُجرم فمكّنتموه فاستطال عليكُم وكادت بنا نيرانُه تتضرَّم كذلك كَلْب السَّوء إنْ يشبع انبَرى لمُشْبعه مستشلياً يَترمرم فجَمِّع إخواناً لُصوصاً أرذالاً ومَنَاهُم أنْ يَقْتُلونا ويَغْنموا رأى بأمين اللّه سًقماً فَغَرَّه ولم يَك يَدْري أنه يتقدَّم فَنَحْمد ربًّا سَرَّنا بهلاكه فما زال بالإحْسان والطَّول يُنْعم أراد يكَيد اللّه نصْرٌ فكاده ولله كَيْد يَغلب الكَيْدَ مُبرَم بَكى الكًفرُ والشيطانُ نصراً فأعوَلا كما ضحِكَت شوقاً إليه جَهنم وكانت له في كُل شهرٍ جِبايةٌ جِباية آلافٍ تُعَد وتُختَم فهل حائطُ الإسلام يَوماً يسومهم بما اجترموا يوماً عليه وأقدموا وُينْهبنا أموالَهم وهو فاعل فإنّي أرى الدُنيا له تَتبسَّم ألا أَيها الناسُ اسمعوا قولَ ناصحٍ حريص عليكم مُشفِق وتَفهَّموا محمد ُنُورٌ يُستضاء بوَجهه وسَيْفٌ بكف الله ماضٍ مُصمّم فكونُوا له مثلَ البَنين يَكنْ لكم أباً حدِباً في الرُحْم بل هو أرحم ألستَ المُرَجى من أميّة والذي له المَجْدُ منها الأتلدُ المُتَقدّم وأنتَ لأهل الخَير رَوحٌ ورَحمة نَعَمْ ولأهلِ الشَرِّ صاب وعَلقَم وحدَّث بَقّي بن محمد الفَقيه قال‏:‏ ما كلمتُ أحداَ من المُلوك أكملَ عقلاً ولا أبلغ لَفظاً من الأمير محمد دخلتُ عليه يوماً في مجلس خلافته فافتتح الكلامَ فحَمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ذَكر الخُلفاء خليفةً خليفَةَ فحكى كلَّ واحد منهم بحِلْيته ونَعْته ووصفه وذكر مآثرَه ومَناقبه بأفْصح لسان وأبْين بَيان حتى انتهى إلى نَفسه فسَكت‏.‏

وخَرج الأميرُ محمد يوماً متنزهاً إلى الرُّصافة ومعه هاشمُ بن عبد العزيز فكان بها صدَر نَهاره على لذَّته فلما أمسى واختلط الظلامُ رجع مُنصرفاً إلى القَصر وبه اختلاط فأخبَرني مَن سَمعه وهاشم يقول له‏:‏ يا سيدي يا بن الخلائف ما أطيبَ الدُّنيا لولا‏.‏

قال له‏:‏ لولا ماذا قال‏:‏ لولا الموت‏.‏

قال له‏:‏ يا بن اللَّخناء لَحنت في كلامك وهل مَلكنا هذا المُلك الذي نحن فيه إلا بالموت ولولا المَوت ما مَلَكناه أبداً‏.‏

وكان الأميرُ محمد غَزَّاءً لأهل الشِّرك والخلاف وربما أوْغل في بلاد العدو السِّتة الأشهر أو أكثر يَحرق ويَنْسف وله في العدو وَقيعة وادي سَليط وهي من أمهات الوقائع لم يُعرف مثلُها في الأندلس قبلها وفيها يقول عبّاس بنُ فرناس وشعرُه يَكفينا من صِفتها‏:‏ إذا أومضت فيه الصَّوارمُ خِلتَها بُروقَاً تَراءَى في الجَهام وتَسْتَخْفي كأنّ ذُرى الأعلام في سَيلانه قَراقير يَمٍّ قد عَجَزن عن القَذْف وإن طَحنت أركانُه كان قُطبُها حِجَى مَلك نَجدٍ شمائلُه عَفِّ سَمِى خِتام الأنبياءِ مُحمَّد إذا وُصف الأملاكُ جَل عن الوصْف فمن أجْله يومَ الثُّلاثاء غُدوةً وقد نَقض الإصْباح عَقْد عُرى السَّجف بَكى جبلاً وادي سَليط فأعولا على النَّفر العُبْدان والغصْبة الغُلف دعاهم صريخ الحَيْن فاجتمعوا له كما اجتمع الجُعلان للبَعْر في قُفّ فما كان إلا أنْ رماهم ببَعضها فولوا على أعْقابِ مهْزومة كًشف كأنّ مساعيرَ المَوالي عليهُم شواهينُ جادت للغَرانيقٍ بالنَسْف بنَفسي تنانير الوغَى حينَ صُفِّفت إلى الجَبَلِ المَشْحون صفّا على صَفِّ يقول ابنُ يليوسِ لموسى وقد وَنى أرى المَوت قُدّامي وتَحْتي ومِن خَلْفي قتَلناهُم ألفاً وألْفاً ومثلَها وألفاً وألفاً بعد ألفٍ إلى ألف المنذر بن محمد ثم ولي المنذرُ بن محمد يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين‏.‏

ومات يومَ السبت في غَزاة له على بُبَشتر لثلاثَ عشرةَ بقيت من صَفر سنة خمس وسبعين ومائتين وهو ابنُ ستٍّ وأربعين سنة‏.‏

وكان أشدَّ الناس شَكيمة وأمضاهم عزيمة‏.‏

ولما ولي المُلك بَعث إِليه أهلُ طُليطلة بجبايتهمِ كاملةً فردّها عليهم وقال‏:‏ استعينوا بها في حَرْبكم فأنا سائر إِليكم إن شاء الله‏.‏

ثم غزا إلى المارق المرتدّ عمر بن حَفْصون وهو بِحصْن قامره فأحْدق به وبخَيله ورَجْله فلم يجد الفاسقُ مَنفذاً ولا متنفساً فأعمل الحيلة ولاذ بالمكر والخديعة وأظهر الإتابة والإجابة وأن يكون من مُستوطني قُرطبة بأهله وولده وسأل إلحاق أولاده في الموالي‏.‏

فأجابه الأمير إلى كل ما سأل وكتب لهم الأمانات وقُطعت لأولاده الثياب وخُرزت لهم الخِفاف ثم سأل مائةَ بغل يَحمل عليها ما لَه ومتاعه إلى قُرطبة فأمر الأمير بها‏.‏

