ذكر نسب موسى بن عمران

وأخباره وما كان في عهده وعهد منوشهر بن منشخورنر الملك من الأحداث قد ذكرنا أولاد يعقوب إسرائيل الله وعددهم وموالدهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أن لاوى بن يعقوب نكح نابتة ابنة ماري بن يشخر، فولدت له عَرشون بن لاوى ومرزي بن لاوى -ومردي بن لاوى- وقاهث ابن لاوى. فنكح قاهث بن لاوى فاهى ابنة مسين بن بتويل بن إلياس. فولدت له يصهر بن قاهث، فتزوج يصهر شميث ابنة بتاديت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم. فولدت له عمران بن يصهر، وقارون بن يصهر، فنكح عمران يحيب ابنة شمويل بن بركيا ين يقسان بن إبراهيم؟ فولدت له هارون بن عمران وموسى بن عمران.
وقال غير ابن إسحاق: كان عمرُ يعقوب بن إسحاق مائة وسبعاً وأربعين سنة، وولد لاوى له، وقد مضى من عمره تسع وثمانون سنة، وولد للاوى قاهث بعد أن مضى من عمر لاوى ست وأربعون سنة، ثم ولد لقاهث يصهر، ثم ولد ليصهر عمرم -وهو عمران- وكان عمر يصهر مائة وسبعاً وأربعين سنة، وولد له عمران بعد أن مضى من عمره ستون سنة، ثم ولد لعمران موسى، وكانت أمه يوخابد -وقيل: كان اسمها باختة- وامرأته صفورا ابنة يترون، وهو شعيب النبي صلى الله عليه وسلم. وولد موسى جرشون وإبيليعازر، وخرج إلى مدين خائفاً وله إحدى وأربعون سنة، وكان يدعو إلى دين إبراهيم، وتراءى الله بطور سيناء، وله ثمانون سنة.

وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، فرعون يوسف الأول. فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من قابوس وأكفر وأفجر، وأمِر بأن يأتيَه هو وأخوه هارون بالرسالة.

قال: ويقال إن الوليد تزوج آسية ابنة مزاحم بعد أخيه وكان عمر عمران مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة، وولد موسى وقد مضى من عمر عمران سبعون سنة، ثم صار موسى إلى فرعون رسولاً مع هارون، وكان من مولد موسى إلى أن خرج ببني إسرائيل عن مصر ثمانون سنة، ثم صار إلى التيه بعد أن عبّر البحر، فكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته في التيه مائة وعشرين سنة.

وأما ابن إسحاق فإنه قال فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قبض الله يوسفَ، وهلَك الملك الذي كان معه الريان بن الوليد، وتوارثت الفراعنة من العماليق ملْك مصر، فنشر الله بها بني إسرائيل، وقبر يوسف حين قبض -كما ذكر لي- في صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء، فلم يزل بنو إسرائيل تحت أيدي الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم من الإسلام، متمسّكين؛ به حتى كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله ولا أعظم قولاً ولا أطول عمراً في ملكه منه. وكان اسمه -فيما ذكروا لي- الوليد بن مصعب، ولم يكن من الفراعنة فرعون أشدّ غلظة، ولا أقسى قلباً، ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل منه، يعذّبهم فيجعلهم خدَماً وخولاً، وصنّفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرِثون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومَنْ لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قال الله: "سوءَ العذابِ"، وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقَه، وقد استنكح منهم امرأة يقال لها آسية ابنة مزاحم، من خيار النساء المعدودات، فعمِّر فيهم وهم تحت يديه عمراً طويلاً يسومهم سوء العذاب، فلما أراد الله أن يفرج عنهم وبلغ موسى الأشُدّ أعطى الرسالة.

