الجزء الرابع - العشائر العدنانية - العشائر المتحيرة

العشائر المتحيرة

العشائر المختلف فى نسبها لاتعد متحيرة. وانما تعتبر العشائر المجهولة النسب أو التى لا يعرف أصلها. وقلَ ما هو من هذا القبيل. وغالب ما ينسب الى الموطن هذا شأنه ولكننا نعلم انتساب عدد من هؤلاء.

أما الصليب فانهم بلا شك من العرب تناسلوا أصلهم أو نسوه وفقدت الوحدة بينهم، فهم من عشائر قديمة طحنتها الحوادث، فصاروا يخشون من التصريح حتى جهل. ومع هذا لا يخلون من انتساب الى عشيرة.
وهذه بعض العشائر المتحيرة على قول:

1- الضوايع: لعل لاسمها دخل فى ذلك ولها نصيب منه. وتدعي انها من بني تميم. وعشائر كثيرة تدعي الانتساب الى تميم لكثرتها وانتشارها. ويحكى ان رجلا اسمه (محمد) هرب من رؤساء المصالحة من بني تميم فسمي (ضائعاً) فلحق ذريته اسم (الضوايع).

ويقال انه تزوج من بنت محمد الشطي من الدفافعة فمن أولاده منها: 1- حاجم. ومنه تكون فرع (الحواجم).

2- سلطان. ومنه صار (السلاطنة).

3- حمدان. ومنه (الحمادنة).

4- ازويد. ومنه (الزويدات).

5- سبع. ومنه (السبيعات).

ونخوتهم (اخوة حمدة).

وآخرون لا نقطع فى أنهم من العشائر المتحيرة وان كانوا يعدون منها مروا فى هذا المجلد والذى قبله.

الاحوال العامة

1- السياسة العشائرية اذا كنا علمنا سياسة كل عشيرة بانتزاعها من وقائعها، فلا شك اننا من هذه السياسات الخاصة ندرك الادارة العامة. وكلما توغلنا فى الاتصال بالوقائع زاد علمنا أكثر. ولا تزال السياسة مكتومة، ولا تكشف عنها الا الحوادث، وتختلف بالنظر للاوضاع التى تتوالى عليها. فالرئاسة العامة مثلا كان لها الاثر الفعال فى حياة العشائر. ومنها ومن الاتصال بالحوادث تعرف المكانة. وفى هذه الايام زالت الرئاسة أو سارت الى الزوال وصارت العشائر أقرب الى الاتصال بالموطن. وما ذلك الا لاحلال الوحدات الادارية محلها. وهذه تابعة لقوة الادارة وتمكنها من السيطرة أو العكس.

وصار الامل قويا فى الاستقرار وتكوين الحضارة بانكشاف المواهب وظهور الرئاسة الخاصة أو علاقتها بالوحدة الادارية، وبالتوجيه الحق، وان يتجلى حب الوطن والذود عن حوزة المملكة. ويترتب على هذا تحديد سلطة الرؤساء وتعيين موقفهم فى العلاقات بينهم وبين عشيرتهم بلا ضرر ولا ضرار.

كان يحسب للعشائر والامارات قوتها فى الادارة. وغالب حوادث العراق ناجمة من جراء صلتها بالادارة. وصارت اليوم فى جدال عنيف بين الرؤساء وعشائرهم فى تقليل المعهود، أو النزاع فى الاراضى. ولا تزال المناهج مضطربة. وتعد من المشاكل البارزة للعيان. واذا كانت الرئاسة شعرت بتبدل الحالة فقد حاولت الاستئثار بالارضين تعويضا لما فقدت، أو ان يقلل معهودها فيه. وهذا تابع لقدرة السلطة وضعفها. فأرادت أن تعوض ما فقدت من الرئاسة أو شعرت به من زوالها، فاغتنمت الفرصة. والعشيرة تعتقد ان الاراضى ملكها ولم تكن ملك الرؤساء. ويؤيدها تاريخ كل عشيرة أو تاريخ العشائر بوجه عام. وكذا الاستثمار المشهود بانتفاع الفلاحين.

والمطلوب حل المشكلة بالوجه الصحيح وبلا ضرر ولا ضرار. فالعلاقة معروفة للجانبين معاً. والاعتدال فى الحل ضروري. وقد سبق ان ذكرت ذلك فى المجلد السابق. وخير طريقة تحديد المعهود بلا اجحاف بجانب.

وجل أملنا أن تعرف الاوضاع القديمة بصفحاتها، ويستفاد من الحوادث السابقة، وينظر فى وجوه الحل، ويتبصر فى الامر. وكل غلطة تتوالى أخطارها. والاصل ادراك الحالة، واستخلاص ما هو الجدير بالاخذ.

ومن ثم تظهر القدرة فى ادارة العشائر، وتتبين السياسة الحكيمة.

وأمر آخر من مشاكلنا السياسية هو ان الوحدات الادارية لا تمثل المجموع العشائري وانما نرى المهمة فيه ان تفكك الوحدة العشائرية لاسباب قد زالت اليوم فمن اللازم ايجاد الوحدة الحقة، وتوجهها نحو التعاون، فقد زال الخوف من ثورة العشائر أو تشويش أمرها... فلم يبق محل لمراعاة التفكك. والمهم اعادة التعاون بتوجيهه للصلاح. فهو الطريق الاجتماعي. ومن أهم ما هنالك التعاون الثقافي والاقتصادي. والتلازم لا ينكر. ومن ثم النظر فى التشكيلات الادارية. والاصلاح القليل يوجه نحو الفلاح. والتقسيمات الادارية للوحدات كان مبناها التخوف من وحدة العشيرة أو العشائر والآن زالت، ولكن حلت محلها مناطق الانتخاب...!