وطُلبت البغال ومَضت إلى بُبَشْتَر وعليها عشرة من العرفاء وانحلّ العسكرُ عن الحِصن بعضَ الانحلال وعكف القاضيِ وجماعة من الفقهاء على تمام الصُّلح فيما حَسبوا‏.‏

فلما رأى الفاسق الفُرصةَ انتهزها ففسق ليلاً وخَرج فلقي العُرفاء بالبغال فقَتلهم وأخذَ البغال وعاد إلى سيرتِه الأولى‏.‏

فعقد المُنذر على نفسه عقداً أن لا أعطاه صُلحاً ولا عهداً إلا أن يُلقي بيده ويَنزل على عهدِه وحُكمه ثم غَزاه الغزاة التي تُوفي فيها فأمر بالبُنيان والسّكنى عليه وأن يُردَّ سوق قرطبة إِليه فعاجله أجلُه عن ذلك‏.‏

عبد اللّه بن محمد ثم تولّى عبدُ الله بن محمد التقيّ النقيّ العابد الزاهد التالي لكتاب اللّه والقائم بحدود الله يومَ السبت لثلاثَ عشرةَ بقيَت مِن صفر سنة خمس وسبعين ومائتين‏.‏

فبنى الساباط وخرج إلى الجامع والتزم الصلاة إلى جانب المنبر حتى أتاه أجلُه رحمه اللّه يومَ الثلاثاء لليلة بقيت من صَفر سنة ثلثمائة‏.‏

وكانت له غزوات منها غَزاة بَليّ التي أنست كُلّ غزاة تقدّمتها في لك أن المُرتد ابن حَفْصون ألّب عليه كُور الأندلسَ حتى لم يبقى منها إلا قرطبة وحدها ثم أقبل في ثلاثين ألفا من أهل الكور فنزل حِصْنَ بَليّ وخرج إليه الأمير عبدُ اللّه بن محمد في أربعةَ عشرَ ألفاً من أهل قرطبة خاصة وأربعة آلاف من حَشمه ومواليه فبَرز إليه الفاسق وقد كرْدس كراديسه في سَفْح الجبل وناهضه الأميرُ عبد الله بجُمهور عسكره فلم يكن له فيهم إلا صَدْمة صادقة أزالهم بها عن معسكرهم فلم يقدروا أن يتراجعوا إِليه‏.‏

ونظر الفاسقُ إلِى مُعسكر عبد الله الأمير فإذا بمَدَد مُقبل مثل اللَّيل في انحدارِ السيل لا ينقطع فجَبُنت نفسه وعَطف إلى الحصن يظهر إخراج مَن بقي فيه فثَلم ثلمة وخَرج منها في خمسة معه وقد طار بهم جَناحُ الفرار‏.‏

فلما انتهى ذلك إلى أهل عَسكره وَلّوّا مُدبرين لا يلوي أحد على أحد فعملت الرماحُ في أكتافهم والسيوفُ في طلا أعناقهم حتى أفْنوهم أو كادوا‏.‏

وكان منهم جماعةٌ قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله فقعد الأمير في المَظلة وأمر بالتقاطهم وأن لا يَمُر أحدٌ على أحد منهم إلا قَتله‏.‏

فقُتل منهم ألف رجل صبراً بين يدي الأمير‏.‏

عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين ثم ولي الملكَ القمرُ الأزهر الأسدُ الغضنفر الميمونُ النقيبة المحمودُ الضريبة سيدُ الخلفاء وأنجبُ النجباء عبدُ الرحمن بن محمد أمير المؤمنين صبيحةَ هلال ربيع الأول سنة ثلثمائة فقلت فيه‏:‏ بدا الهلالُ جديداً والمُلك غَضُ جديدُ يا نِعْمة اللّه زِيدي ما كان فيه مَزيد وهي عدة أبيات فتولّى المُلكَ والأرض جَمْرة تحتدم ونارٌ تَضْطرم وشِقاق ونفاق فأخمد نيرانَها وسًكن زلازلها وافتتحها عَوْداً كما افتتحها بدءًا سميًّه عبدُ الرحمن بن معاوية رحمه الله‏.‏

وقد قلتُ وقيل في غَزواته كُلّها أشعار قد جالت في الأمصار وشُرِّدت في البلدان حتى أتهمت أنجدت وأعرقت ولولا أنٌ الناس مُكْتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذِكرها أو ذِكر بعضها‏.‏

ولكننا سنذكر ما سبق إلينا من مَناقبه التي لم يتقدَّمه إليها متقدم ولا أخْت لها ولا نظير فمن ذلك أوّل غَزاة غَزاها وهي الغزاة المعروفة بغَزاة المنتلون افتتح بها سبعين حِصْناً كُلّ حصن منها قد نَكلت عنه الطوائف وأعيا على الخلائف‏.‏

وفيها أقول‏:‏ قد أوضحَ اللّه للإِسلام مِنهاجَا والناسُ قد دَخلوا في الدِّين أفواجَا وقد تَزينت الدُّنيا لساكنها وكأنما ألْبست وَشْياً ودِيباجا يا بنَ الخلائف إنّ المُزن لو عَلمت نَداك ما كان منها الماءُ ثجَاجا والحربُ لو علمت بأساً تَصول به ما هًيجت من حُميّاك الذي اهتاجا ماتَ النِّفَاق وأعطى الكُفْرُ ذِمّتَه وذلّت الخَيل إلجاماً وإسراجا وأصبح النصرُ معقوداً بألْوية تَطْوي المراحلَ تَهْجِيراً وإِدْلاجا أدخلتَ في قُبة الإسلام مارقةً أخرجتَهم من ديار الشِّرك إخراجا بجَحْفل تَشْرَقُ الأرض الفضاءُ به كالبَحر يَقْذِف بالأمواج أمواجا تَرُوق فيه بُرِوق الموت لامعةً وتَسْمعون به للرَّعد أهْزَاجا غادرتَ في عَقْوتي جَيَّان مَلْحمةً أبكيتَ منها بأرض الشرِّك أعلاجا في نِصْف شهر تركتَ الأرضَ ساكنةً من بعدما كان فيها الجَوْرُ قدماجا وُجِدتَ في الخبر المأثور مُنْصلتاً مِن الخلائف خَراجاً وولاجا تُملأ بك الأرض عدلاً مثل ما مُلئت جَوْراً وتُوضِحُ للمَعروفِ مِنْهاجا يا بَدْر َظُلمتها يا شَمْسَ صُبحتها يا ليْثَ حَوْمتها إنْ هائجٌ هاجا إنّ الخلافةَ لن تَرْضىَ ولا رَضِيت حتى عَقدت لها في رَأسك التَّاجا ولم يكن مثل هذه الغَزاة لملك من الملُوك في الجاهلية والإسلام‏.‏

