ذكر يعقوب وأولاده

ذكروا والله أعلم أن إسحاق بن إبراهيم عاش ما بعد ما ولد له العيص ويعقوب مائة سنة، ثم توفي وله مائة وستون سنة فقبّره ابناه: العيص ويعقوب عند قبر أبيه إبراهيم في مزرعة حَيْرون، وكان عمر يعقوب بن إسحاق كله مائة وسبعاً وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قُسِم له ولأمِّه من الحسن ما لم يقسم لكثير من أحد من الناس.وقد حدثني عبد الله بن محمد وأحمد بن ثابت الرازيان، قالا: حدثنا عفان بن مسلم، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت -البناني- عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أعطى يوسف وأمّه شَطْر الحسن".

وأن أمه راحيل لما ولدتْه دفعه زوجها يعقوب إلى أخته تحضنه، فكان من شأنه وشأن عمّته التي كانت تحضنه ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها صارت مِنْطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكِبَر، فكان من اختانها مَن وليها كان له سلَماً لا ينازَع فيه، يصنع فيه ما شاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد كان حضنْته عمته، فكان معها وإليها، فلم يجب أحد شيئاً من الأشياء حبَّها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، ووقعت نفس يعقوب عليه، فقال: يا أخيَّة سلِّمي إلى يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: والله ما أنا بتاركته؛ قال: فوالله ما أنا بتاركه. قالت: فدعه عندي أياماً أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسلّيني عنه -أو كما قالت- فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى مِنطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت مِنطقة إسحاق، فانظروا مِنْ أخذها ومن أصابها، فالتُمست ثم قالت: كَشَّفوا أهل البيت، فكشَّفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لَسَلَم أصنع فيه ما شئت. قال: وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سَلمَ لك، ما أستطيع غير ذلك فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت. قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: "إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ".

قال أبو جعفر: فلما رأت إخوة يوسف شدة حبّ والدهم يعقوب إياه في صباه وطفولته وقلّة صبره عنه حسدوه على مكانه منه، وقال بعضهم لبعض: "لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحبُّ إلَى أَبِيْنا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ". يعنون بالعصبة الجماعة، وكانوا عشرة: "إنَّ أَبَانَا لَفِيْ ضَلاَلٍ مُبِيْنٍ".
ثم كان من أمره وأمر يعقوب ما قد قصَّ الله تبارك وتعالى في كتابه من مسألتهم إياه إرساله إلى الصحراء معهم، ليسعى وينشط ويلعب، وضمانِهم له حفظَه، وإعلام يعقوب إياهم حزنَه بمغيبه عنه، وخوفه عليه من الذئب، وخداعهم والدهم بالكذب من القول والزور عن يوسف، ثم إرساله معهم وخروجهم به وعزمهم حين برزوا به إلى الصحراء على إلقائه في غيابة الجب، فكان من أمره حينئذ -فيما ذكر- ما حدثنا ابنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزيّ، عن أسباط، عن السديّ قال: أرسله -يعني يعقوبُ يوسفَ- معهم، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البريّة أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيماً، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب! لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه! فانطلقوا به إلى الجبّ ليطرحوه، فجعلوا يُدْلونه في البئر فيتعلق بشفيرها، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردُّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ! فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، قال: إني لم أر شيئاً، فدلُّوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادةَ أن يموت، فكان في البئر ماء، فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها، فقام عليها، فلما ألقَوْه في الجبّ جعل يبكي، فنادوْه، فظنّ أنّها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا، فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثِقاً ألاّ تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.

ثم خبره تبارك وتعالى عن وحيه إلى يوسف عليه والسلام وهو في الجب ليُنبَشِّنَّ إخوته الذين فعلوا به ما فعلوا بفعلهم ذلك وهم لا يَشعُرونَ بالوحي الذي أوحى إلى يوسف. كذلك روى ذلك عن قتادة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "وَأَوْحَيْنا إليه لَنُنَبِّنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذَا"، قال: أوحي إلى يوسف وهو في الجبّ أن ينبّئهم بما صنعوا به "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" بذلك الوحي.

حدثني المثنّى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بنحوه، إلا أنه قال: أن سينبِّئهم.

وقيل معنى ذلك: وهم لا يشعرون أنه يوسف، وذلك قول يروى عن ابن عباس؛ حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا صدقة بن عبادة الأسديّ، عن أبيه، قال: سمعت ابن عباس يقول ذاك، وهو قول ابن جريج.
ثم خبره تعالى عن إخوة يوسف ومجيئهم إلى أبيه عشاءً يبكون، يذكرون له أن يوسف أكله الذئب، وقول والدهم: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيْلٌ".

ثم خبّره جلاله عن مجيء السيارة، وإرسالهم واردهم، وإخراج الوارد يوسف وإعلامه أصحابه به بقوله: "يَا بُشْراي هَذَا غُلاَمٌ" يبشرهم.

حدثنا بشْر بن مُعًاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: "يَا بُشْراي هَذَا غُلاَمٌ"، تباشروا به حين أخرجوه -وهي بئر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها.

وقد قيل: إنما نادى الذي أخرج يوسف من البئر صاحباً له يسمى بُشْرى، فناداه باسمه الذي هو اسمه. كذلك ذكر عن السُّدِّيّ. حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا خلف بن هشام، قال: يحيى بن آدم، عن قيس بن الربيع، عن السديّ في قوله: "يَا بُشْراي"، قال: كان اسم صاحبه بشرى.

حدثني المثنّى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السّديّ في قوله: "يَا بُشْراي هَذَا غُلاَمٌ"، قال: اسم الغلام بشرى، كما تقول: يا زيد.

ثم خبره عزّ وجلّ عن السيارة وواردهم الذي استخرج يوسف من الجبّ إذ اشتروه من إخوته "بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودةٍ"، على زُهْد فيه وإسرارهم إياه بضاعة، خيفة ممن معهم من التجار مسألتهم الشركة فيه، إن هم علموا أنهم اشتروه.

كذلك قال في ذلك أهل التأويل: حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: "وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً"، قال: صاحب الدلو ومن معه قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا بثمنه، وتبعهم إخوته يقولون للمُدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبَق، حتى وقفوه بمصر فقال: مَن يبتاعني ويبشّر! فاشتراه الملك، والملك مُسلم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد بنحوه؛ غير أنه قال: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به، واتبعهم إخوته، يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر.

حدثنا ابن وكيع ، قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السديّ: "وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً"، قال: لما اشتراه الرجلان فرِقوا من الرفقة أن يقولوا: اشتريناه فيسْألونَهم الشركة فيه فقالوا: إن سألونا: ما هذا؟ قلنا: بضاعة، استبضعناه أهل الماء، فذلك قوله: "وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً".