2- انساب العشائر العرب يراعون الجار، والنزيل. وكذا يعدون المولى منهم أي كأحدهم لا أن يعتبر نسبه كنسبهم ويقولون (مولى القوم منهم) أى حكمه حكمهم.

ويعبّرون عنه بقولهم فلان من بجيلة مثلا (مولاهم). وهذه الكلمة تقرن باسم عشيرة فيقال (قيس مولاهم) أو (بجلى مولاهم) أو (هاشمي مولاهم)... ولم نعرف الحاقا بنسب الا ان يكون قد اعترف الرجل بأن (فلانا ابنه) وليس له أب ليعتبر ابنه. وهذا أمر شرعي. وله قيمته فى البنوة. والمقر له بالنسب على الغير لا يعتبر ابنا لذلك الغير كأن يقول (فلان أخي) فلا يثبت نسبه من أبيه. وانما يراعى مقدار اعترافه. وليس (التبني) بنوّة حقيقية.

ولا يعرف العرب الخارج عن العشيرة معدودا منها بوجه. وانما يصح ان يكون حلفا أو نزيلا أو جارا. ويصح أن يكون تابعا أو مشاركا للعشيرة (بالدم والمصيبة) أو (بالراية) وهى اتفاق حربي ومثل هذه نتيجة عهود أو اختلاط وسكنى فتشترك فى (الصيحة) ولا يجعل للمرء حقا بحيث يعد من العشيرة. فلا اندماج بحيث لا يفرق فى النسب. وكل عشيرة يعرف بالتحقيق العميق ارجاع ما كان خارجا عنها الى أصله. ولا قيمة للمكاتبة. وانما نعرف (الرقيق المكاتب) بالوجه الشرعي.

وهذا مشاهد فى عشائر المنتفق، والعشائر العدنانية جمعاء كما عرف فى العشائر الزبيدية والطائية أو القحطانية. فاذا كان الاختلاط مشهودا فمن السهل ارجاع كل ما كان دخيلا فى فخذ أو عشيرة الى أصله فيعاد اليه. والامثلة كثيرة. ومنها ما مرت الاشارة اليه. وينبغي أن لا نكتفي بأقوال الرؤساء فان هؤلاء تغلب عليهم السياسة، فلا يريدون أن يفرقوا بل ان الفخذ الخارج يقول أنا من عشيرة كذا، أو أن العشيرة تعرفه خارجا عنها. وليس فى هذا سبّة. وانما يحافظ هو على أصله، وتحفظ له العشيرة ذلك فلا ينسى... وهذا لم يمنع التفادي فى حب العشيرة التى عاش فيها والمشاركة معها فى الدم والمصيبة أو (الصيحة)، ولكن ذلك لا يؤدي الى اختلاط النسب. وأسباب الاختلاط كثيرة منها قدم السكنى، والزواج والمصاهرة، واللجوء لضرورة رآها مما يهدد حياته أو يجعلها فى خطر... أو هناك مصلحة قاهرة... والاختلاط لا يكون امتزاجا بالدم.

وهذا ما نعرفه. ولا نعلم غيره. وجل ما نقول (ملحق) أو (تبع) أو (مساكن) أو (نزيل)... ونحن بوضع تاريخي فلا نخرم قواعد جرت فى انساب العشائر، ومن المشهود ان بعض المختلطين قد يتولون رئاسة العشيرة لما ظهرت لهم من مواهب ومر بنا أمثلة ذلك. والافالعشائر لا يزالون على الاحتفاظ بالنسب. واذا كان من المحتمل ان ينسى الملحق أو التبع فيعد من العشيرة فهذا بعد أن نسي أمره وعد من أصل العشيرة فمن أين حصل لنا الدليل على انه ملحق أو ليس بأصل ومثل هذه كل ما يقال فيها (تخرصات). والحكم للامر الثابت. والدليل اذا دخله الاحتمال بطل به الاستدلال.

هذا. والطارقة، أو الراية، والصيحة، أو المشاركة بالدم والمصيبة كل هذه لا تدل على اتحاد نسب وانما هو الاتفاق والتضامن على درء العدو المشترك...

ويعين أصل العشائر (انسابها)، وتاريخها، ومحفوظاتها المتوالية المتناقلة وغالب هذا مما لا يشتبه فيه أو لا يداخله ريب فى غالب حالاته. وتاريخ العشيرة محفوظ فى الغالب أو مدوّن فى وقائعها. وقلّت العشائر المتحيرة أو تكاد تكون مفقودة، وايجاد احتمالات فى أصولها مما لا يوزن بميزان علمي.

والرؤساء ورجال العشيرة يعرفون انتسابهم، والمختلطون يعرفون أصلهم والاسباب التى دعت الى الكتمان قد تزول بزوال أثره.

وتهمنا الاشارة هنا الى ان الافخاذ والبطون أو العمائر أو العشائر والقبائل أو الامارات مما يجب الاحتفاظ بمصطلحاتها. ولا معنى لتبديل هذه ولا فائدة فى ذلك. و (الحمولة) تطلق على بيت الرئاسة، أو البيت ذي المكانة كأن يقال فلان من حمولة طيبة أي فخذ غير مطعون به. أو من بيت الرئاسة. الا أننا نرى فى بعض المواطن اطلاقه على ما تكوّن من بطن أي عدة أفخاذ. وهذا قليل.