وله غَزاة مارشن التي كانت أخت بَدر وحُنين وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتُها في مَغازيه كُلِّها من سنة إحدى وثلثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة وأوقعناها في أسفل كتابنا لتكون جامعةً لمغازي أمير المؤمنين وجعلتُها رجزاً لخفّة الرجز وسُهولة حفظه وروايته‏.‏

ومن مَناقبه‏:‏ أن الملوك لم تزل تَبني على أقدارها وُيقضى عليها بآثارها وأنّه بَنى في المُدة القليلة ما لم تَبن الخلفاءُ في المدة الطويلة‏.‏

نعم لم يبق في القَصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليّته بِنْية إلا له فيها أثر مُحدث إما تزْييد أو تَجْديد ومن مناقبه‏:‏ أنّه أوّد من سُمِّي أميرَ المؤمنين من خلفاء بنى أمية بالأندلس‏.‏

ومن مَناقبه التي لا أخت لها ولا نَظير ما اعْجز فيه مَن بعده وقات فيه مَن قبله الجودُ الذي لم يُعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له‏.‏

وقد ذكرتُ ذلك في شعري الذي أقول فيه‏:‏ يا بن الخلائف والعُلا للمُعْتلِى والجودُ يُعْرف فضلُه للمفضل نوَهت بالخُلفاء ِبل أخْملتهم حتى كأن نَبيلهم لم يَنبُل أذْكرتَ بل أنْسيت ما ذكر الألى من فِعلهم فكأنه لم يُفعَل وأتيتَ آخرَهم وشَأوُك فائتٌ للآخِرين ومُدْرِكٌ للأوّل الآن سمَيَتِ الخلافةُ باسمها كالبَدْر يُقرَن بالسماك الأعْزل تأبَى فَعالُك أن تُقر لآخِر منهمْ وجُودُك أن يكون لِأول وهذه الأرجوزة التي ذكرَت جميع مغازيه وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة وهي‏:‏ سُبحان مَن لم تَحوه أقطارُ ولم تكنْ تُدركه الأبصارُ ومَن عَنت لوجهه الوُجوهُ فما له نِذو لا شَبيهُ سبحانَه مِن خالقِ قديرِ وعالمٍ بِخلْقه بَصير وجَلّ أن تُدْركَه العُيونُ أو يَحْوياه الوَهم والظُنونُ لكنّه يُدرَك بالقَريحه والعَقل والأبنية الصَّحِيحه وهذه مِن أثبتْ المَعارفْ في الأوْجه الغامضة اللَطائفْ معرفة العَقْل من الِإنسانِ أثبتُ من مَعرفة العِيانِ فالحمْدُ للّه على نَعْمائِه حمداًل جزيلاً وعلى آلائِه وبعد حَمْد الله والتَّمجيدِ وبعد شُكر المُبدىء المُعيدِ أقولُ في أيام خير الناسِ ومَن تحلَّى بالنَّدى وِالباس ومَن أباد الكَفُرَ وَالنفاقَا وشرًّد الفِتْنة والشقاقَا ونحنُ في حَنادسٍ كالليل وفتنة مثل غُثاء السيل حتى تولّى عابدُ الرحمنِ ذاك الأغر من بني مروانِ مُؤيدٌ حَكم في عُداته سيفاً يَسيل الموتُ من ظُباتِه وصبح المُلك مع الهلال فأصبحَا يِديْن في الْجَمَال وضاقت الأرضُ على لسُكانها وأذْكت الحربُ لظَى نيرانِها ونحنُ في عَشواء مُدلهمّهْ وظُلمة ما مثلُها من ظُلمهْ تأخذُنا الصَّيحة كُل يوم فما تَلذُ مُقْلةٌ بنَوْم وقد نُصلي العيدَ بالنواظِر مخافةً من العدوّ الثائِر حتى أتانا الغوثُ من ضِياءِ طَبًق بين الأرْض والسماء خليفة الله الذي اصطفاه على جَميع الخَلق واجْتباه مِن مَعدن الوحي وبَيْت الحِكمه وخيْر مَنسوب إلى الأئمة تَكِلُّ عن مَعروفه الجَنائبُ وتَسْتحى من جُوده السحائبُ في وَجهه من نُوره برهانُ وكفُّه تَقبيلها قُرْبانُ أحْيا الذي مات من المَكارِم من عَهد كَعْب وزَمان حاتِم مكارم يَقصُرُ عنها الوَصْف وغرِّة يَحْسرًُ عنها الطَّرفُ وشِيمة كالضابِ أو كالماء وَهِمَّة تَرِقَى إلى السماء مَن أسبغ النًّعمى وكانت مَحْقَا وفتْق الدنيا وكانت رَتقَا هو الذي جَمّع شمْلَ الأمهْ وجاب عنها دامساتِ الظُلمَه وجدَد المُلك الذي قد أخْلَقا حتى رَسَت أوتادُه واسْتَوسقَا وجَمّع العُدّة والعَدِيدا وكَثَّفَ الأجْناد والحشودا أول غزاة غزاها عبد الرحمن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد ثم انتحَى جَيّان في غَزاته بعَسكر يَسْعر من حُماتِه فاستنزل الوحشَ من الهضاب كأنما حطت من السّحاب فأذعنت مُرّاقُها سراعَاَ وأقبلت حُصونها تَداعَىَ لمَا رماها بسيوف العَزْم مَشْحوذة على دُروع الحَزْم كادت لها أنفُسهم تجودُ وكادت الأرضُ بهم تَميدُ لولا الإله زُلزلت زِلزالَها وأخْرجت من رَهْبة أثقالَها فأنزل الناسَ إلى البسط وقَطَع البَيْن من الخَليط وافتَتح الحُصونَ حِصناً حِصناً وأوْسع الناسَ جميعاً أمْنَا ولم يَزل حتى انتحى جيانَا فلم يَدَع بأرْضها شَيطانَا فأصبح الناسُ جميعاً أمّه قد عَقد الإلّ لهم والذَمّه ثم انتحى من فَوره إلْبيرَهْ وهي بِكل آفةٍ مَشهورهْ إلا