فكان بيعهم إياه ممن باعوه منه بثمن بخس، وذلك الناقص القليل من الثمن الحرام.
وقيل إنهم باعوه بعشرين درهماً، ثم اقتسموها -وهم عشرة- درهَمين درهمين، وأخذوا العشرين معدودة بغير وزن؛ لأن الدراهم حينئذ -فيما قيل- إذا كانت أقلَّ من أوقية وزنها أربعون درهماً لم تكن توزن، لأن أقلّ أوزانهم يومئذ كانت أوقية.

وقد قيل: إنهم باعوه بأربعين درهماً. وقيل: باعوه باثنين وعشرين درهماً.

وذكر أن بائعه الذي باعه بمصر كان مالك بن دعر بن يوبب ابن عفقان بن مديان بن إبراهيم الخليل عليه السلام. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

وأما الذي اشتراه بها وقال: "لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ"؛ فإن اسمه -فيما ذكر عن ابن عباس- قُطْفير. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان اسم الذي اشتراه قطفير.

وقيل إن اسمه أطفير، بن رُوحيب، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، والملك يومئذ الرَّيان بن الوليد، رجل من العماليق، كذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.

فأما غيره فإنه قال: كان يومئذ الملك بمصر وفرعونها الرَّيان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح.

وقد قال بعضهم: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتَّبع يوسف على دينه، ثم مات ويوسف بعدُ حيٍّ، ثم ملك بعده قابوس بن مُصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكان كافراً، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل.

وذكر بعضُ أهل التوراة أن في التوراة: أن الذي كان من أمر يوسف وإخوته والمصير به إلى مصر، وهو ابن سبع عشرة سنة يومئذ، وأنه قام في منزل العزيز الذي اشتراه ثلاث عشرة سنة، وأنه لما تمّتْ له ثلاثون سنة استوزره فرعون مصر؛ الوليد بن الرّيان، وأنه مات يوم مات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين وأوصى إلى أخيه يهوذا، وأنه كان بين فراقه يعقوب واجتماعه معه بمصر اثنتان وعشرون سنة، وأم مقام يعقوب معه بمصر بعد موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب صلى الله عليه وسلم أوصى إلى يوسف عليه السلام.

وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنساناً من أهله، فلما اشترى أطفير يوسف، وأتى به منزله، قال لأهله واسمها -فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق- راعيل: "أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا" فيكفينا إذا هو بلغ وفهم الأمور بعضَ ما نحن بسبيله من أمورنا: "أَوَ نَتَّخِذَهُ وَلَداً"، وذلك أنه كان -فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق- رجلاً لا يأتي النساء، وكانت امرأته راعيل حسناء ناعمة في مُلك ودنيا، فلما خلا من عمْر يوسف عليه السلام ثلاث وثلاثون سنة أعطاه الله عزّ وجلّ الحكم والعلم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: "آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً": قال: العقل والعلم قبل النبوة.

"وَرَاوَدَتْهُ" حين بلغ من السنّ أشدّه :الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ"- وهي راعيل امرأة العزيز أطفير- "وَغَلَّقَتِ اْلأَبْوَابَ" عليه وعليها للّذي أرادت منه، وجعلت -فيما ذكر- تذكر ليوسف محاسنه تشوقه بذلك إلى نفسها.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السديّ: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا"، قال: قالت له يا يوسف: ما أحسن شعرَك! قال: هو أول ما ينتثر من جسدي، يا يوسف ما أحسن عينيك! قال: هي أولُ ما يسيل إلى الأرض من جَسدي، قالت: يا يوسف ما أحسنَ وجهك! قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطعمته فهمّت به وهمّ بها. فدخلا البيتَ وغلقت الأبواب، وذهب ليحلّ سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قائماً في البيت قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها، فإنما مثَلُك ما لم تواقعها مثلُ الطير في جوِّ السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتَها مثَله إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثَلك ما لم تواقعها مثل الثور الصَّعْب الذي لا يعمل عليه، ومثَلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتدّ، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلْفه فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط وطرحه يوسف، واشتدّ نحو الباب.

وقد حدثنا أبو كريب وابن وكيع وسهل بن موسى، قالوا: حدثنا ابن عيينة عن عثمان بن أبي سليمان، عن ابن أبي مليْكة، عن ابن عباس: سئل عن همّ يوسف ما بلغ؟ قال: حلّ الهيمان، وجلس منها مجلس الحائز.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن أبي مُلَيكة، قال: قلت لابن عباس: ما بلغ من همّ يوسف؟ قال: استلقتْ له وجلس بين رجليها ينزع ثيابَه، فصرف الله تعالى عنه ما كان همّ به من السوء بما رأى من البرهان الذي أراه الله، فذلك -فيما قال بعضُهم- صورة يعقوب عاضّاً على إصبعه.

وقال بعضهم: بل نودي من جانب البيت: أتزني فتكون كالطير وقع ريشه، فذهب يطير ولا ريش له! وقال بعضهم: رأى في الحائط مكتوباً: "وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وِسَاءَ سَبِيلاً" فقام حين رأى بُرْهان ربه هارباً يريد باب البيت، فراراً مما أرادته، واتبعته راعيل فأدركتْه قبل خروجه من الباب، فجذبته بقميصه من قِبَل ظهره، فقدّت قميصَه وألفى يوسف وراعيل سيّدها -وهو زوجها أطفير- جالساً عند الباب، مع ابن عمّ لراعيل.

كذلك حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السديّ،: "وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ". قال: كان جالساً عند الباب وابن عمها معه، فلما رأته قالت: "مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَاْدَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ"؛ إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي فأبيت فشققت قميصه. قال يوسف: بل هي رَاوَدَتني عَنْ نَفْسي، فأبيت وفررت منها، فإن كان القميص "قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبين"، وإن كان القميص "قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ"، فأتى بالقميص، فوجده قدّ من دبر، قال: "إنَّهُ مِنْ كَيْدَكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيْمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ مِنَ الْخَاطِئِيْنَ".

حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن نوْف الشامي، قال: ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: "مَا جَزَاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عذابٌ ألِيْمٌ"، قال: فغضب وقال: "هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي".

وقد اختلف في الشاهد الذي شهد من أهلها "إنْ كَانَ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبين"، فقال بعضهم، ما ذكرت عن السديّ.
وقال بعضهم: كان صبيّاَ في المهد، وقد روى في ذلك عن رسول الله ما حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: "تكلم أربعة وهم صغار"، فذكر فيهم شاهد يوسف.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تكلّم أربعة وهم صغار: ابنُ ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم.