ولا فائدة لنا فى تغيير المصطلح أو تبديله. وأصل (البيت) وتكوّنه وتولد الافخاذ منه، ثم (الفرع الاعلى) أو (الفرق) أو البطون، و (العشائر)، و (القبائل) من الامور المشهودة. وتتعاظم (العشائر) حتى تتكون منها (الامارة). وهذا جاء على اطراد. وقد يسمى ب(البيت)، ويتقدمه (البو) أو (آلبو). وربما لازمه هذا ولو كان تولد منه فروع تالية...

ومر بنا مصطلح القحطانيين. وفى هذا مصطلح العدنانيين. والتفاوت يسير، ويفهم مما عرف من تفرعات...

3- المجتمع الريفي من ظواهر المجتمع الريفي حروبه وسياسته وسائر أحواله. فانه يدقق من نواح عديدة من تلك الظواهر وغيرها. ويتناول العقيدة، والافراح، والاحزان، وعرف العشائر وهكذا الاموال والممتلكات والمساكن وسائر ما يرتبط بعيشته وحياته وأسرته... ودامت العلاقة بهذه غير منفكة عنها ولا عن الارضين أو الغرس... ومثل ذلك القنص والصيد، والثقافة...

ولا تختلف هذه عما فى البداوة وما فى العشائر الزبيدية والقحطانية الا فى الكم وبعض الكيف وللمواطن علاقة فى التكييف والتبديل. فاذا كانت سكنى البادية مقصورة على الخيام، فان الاكواخ، والصرائف والجبايش لا تفترق كثيرا الا فى الاستقرار وعدمه. فالاستقرار من خصائص الارياف. وللمواطن دخل كبير فىوضع البيوت. وزاد فى ذلك الغرس فكان خطوة كبيرة لها أثرها الفعّال. ولعل اللباس لا يختلف الا بالنظر للحالة التى عليها أهل الارياف وهى متقاربة نوعا. وفيها بعض التفاوت احيانا. ولا شك ان التصوير يمثله بأوضح ما يمكن لتفاوت الطبقات.

والعقيدة اسلامية. ليس فى الارياف غيرها. وهذه تختلف عن عقائد أهل البادية فانها أكثر تعقيدا. ويؤمل أن تلقن العقيدة الى هؤلاء بأبسط أوضاعها وأحكمها. فلا تخرج عن ذلك والا كان نصيبها الخذلان، والمهم ان تنحَى عنها الخرافات، وما من شأنه أن يفسد صفوتها. وبذلك يحق أن نقول ان للارياف عقيدة. وحالتهم اليوم سيئة لا يعرفون من دينهم ولا عقائدهم الا بعض المظاهر فالجهل مستول عليهم. وتدارك الامر سهل. بأن يدربوا ويلقنوا أصول العقيدة، وأركان الاسلام. فاذا تمكنا من تعليم هذه بأقل ما تجوز به، فحينئذ من السهل التوسع دون توغل. وهكذا التعويد على العبادات ومن لوازمها النظافة، وترتيب الحياة الاجتماعية. وبين هذه ما يوجَه توجيها لائقا...

ولعل التبدل مشهود فى توسع المعرفة ويدعو الى زوال خرافات كثيرة ومن المهم أن تكون العقيدة بمقدار الحاجة، وان تكون العبادة اداة نافعة فى الاذعان للقدرة الالهية، ووسيلة للحياة الاجتماعية، ومراعاة الصحة العامة. وأهم وسائلها تلقين ان النظافة من الايمان، وان العبادة اذعان للباري تعالى، وانقياد للعظمة الالهية.

وكل ما يشاهد فى الارياف يحتاج الى توجيه وتنظيم ليكون اداة صلاح، وتدريبا لخير الاعمال. والمعاكسة لا تثمر. وقد سبق أن تكلمنا فى المجلد السابق على لزوم توجيه المجتمع نحو الوجهة الصالحة وحسن المعاملة مع الناس استفادة مما هو معلوم فى المجتمع... ومهمة الاجتماعي استغلال الاوضاع للتوجيه الحق.

4- الزراعة التنقل من حالة البداوة الى الارياف خطوة محمودة نحو الحضارة بل ان الارياف من مسهلات المعيشة فى المدن والتعود أو التقرب الى حياتها. ولولاها لضاقت بالناس احتياجاتهم المدنية فهى من مقومات الحضارة الا أن البداوة فى حركتها الى الارياف تقلل من عجرفة البداوة أو وحشتها، والزراعة من أهم وسائل الارياف فى معايشها وحياتها. ويغلب عليها التأثير على الحياة العامة. فهى أصل الحياة الاجتماعية. وبذلك تكون قد قلَلت من الخشونة لما توفر لها من رزق من طريقه المشروع... فارتبطت بأرض، أو أنها عاشت فى نطاق معين مهما كانت رقعته واسعة. والارض فى وضعها تلهم الحياة الاجتماعية والفردية. ونرى الحياة الزراعية أقرب للبداوة فلا ينفر منها البدوي. وانما توافق مألوفه وتلتئم نوعا وحياته.

يبذل البدو جهودا جبَارة ومخاطرات للحصول على العيش ولا يكون الا بعناء وشظف. يجتزى بالقليل عن الكثير. وفى ميله الى الارياف يحصل على ما يسد حاجته، ويزيد بما يزرعه دخله أو ما تنتجه أرضه، أو ما يربيه من نعم وشاء مما هو صالح لنفعه. فيقوم بالانتاج النباتي والحيواني. وحاجة المدن اليه تسهل الامر، وتدعو الى تبادل المنافع لقوام هذه الحياة. وتكون علاقته بالمجتمع كبيرة ومتصلة اتصالا وثيقا.