قال: وذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجّمو فرعون وحُزاته إليه، فقالوا: تعلّم أنا نجد في علمنا أو مولوداً من بني إسرائيل قد أظلّك زمانه الذي يُولد فيه، يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدّل دينك. فلما قالوا له ذلك أمر بقتل كلّ مولود يولد من بني إسرائيل من الغِلمان وأمر بالنساء يُستحْيًين، فجمع القوابل من نساء أهل مملكته فقال لهن: لا يسقطنَّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلا قتلتموه، فكنّ يفعلن ذلك، وكان يذبح مَنْ فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذَّبن حتى يطرحن ما في بطونهنّ.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: لقد ذُكر لي أنه كان يأمر بالقصب فيُشقّ حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصفّ بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحزّ أقدامهنّ، حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع بين رجليها، فتظلَّ تطؤُه تَتَّقِي به حزّ القصب عن رجليها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك، وكاد يُفنيهم، فقيل له: أفنيتَ الناس، وقطعت النَّسل، وإنهم خَولك وعُمَّالك. فأمر أن يقتَل الغلمان عاماً ويستحيوا عاماً، فولد هارون في السنة التي يَستَحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يُقتلون، فكان هارون أكبرَ منه سنة.

وأما السديّ فإنه قال ما حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة الهمذانيّ عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القِبْط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة، فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه -يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاكُ مصر. فأمر ببني إسرائيل ألاّ يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا يولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم وأدخلوا غلمانهم، فذلك حين يقول الله: "إنّ فرعون علا في الأرضِ" يقول" تجبَّر في الأرض، "وجعل أهلها شيعاً" -يعني بني إسرائيل حين جعلهم في الأعمال القذرة- "يَسْتضعفُ طائفةً منهمْ يُذَبِّحُ أبناءَهُم"، فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير، وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموتَ، فأسرع فيهم، فدخل رؤوس القبط على فرْعون فكلّموه، فقالوا: إن هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت، فيوشِك أن يقع العمل على غلماننا نذبح أبناءهم فلا يبلغ الصغار، ويفنى الكبار، فلو أنك تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة؛ فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون فترك، فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت أم موسى بموسى فلما أرادت وضعَه حزنت من شأنه، فأوحى الله إليها: "أن أرضعيه فإذا خِفْتِ عليه فألقيه في اليمِّ" وهو النيل، "ولا تخافِيْ ولا تحزَني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه مِنَ المُرْسلين". فلما وضعته أرضعته، ثم دعت له نجاراً فجعل له تابوتاً وجعل مفتاح التابوت من داخل، وجعلته فيه وألقته في اليم، "وقالتْ لأختِهِ قُصِّيهِ" تعني قُصِّي أثره "فبصُرَت به عن جُنُب وهمْ لا يشْعُرونَ"، أنها أخته. فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة، ويخفضه أخرى، حتى أدخله بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن، فوجدن التابوت فأدخلته إلى آسية، وظنن أن فيه مالاً، فلما نظرت إليه آسية وقعت عليه رحمتُها وأحبته. فلما أخبَرت به فرعون أراد أن يذبحه، فلم تزل آسية تكلِّمه حتى تركه لها، قال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، فذلك قول الله تعالى: "فالتقطَه آلُ فِرعونَ ليكونَ لهُمْ عدوّاً وحَزَناً". فأرادوا له المرضعات، فلم يأخذْ من أحد من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ، فذلك قول الله: "وحرَّمْنا عليهِ المراضِعَ مِنْ قبْلُ فقالتْ" أخته "هل أدلُّكُم على أهل بيتٍ يَكْفَلُونَهُ لكُم وهُمْ لهُ ناصِحون"، فأخذوها، وقالوا: إنكِ قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه، ولكني إنما قلت: هم للملك ناصحون.