وقد قيل إن الشاهد كان هو القميص وقدّه من دبره.

ذكر بعض من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا".

قال: قميصه مشقوق من دُبره فتلك الشهادة، فلما رأى زوجُ المرأة قميص يوسف قُدَّ من دبر قال لراعيل زوجته: "إنَّهُ مِنْ كَيْدَكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيْمٌ"، ثم قال ليوسف: أعرض عن ذكر ما كان منها من مراودتها إياك عن نفسها فلا تذكره لأحد، قال لزوجته: "اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ مِنَ الْخَاطِئِيْنَ".

وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز بمِصر ومراودتها إياه على نفسها فلم ينكتم، وقلن: "امْرَأَةُ الْعَزِيْزِ تُرَاْوِدُ فتاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبَّاً"، قد وصل حبّ يوسف إلى شغاف قلبها فدخل تحته حتى غلب على قلبها. وشغاف القلب: غلافه وحجابه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السديّ: "قَدْ شَغَفَهَا حُبَّاً"، قال: والشغاف جلْدة على القلب يقال لها لسان القلب؛ يقول: دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب، فلما سمعت امرأة العزيز بمكرهنّ وتحدُّثهن بينهنّ بشأنها وشأن يوسف، وبلغها ذلك أرسلت إليهنّ وأعتدت لهن مُتكأ يتَّكئن عليه إذا حضرنها من وسائد. وحضرنها فقدّمت إليهنّ طعاماً وشراباً وأترُجاَ، وأعطتْ كُلَّ واحدة منهن سكيناً تقطع به الأترجّ.

حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كُدَيْنةَ، عن حُصَيْن، عن مجاهد، عن ابن عباس: "وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيْناً"، قال: أعطتهن أترُجّاً، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً.

فلما فعلت امرأةُ العزيز ذلك بهنَّ، وقد أجلست يوسف في بيت ومجلس غير المجلس الذي هنَّ فيه جلوس، قالت ليوسف: "اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ"، فخرج يوسف عليهنّ، فلما رأينه أجللنه وأكبرنه وأعظمنه، وقطَّعن أيديهن بالسكاكين التي في أيديهنّ، وهن يحسبن أنهنّ يقطعن بها الأترجّ، وقلن: معاذ الله ما هذا إنس، "إنْ هَذا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيْمٌ". فلما حلّ بهنّ ما حلَّ من قطع أيديهن من أجل نظرة نظرنها إلى يوسف وذهاب عقولهنّ، وعرفتهن خطأ قيلهنَّ: "امْرَأَةُ العزِيْزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ"، وإنكارهن ما أنكرن من أمرها أقرّت عند ذلك لهنّ بما كان من مراودتها إياه على نفسها، فقالت: "فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّني فِيْهِ ولَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ"، بعدما حلّ سراويله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السديّ: "قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّني فِيْهِ ولَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ"، تقول: بعدما حلّ السراويل استعصم، لا أدري ما بدا له ثم قالت لهنّ: "وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ" منْ إتْيانهَا "لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونا مِنَ الصَّاغِرِيْنَ"، فاختار السجن على الزنا ومعصية ربه، فقال: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلّيَّ مِمَّا يّدْعُونَنِي إلَيْهِ".

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السديّ: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلّيَّ مِمَّا يّدْعُونَنِي إلَيْهِ" من الزنا، واستغاث بربه عزّ وجلّ فقال: "وإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ من الجَاْهِلِيْنَ". فأخبر الله عزّ وجلّ أنه استجاب له دعاءه، فصرّف عنه كيدهنّ ونجاه من ركوب الفاحشة، ثم بدا للعزيز من بَعْد ما رأى من الآيات ما رأى من قَدّ القميص من الدُّبر، وخمش في الوجه، وقطع النسوة أيديهنّ وعلمه ببراءة يوسف مما قُرف به في ترك يوسف مطلقاً.

وقد قيل: إن السبب الذي من اجله بدا له في ذلك، ما حدثنا به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط عن السديّ: "ثم بّدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حّتَّى حِيْنٍ"، قال: قالت المرأة لزوجها: إن هذا العبد العبرانيّ قد فضَحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فذلك قول الله عزّ وجلّ: "ثُمَّ بّدّا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رأوا الآيات ليسجنُنه حَتَّى حين" فذكر أنهم حبسوه سبع سنين.

ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربيّ، عن داود، عن عكرمة: "لَيَسْجُنُنَّهُ حّتَّى حِيْنٍ"، قال: سبع سنين؛ فلما حبس يوسف في السجن صاحبه العزيز، أُدخِل معه السجن الذي حبس فيه فتيان من فتيان الملك صاحب مصر الأكبر؛ وهو الوليد بن الريَّان؛ أحدهما كان صاحب طعامه، والآخر كان صاحب شرابه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: حبسه الملك، وغضب على خبّازه؛ بلغه أنه يريد أن يَسُمَّه فحبسه، وحبس صاحب شرَابه؛ ظن أنه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعاً، فذلك قول الله عزّ وجلّ: "وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ".
فلما دخل يوسف قال فيما حدثني به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: لما دخل يوسف السجن، قال: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هَلُمَّ فلنجرّب هذا العبد العبرانيّ، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً، فقال الخباز: "إنِّي أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِيْ خُبْزاَ تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ"، وقال الآخر: "إنِّي أرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً، "نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاك مِنَ المُحْسِنِيْنَ".

فقيل: كان إحسانه ما حدثنا به إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: سأل رجل الضحاك عن قوله: "إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِيْنَ": ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وَسَّع له، فقال لهما يوسف: "لاَ يَأْتِيكُما طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ" في يومكما هذا "إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ" في اليقظة. فكرة صلى الله عليه أن يعبِّر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير الذي سألا عنه لما في عبارة ما سألا عنه من المكروه على أحدهما فقال: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أأرْبَابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ".

وكان اسم أحد الفتيين اللذين أدخلا السجن محلب -وهو الذي ذكر أنه رأى فوق رأسه خبزاً- واسم الآخر نبو، وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمراً، فلم يَدَعاه والعدول عن الجواب عما سألاه عنه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه فقال: "أمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراَ" -وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمراً، "وَأَمَّا اْلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ". فلما عبّر لهما ما سألاه تعبيره، قالا: ما رأينا شيئاً.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن عمارة -يعني ابن القعقاع- عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، في الفتيين اللذين أتيا يوسف في الرؤيا إنما كانا تحالما ليختبراه، فلما أوّل رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب، فقال: "قُضِيَ اْلأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْيَانِ" ثم قال لنبو -وهو الذي ظن يوسف أنه ناج منهمَا: "اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ" يعني عند الملك، وأخبره أني محبوس ظلماً، "فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ"، غفلة عرضت ليوسف من قبَل الشيطان.

فحدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعيّ، عن بسطام بن مسلم، عن مالك بن دينار، قال: قال يوسف للساقي: "اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ"، قال: قيل: يا يوسف، اتخذتَ من دوني وكيلاً? لأطيلنَّ حبسَك. فبكى يوسف وقال: يا ربّ أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي! حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم يقل يوسف -يعني الكلمة التي قال- ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عزّ وجلّ".

فلبث في السجن، فيما حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمران أبو الهُدَيل الصنعانيّ، قال: سمعت وهباً يقول: أصاب أيوب البلاء سبعَ سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعّذب بختنصَّر فحوّل في السباع سبع سنين.

ثم إن ملك مصر رأى رؤيا هالته.

فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السديّ، قال: إن الله عزّ وجلّ أرىَ الملك في منامه رؤيا هالتْه، فرأى: "سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٌ وَأُخَرَ يَابِساتٍ"، فجمع السحرة، والكهنة والحازة والقافة، فقصّها عليهم، فقالوا "أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلام بعالمين، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا" من الفتيين وهو نبو، "وادَّكَر" حاجة يوسف "بعد أمَّةٍ"، يعني بعد نسيان: "أَنا أنبِّئكم بتتأوِيلِهِ فأرْسِلُونِ"، يقول فأطلقون. فأرسلوه فأتى يوسف فقال: "أيها الصِّديق أَفْتِنَا فِيْ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٌ وَأُخَرَ يَابِساتٍ"؛ فإن الملك رأى ذلك في نومه.

فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: قال ابن عباس: لم يكن السجنُ في المدينة، فانطلق الساقي إلى يوسف، فقال: "أَفْتِنَا فِيْ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ..." الآيات.

فحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، "أَفْتِنَا فِيْ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ" فالسمان المخاصيب، والبقرات العجاف هُنَّ السنون المحول الجدوب. قوله: "وسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٌ وَأُخَرَ يَابِساتٍ" أما الخضر فهنّ السنون المخاصيب، وأما اليابسات فهن الحدون المحول.

فلما أخبر يوسف نبو بتأويل ذلك، أتى نبو الملك، فأخبره بما قال له يوسف، فعلم الملك أن الذي قال يوسف من ذلك حقّ، قال: ائتوني به.

فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: لما أتى الملك رسوله فأخبره، قال: ائتوني به، فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك أبى يوسف الخروج معه، وقال: "ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ رّبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ".
قال السديّ: قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حاجة، يقول: هذا الذي راود امرأتي. فلما رجع الرسول إلى الملك من عند يوسف جمع الملك أولئك النسوة، فقال لهنّ: ما خطبكن إذ راودتنّ يوسف عن نفسه! قلن -فيما حدثنا ابن وكيع، قال: حدّثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ قال: لما قال الملك لهنّ: "مَا خَطْبُكُنَّ إذ رَاوَدتُنَّ يوسفَ عَن نفسِهِ قُلْنَ حَاشَ لله ما عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوء"؛ ولكن امرأة العزيز أخبرتنا أنها راودته عن نفسه، ودخل معها البيت، فقالت امرأة العزيز حينئذ: "الآنَ حَصْحَصَ الحقُّ أنا رَاوَدتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ". فقال يوسف: ذلك هذا الفعل الذي فعلت من ترديدي رسول الملك بالرسالات التي أرسلت في شأن النسوة، ليعلم أطفير سيدي "أنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغَيْبِ" في زوجته راعيل، "وأنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدِ الْخَائِنِيَنَ".

فلما قال ذلك يوسف قال له جَبْرئيل: ما حدّثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما جمع الملك النسوة، فسألهنّ: هل راودتنّ يوسفَ عن نفسه؟ "قُلْنَ حَاشَ لله ما عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوء قالتِ امرأةُ العزيز الآنَ حَصْحَصَ الحقُّ أنا رَاوَدتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ" قال يوسف: "ذلك ليعلمَ أنِّي لم أخُنْهُ بالغيب وأنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدِ الْخَائِنِيَنَ". قال: فقال له جَبْرئيل: ولا يوم هممت بها؟ فقال: "وَمَا أُبرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأمَّارةٌ بالسُّوء".

فلما تبين للملك عذرُ يوسف وأمانته قال: "ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لنفسِي فَلَمَّا" أُتِي به "كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيوْمَ لديْنَا مَكينٌ أمين". فقال يوسف للملك: "اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ".

فحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" قال: كان لفرعون خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلَّه إليه، وجعل القضاء إليه أمره، وقضاؤه نافذ.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن شيبة الضبيّ في قوله: : "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ"، قال: على حفظ الطعام. "إنِّي حَفِيْظٌ عَليمٌ" يقول: إني حفيظ لما استودعتني، علم بسني المجاعة، فولاه الملك ذلك.

وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال يوسف للملك: : "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيْظٌ عَليمٌ" قال الملك: قد فعلت، فولاه -فيما يذكرون- عمل إطفير، وعزّل إطفير عما كان عليه، يقول الله تبارك وتعالى: "وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يتبوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ برَحْمًتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيْعَ أجْرَ المحسنِين" قال: فذُكر لي -والله أعلم- أن إطفير هلك في تلك الليالي، وأن الملك الرّيان بن الوليد زوّج يوسف امرأة إطفير راعيل، وأنها حين دخلت عليه قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين! قال: فيزعمون أنها قالت: أيها الصدّيق لا تلمني، فإني كنت امرأةً -كما ترى- حسناء جميلة ناعمة، في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبَتْني نفسي على ما رأيت. فيزعمون أنه وجدها عذراء، وأصابها فولدت له رجلين: أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ: : "وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يتبوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ" قال: استعمله الملك على مصر، وكان صاحبَ أمرها، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله، فذلك قوله: : "وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يتبوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ".

فلما وليَ يوسف للملك خزائن أرضِه واستقرَّ به القرار في عمله، ومضت السنون السبع المخصبة التي كان يوسف أمرَ بترك ما في سنبل ما حصدوا من الزرع فيه، ودخلت السنون المجدبة وقَحط الناس، أجدبت بلاد فلسطين فيما أجدب من البلاد، ولحق مكروه ذلك آل يعقوب في موضعهم الذي كانوا فيه، فوجه يعقوب بنيه.

فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: أصاب الناس الجوع حتى أصاب بلاد يعقوب التي هو بها، فبعث بنيه إلى مصر، وأمسك أخا يوسف بنيامين، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، فلما نظر إليهم قال: أخبروني: ما أمرُكم؟ فإني أنكر شأنكم! قالوا: نحن قوم من أرض الشأم، قال: فما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نمتار طعاماً، قال: كذبتم، أنتم عيون! كم أنتم؟ قالوا: عشرة، قال: أنتم عشرة آلاف، كلُّ رجل منكم أمير ألف. فأخبروني خبركم، قالوا: إنا إخوة، بنو رجل صدِّيق، وإنا كنا اثني عشر، وكان أبونا يحب أخاً لنا، وإنه ذهب معنا إلى البريّة فهلك فيها، وكان أحبَّنا إلى أبينا. قال: فإلى مَنْ سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه. قال: فكيف تخبرونني أن أباكم صدِّيق وهو يحب الصغير منكم دون الكبير! ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه: "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ، قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإنَّا لَفَاْعِلُونَ".

قال: فضعوا بعضَكم رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد قد آسى بينهم، فكان لا يحمّل للرجل إلا بعيراً واحداً، ولا يحمّل الواحد بعيريْن تقسيطاً بين الناس، وتوسيعاً عليهم، فقدم عليه إخوته قدِم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر، فعرفهم وهم له منكرون لما أراد الله تعالى أن يبلغ بيوسف فيما أراد. ثم أمر يوسف بأن يوقِر لكلّ رجل من إخوته بعيرَه، فقال لهم: ائتوني بأخيكم من أبيكم، لأحمَّل لكم بعيراً آخر، فتزدادوا به حمل بعير: "ألا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِ الْكَيْلَ" فلا أبخسه أحداً، "وأَنَا خَيْرُ المُنْزِلِينَ". وأنا خيرُ من أنزل ضيفاً على نفسه بهذه البلدة، فأنا أضيفكم "فإِنْ لَمْ تَأْتُونِي" بأخيكم من أبيكم فلا طعامَ لكم عندي أكيله، ولا تقربوا بلادي. وقال لفتيانه الذين يكيلون الطعام لهم: "اجْعَلوا بضَاعَتَهُمْ" -وهي ثمن الطعام الذي اشتروه به- "في رِحَالِهِمْ".

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: "اجْعَلوا بضَاعَتَهُمْ في رِحَالِهِمْ"، أي ورقهم، فجعلوا ذلك في رحالهم وهم لا يعلمون.

فلما رجع بنو يعقوب إلى أبيهم، قالوا: ما حدثنا به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ: فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا، إن ملكَ مصر أكرمنا كرامةً؛ لو كان رجلاً من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم الذي هلك؛ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوا بلادي أبداً. قال يعقوب: "هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاَ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ". قال: فقال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملِك مصر فأقرءوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلِّي عليك، ويدعو لكَ بما أوليتَنا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرجوا حتى إذا قدموا على أبيهم، وكان منزلهم -فيما ذكر لي بعض أهل العلم- بالعربات من أرض فلسطين بغَوْر الشأم. وبعضهم يقول: بالأولاج من ناحية الشِّعب أسفل من حِسْمي فلسطين، وكان صاحب بادية، له إبل وشاء. فلما رجع إخوة يوسف إلى والدهم يعقوب قالوا له: يا أبانا مُنع منا الكيل فوق حمل أباعرنا، ولم يكل لكلِّ واحد منا إلا كيل بعير، فأرسل معنا أخانا بنيامين يكتَلْ لنفسه، وإنا له لحافظون، فقال لهم يعقوب: "هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاَ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ".

ولما فتح ولد يعقوب الذين كانوا خرجوا إلى مصر للميرة متاعَهم الذي قدموا به من مصر، وجدوا ثمن طعامهم الذي اشتروه به رُدَّ إليهم، فقالوا لوالدهم: "يَا أبَانَا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إليْنا وَنَمِيرُ أهْلَنَا وَنَحْفَظُ أخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيْرٍ" أخر على أحمال إبلنا.
وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، "وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيْرٍ"، قال لكل رجل منهم حمل بعير، فقالوا أرسل معنا أخانا نزداد حمل بعير. قال ابن جريج: قال مجاهد: كيل بعير حمل بعير حمار. قال: وهي لغة؛ قال الحارث: قال القاسم: يعني مجاهد أن الحمار يقال له في بعض اللغات "بعير".

فقال يعقوب: "لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونَ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأتُنَّني بِهِ إلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ" يقول: إلا أن تهلكوا جميعاً، فيكون حينئذ ذلك لكم عذراً عندي، فلما وثقوا له بالأيمان قال يعقوب: "اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيْلٌ".

ثم أوصاهم بعد ما أذن لأخيهم من أبيهم بالرحيل معهم، ألا تدخلوا من باب واحد من أبواب المدينة خوفاً عليهم من العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، وجمال وهيئة، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة، كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ"، قال: كانوا قد أوتوا صورة وجمالاً، فخشي عليهم الناس، فقال الله تبارك وتعالى: "وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوْهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا"، -وكانت الحاجة التي في نفس يعقوب فقضاها- ما تخوف على أولاده أعين الناس لهيئتهم وجمالهم.

ولما دخل إخوة يوسف على يوسف ضمّ إليه أخاه لأبيه وأمه، فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ: "وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ أوَى إلَيْهِ أَخَاهُ"، قال: عرف أخاه، قال: وأنزلهم منزلاً، وأجرى عليهم الطعام والشراب، فلما كان الليل جاءهم بمثل فَقال: ليَنَمْ كلّ أخوين منكم على مِثال، فلما بقي الغلام وحده قال يوسف: هذا ينام معي في على فراشي، فبات معه، فجعل يوسفَ يَشمُّ ريحه، ويضمه إليه حتى أصبح؛ وجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا إن نجونا منه.

وأما ابن إسحاق فإنه ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما دخلوا -يعني ولد يعقوب- على يوسف قالوا: هذا أخونا الذي أمرَتنا أن نأتيَك به، قد جئناك به. فذكر لي أنه قال لهم: قد أحسنتم وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، أو كما قال.

ثم قال: إني أراكم رجالاً، وقد أردت أن أكرمكم، فدعا صاحب ضيافته فقال: أنزل كلَّ رجلين على حدة، ثم أكرمْهما وأحسنْ ضيافَتَهما. ثم قال: إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثانٍ، فسأضمه إليّ فيكون منزله معي، فأنزلهم رجلين رجلين إلى منازل شتى، وأنزل أخاه معه فأواه إليه، فلما خلا به قال: إني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بشيء فعلوه بنا فيما مضى؛ فإن الله قد أحسن إلينا فلا تعلمهم مما أعلمتك؛ يقول الله عزّ وجلّ: "وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ أوَى إلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إنِّي أَنَا أخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بما كانوا يعملون"، يقول له: "فَلاَ تَبْتَئِسْ"، فلا تحزن.
فلما حمّل يوسف إبل إخوته ما حمَّلها من الميرة وقضى حاجتهم ووفّاهم كيلهم، جعل الإناءَ الذي كان يكيل به الطعام -وهو الصُّواع- في رحل أخيه بنيامين.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا عبد الواحد، عن يونس، عن الحسن أنه كان يقول: الصُّواع والسقاية سواء، هما الإناء الذي يشرب فيه، وجعل ذلك في رَحْل أخيه، والأخ لا يشعر فيما ذكر.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ: "فَلَمَّا جّهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيْهِ"، والأخ لا يشعر، فلما ارتحلوا أذّن مؤذن قبل أن ترتحلوا العير: "إنَّكُمْ لَسَارقُونِ".

حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حمّل لهم بعيراً بعيراً، وحمل لأخيه بنيامين بعيراً باسمه كما حمل لهم، ثم أمر بسقاية الملك -وهو الصُّواع- وزعموا أنها كانت من فضة، فجُعلت في رحل أخيه بنيامين، ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية، أمر بهم فأدرِكوا واحتُبِسوا، ثم نادى منادٍ: أيتها العير إنكم لسارقون، قفوا. وانتهى إليهم رسوله فقال لهم -فيما يذكرون-: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفِّكم كيلَكم، ونحسن منزلَكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم، وأدخلناكم علينا في بيوتنا، وصار لنا عليكم حرمة! أو كما قال لهم. قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك فقدناها، ولا يُتَّهموا عليها غيركم. قالوا: "تَاللهِ لقدْ علِمْتُمْ ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اْلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِين". وكان مجاهد يقول. كانت العير حميراً.

حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، قال: أخبرَني رجل، عن مجاهد: وكان فيما نادى به منادي يوسف: مَنْ جاء بصُواع الملك فله حمْلُ بعير من الطعام، وأنا بإيفائه ذلك زعيم -يعني "كفيل"- وإنما قال القوم: : "لقدْ علِمْتُمْ ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اْلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِين"، لأنهم ردوا ثمن الطعام الذي كان كيل لهم المرة الأولى في رحالهم. فردوه إلى يوسف، فقالوا: لو كنا سارقين لم نردد ذلك إليكم -وقيل إنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، فلذلك قالوا ذلك- فقيل لهم: ما جزاء من كان سرق ذلك؟ فقالوا: جزاؤه في حُكمنا بأن يسلِّم لفعله ذلك إلى مّنْ سرقه حتى يسترقّه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: "قالوا فما جَزَاؤه إن كنتمْ كاذِبين، قالوا جزاؤه مَنْ وُجدَ فِي رَحْلِهِ فهوَ جزاؤه" تأخذونه، فهو لكم. فبدأ يوسف بأوعية القوم قبل وعاء أخيه بنيامين، ففتّشها ثم استخرجها من وعاء أخيه لأنه أخّر تفتيشه.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثّماً مما قَرفَهم به، حتى بقيَ أخوه -وكان أصغر القوم- قال: ما أرى هذا أخذ شيئاَ. قالوا: بلى فاستبرئه، ألاَ وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم. "ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعاءِ أخيه كذلك كِدْنا ليوسفَ ما كانَ لِيأخُذَ أخاه في دِينِ المَلِكِ". يعني في حكم الملك، ملك مصر، وقضائه لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يُسْترَقّ السارق بما سرق، ولكنّه أخذه بكيد الله له حتى أسلمه رفقاؤه وإخوته بحكمهم عليه وطيب أنفسهم بالتسليم.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: قوله: "ما كانَ لِيأخُذَ أخاه في دِينِ المَلِكِ" إلا بعلَّة كادها الله له، فاعتلَّ بها يوسف، فقال إخوة يوسف حينئذ: "إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ" -يعنون بذلك يوسف.
وقد قيل إن يوسف كان سرق صنماً لجده أبِي أمّه، فكسره، فعيّروه بذلك.

ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن عمرو البصريّ، قال: حدثنا الفيض بن الفضل، قال: حدثنا مسْعَر، عن أبي حَصِين، عن سعيد بن جبير: "إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ"، قال: سرق يوسف صنماً لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك.

وقد حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي قال: كان بنو يعقوب على طعام، إذ نظر يوسف إلى عَرْق فخبأه فعيّروه بذلك "إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ"، فأسرّ في نفسه يوسف حين سمع ذلك منهم، فقال: "أنتم شَرٌّ مَكَاناً والله أعلمُ بما تَصِفون" به أخا بنيامين من الكذب، ولم يُبْدِ ذلك لهم قولاً.

فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: لما استخرِجت السرِقة من رحْل الغلام انقطعت ظهورُهم، وقالوا: يا بنَي راحيل، ما يزال لنا منكم بلاء! متى أخذتَ هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البريّة، وَضَع هذا الصُّواع في رَحْلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. فقالوا: لا تذكر الدراهم فتؤخذ بها. فلما دخلوا على يوسف دعا بالصُّواع، فنقر فيه ثم أدناه من أذنه، ثم قال: إن صُواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه. فلما سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثم قال: أيها الملك، سل صُواعك هذا عن أخي أين هو؟ فنقره، ثم قال: هو حيّ، وسوف تراه. قال: فاصنع بي ما شئت، فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني. قال: فدخل يوسف فبكى ثم توضأ، ثم خرج فقال بنيامين: أيها الملك، إني أريد أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحقِّ من الذي سرقه فجعله في رحلي. فنقره، فقال: إن صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسأَلني: مَنْ صاحبي؟ فقد رأيتَ مع من كنت! قالوا: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يُطاقوا، فغضب روبيل وقال: أيها الملك، والله لتتركنا أو لأصيحنَّ صيحة لا تبقى بمصر حامل إلا ألقتْ ما في بطنها، وقامت كل شعرة في جسد روبيل، فخرجت من ثيابه. فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل فمسّه -وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم فمسَّه الآخر ذهب غضبه- فقال روبيل: مِنْ هذا؟ إن في هذا البلد لَبَزراً من بزْر يعقوب، فقال يوسف: من يعقوب؟ فغضب روبيل وقال: أيها الملك، لا تذكر يعقوب فإنه إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله. قال يوسف: أنت إذن كنت صادقاً.