كان يترقب الفرصة فتهيأت له، واغتنم وجود خلل فى الارياف أو اختلالا فى وضعها، أو أنه كان عن تدافع ونضال حتى ربح المعركة، فحل محل مناوئه، وصار يتفق مع هذا أو ذاك لبقائه وبقاء من يستعين به. وربما استعان به الضعيف فأفسح له المجال. وحوادث كثيرة مشاهدة من جوائح وطواعين أو حروب طاحنة تدعو الى الجلاء. وحالات تاريخية عديدة أدت الى هذا التنقل والتحول حتى اكتسب صفة أهل الارياف. ولا يتأتى له بسهولة أن يسلك هذه الحياة، ويراعي تلك المعيشة. وربما طال التدافع جيلا أو جيلين ليألف تلك الحياة، أو يتقرب منها.

وربما استعان بأهل المعرفة بالزراعة فشاركهم، وصار يتقرب الى حالاتهم ليكون كأحدهم. ولا شك ان الخطوة الاولى ترضى بالمراقبة، واستخدام الآخرين، وان يتدرب حتى يزرع. ويعرف طريق تربية الحيوانات الاهلية مما لم يكن ألفه سابقا. يترك رويدا رويدا مقتنيات البادية، وربما غرس الغرس أو سار فى الزراعة مدة ثم انتقل الى موطن الصق به وهو الغرس. وفى هذا يكون كأهل المدن لا يتزحزح من مكانه، ولا يبرح منزله.

والغرس والزرع من أوضح صفات الارياف الا أن الميل الى الزرع أقرب للبدوي كما ان الريفي يتطلَع الى الغرس وهو أقرب اليه. ولعله خطوة كبيرة نحو الحضارة. وأجل خطوة لاتخاذ القرية، أو القرى. وحياة الزرع تتناول أنواع المزروعات من ذرة ودخن وشعير وحنطة ورز وقطن وسمسم وخضر عديدة. وهذه المزروعات بعضها أوفر من غيرها فى بعض المواطن، فنرى الاهلين يتعاطون ما يوافق رغبتهم، ويؤدي الى منتوج زائد من تربتهم. فيحصل المطلوب. وبعض المواطن لا تعرف الا بعض المزروعات دون الاخرى. فنرى (زراعة الشلب) أكثر فى بعض المواطن. وفى البعض الآخر الحنطة. وفى بعضها الذرة أو الدخن، أو الشعير... وكلها تابعة لطبيعة الارضين...

وفى الزراعة تعاملات تتعلق بأصل الزرع، وروابط تجارية لا تحصى من التعاملات أو العقود الزراعية والمعاملات التجارية. ولعل فى هذه ما يبصر بحالة الزراع والمعاقدين منهم فينجلي وجه ذلك بصورة صحيحة.

والتعاملات الزراعية كثيرة. فان جماعات تقوم بالزرع. ولكل جماعة (جوق) أو سركال أو رئيس عرف معلوم. وهذا اتفاق زراعي لاعلاقة له بالقرب والبعد بين أفراد العشيرة الواحدة. وانما هو ائتلاف طبع بين المتزارعين وقد يكونون أقرب لبعضهم. والمشهود فى هذه الحالة الطاعة للرئيس أو المقدم الذى يتولى ادارة الشعبة الزراعية. ليقوم كل بما ترتب عليه من واجب.

وما يحصل يقسم بين الفلاحين وبين الملاك أو صاحب الارض. ويوضح هذا ان الجوق يقاسم الملاَك بالنصف أو ما ماثل كالثلث ويعتبر حقا للارض. وقد يكون حق الارض لرئيس العشيرة، والباقي يوزع بين الزراع، ويعتبر (افصاخا) أى حصصا. وفى الاغلب (سبعة أفصاخ) للسر كال فصخان والباقي للفلاحين. وهى خمسة افصاخ، فيأخذ السر كال سهمان وخمسة أسهم للفلاحين... والرسوم الاميرية زالت من البين. وما يقدم الى الاسواق يؤخذ منه الرسم وزال ما كان يستوفى من الرسوم بسبب الاستهلاك، وذهب ضررها، وتدخل الحكومة من أجلها.
وهذا فى زراعة الحنطة والشعير وسائر المزروعات الريفية الا انه يختلف قليلا فى بعض المواطن الفراتية فى زراعة الشلب، وفى نتيجة اعتيادات محلية. والمثال يعرف بما هنالك من كم وكيف. ويصعب أن نراعي قاعدة عامة. وكلها لا تختلف الا اختلافا بسيطا...

ومما يستحق الذكر ان الفلاح يأخذ نصيبه مطردا فيما اذا كانت البذور تعود له، وله دواب الزرع ومعداته والا فانه يضطر أن يؤدي نصف استحقاقه الى من شاركه بالبذور والدواب الخاصة بالزرع. ويكون المشارك صاحب سهم. وهذا قليل، وتابع لضعف حال الزراع. والا فان الزارع قد يكون صاحب أرض، فتكون المنتوجات له (فلاحة ملاجة) أي الفلاحة له والملاكة له أيضا.

وغالب الرؤساء يحلّون محل الملاك، فتكون الارض لهم، فيأخذون ما يأخذه الملاك، فيكون نصيبهم وافرا جدا. وتختلف الاوضاع كثيرا، وتتبع الارض وحالتها من أنواع الاراضي، فتؤدي العقر ان كانت معقورة. وهكذا تختلف اذا كانت أميرية صرفة، أو أنها مفوضة بالطابو أو مملوكة...