كَسَاه الذُّلَّ والصّغارَا وعمَه وأهلَه دَمارَا فما رأيتُ مثلَ ذاك العام ومثلَ صُنع اللّه للإسلام فانصرفَ الأميرُ من غَزاته وقد شَفاه اللّهُ من عُداته وقبلها ما خضعت وأذعنتْ إسْتِجة وطالما قد صَنعتْ وبعدها مدينة الشِّئيل ما أذعنت للصارم الصَقيل لما غَزاها قائدُ الأمير باليُمن في لِوائهِ المنْصورِ فأسلمتْ ولم تكن بالمُسلمة وزال عنها أحمدُ بن مَسْلمهْ وبعدها في آخرِ الشُّهورِ من ذلك العام الزَّكيّ النُّورِ أرْجفت القِلاعُ والْحُصونُ كأنما ساوَرَها المَنونُ وأقبلتْ رجالها وُفودَا تبْغِي لدَى إمامها السعودَا وليس مِن ذِي عزَة وشدَه إلا توافَوْا عند باب السدَّه قُلوبهمْ باخعةٌ بالطّاعَهْ قد أجْمعوا الدُّخولَ في الجَماعهْ ولم يَدَعْ رَيَّةَ والجزيرة حتى كَوى أكلبَها الهريرَه حتى أناخ في ذُرى قَرْمونَه بكَلْكل كمَدْرة الطاحُونه على الذي خالَف فيها وانتزَى يعْزى إلى سوادة إذا اعتزَى فسال أنْ يُمهله شُهورَا ثم يكون عبدَه المأمُورَا فأسعف الأميرُ منه ما سألْ وعاد بالفَضْل عليه وقَفلْ سنة اثنتين وثلثمائة كان بها القُفول عند الجَيّه من غَزْو إحدى وثَلثماية فلم يَكن يُدرَك في باقيها غَزْو ولا بَعْث يكون فيها سنة ثلاث وثلثمائة ثُمت أغزى في الثلاث عَمَّهْ وقد كَساه عَزْمَه وحَزْمهْ فسار في جَيْش شديدِ الباس وقائدُ الجيْش أبو العبَّاس حتى تَرقّى بذُرى بُبَشْتَرْ وجالَ في ساحاتها بالعَسْكرْ ثم انثنى من بعد ذاك قافلا وقد أباد الزَرع والمآكِلاَ فأيقن الخِنزيرُ عِند ذاكا أنْ لا بقَاء يُرتَجى هُناكا فكاتَب الإمامَ بالإجابَه والسمْع والطّاعة والإنابه فأخْمد اللّهُ شِهابَ الفِتْنه وأصْبح الناسُ معاً في هُدْنه وارتعت الشاةُ معاً والدِّيبُ إذا وَضعت أوزارَها الحُرُوبُ سنة أربع وثلثمائة وبعدها كانت غَزاة أرْبع فأي صُنْع ربنا لم يَصْنَع فيها ببَسْط المَلِك الأواهِ كِلْتا يَديهِ يا سَبيل اللّهِ وذاك أنْ قَوَّد قائدَيْنِ بالنَّصر والتّأييد ظاهرَيْنِ هذا إلى الثغر وما يَليهِ على عدوّ الشِّرك أو ذَويهِ وذا إلى شُمِّ الرُّبا من مُرْسِيَه وما مَضى جرى إلى بَلَنْسيَه فكان مَن وَجّهه للساحلْ القرشيًّ القائد القنابلْ وبعد هذي الغَزْوة الغَرّاءَ كان افتتاحُ لَبْلة الحَمْراءِ أغزَى بجُند نحوَها مَولاهُ في عُقْب هذا العام لا سِواهُ بَدرًا فضمّ جانبيها ضَمَّة وغَمها حتى أجابت حُكمه وأسْلمت صاحبَهما مَقهورَا حتى أتى بدرٌ به مَأسُورَا سنة خمس وثلثمائة وبعدها كانت غَزاةُ خَمْس إلى السَّوَادِيّ عقيدِ النَّحْس لما طَغى وجاوز الحُدودَا ونَقض الميثاقَ والعُهودَا ونابذَ السُّلطانَ مِن شَقائِهِ ومِن تَعدِّيه وسُوء رائهِ أغزى إليه القُرشيَّ القائدَا إذ صار عن قَصْد السبيل حائِدَا ثُمَّت شدَّ أزرَه ببَدْرِ فكان كالشَّفع لهذا الوترِ أحدَقها بالخيل والرجال مُشمِّراً وجدَّ في القتال فنازل الحِصنَ العظيمَ الشانِ بالرّجْل والرُّماة والفُرسانِ فافترق الأصحابُ عن لوائِه وفَتحوا الأبوابَ دُون رائهِ واقتحم العَسكرُ في المدينهْ وهُو بها كهَيْئة الظعينهُ مستسلماً للذًّل والصّغار وملقياً يَديه للإسارِ فنزَع الحاجبُ تاجَ مُلْكهِ وقادَه مُكَتَفا لهُلْكه وكان في آخر هذا العام نَكْب أبي العبَّاس بالإسلام غَزا وكان أنجدَ الأنجادِ وقائدا من أفحل القوادِ فسار في غيْر رجال الحَرْبِ الضاربين عند وَقْت الضَّربِ مُحارباً في غير ما مُحارب والحَشَمُ الجُمهور عند الحاجب واجتمعت إليه أخلاطُ الكُوًرْ وغاب ذو التَّحصيل عنه والنَّظر حتى إذا أوغل في العَدُو فكان بين البُعد والدُّنوَ أسلمه أهلُ القُلوب القاسيهْ وأفْردوه للكِلاب العاوَيهْ فاستشهد القائدُ في أبْرارِ قد وَهَبوا نُفوسَهم للبارِي ثم أقاد الله من أعْدائه وأحْكم النصرَ لأِوْليائِه في مَبدأ العام الذي مِن قابل أزْهق فيه الحقُّ نَفْس الباطل فكان مِن رأيِ الإمام الماجدِ خَيْرِ مَولودٍ وخَيْر والدِ أنِ احتمَى بالواحِد القهَارِ وفاضَ من غَيظ على اَلكُفارِ فجمَّع الأجنادَ والحُشودَا ونَفرّ السيد والمَسودَا وحَشر الأطرافَ والثُّغورَا ورَفض اللّذاتِ والحُبورَا حتى إذا ما وَفت الجُنودُ واجتَمع الحُشّادُ والحُشودُ قوَد بدراً أمَر تلك الطائفهْ وكانت النفسُ عليه خائفَهْ فسار في كَتائب كالسَّيل وعَسكَرٍ مِثل سَوادِ الليل حتى إذا حَلّ على