قال: ولما احتبس يوسف أخاه بنيامين، فصار بحكم إخوته أولى به منهم، ورأوا أنه لا سبيلَ لهم إلى تخليصه صاروا إلى مسألته تخليتَه ببذل منهم يعطونه إياه، فقالوا: "يَا أَيُّهَا الْعَزِيْزُ إنَّ لَهُ أباً شَيخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكَانَهُ إنا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِيْنَ" في أفعالك. فقال لهم يوسف: "مَعَاذَ الله أن نَأْخُذَ إلاَّ مِنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إنَّا إذاً لَظَالِمونَ" أن نأخذ بريئاً بسقيم! فلما يئس إخوة يوسف من إجابة يوسف إياهم ما سألوا من إطلاق أخيه بنيامين وأخذ بعضهم مكانه، خلّصوا نجيّاً لا يفترق منهم أحد، ولا يختلط بهم غيرهم. فقال كبيرهم: -وهو روبيل، وقد قيل إنه شمعون-: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله أن نأتيه بأخينا بنيامين إلاّ أن يحاط بنا أجمعين! ومن قبل هذه المرة ما فرطتم في يوسف "فَلَنْ أَبْرَحَ اْلأَرْضَ" التي أنا بها "حَتَّى يَأذَنَ لِي أبِي" في الخروج منها وترك أخي بنيامين بها "أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاْكِمِيْنَ" -وقد قيل معني ذلك: أو يحكم الله لي بحرب مَنْ منعني من الانصراف بأخي- "ارجعوا إلى أبيكم فقُولُوا يَا أَبَانَا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ"، فأسلمناه بجريرته، "وَمَا شَهِدْنَا إلاَّ بما علمنا"؛ لأن صُواع الملك لم يوجد إلا في رحله، "وما كنا للغيب حافظين"، يعنون بذلك أنا إنما ضمّنا لك أن نحفظه مما لنا إلى حفظه سبيل، ولم نكن نعلم أنه يسرق فيُستَرقّ بسرقته، واسأل أهل القرية التي كنا فيها فسرق ابنك فيها، والقافلة التي كنا فيها مقبلة من مصر معنا عن خبر ابنك، فإنك تخبر بحقيقته ذلك.

فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه خبر بنيامين، وتخلُّف روبيل قال لهم: بل سوَّلتْ لكم أنفسكم أمراً أردتموه، فصبرٌ جميل لا جزع فيه على ما نالني منْ فقد ولدي، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً بيوسف وأخيه وروبيل.

ثم أعرض عنهم يعقوب وقال: "يا أسَفاً عَلَى يُوسُفَ" يقول الله عزّ وجلّ: "وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيْم"، مملوء من الحزن والغيظ. فقال له بنوه الذين انصرفوا إليه من مصر حين سمعوا قوله ذلك: تالله لا تزال تذكر يوسف فلا تفتر، من حبّه وذكره حتى تكون دنفَ الجسم، مخبُولَ العقل من حبّه وذكره، هرِماً بالياً أو تموت! فأجابهم يعقوب فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله لا إليكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون من صدق رؤيا يوسف؛ أنَّ تأويلها كائن، وأني وأنتم سنسجد له.

وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكّام، عن عيسى بن يزيد، عن الحسن، قال: قيل: ما بلغ وَجْد يعقوب على ابنه؟ قال وجْد سبعين ثَكْلى، قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، قال: وما ساء ظنّه بالله ساعة قطّ من ليل ولا نهار.

وحدثنا ابن حميد مرّة أخرى، قال: حدثنا حَكّام، عن أبي معاذ، عن يونس، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن المبارك بن مجاهد، عن رجل من الأزد، عن طلحة بن مُصرِّف الياميّ، قال: أنبئت أن يعقوب ابن إسحاق دخل عليه جار له فقال: يا يعقوب، مالي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنّ ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف وذكره. فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي! قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. قال: فإني قد غفرت لك، فكان من ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِيّ، حدثنا أبو أسامة، عن هشام عن الحسن، قال: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى أن رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره. قال الحسن: والله ما عَلى الأرض خليفةٌ أكرم على الله من يعقوب.

ثم أمر يعقوب بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتحسّس الخبر عن يوسف وأخيه، فقال لهم: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله، يفرج به عنا وعنكم الغمَّ الذي نحن فيه. فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف فقالوا له حين دخلوا عليه: "أيُّها العزيزُ مَسَّنَا وأهلَنا الضُّرُّ وجِئْنَا ببضاعةٍ مُزْجَاةٍ فأوفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ علينا إنّ اللهَ يجزِي المتصدِّقين". وكانت بضاعتهم المزجاة التي جاؤوا بها معهم -فيما ذكر- دراهم رديّة زُيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة. وكان بعضهم يقول: كانت حلَق الغرارة والحبل ونحو ذلك. وقال بعضهم: كانت سمناَ وصوفاً. وقال بعضهم: كانت صنوبراً وحبة الخضراء. وقال بعضهم: كانت قليلة دون ما كانوا يشترون به قبل، فسألوا يوسف أن يتجاوز لهم ويُوفِيَهم بذلك من كيل الطعام مثل الذي كان يعطيهم في المرتين قبل ذلك، ولا ينقصهم. فقالوا له: "فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إنَّ اللهَ يَجْزِي المتصدِّقينَ".

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ: "وتَصَدَّقْ عَلَيْنَا"، قال: بفضل ما بين الجياد والرديّة. وقد قيل: إن معنى ذلك: وتصدق علينا برد أخينا إلينا "إنَّ اللهَ يَجْزِي المتصدِّقينَ".

حدّثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر أنهم لما كلّموه بهذا الكلام، غلبتْه نفسه فارفضّ دمعُه باكياً، ثم باح لهم بالذي كان يكتم منهم، فقال: "هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأخِيهِ إذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ". ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه هو فيه حين أخذه، ولكن التفريق بينه وبين أخيه إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا. فلما قال لهم يوسف ذلك قالوا له: ها أنت يوسف! قال: "أَنَا يُوسُفُ وهذا أخي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا" بأن جمع بيننا بعد تفريقكم بيننا، "إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبرْ فَإنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أجْرَ المُحْسِنِيْنَ".

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: لما قال لهم يوسف: "أَنَا يُوسُفُ وهذا أخِي" اعتذروا وقالوا: "تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كُنَّا لَخَاطِئِيْنَ". قال لهم يوسف: "لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ". فلما عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: قال يوسف: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: لما فاته بنيامين عميَ من الحزن فقال: "اذْهَبُوا بِقَمِيْصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أجْمَعِيْنَ، ولَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ" عِير بني يعقوب، قال يعقوب: "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ".

فحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن شريح، عن أبي أيوب الهوزنيّ، حدّثه، قال: استأذنت الريح بأن تأتيَ يعقوب بريح يوسف حين بعث بالقميص إلى أبيه قبل أن يأتيَه البشير، ففعلت، فقال يعقوب: "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ".
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن ابن سنان، عن ابن أبي الهذيل، عن ابن عباس في "ولَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قال أبوهُم إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ" قال: هاجت ريحٌ فجاءت بريح يوسف من مسيرة ثمان ليال، فقال: "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ".