ولما جاءت أمه أخذ منها ثديها فكادت أن تقول: هو ابني! فعصمها الله، فذلك قول الله: "إن كادتْ لَتُبْدي بهِ لولا أن ربطْنا على قلبِها لِتكونَ مِنَ المؤمنين"، وإنما سُمِّي موسى لأنهم وجدوه في ماء وشجر، والماء بالقبطة "مو" والشجر "شا" فذلك قول الله عز وجل: "فرددناه إلى أمّه كي تقرَّ عينُها ولا تخزّن". فاتخذه فرعون ولداً فدعيَ ابن فرعون. فلما تحرك الغلام أرته أمه آسية صبيّاً، فبينما هي ترقّصه وتلعب به إذ ناولته فرعون، وقالت: خذه قرة عين لي ولك، قال فرعون: هو قرة عين لك ولا لي. قال عبد الله بن عباس: لو أنه قال وهو لي قرة عين إذاً لآمن به؛ ولكنه أبى، فلما أخذه إليه أخذ موسى بلحيته فنتفها، فقال فرعون: عليّ بالذباحين، هذا هو! قالت آسية: "لا تقتلوه عسى أنْ ينفَعَنا أوْ نتَّخِذه ولداً"، إنما هو صبي لا يعقل؛ وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمت أنه لي سفي أهل مصر امرأة أحلى مني؛ أنا أضع له حلياً من الياقوت، وأضع له جمراً، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمر فإنما هو صبيّ، فأخرجت له ياقوتها فوضعت له طستاً من جمر، فجاء جبرئيل فطرح في يده جمرة فطرحها موسى في فيه فأحرق لسانه، فهو الذي يقول الله عز وجل: "واحلًلْ عُقْدَةً من لساني، يفقهوا قَوْلِي". فزالت عن موسى من أجل ذلك. وكبر موسى فكان يركب مراكب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون. ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها مَنْف، فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها، وليس في طرقها أحد، وهو قول الله عز وجل: "ودخلَ المَديْنةَ على حِيْنِ غَفْلةٍ مِنْ أهلها فوجدَ فيها رجُلينِ يقتتلان هذا من شيعته" يقول: هذا من بني إسرائيل، "وهذا منْ عدوّه" يقول: من القبط "فاستغاثه الذي من شيعتِه على الذي من عدوِّه فوكزَهُ موسى فقضيَ عليهِ قال هذا من عملِ الشيطانِ إنّه عدوٌ مضِلٌ مُبينٌ، قال ربِّ إنّي ظَلمْتُ نفسِي فاغفرْ لي فغَفَرَ له إنه هوَ الغفور الرحيمُ، قال ربِّ بما أنعمت عليّ فلنْ أكونَ ظهيراً للمُجْرمينَ، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب" خائفاً أن يؤخذ، "فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه" يقول: يستغيثه "قال له موسى إنّك لغويٌ مبينٌ". ثم أقبل موسى لينصره، فلما نظر إلى موسى قد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي، قال الإسرائيلي وفرِق من موسى أن يبطش به من أجل أنه أغلظ الكلام- يا موسى "أتريدُ أنْ تقتلَني كما قتلت نفْساً بالأمسِ إنْ تريدُ إلا أن تكونَ جبّاراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين". فتركه وذهب القبطيّ، فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل، فطلبه فرعون وقال: خذوه فإنه صاحبنا، وقال للذين يطلبونه: اطلبوه في بُنيّات الطريق، فإن موسى غلام لا يهتدي إلى الطريق، وأخذ موسى في بنيّات الطريق وجاءه الرجل وأخبره "إنّ الملأَ يأتمرون بك ليقتلوكَ فاخْرج إنّي لك من الناصحين، فخرجَ منها خائفاً يترقب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين". فلما أخذ موسى في بنيات الطريق جاءه ملك على فرس بيده عنزةٌ، فلما رآه موسى سجد له من الفرق؛ فقال: لا تسجد لي، ولكن اتبعني، فاتبعه فهداه نحو مدين، وقال موسى وهو متوجه نحو مدين "عسى ربي أنْ يهديَني سواءَ السبيل"، فانطلق به الملك حتى انتهى به إلى مدين حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا أصبع بن زيد الجُهنيّ، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني سعيد ابن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله لموسى: "وفتنّاك فُتُوناً"، فسألته عن الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النهار يا بن جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، قال: فلما أصبحت عذوت على ابن عباس لأنتجز منه فأوعدني. قال: فقال ابن عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم من أن يجعلَ في ذريته أنبياء وملوكأً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكّون، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم، قال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فائتمروا بينهم، وأجمعوا أمرَهم على أن يبعث رجالاً معهم الشِّفار، يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يُذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كلّ مولود ذكر، فيقلّ أبناؤهم؛ ودعوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً، فيشبّ الصغار مكان مَنْ يموت من الكبار؛ فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يقلّوا بمن تقتلون. فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى فوقع في قلبها الهمّ والحزن -وذلك من الفُتون يا ابن جبير- مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها: "ألا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليكِ وجاعلوه من المرسَلين". وأمرَها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليمّ. فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابّه. فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فُرضة مستَقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهنّ لبعض: إن في هذا مالاً؛ وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئاً حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس، "وأصبحَ فُؤادُ أمِّ موسى فارِغاً" من ذكر كلّ شيء، إلا من ذكر موسى. فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بسفارهم يريدون أن يذبحوه -وذلك من الفتُون يا بن جبير- فقالت: للذباحين: انصرفوا، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فاستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فلما أتت به فرعون قالت: "قُرّة عينٍ لي ولك لا تقتُلوه"، قال فرعون: يكون لكِ، فأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي يُحْلَف به، لو أقرّ فرعون أن يكونَ له قرة عين كما أقرت به لهداه الله به، كما هدى امرأته، ولكن الله حرمه ذلك".