مُطْنيّه وكان فيها أخبثُ البريهْ ناصبَهم حرباً لها شرار كأنما أضرمَ فيها النارُ وجدّ من بينهمُ القتالُ وأحْدقت حولَهم الرجالُ لما رأوْا سحائبَ المَنيّه تُمطرهم صَواعِق البَليه تَغَلْغَل العُجم بأرض العُجم وانحشَدوا مِن تحت كلِّ نَجم فأقبَل العِلْجُ لهم مُغِيثَا يومَ الخَمُيس مُسْرعاً حَثِيثَا بين يديِه الرَّجلُ والفَوارسُ وحوله الصُّلبان والنَّواقس وكان يَرجو أن يُزيل العَسْكرَا عن جانب الحِصْنِ الذي قد دُمَرا فاعتاقَه بدرٌ بمن لَدَيهِ مُستبصراً في زحفِه إليْهِ حتى التقت ميمنة بمَيْسرة واعتنّت الأرْواحُ عند الْحَنْجره ففاز حِزْبُ اللّهِ بالعِلْجان وانهزمت بطانةُ الشيطانِ فقُتِّلوا قتلاً ذَرِيعاً فاشيَا وأدبَر العِلْجُ ذَمِيماً خازيا وانصَرفَ الناسُ إلى القُليعه فصبّحوا العَدوّ يومَ الجُمعة ثم التَقى العِلْجان في الطّريق البنلوني مع الجلقي فاعقدا على انتهاب الْعَسكرِ وأن يَموتا قبل ذَاك اْلمحْضر فأشرعت بَينهم الرماح وقد علا التَكبير والصياحُ وفارقت أغمادَها السيوف وفَغرت أفواهَها الحُتوفُ والتقت الرجالُ بالرجال وانغمسوا في غَمْرة القتال في مَوْقفٍ زاغتْ به الأبصارُ وقَصرُت في طُوله الأعمارُ وهبّ أهلُ الصَبر والبَصائِر فأوعقوا على العدوّ الكافِر حتى بدت هزيمةُ البُشكنس كأنَه متضب بالوَرْسِ فانقضت العِقبان والسَّلالقَهْ زَعْقاً على مُقدَّم الجلالقَهْ عُقبان مَوْتِ تَخطِف الأرواحَا وتُشبع السيوفَ والرِّماحَا فانهزم الخنزيرُ عند ذاكَا وانكشفتْ عورته هُناكَ فقُتَلوا في بَطن كلِّ وادِي وجاءت الرؤوس في الأعْوادِ وقَدّم القائدُ ألفَ راس مِن الجَلاليق ذَوي العماس فتمّ صُنع اللّه للإسلام وعمّنا سرورُ ذاك العام سنة سبع وثلثمائة وبعدها كانت غَزاةُ بَلْده وهي التي أوْدَت بأهل الردَه وبَدْؤُها أنَ الإمام المصطَفى أصدقَ أهل الأرض عدلاً ووَفَا لما أتته مِيتةُ الْخِنْزِيرِ وأنه صار إلى السعيرِ كاتَبه أولادُه بالطاعَهْ وبالدُخول مَدْخل الجَماعَهْ وأن يُقِرَّهم على الولايَهْ على درور الخَرْج والجِبايَهْ فاختارَ ذلك الإمامُ المُفْضِلُ ولم يزَل مِن رأيهِ التفضلُ ثم لَوى الشيطانُ رأسَ جَعفرِ وصارَ منه نافخاً في المُنْخُر فنقَضَ العُهودَ والميثاقَا واستعمل التشغيب والنَفاقَا وضَم أهلَ النُكْث والخلافِ من غير ما كافٍ وغير وافي فاعتاقَه الخليفة المَؤيّد وهو الذي يشقى به ويسعد مَن عليه مِن عُيونِ اللّهِ حوافظٌ مِن كلَ أمرٍ داهِي حتى إذا مَر بحِصْن بَلْدهْ خَلَّف فيه قائداً في عِدَهْ يَمنعهم مِن انتِشار خَيله وحارساً في يَومه ولَيلهمْ ثم مَضى يستنزلُ الحُصونَا ويبعث الطلاّع والعُيونَا حتى أتاه باشرٌ من بَلْدَهْ يعدو برأس رأسِها في صَعْدَهْ فقدَم الخيْل إليها مُسرعَا واحتلّها مِن يومه تَسرُّعَا فحفّها بالخيْل والرُّماةِ وجُملةِ الحُماة والكُماةِ فاطّلع الرجْلُ على أنْقابها واقتحم الجُندُ على أبوابها فأذعنتْ ولم تَكُن بمُذعِنهْ واستسلمت كافرةُ لمؤمِنَهْ فقُدَمت كُفّارها للسّيفِ وقتَلوا بالحَق لا بالحَيفِ وذاك مِن يُمن الإمام المُرْتَضىَ وخير مَن بَقِي وخير من مَضىَ ثم انتحى من فوره بُبَشترَا فلم يدَعْ بها قضيبَاً أخضرَا وحَطَّم النباتَ والزُروعَا وهَتك الرِّباع والربوعا فوثق الإمامُ من رِهانهِ كَيلا يكونَ في عَمى من شانِه وقبِل الإمامُ ذاك منهُ فضلاً وإحساناً وسار عنهُ سنة ثمان وثلثمائة ثمِ غزا الإمامُ دارَ الْحَرب فكان خطباً يا له من خَطب فحُشدت إليه أعلامُ الكُورْ ومَن له في النَاس ذِكرٌ وخطر إلى ذَوي الدَيوان والرياتِ وكُلِّ مَنسوب إلى الشَاماتِ وكل مَن أخلص للرحمن بطاعةٍ فيً السر والإعلانِ وكلَ مَن طاوع في الجهاد أو ضمه سَرْج على الجياد فكان حشداً ياله من حشدِ من كُل حُرٍ عندنا وعَبدِ فتحسبُ الناسَ جراداً مُنتشرْ كما يقول ربُّنا فيمن حُشر ثم مَضى المُظَفَّر المنصورُ على جَبِينه الهُدى والنُورُ أمامه جُند من الملائكهْ آخذة لربها وتاركهْ فزُلزلت أقدامُهم بالرُّعب واستُنْفِروا من خوف نار الحَرْب واقتحموا الشِّعابَ والمَكامنَاَ وأسْلموا الحُصونَ والمَدائنَاَ فما بقِي من جَنَبات دُورِ مِن بَيعة لراهب أو دَيْرِ إلا وقد صَيَرها هباءَ كالنَار إذ وافقت الأباءَ وزَعزعت كتائبُ السلطانِ لكُل ما فيها من البنْيانِ فكان مِن أول حِصْن زَعْزعُوا ومَن