وهنا المجموعات الزراعية قوة بيد الرؤساء. لا تختلف كثيرا عن البداوة فى تمثيل قوة العشائر، وتظهر هذه القوة فى المنازعات بينهم وبين المجاورين، أو لوقائع أخرى تقع اعتياديا أو ضرورة. والضرورة تدعو أن يحدد ما يستوفيه الملاك أو صاحب اللزمة ليتمكن الفلاح من القيام بالمصالح الاجتماعية، والتعاون... وقد أوضحنا ذلك فى المجلد السابق. وهكذا يقابل فيما تستوفيه الدولة فان ذلك واجب التحديد ما أمكن. وبذلك ترفيه على الفلاح.

5- الاموال والمقتنيات ومن الزراعة تولّدت مقتنيات الارضين، والحيوانات من نعم (غنم ومعزى)، وخيول، وبقر، أو جاموس، وحمير وابل... الا ان الابل قد تقل أو تنعدم. وأما الخيل فانها ركوب أهل الارياف ومثلها الحمير قلّت قيمتها بعد شيوع السيارات والسكك الحديدية الا فى الطرق التى لا تصل اليها السيارات متواليا، أو بعيدة عن السكك الحديدية. والوضع على طريق عام يسهل النقل بها. وفى المواطن الاخرى على جانب الانهر، وفى الاهوار تستخدم وسائط النقل المائية. وللموطن أثره فى تربية المواشي. ففى الاهوار يستخدم الجاموس، وفى الحرث البقر، والاستفادة الغذائية منها فى الحليب واللبن الرائب، وفى الزبد والدهن والجبن. وهكذا ينتفع من جلودها وصوفها وسمنها وتوالدها.

ولا مجال للاطالة فان فوائدها معلومة. وانتاجها مشاهد. وقد سبق أن تكلمت فى الخيول. ولا يختلف وضعها الا ان الفوائد والانتفاع يختلف كثيرا عما هنالك. ومراعاة (الرسن) لا يختلف كما ان العربي لا ينسى نسبه فى الاغلب ولا يترك نسب فرسه (رسنها).

6- الغرس والمغارساتوهذه أقرب خطوة من الزراعة نحو الحضارة. وفيها استقرار فى قطعة أرض معينة. لا يستطيع أن يفارقها المرء وتضعف فيها حالة التجول، ويقل الالتفات الى غير المغروسات. وكأنها حددت صاحبها وجعلته يستقر فى موطن بعينه لا يتعداه. وان مفارقته اهمال وتهاون به.

وحينئذ يضعف الارتباط العشائري. وقلّ أن تراعى المجموعة الا فى تشكيل قرية وان يكونوا من عشيرة واحدة. واذا دخلهم غيرهم فيراعى فى ذلك ما يراعى من تعاون فى عصبة العشيرة. فانها اذا تغلبت وتكونت منها الاكثرية كان لها الصوت والا صارت مجموعة مدنية تألفت لغاية الانتفاع من الغرس فهى مقيدة بمقداره وبمقدار حقوق القرية بوجه عام وتماسك أهليها وتعاونهم.

ذلك ما يؤدي الى التقرب نحو الحضارة، ويسوق الى تكوين القرى. فاذا غرست بساتين عديدة أدى ذلك الى تكوين القرية. وعاش القوم عيشة أهل المدن، وفقدوا الكثير من عصبياتهم وأحوالهم العشائرية. وقلّت المسؤولية التكاتفية بين أفراد العشيرة، وعادت الى تعاون أهل القرية وان لم يكن بينهم صلة قربى، أو قرابة قريبة. وهذا هو التعاون الاجتماعي.

أوضحت عن الغرس فى (كتاب النخل) وذكرت التعاملات فيه مفصلا. والمهم ان نحدد حقوق الغارس، وحقوق الدولة والملاك أو صاحب اللزمة، والصرافة، أو التعابة والفلاحة. وبذلك تتقرب الاوضاع من المساهمة بصورة خالية من التحكم ليتمكن الغارس من الانتفاع نوعا ولا يحرم رب الارض. ويقال فى هذه ما قيل فى الارضين وحقوق الملاكين والزراع فى كل منها.

7- الاراضي وقانون التسوية غالب ما يحدث من نزاع بين العشائر أصله (الارضون). تطمح النفوس فى أموال الناس. ولا سبب له الا الضعف، والعجز عن الحصول على المال. وهذا سببه ان هؤلاء لا يقومون بما يعد من خسائس الامور فى نظرهم مثل الانتاج الحيواني والزراعي، وما ماثل فيترفعون عنها. أو لا تلائم حياتهم.

وفى الارياف نرى الاراضي بيد أهلها. فكل عشيرة تملك أرضا تزرعها وتعيش عليها. فاذا حصل عليها اعتداء مالت الى ضرورة القتال دونها. وجرّت هذه الحروب فى الغالب الى اندفاع العشائر القريبة لبعضها الى حمايتها ومن ثم حصل الاشتباك المستمر فى المعارك حتى تقوى واحدة، أو أن ترجع المتغلبة الى حالتها ناكصة على الاعقاب، ويبقى العداء. وربما حصل تدافع بين العشائر وتشوش الوضع مدة حتى يتدخل المصلحون والكلمة للغالب، وان التحكيم ينقلب الى تحكم وهكذا يقال فى الاختلاط من جراء ذلك.

والتسوية عملها مفيد من جهة تسجيل الاراضي وتثبيت وضعها الواقعي، ومن جهة أنها بعد أن عينت صلة الزراع بالارض قطعت الصلة بالمراجعة لمديرية العشائر وحسم الخصومات من طريق الادارة، وصارت تراجع المحاكم المدنية فى فصل النزاع. وكانت الغاية المنشودة من هذا القانون ان ينال المستثمر نصيبه فى الاراضي الاميرية، وتسجل باسمه حصته بالاشتراك مع غيره أو بالانفراد.

جرى فعلا مثل هذا فى أماكن عديدة كانت سلطة الدولة فيها قوية ومكينة وفى الاماكن الاخرى نرى التغلب مشهودا. والاثرة من الرؤساء سائدة، والقوة بارزة للعيان. فلا يستطيع الفلاح أن يطالب باستثماره وتقديم بينة على حقه والا أخرج الى ما وراء حدود الاراضي، أو أصبح قتيلا.

ومن كان مهددا بذلك لا يستطيع المطالبة بحقوقه القانونية.

والارض فى الحقيقة للعشيرة فاستأثر الرؤساء وحاولوا أن يكونوا ملاكين بعد ان كانوا رؤساء لما شعروا به من ضعف سلطتهم أو تحقق ذلك لهم يقينا.

وكان الاولى بالدولة أن تسجل ما هو تحت تسلطها وقدرتها والا فلا فائدة منه ولا ضرورة داعية لاجرائه وبعملها هذا قد مكنت النفوذ، وقوّت التغلب بصورة جديدة. والاولى بها أن لا تسجل الا ما هو من أراضي الطابو أو ما هو بعيد عن العمران ولا منازع فيه ولا مالك له حتى تتمكن من تسجيل ما تستطيع تسجيله تبعا لما تريد منحه من اللزمة للمستثمرين حقيقة.

سجلوا أولا باسم الرؤساء بداعي انه يمثل العشيرة، ثم استأثروا، وصاروا يأخذون الملاكية، وحصة الارض بصورة جائرة حتى فى الاراضي السيحية. فات عن نظر الدولة ان العشيرة تزرع بقوتها، وتستغل الارض بنفسها، وحافظت عليها بدماء أبنائها... فلا يصح بوجه أن تنتزع منها وتعطى الى الرئيس وحده، وتحرم العشيرة من أراضيها أي الفلاحين العاملين. فاذا لم تتمكن من ذلك وجب أن تترك ذلك الى حين قوتها وتمكنها، ولا تهمل أمر أصحاب الحقوق من الفلاحين والزراع على أن لا تحرم الرئيس من نصيب أوفر لما عليه من كلفة وما يناله من عناء باعتبار انه المقصود والمطالب بالكلف. وانه الناظم...

الاراضي ملك العشيرة. فلا يلاحظ المتصرف ليظهر التغلب. وانما يجب ان يحقق عن أراضي العشيرة فتوزع بين أفرادها، وان يزاد بنسبة عادلة فى نصيب الرئيس. وبهذا يكون التوزيع عادلا.

لا يزال عندنا التغلب جاريا، والتحكم مستحوذا. وليس فى هذا تقليل نفوذ الرؤساء وانما يجب أن يأكلوا بالمعروف، وأن لا يتغلبوا على عشيرتهم ويستأثروا بما هو لها. وهذا لا يتأتى الا بالتفاهم مع الرؤساء، وان يكون لهم نصيب معين لا يتجاوزونه وتحديد ذلك ضروري بالوجه المذكور فى المجلد الثالث. كما انه ليس من الصواب عد قانون التسوية وسيلة لاخضاع العشائر للرؤساء أو للدولة، أو عدم انقيادها للرؤساء بحيث تثيرهم على الرؤساء. والعدل أولى وقبول الطرفين بما هو الاحق والاجدر.

كل هذا أي موضوع الاثارة توهم. ومبناه ابقاء التحكم. والفلاح هو المنتج فى الارض، فوجب أن ينال نصيبه من الارض مثل ما نال الرئيس بل أكثر. لانه العامل الوحيد... وهذا لم نره، بل قوى النفوذ، وزاد فيه كثيرا. وليس فى استطاعة الحكومة التغلب على هذا النفوذ، فكان الاولى أن تعطله فى بعض المناطق المتغلبة الى أن تتمكن من التسلط والا فالفائدة المرجوة من القانون لم تنل مرادها.

والملحوظ ان المشاريع الجديدة والتى لم تجر تسويتها يجب أن تحدد فيها الملكية وحقوق صاحب اللزمة والزراع والغارس بصورة مماثلة للوجه المبيّن اعلاه...

والمهم أن تبدأ الدولة فى أمر الضرائب بأن لا تتجاوز العشر ليتهيأ للفلاح أن يقوم بأوده ويتلافى حاجياته، ويتمكن من تربية أطفاله... وبهذا مصلحة تعاونية للدولة، فيشارك فى المشاريع ويقوم بأمر الصحة والثقافة، وتربية المواشي، وزرع الارضين.

يضاف الى ذلك ان ما يحتاجه الزراع خلال السنة يجب أن يوفر له بأن يسلم من المرابين وان يقضي على حاجة الزراع فلا يترك المجال لان يشاركه من يقوم بالبذور والدواب للحرث مما يضر به كثيرا. ومثل هذه يجب ان تراقب من الادارة بعناية...

