الجزء الثاني - ‏كتاب اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا والفكاهات والملح

‏كتاب اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا والفكاهات والملح

قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله‏:‏ قد مضى قولنا في الطعام والشراب وما يتولد منهما وينسب إليهما‏.‏

ونحن قائلون بما ألفناه في كتابنا هذا من الفكاهات والملح التي هي نزهة النفس وربيع القلب ومرتع السمع ومجلب الراحة ومعدن السرور‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت ‏"‏‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه‏:‏ أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان‏.‏

والنفس مؤثرة للهوى آخذة بالهوينى جانحة إلى اللهو أمارة بالسوء مستوطئة للعجز طالبة للراحة نافرة عن العمل فإن أكرهتها أنضيتها وإن أهملتها أرديتها‏.‏

ودخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه عمر وهو ينام نومة الضحى فقال‏:‏ يا أبت أتنام وأصحاب الحوائج راكدون ببابك قال‏:‏ يا بني إن نفسي مطيتي فإن أنضيتها قطعتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه‏.‏

وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا خير فيمن لا يطرب ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ كل كريم طروب ‏"‏‏.‏

وقال هشام بن عبد الملك‏:‏ أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعماً وشممت الطيب حتى ما أجد له رائحة وأتيت النساء حتى ما أبالي امرأة أتيت أم حائطاً ما وجدت شيئاً ألذ إلي من جليس تسقط بيني وبينه مؤونة التحفظ‏.‏

وقيل لعمر بن العاصي‏:‏ ما ألذ الأشياء قال‏:‏ ليخرج من ها هنا من الأحداث‏.‏

فخرجوا فقال‏:‏ ألذ الأشياء إسقاط المروءة‏.‏

وقيل لمسلمة بن عبد الملك‏:‏ ما ألذ الأشياء فقال‏:‏ هتك الحياء واتباع الهوى‏.‏

وهذه المنزلة من إهمال النفس وهتك الحياء قبيحة كما أن المنزلة الأخرى من الغلو في الدين والتقشف في الهيئة قبيحة أيضاً وإنما المحمود منها التوسط وأن يكون لهذا موضعه وهذا موضعه‏.‏

وقال مطرف بن عبد الله لولده‏:‏ ‏"‏ يا بني إن الحسنة بين السيئتين - يريد بين المجاوزة والتقصير - وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ‏"‏‏.‏

وفي بعض الكتب المترجمة‏:‏ إن يحنا وشمعون كان من الحواريين وكان يحنا لا يجلس مجلساً إلا ضحك وأضحك من حوله وكان شمعون لا يجلس مجلساً إلا بكى وأبكى من حوله فقال شمعون ليحنا‏:‏ ما أكثر ضحكك كأنك قد فرغت من عملك فقال له يحنا‏:‏ ما أكثر بكاءك كأنك قد يئست من ربك فأوحى الله إلى المسيح‏:‏ أن أحب السيرتين إلي سيرة يحنا‏.‏

وفي بعض الكتب أيضاً أن عيسى بن مريم لقي يحيى بن زكريا فتبسم إليه يحيى فقال له عيسى‏:‏ إنك لتبسم تبسم آمن‏!‏ فقال له يحيى‏:‏ إنك لتعبس عبوس قانط‏!‏ فأوحى الله إلى عيسى‏:‏ ‏"‏ إن الذي يفعل يحيى أحب إلي ‏"‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم دخل نعيمان الجنة ضاحكاً لأنه كان يضحكني ‏"‏‏.‏

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو أرمد فوجده وهو يأكل تمراً فقال له‏:‏ أتأكل تمراً وأنت أرمد فقال‏:‏ إنما آكل من الجانب الآخر‏.‏

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه‏.‏

وكانت سويداء لبعض الأنصار تختلف على عائشة فتلعب بين يديها وتضحكها وربما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فيجدها عندها فيضحكان جميعاً ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فقدها فقال‏:‏ يا عائشة ما فعلت السويداء قالت له‏:‏ إنها مريضة‏.‏

فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم يعودها فوجدها في الموت فقال لأهلها‏:‏ إذا توفيت فآذنوني‏.‏

فلما توفيت آذنوه فشهدها وصلى عليها وقال‏:‏ ‏"‏ اللهم إنها كانت حريصة على أن تضحكني فأضحكها فرحاً ‏"‏‏.‏

وقيل لأبي نواس‏:‏ قد بعثوا إلى أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما فقال أما أبو عبيدة فإن خلوه وسفره قرأ عليهم أساطير الأولين والآخرين وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد طرب الصالحون وضحكوا ومزحوا‏.‏

وإذا مدحت العرب رجلاً قالوا‏:‏ هو ضحوك السن بسام الهشيات هش إلى الضيف‏.‏

وإذا ذمته قالت‏:‏ هو عبوس الوجه جهم المحيا كريه المنظر حامض الوجنة كأنما وجهه بالخل منضوح وكأنما أسقط خيشومه بالخردل‏.‏

وكتب يحيى بن خالد إلى الفضل ابنه وهو بخراسان‏:‏ ‏"‏ يا بني لا تغفل نصيبك من الكسل ‏"‏‏.‏

وهذا حرف جامع لما قصدناه من هذا المعنى لأن بالكسل تكون الراحة وبالراحة يثوب النشاط وبالنشاط يصفو الذهن ويصدق الحس ويكثر الصواب‏.‏

قال الشاعر‏:‏ ولنا ما كان فينا من فساد وصلاح الهيثم بن عدي قال‏:‏ رأيت هشام بن عروة قد اجتمع إليه أصحاب الحديث يسألونه فقال لهم‏:‏ يا قوم أما ما كان عندي من الحلال والحرام والسنة فإني لا أستحل أن أمنعكموه وأما ملحي فلا أعطيكموها ولا كرامة‏.‏