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد: عن قتادة، عن الحسن، قال: ذُكِر لنا أنه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخاً، يوسف بأرض مصر ويعقوب بأرض كنعان، وقد أتى زمان طويل.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج. قوله: "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ" وقد كان فارقه قبل ذلك سبعاً وسبعين سنة. ويعني قوله" "لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ" لولا أن تسفّهوني فتنسبوني إلى الهرم وذهاب العقل. فقال له مَنْ حضره من ولده حينئذ: تالله إنك من ذكر يوسف وحبّه "لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيْمِ" -يعنون في خطئك القديم. "فلما أن جَاءَ الْبَشِيْرُ" -يعني البريد الذي أبرده يوسف إلى يعقوب- يبشر بحياة يوسف وخبره، وذكر أن البشير كان يهوذا بن يعقوب.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّديّ، قال: قال يوسف: "اذْهَبُوا بِقَمِيْصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أجْمَعِيْنَ". قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطّخاً بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره بأنه حيّ، فأقرّ عينه كما أحزنته؛ فهو كان البشير.

فلما أن جاء البشيرُ يعقوبَ بقميص يوسف ألقاه على وجهه، فعاد بصيراً بعد العمى، فقال لأولاده: "ألم أَقُلْ لَكُمْ إنَّي أعلمُ من اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".

وذلك أنه كان قد علم -من صدق تأويل رؤيا يوسف التي رآها أنّ الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدون- ما لم يكونوا يعلمون. فقالوا ليعقوب: "يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِيْنَ". فقال لهم يعقوب: "سوفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي". قيل: إنه أخّر الدعاء لهم إلى السَّحَر. وقيل إنه أخّر ذلك إلى ليلة الجمعة.

حدثنا أحمد بن الحسن الترمذيّ، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقيّ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء وعكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "قال يعقوب: "سوفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي"، يقول حتى تأتيَ ليلة الجمعة".

فلما دخل يعقوب وولده وأهاليهم على يوسف آوى إليه أبويه، وكان دخولهم عليه قبل دخولهم مصر -فيما قيل- لأن يوسف تلقاهم. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ، قال: حملوا إليه أهليهم وعيالهم، فلما بلغوا مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه فخرج هو والملك يتلقونهم، فلما بلغوا مصر قال: "ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ الله آمِنِين". فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن فرقد السبَخيّ، قال: لما ألقِيَ القميص على وجهه ارتدَّ بصيراً، وقال: ائتوني بأهلكم أجمعين، فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما دنا يعقوب أخبرَ يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه. قال: وركب معه أهلُ مصر -وكانوا يعظَِمونه- فلما دنا أحدهما من صاحبه- وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من وَلده، يقال له يهوذا- قال: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر، فقال: لا، هذا ابنك يوسف، قال: فلما دنا واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فمنع ذلك، وكان يعقوب أحقَّ بذلك منه وأفضل. فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، فلما أن دخلوا مصر رفه أبويه على السرير وأجلسهما عليه.

وقد اختلف في اللذين رفعهما يوسف على العرش، وأجلسهما عليه، فقال بعضهم: كان أحدهما أبوه يعقوب، والآخر أمه راحيل. وقال آخرونَ: بلْ كان الآخر خالته ليا وكانت أمه قد كانت ماتت قبل ذلك. وخرّ له يعقوب وأمه وولده يعقوب سجَّداً.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً" قال: كانت تحية الناس أن يسجد بعضهم لبعض، وقال يوسف لأبيه: "يا أبت هذا تأويلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقَّاً:، يعني بذلك: هذا السجود منكم، يدل على تأويل رؤياي التي رأيتها من قبل، صنع إخوتي بي ما صنعوا، وتلك الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر "قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقَّاً". يقول: قد حقق الرؤيا بمجيء تأويلها.

وقيل كان بين أن أرِيَ يوسف رؤياه هذه ومجيء تأويلها أربعون سنة.

ذكر بعض من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتَمر، عن أبيه، قال: حدثنا أبو عثمان، عن سلمان الفارسيّ، قال: كان بين رؤيا يوسف إلى أن رأى تأويلها أربعون سنة.

وقال بعضهم: كان بين ذلك ثمانون سنة.

ذكر بعض من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفيّ، قال: حدثنا هشام، عن الحسن، قال: كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة، لم يفارق الحزنُ قلبَه ودموعُه تجري على خدَّيه، وما على الأرض يومئذ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ من يعقوب.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا داود بن مِهْران، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة.

حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك بن فَضَالة، عن الحسن، قال: ألْقيَ يوسف في الجبّ، وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عن أبيه ثمانين سنة، ثم عاش بعد ما جمع الله شمله، ورأى تأويل رؤياه ثلاثاً وعشرين سنة، فمات وهو ابن عشرين ومائة سنة.

وقال بعض أهل الكتاب: دخل يوسف مصر وله سبع عشرة سنة، فأقام في منزل العزيز ثلاث عشرة سنة، قلما تمت له ثلاثون سنة استوزره فرعون ملك مصر، واسمه الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وأنّ هذا الملك آمن، ثم مات، ثم ملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو ابن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح. وكان كافراً، فدعاه يوسف إلى الإيمان بالله فلم يستجب إليه، وأن يوسفَ أوصّى إلى أخيه يهوذا، ومات وقد أتت له مائة وعشرون سنة، وأنّ فِراق يعقوب إياه كان اثنتين وعشرين سنة، وأن مقام يعقوب معه بمصر كان بعد موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب لما حضرتْه الوفاة أوصى إلى يوسف -وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنساناً من أهله. وتقدم إلى يوسف عند وفاته أن يحمّل جسده حتى يدفنه بجنب أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك به ومضى به حتى دفته بالشأم، ثم انصرف إلى مصر، وأوصى يوسف أن يحمَل جسده حتى يدفَن إلى جنب آبائه، فحمل موسى تابوت جسده عند خروجه من مصر معه.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذُكر لي -والله أعلم- أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثمانيَ عشرة سنة.

قال: وأهلُ الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأنّ يعقوب بَقيَ مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه. قال: وقبر يوسف -كما ذكر لي في- صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء.
وقال بعضهم: عاش يوسف بعد موت أبيه ثلاثاً وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. قال: وفي التوراة أنه عاش مائة سنة وعشرين سنين.

وولد ليوسف أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف، فولد لإفراييم نون، فولد لنون إفراييم يوشع بن نون وهو فتى موسى، وولد لمنشا موسى بن منشا.

وقيل: إن موسى بن منشا نبّئ قبل موسى بن عمران.

ويزعم أهل التوراة أنه الذي طلب الخضر.