8- العرف العشائري ان الزراع يريدون أن ينالوا من كدهَم، وتعهد عملهم، ولكن التكاتف للمناصرة وتكوين القوة ولَدا الطمع فى العشائر وفى الرؤساء وصاروا يراقبون الاطراف، ويأخذون التسيار ويشوشون الامن فى غالب الاحيان وتظهر المقارعات الكبيرة بين العشائر، وبينها وبين الحكومة فى عهودها القديمة. ويتكون النهب والسلب اجماعيا من العشيرة أو من جملة عشائر...

وفى هذه الايام قويت الدولة بأسلحتها الجديدة على العشائر فتمكنت من اخضاعها، وربما ضربتها لمرات ضربات موجعة حتى ثاب اليها رشدها، وصحت من سكرتها...

وتكونت مديرية عامة للعشائر، وتوزعت أوضاعها مما يتعلق بحسم نزاع الاراضي. وما يخص النزاع العشائري أو الحوادث بين أفراد عشيرة، أو أفراد عشيرة وأخرى... وبذلك صار يقوم كل قسم بمهمته مراجعا فى صور الحل المدير العام...

وكان الوضع الاداري مشوشا. وبذلك التوزيع للاعمال توضح عمل كل، وصار يطالب بما أودع اليه. وهكذا كان الآمر فى حل القضايا العشائرية وانتزعت قضايا المواد الشحصية لانها شرعية صرفة، ومسائل التسوية بعد اجراء التحديد بموجب قانونها، فقلَت أعمال قضايا العشائر. وكادت تنحصر فى القضايا الكبرى بين عشيرة وأخرى...

واذا كانت الروح الادارية لا تزال متشبعة فى علاقات العرف فان انتظام المحاكم وتوسعها بلا شك سيدعو الى التغلب وأن تتولى حسم النزاع. فالعشائر اليوم غيرهم بالامس. وبهذه الوسيلة صارت تقل التدخلات الادارية فى القضايا العشائرية. ومصلحة الدولة فى توحيد محاكمها. وعندنا لا تزال الحالة تحتاج الى اصلاح اداري فى هذه التدخلات والتقليل منها، تشكلت المحاكم ولا تزال تنظر فى القضايا الادارية. وما معنى هذه الا حب السيطرة، أو التوسع فى التسلط وهل الاداري من اختصاصه النظر فى النزاع العشائري بعد منع الغزو وبعد أن بقيت الخصومات فردية أو قليلة... والوقائع الكبيرة اليوم فى قلة. وتكاد تكون منعدمة.

والخوف من وقائع العشائر توهَم لا محل له. وما كانت المحاكم عاجزة عنه فمن الاولى أن تعجز عنه الادارة، وحينئذ ينظر فى الخلل لتأمينه، وازالة العثرات منه مما يقع فى طريقه. والتلازم بين الغاء الغزو، وتشكيل المحاكم والضرورة اليه من الامور المشهودة والا وقعت العشائر تحت طائلة التحكيم بل التحكم من أناس ليس لهم من المعرفة ما يصلح أن يتسلحوا بها سياسيا وحقوقيا. وانما هناك التحكم لتنفيذ رغبة الادارة وتحقيق آمالها فيما تهدف اليه، أو الميل الى عشيرة دون أخرى... لامر آخر لا علاقة له بالموضوع.

وعلى كل حال آمال الغزو ليست من طبيعة أهل الارياف. ولذا تلقوا منع الغزو بكل ارتياح، وان قوة الدولة نصرة للضعيف حتى يقوى وتأمين للراحة وتحقيق لوسائل الحضارة. والعرف العشائري يجب أن يحصر أمره أو يحدد بأن يكون بين عشيرة وأخرى، أو بين عشائر دولة وعشائر دولة أخرى مما له مساس بسياسة الدولة والا فما معنى انقياد الريفي للعرف؟ وهو فى هذه الحالة يعد حضريا...!! لعل له عذرا وأنت تلوم-نعم كانت تركن لعذر استفادة من نزاع للقضاء على قوة قبيلة. والآن لا خوف من عشيرة لتناصر الاخرى...