له منِ العدوَ أوْقعُوا مَدينة معْرُوفة بوَخْشَمَهْ فغادروها فحمةً مُسخمهْ ثم ارتقوا منها إلى حَواضر فغادروها مثلَ أمس الدابرِ ثم مَضوْا والعلج يَحْتذيهمُ بجَيْشه يَخشى ويَقْتفيهمُ حتى أتوا تواً لوادِي ديّ ففيه عفِّى الرُّشدُ سبُلَ الغيّ لما الْتقوْا بمَجمع الجَوْزينِ واجتمعت كتائبُ العِلْجين مِن أهل ألْيون وبَنبلونَهْ وأهل أرنيط وبَرْشلونَهْ ورِدُها متصل برِدِّ يُمده بحر عظيمُ المَدِّ فانهزم العِلجان في عِلاج ولَبسوا ثوباً من العَجاج كلاهما يَنظُر حيناً خَلفَهُ فهو يَرى في كُلِّ وَجْهٍ حتْفهُ والبِيض في إِثرِهم والسمْرُ والقَتْل ماضٍ فيهمُ والأسْرُ فلم يكن للناس منْ بَراح وجاءت الرُّؤوس في الرِّماح فأمر الأميرُ بالتَقْويض وأسرْع العَسكَرُ في النًّهوض فصادفُوا الجُمهور لما هُزمُوا وعاينوا قُوّادَهم تُخرِّمُوا فدخلوا حديقَةً للموتِ إذ طَمِعوا في حصْنها بالفَوْتِ فيالَها حديقةً ويالَها وافتْ بها نفوسهم آجالَها تحضنوا إذ عاينوا الأهْوالا لمَعقلٍ كان لهم عِقالا وصَخرة كانت عليهم صَيْلمَا وانقلبوا منها إلى جَهنما تساقطوا يستطعمون الماءَ فأخرجت أرواحُهم ظِماءَ مُصمماً بحرْب دار الحرب قُدّامَه كتائبٌ من عُرْب فداسَها وسامَها بالخَسْفِ والهتكِ والسفك لها والنَّسْفِ فحرّقوا ومزقوا الحُصونا وأسْخنوا من أهلها العُيونَا فانظُر عن اليمين واليسارِ فما تَرى إلا لهيبَ النارِ وأصبحتْ ديارُهم بلاقعَا فما تَرى إلا دخاناً ساطعَا ونُصر الإمامُ فيها المصطفى وقد شَفى من العدو واشتَفى سنة تسع وثلثمائة وبعدها كانت غَزاة طرشْ لسَما إليها جيشه لم يُنْهَشْ وأحدقتْ بحِصْنها الأفَاعي وكُل صِل أسْود شُجاع ثم بَنى حِصْناً عليهِا راتِبَا يَعتور القوّادُ فيهِ دائبَا حتى أنابتْ عَنوةَ جِنانُها وغابَ عن يافوخها شَيطانُها فأذعنتْ لسيد السادات وأكرم الأحياء والأمواتِ واستحجب الإمامُ خيْرَ حاجب وخيْرَ مَصحوب وخَير صاحبِ مُوسى الأغَرّ من بني جُدَيرِ عَقيد كُل رأفةٍ وخَير سنة عشر وثلثمائة وبعدها غَزِاةُ عشرْ غَزْوَهْ بها افتتاحُ منتلون عَنوَهْ غزا الإمامُ في ذوي السلطان يَؤُمّ أهلَ النُّكْث والطغيانِ فاحتلّ حِصْن منتلوِن قاطعَا أسباب مَن أصبح فيه خالعَا سارَ إليه وبَنى عليه حتى أتاهُ مُلْقِياً يَدَيْه ثم انثنى عنه إلى شَذُونَهْ فعاصَها سهلاً من الْحُزونَهْ وساقَها بالأهل والوِلدانِ إلى لُروم قُبّة الإيمانِ ولم يَدَعْ صَعْبًا وَلا منيعاً إلا وقد أذلهَم جميعَا ثم انثنَى بأطيبِ القفُول كما مَضىَ بأحسنِ الفضول سنة إحدى عشرة وثلثمائة فاحتلّ مِن بُبَشْتَر ذَراها وجال في شاطٍ وفي سواها فخرّب العُمران من بُبَشْتَرِ وأذعنت شاطُ لربِّ العَسكرِ فأدخل العدة والعديدَا فيها ولم يَتركْ بها عَنِيدَا ثم انتَحى بعدُ حُصونَ العُجْم فداسها بالقَضْم بعد الخَضْم ما كان في سواحل البُحورِ منها وفي الغاباتِ والوُعور وأدخل الطاعةَ في مكانِ لم يدْر قط طاعةَ السلطانِ ثم رَمى الثغرَ بخير قائدِ وذادهم عنه بخير ذائد به قما اللّهُ ذوي الإشراكِ وأنقذ الثغرَ من الهلاكِ وانتاش من مَهْواتها تُطِيلَهْ وقد جرت دماؤُها مَطلُولَهْ وطَهر الثغرَ وما يَليهِ من شِيعةِ الكُفر ومن ذَويهِ ثم انثنى بالفَتح والنجاح قد غيّر الفسادَ بالصلاح سنة اثنتي عشرة وثلثمائة غزا وسيفُ النّصر في يَمينه وطالعُ السٌعدِ على جَبينه وصاحبُ العَسكر والتدبير موسى الأغرُّ حاجب الأمير فدمَّر الحُصونَ من تُدْمِير واستنزل الوحشَ من الصخورِ فاجتمعتْ عليه كُلّ الأمهَ وبايعته أمراء الفتنة حتى إذا أوعب من حصونها وجمَّل الحق على مُتونها مَضى وسار في ظلال العَسكرِ تحت لواءِ الأسد الغَضَنْفَرِ رجال تُدمير ومَن يليهمُ من كلّ صِنفٍ يعتزى إليهم حتى إذا حَلَّ على تُطيله بكت على دمائها المَطلولَهْ وعِظْم ما لاقت من العدو والحرب في الَّرواح والغدوِّ فهمّ أن يديخ دار الحرب وأن تكَونَ رِدأهُ في الدَرْب ثم استشار ذا النُّهى والحِجْرِ من صَحْبِه ومِن رجال الثغْر فكُلهم أشار أن لا يُدْرِبا ولا يَجوز الجبل المُؤشبا وأن أديخ أرض بَنْبلونَهْ وساحة المدينة الملْعُونَهْ وكان رأيا لم يكُن من صاحب ساعدَه عليه غيرُ الحاجبِ فاستنصر الله وعبى ودَخلَ فكان فتحاً لم يكُن له مَثَلْ لما مَضى وجاوز الدروبَا وادّرعٍ الهَيْجاء والحُروبَا عبَّى له عِلْجٌ من الأعلاج كتائبا غَطت على الفِجاج فاستنصرَ الإمامُ رب الناس ثم استعان بالندى والباس وعاذ بالرَّغْبَةِ والدُّعاء واستنزل النصرَ مِن السماءِ فقدَم القوَّادَ بالحُشود وأتْبع المُدود بالمدودِ فانهزم العلجُ وكانت مَلْحَمَهْ جاوز فيها الساقةُ المُقدَمهْ فقُتَلوا مَقتلة الفَناءِ فارتوت البِيضُ من الدَماءِ ثم أمال نحوَ بَنْبلونهْ واقتحم العسكرُ في المَدينهْ حتى إذا جاسوا خلالَ دُورها وأسرع الخرابُ في مَعْمورها وكم بها حَقّر من كنائِس بدَّلت الآذان بالنواقِس يَبكي لها الناقوس والصَّليبُ كلاهما فَرض له النحيبُ وانصرَفَ الإمامُ بالنجاح والنصرِ والتأييدِ والفلاح ثم ثَنى الراياتِ في طريقِه إلى بَني ذي النون من تَوفيقِه فأصبحُوا من بَسْطهم في قَبْض قد ألصقت خدودُهم بالأرض حتى بدَوْا إليه بالبرهانِ من أكبر الأباء والوِلْدانِ فالحمدُ للّه على تأييدِه حمداً كثيراً وعلى تسديدِه سنة ثلاث عشرة وثلثمائة ثم غزا بيُمنه أشُونا وقد أشادُوا حولها حُصونَا وحَفَها بالخيل والرجال وقاتلوهم أبلغَ القِتال حتى إذا ما عاينُوا الهلاكَا تبادروا بالطَوْع حينذاكَا وأسلمُوا حِصْنَهمُ المنِيعَا وسَمحوا بخَرْجهم خُضوعَا وقبلَهم في هذه الغَزاةِ قد هُدَمت معاقل العُصاةِ ومَن سواهم من ذوي العشيرَهْ وأمراء الفتنةِ المُغيرَة إذ حُبسوا مراقباً عليهمُ حتى أتوا بكل ما لديهمُ من البنينَ والعيال والحشمْ وكلّ من لاذ بهم من الخَدَمْ فهَبطُوا من أجمَع البُلدانِ وأسكنُوا مدينةَ السلطانِ فكانَ في آخِر هذا العام بعد خُضوع الكُفرِ للإسلام مشاهدٌ من أعظم المَشاهِد على يَدَي عبد الحميد القائدِ لما غَزا إلى بنى ذي النون فكان فتحاً لم يَكُن بالدُّونِ إذ جاوزوا في الظلْم والطُّغيانِ بقَتْلهم لعامِل السُلطانِ وحاولُوا الدُخولَ في الأذيّة حتى غزاهمْ أنجد البرِيّة فعاقَهم عنْ كلَ ما رَجَوْهُ بنَقضه كُلّ الذي بنوه وضَبْطه الحِصْن العظيمَ الشانِ أشنين بالرَّجْل وبالفُرسانِ ثم مَضى الليثُ إليهم زحفاً يَختطِفُ الأرواحَ منهم خَطْفَا ثم لجوا إلى طِلاب الأمنِ وبَذْلهم ودائعاً من رَهْنِ فقبضت رِهانُهم وأمَنوا وأنْغَضوا رؤوسَهم وأذْعنوا ثم مَضى القائدُ بالتأييدِ والنصر من ذي العَرْش والتسدِيد حتى أتى حِصْن بني عِمَارَهْ والحرْبُ بالتّدْبير والإدارَهْ فافتتح الحِصْنَ وخلى صاحبَهْ وأمَن الناسَ جميعاً جانبَهْ سنة أربع عشرة وثلثمائة لم يَغْزُ فيها وغَزَتْ قُوادُه واعتورت ببُشْترا أجنادُهُ فكلهم أبلَى وأغنَى واكتفَى وكُلُهم شَفَى الصُدورَ واشتفَى ثم تلاهم بعدُ لَيثُ الغِيل عبدُ الحميدِ من بني بسيل هو الذي قامَ مقامَ الضَّيغَم وجا في غَزاتِه بالصَيلم برأس جالوتِ النّفاق والحسَدْ من جُمَع الخِنزيرُ فيه والأسدْ فهاكه مع صحبه في عِدَّة مُصلَبين عند باب السُّدَّة كأنه من فَوقها أسْوارُ عيناه في كلتيهما مِسْمارُ مباشراً للشمس والرياح على جوادٍ غير ذي جِماح يقول للخاطر ِبالطَريقِ قولَ مُحبٍّ ناصح شفِيقِ هذا مقام خادِمٍ الشيطانِ ومَن عَصى خليفةًَ الرحمن فما رأينا واعظًا لا يَنْطقُ أصدَق منه في الذي لا يَصدق فقُل لمن غُرّ بسُوء رائِه يَمُت إذا شاء بمثل دائِه كم مارقٍ مَضىَ وكم مُنافقِ قد ارتقى في مِثل ذاك الحالِقِ وعاد وهْوَ في العصا مُصلْب ورأسهُ في جِذْعه مُركَب فكيف لا يعتبر المخالفُ بحال مَن تطلبه الخلائفُ أما تراه في هَوان يرتعُ معتَبراً لمن يَرَى ويسمَعُ سنة خمس عشرة وثلثمائة فيها غَزا معتزما ببُشْترا فجال في ساحتها ودمرَا حتى رأى حَفْصٌ سبيلَ رُشدِه بعد بُلوغ غايةٍ من جُهدِه فدان للإمام قصداً خاضعَا وأسلمَ الحِصنَ إليه طائعَا سنة ست عشرة وثلثمائة لم يَغْزُو فيها وانتحَى بُبَشْترا فرمَّها بما رَأى ودَبرا واحتلّها بالعزّ والتَمكينِ ومَحْو آثارِ بني حَفْصونِ وعاضَها الإصلاحَ من فسادهمْ وطَهّر القبورَ من أجسادهمْ حتى خَلا مَلْحودُ كل قَبْر من كل مُرتَدٍّ عظيم الكُفْرِ عِصابةٌ من شيعةِ الشَيطانَ عدوّة لله والسلطانِ فخُرّمت أجسادها تخرّما وأصليت أرواحهم جَهَنَمَا ووجِّه الإمامُ في ذا العام عبدَ الحميد وهو كالضرغام إلى ابن داودَ الذي تقلَّعا في جبلَيْ شَذُونة تمنعا فحطّه منها إلى البسيط كطائر آذنَ بالسقوطِ وبعد سَبعَ عَشرةَ وفيها غزا بَطَلْيَوْس وما يليها فلم يَزل يَسوِمها بالخَسْف ويَنْتحيها