فأرسلت إلى مَنْ حولها من كلّ أنثى لها لبن لتختار له ظئراً، فجعل كلّما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموتَ، فحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق، مجمع الناس ترجو أن تُصيب له ظئراً يأخذ منها، فلم يقبل من أحد، وأصبحت أمّ موسى فقالت لأخته قصّيه واطلبيه هل تسمعين له ذكراً! أحيّ ابني أم قد أكلتْه دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصُرت به أخته عن جُنب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظئورات: "هل أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون". فأخذوها فقالوا: وما يدريكِ ما نصحهم له! هل تعرفينه؟ حتى شكّوا في ذلك -وذلك من الفتون يا ابن جبير- فقالت: نصحُهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتُهم في ظئورة الملك، ورجاءُ منفعته. فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أنْ قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتيت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي عندي تُرضعين ابني هذا فإني لم أحبّ حبَّه شيئاً قطّ. قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابتْ نفسُك أن تعطينيه فأذهب إلى بيتي، فيكون معي لا آلوه خيراً فعلت، وإلا فإني غيرُ تاركة بيتي وولدي. وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها منْ يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، وحفظه لما قضي فيه، فلم تزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسُّخَر التي كانت فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريد أن تريني موسى، فوعدتها يوماً تريها إياه فيه، فقالت لحواضنها وظئورها وقهارمتها: لا يبقينّ أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة، ليرى ذلك، وأنا باعثة أمينة تحصى ما يصنع كلّ إنسان منكم. فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها بجّلته وأكرمته وفرحت به وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون فليبجّله وليكرمه. فلما دخلن به على فرعون وضعنَه في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتّى مدها، فقال: عدو من أعداء الله! ألا ترى ما وعدَ الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك! فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه -وذلك من الفتون يا بن جبير- بعد كلِّ بلاء ابتلى به وأريد به. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبتَه لي؟ قال: ألا ترينه يزعم أنه سيصرعني ويعلُوني! فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف فيه الحق؛ أئت بجمرتين ولؤلؤتين فقرّبهن إليه، فإنْ بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت انه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين فاعلم أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه فتناول الجمرتين فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى! فصرفه الله عنه بعد ما كان قد همّ به، وكان الله بالغاً فيه أمره، فلما بلغ أشدّه وكان من الرجال لم يكن أحدٌ من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كلّ امتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان؛ أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبُه لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قبل الرضاعة غير أم موسى؛ إلا أن يكون الله عز وجل أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز الفرعوني فقتله، وليس يراهما إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: "هذا مِنْ عملِ الشيطان إنه عدوٌّ مضِلٌ مبينٌ"، ثم قال: "رب إني ظلمْت نفْسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم". فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار، فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا، ولا ترخّص لهم في ذلك، فقال: ابغوني قاتله، ومن يشهد عليه؛ لأنه لا يستقيمُ أن نقضي بغير بيّنة ولا ثبت. فطلبوا ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندِم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: "إنّك لغويٌ مبينٌ". فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: "إنك لغوي مبين"، أن يكون إياه أراد -ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني- فخاف الإسرائيلي فحاجز الفرعوني، وقال: يا موسى "أتريد أنْ تقتُلَني كما قتلْتَ نفْساً بالأمسِ"! وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، فانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: "أتريد أن تقتلني كما قتلْت نفْساً بالأمْسِ"! فأرسل فرعون الذباحين، وسلك موسى الطريق الأعظم وطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر؛ وذلك من الفتون يا بن جبير.