9- القنص والصيد تكلمت فى (القنص والصيد) عند البدو. وأما فى الارياف فالحاجة اليه أقل الا أنه أتقن، وان كانت مواطنه أضيق، ويتغير عند أهل الارياف فى نوعه مثل صيد السمك، والطيور المائية أو الطيور الملازمة للقرى والبساتين. وقل ان يصطادوا الحيوانات الوحشية الا ان يتخلصوا من أضرارها. وكان الصيد فى العراق متنوعا. ولصيد الاسود والحيوانات المفترسة (مواسم) كان يجري فيها الصيد قديما... وللولاة والامراء ولع فى القنص للتلذذ والقصص التاريخية والحوادث كثيرة. وفى صيد الوحوش الضارية تعود على الفروسية وتمرين على مقارعة الاعداء. ولم يبق له اليوم ذلك الاثر أو قلَ عن ذي قبل وان كان لم ينعدم. لما شغلوا به من أعمال تتطلب جهودا أكثر من ذي قبل. فان ادارة المملكة تعقدت وزادت الواجبات وتنوعت المهمات بالرغم من توزع الاعمال. نرى لجيشنا وقتاً معيناً ل (صيد ابن آوى). والصيد اليوم مقيد بقوانين في جميع أنواعه. ومما نال المكانة بين الامراء السابقين، وبين الاهلين، والعشائر... (القنص بالطيور). وهذا من ألذ أنواع الصيد، وكان القدماء أكثر ولعاً به، وتربية (الطيور الجوارح) يقال لها (البيزرة)، و(البيزدرة). وفيها تعويد على الصيد وتأليف لها، ومراعاة صحتها. والعناية بها تحتاج الى كلفة كبيرة. وكتبوا فيها مؤلفات عديدة ومنوعة تطميناً لرغبة أرباب الذوق فيها(1). ولهم العناية بها. ولا تزال الحالة مرعية الى اليوم، ولكن الاهتمام قلّ بسبب تغير الصيد وتنوعه كالرمي بالبنادق، وسهولة الحصول على الصيد من أسهل طريق، وأقرب من يد التناول بلا كلفة ولا عناء، وقد يراد به التمرن على الهدف واصابته... ولم يبطل الصيد بالجوارح الا ان العناية به ضعفت. وأما صيد الاسماك فأنه ليس فيه تلك اللذة الا أنه يسد حاجة ماسة أو تأميناً لمنفعة. ولا يخلو من لذة في بعض أنواعه المألوفة لا سيما اذا كان قد انتصب المرء لهذا الغرض. وصيد الحيوانات المفترسة أقل من القليل... وقد اختفت أو كادت تنقرض. فالاساد لا وجود لها في أنحائنا الا قليلا... والذئاب تأتينا من ايران وقليلة عندنا. ولا تختلف (البيزرة) عما كانت عليه قديما الا في أنها تستخدم البساطة مرة، والعناية الزائدة أخرى من طبية في طيور الصيد قديما وفى الحيوانات المعروضة في حدائق الحيوانات فان العناية بها كبيرة جدا. والاهتمام زائد من هذه الجهة فى صحتها ومراعاة الحالة وما يمكن ان نعيش فيه... من ايجاد وسط ملائم. الا اننا لا نعلق أهمية على الفروق في طيور الصيد قديما وحديثا، فالتفاوت طفيف. وفي كلامنا هذا ومقابلته بما كان عليه القدماء يظهر الفرق وانه ليس بالمهم لان الاختلاف فيه لا يزيد عما يقع عند القدماء من التفاوت بين قطر وآخر أو قوم وقوم. ولا نجد قطراً خالياً من تعاطي القنص بطريقة ما قد تتفاوت عما في الاقطار الاخرى.

هذا. ولما كنت عازماً على اعادة طبع المجلد الاول طبعة جديدة فيها زيادات كثيرة فسأنشر تفصيلات في (القنص والصيد). فلا مجال لتكرار ذلك مباحثة في هذا المجلد.

10 - الثقافة والآداب الريفي كالبدوي يستلهم المعرفة من البيئة والمحيط، ومن العلاقات بالعشائر المجاورة، ومن الاتصال بالمجتمع، فلم يكن مجرداً عن الوسط الذى هو فيه، ليكون بعيداً عن الثقافة الا أن هذه غير منسقة، ولا مؤلفة تأليفاَ يتمكن من استعادته، أو الرجوع اليه دائما بمراعاة مختاراته وعيونه. وانما كان هذا تابعا لمواهب رجاله والاخذ عنهم. وهذه لم يتيسر تدوينها فى حينه ولا فى دوام الاتصال بها الا من طريق المعاشرة وما يورد فى المجالس، أو يتغنى به هؤلاء.

ومن السهل الرجوع الى أرباب المعرفة من كل ناحية، والتدوين عنهم لهذه الغاية. وهذه (ثقافة أهل الارياف). ويصعب تحديدها. وهى ثقافة مهمة لو رأت عناية، ووسيلة نافعة للاستفادة. وربما كان شعرها أكثر بكثير مما هو منقول عن الجاهلية. ولا يقل هذا النوع من الادب خطرا وفائدة ونفعاَ عن أدب البدو لملامسته لحياة هؤلاء من أهل الارياف. تكلمت فى ذلك مفصلا فى المجلد الثالث.

والشعر الريفي، والهوسات، وما هو معروف من موّال أو زهيري... كل هذا لا يمنع أن يتعاطى القوم الشعر البدوي فى الارياف. وما ذلك الا للاتصال بالبادية. وبعض عشائرهم لا يزالون على البداوة. والميل اليها كبير باعتبارها أول أرض لاجدادنا. نرى الادب مختلطاَ، ولم تنقطع الصلة الا قليلا وفى بعض العشائر وللمواطن أثرها فى تكوين أدب خاص أو التزام أدب بعينه. وهذا كله لم يترك معه شعر البدو فى غالب العشائر. وأمثلة هذا كثير. وهى عين شعر البدو. وربما نظموا فيه الا ان ذلك لم يكن من طبعهم وانما هو تطبع. وربما اقتصروا على المحفوظ وحده.


وأنواع أدب الارياف فى العشائر العدنانية:

1- الحسجة.

2- اللامي.

3- بوذية.

4- الامثال.

5- الهوسات.

وهذا ليس كل ما عندهم. وانما يشتركون مع العشائر الزبيدية والطائية والبدوية فى:

1- العتابة.

2- النائل.

3- القصيد.

4- الطوّاح.

5- الهجيني.

6- الحداء.

7- الزهيري.

8- الموّال.

وهذا الادب يدخل فيه الغزل والتشبيب أو النسيب والامثال والحكم، والمدح، والهجاء، وبعض أحوال تتعلق بالصيد، أو بالفخر، والتذكير بوقائع سابقة لاثارة العداء، أو بيان البطولة. وما الى ذلك من بيان كرم، أو التنويه بشجاعة أو سرد مآثر... وسائر ما يتعلق بالمجتمع. فهو مرآة حياتهم فى ضروبها المنوعة.