بسُيوِف الحَتْفِ حتى إذا ما ضم جانبَيْهَا محاصراً ثم بنى عَلَيْها خلى ابنَ إسحاق عليها راتبَا مُثابراً في حَرْبِه مُواظبَا ومَر يَسْتقصي حصونَ الغَرْب وَيبتليها بوَبيل الحَرْبِ حتى قضىَ منهنَ كلَّ حاجَهْ وافتُتحتْ أكْشونيَة وباجَهْ وبعد فَتْح الغَرْب واستقصائِه وحَسْمِهِ الأدْواء من أعدائِهِ لجّت بَطَلْيوسُ عَلى نِفاقِهَا وغرّها اللَّجاجُ من مُرٌاقِهَا حتى إذا شافهت الحتوفَا وشامت الرماحَ والسُيوفا دعا ابنُ مَروان إلى السلطان وجاءَه بالعَهْد والأمان فصار في توْسعةِ الإمام وساكناً في قُبة الإسلام سنة ثماني عشرة وثلثمائة وشدَها بابن سَليم قائدَا مجالداً لأهلها مُجاهدَا فجاسَها في طُول ذاك العام بالخَسْف والنَّسف وضَرْب الهام سنة تسع عشرة وثلثمائة ثم أتى رِدْفاً له دُري في عسكرٍ قضاؤُه مقضي فحاصروها عامَ تسعَ عَشرَهْ بكلٌ مَحبُوكٍ القُوى ذي مِره ثم أتاهم بعد بالرجال فقاتلوهم أبلغَ القِتالِ سنة عشرين وثلثمائة حتى إذا ما سلفت شُهورُ من عام عِشْرين لها ثبورُ ألقت يديها للإمام طائعَهْ واستسلمت قسراً إليه باخعه فأذعنتْ وقبلها لم تُذْعن ولم تَقُد من نَفْسها وتُمْكنِ ولم تَدِنْ لربِّها بدين سبعاً وسَبعين من السِّنين ومُبتدى عشرين مات الحاجبْ مُوسى الذي كان الشهابَ الثاقبْ مدينةُ الشِّقاق والنفاقِ وموئل الفساق والمُراقِ حتى إذا ما كان منها بالأمم وقد ذَكا حَرّ الهَجير واحتدمْ أتاه واليها وأشياخُ البَلدْ مستسلمين للإمام المعتمدْ فوافقوا الرحبَ من الإمام وأنزِلوا في البِرِّ والإكرام ووجّه الإمامُ في الظهيرةَ خيلاً لكي تدخل في الجَزِيرَه جريدةٌ قائدُها دري يَلمع في متونها الماذيّ فاقتحمُوا في وَعْرها وسَهلَها وذاك حينَ غفلةٍ من أهلهَا ولم يكن للقوم من دفاع بَخيل دريّ ولا امتناعٍ وقوّض الإمامُ عند ذلكا وقلبه صَبٌّ بما هنالكَا حتى إذا ما حلَّ في المدينَهْ وأهلُها ذليلةٌ مَهينَهْ أقمعها بالخيل والرجال من غير ما حرب ولا قِتال وكان من أوّل شيء نظرَا فيه وما رَوى له ودبَّرَا حتى استوى فيها بناء مُحكمُ فحَلّه عاملُه والحشمُ فعند ذاك أسلمت واستسلمت مدينةُ الدّماء بعد ما عَتَبْ سنة إحدى وعشرين وثلثمائة فيها مَضى عبد الحميد مُلتئمْ في أهبة وعُدّة من الحَشَمْ حتى أتى الحصنَ الذي تَقلَعَا يحيى بن ذي النون به وامتنعَا فحطّه من هَضبات ولبِ من غير تعْنيت وغير حَرْبِ إلا بترْغيب له في الطاعهْ وفي الدُخول مَدْخل الجماعَهْ حتى أتى به الإمامَ راغبَا في الصفح عن ذُنوبه وتائبَا فَصفح الإمامُ عن جنايتِهْ وقَبْل المبذولَ من إنابِتْه وردِّه إلى الحُصون ثانيَا مُسجّلا له عليها وَاليَا سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة ثم غزا الإمامُ ذو المَجدينِ في مُبتدا عشرين واثنتين كأنهم جِنُّ على سَعالي وكُلهم أمضىَ من الرِّئبال فاقتحمُوا مُلوندة ورومَهْ ومِن حَواليها حصون حيمهْ حتى أتاه المَارقُ التّجيبِي مُستجدياً كالتائِب المُنيبِ تخَصَّه الإمامُ بالترحيبِ والصَفح والغُفران للذُّنوبِ ثم حَباه وكَساه ووَصَلْ بشاحج وصاهلٍ لا يُمْتَثلْ كلاهُما من مَركب الخلائفِ في حِلْية تعْجِزُ وصفَ الواصفِ وقال كُن منّا وأوطَن قُرْطبَه نُدنيك فيها من أجلِّ مَرْتبة تكن وزيراً أعظمَ الناس خَطَرْ وقائداً تَجْبي لنا هذا الثّغَرْ فقال إني ناقةٌ من عِلَّتي وقد تَرى تغيري وصفرتيِ فإِن رأيتَ سيدي إمْهالِى حتى أرمّ من صَلاح حالي ثم أوافيك على استعجال بالأهل والأولادِ والعِيال وأوثق الإمامَ بالعهودِ وجَعل اللّه من الشهودِ واكتفلتْ بكُلِّ بنبلونى وأطلقت أسرى بني ذي النّونِ فأوعدَ الإمامُ في تَأمينهَا وتكّبَ العسكرَ عن حُصونهَا ثم مَضى بالعزِّ والتَمكين وناصراً لأهل هذا الدّينِ في جُملة الراياتِ والعساكرِ وفي رِجال الصّبر والبَصائرِ إلى عِدَى اللّه من الجلالقِ وعابدِي المَخلوقِ دون الخالقِ فدمَّروا السُّهولَ والقِلاعَا وهَتكوا الربوع والرِّباعَا وخَربوا الحُصونَ والمدائنَا وأنفروا من أهلها المَساكنَا فليس في الدِّيار من ديارِ ولا بها من نافخٍ للنارِ فغادروا عُمْرانَها خرابَا وبَدّلوا رُبوعها يَبابَا وبالقِلاع أحْرقوا الحُصونَا وأسْخنوا من أهلها العُيونا ثم ثَنى الإِمامُ من عِنانِه وقد شَفى الشَجيّ من أشجانِه وأمّن القِفارَ من أنجاسها وطهَر البلادَ من أرجَاسِهَا