ثم رجع الحديث إلى حديث السديّ. قال: "فلما وردَ ماء مدْينَ وجدَ عليهِ أمَّهُ من الناس يسقُونَ" يقول: كثرة من الناس يسقون.

وقد حدثنا أبو عمار المروزيّ، قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: خرج موسى من مصر إلى مدين، وبينهما مسيرة ثمان ليال -قال: وكان يقال نحو من الكوفة إلى البصرة- ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فخرج حافياً، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه.

حدثنا أبو كريب، حدثنا عثّام، قال: حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه.

رجع الحديث إلى حديث السديّ. "ووجد من دونهمُ امرأتين تذودانِ" يقول: تحبسان غنمهما، فسألهما: "ما خطبُكما قالتا لا نسقي حتى يُصدِر الرِّعاءُ وأبونا شيخٌ كبيرٌ"، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة على البئر، كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلواً فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، ثم تولّى موسى إلى ظلّ شجرة من السَّمُر فقال: "رب إني لِما أنْزلْتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٌ"، قال: قال ابن عباس: لقد قال موسى، ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خُضْرة أمعائه من شدة الجوع ما يسأل الله إلا أكلة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكّام بن سلْم، عن عنبسة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله عز وجل: "ولمّا وردَ ماءَ مدْينَ"، قال: ورد الماء وإنه ليتَراءى خضرة البقل في بطنه من الهُزال فقال: "ربّ إني لِما أنزلْتَ إليّ من خيرٍ فقيرٌ" قال: شبْعة.

رجع الحديث إلى حديث السديّ. فلما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعاً، سألهما فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إحداهما فأتته "تمشي على استحياءٍ" -وهي تستحيي منه-، "قالت إنّ أبي يدعوكَ ليجزيَك أجْر ما سقيتَ لَنا" فقام معها، وقال لها: امضي، فمشتْ بين يديه، فضربتْها الريح فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت، فلما أتى الشيخ "وقصَّ عليه القَصَصَ قال لا تخفْ نجوْتَ من القوْمِ الظَّالمينَ، قالت إحداهما يا أبتِ استأجرْه إنّ خيرَ من استأجرْتَ القويُّ الأمينُ". وهي الجارية التي دعته. قال الشيخ: هذه القوة قد رأيت حين اقتلع الصخرة، أرأيت أمانته ما يدريك ما هي؟ قالت: إني مشيت قدامه فلم يحبّ أن يخونني في نفسي، وأمرني أن أمشيَ خلفه، قال له الشيخ: "إني أريدُ أن أنكحك إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرَني" -إلى- "أيَّما الأجلين قضيْتَ"، إما ثمانياً وإما عشراً، "واللهَ على ما نقولُ وكيل".

قال ابن عباس: الجارية التي دعته هي التي تزوج بها. فأمر إحدى ابنتيه أن تأتيَه بعصا فأتته بعصا، كانت تلك العصا عصا استودعها إياه ملَك في صورة رجل، فدفعها إليه. فدخلت الجارية فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها الشيخ قال لها: لا، ائتيه بغيرها، فألقتها، فأخذت تريد أن تأخذ غيرَها فلا يقع في يدها إلا هي، وجعل يرددها، فكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها، فلما رأى ذلك عمد إليها فأخرجها معه، فرعى بها. ثم إن الشيخ قدم وقال: كانت وديعة. فخرج يتلقى موسى فلما لقيه قال: أعطني العصا، فقال موسى: هي عصاي، فأبى أن يعطيَه، فاختصما بينهما ثم تراضيا أن يجعل بينهما أولَ رجُل يلقاهما، فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال: ضعاها في الأرض فمن حمَلها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها، فتركها له الشيخ، فرعى له عشر سنين.

قال عبد الله بن عباس: كان موسى أحقّ بالوفاء.

حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ، قال: حدثنا الحُميديّ عبد الله ابن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبرئيل: أيّ الأجلين قّضّى موسى؟ قال أتمهما وأكملهما".

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني اين إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي يهوديّ بالكوفة -وأنا أتجهز للحج-: إني أراك رجلاً يتبع العلم، أخبرني أيّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم وأنا الآن قادم على حَبْر العرب -يعني ابن عباس- فسأسأله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول البهوديّ، فقال ابن عباس: قضى أكثرَهما وأطيبَهما؛ إن النبيّ إذا وعد لم يُخلف. قال سعيد: فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته، فقال: صدق، وما أنزل الله على موسى هذا. والله العالم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبع بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: سألني رجل من أهل النصرانية: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم -وأنا يومئذ لا أعلم- فلقيت ابن عباس، فذكرت له الذي سألني عنه النصراني، فقال: أما كنت تعلم أن ثمانياً واجبة عليه، لم يكن نبي لينقص منها شيئاً، وتعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدتَه التي وعده، فإنه قضى عَشر سنين.

حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان الذماريّ، عن شعيب الجَبَاني قال: اسم الجاريتين ليا وصفورة، وامرأة موسى ابنة يترون، كاهن مدين، والكاهن حَبْر.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو ابن مرّة، عن أبي عُبيدة، قال: كان الذي استأجر موسى يترون، ابن أخي شعيب النبيّ.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمْرة، عن ابن عباس، قال: الذي استأجر موسى اسمه يثرى صاحب مدين.

حدثني إسماعيل بن الهيثم أبو العالية، قال: حدثنا أبو قتيبة، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: اسم أبي امرأة موسى يثرى.

رجع الحديث إلى حديث السدي. "فلما قضَى مُوسى الأجَلَ وسار بأهله" فضلّ الطريق. قال عبد الله بن عباس: كان في الشتاء، ورفعت له نار، فلما ظن أنها نار 0وكانت من نور الله- "قال لأهله امكُثوا إنّي آنستُ ناراً لعلِّي آتيكمْ منها بخبرِ"، فإن لم أجد خبراً أتيتُكم منها بشهاب قَبَس، "لعلّكم تصطَلون" -قال: من البرد- فلما أتاها نُودِيَ من شاطئِ الوادي الأيْمن في البُقْعَةِ المُبارَكة من الشجرة". "أَنْ بُورِك مِنْ في النَّار ومَنْ حولها". فلما سمع موسى النداء فزع وقال: الحمد لله رب العالمين. فنودي: "يا موسى إني أنا اللهُ ربّ العالمين". وما تلك بيمينك يا موسى، قال هيَ عصايَ أتوكأ عليْها وأهُشُّ بها على غنمي"، يقول أضرب بها الورق، فيقع للغنم من الشجر "وليَ فيها مآرِبُ أُخْرى"، يقول: حوائج أخرى أحمل عليها المزود والسقاء، فقال له: "ألقِها يا موسى، فألقاها فإذا هيَ حيّةٌ تسْعى". "فلما رآها تهتزُّ كأنّها جانٌ ولَّى مُدْبِراً ولم يعقّب"، يقول: لم ينتظر. فنوديّ: "يا موسى لا تخف إني لا يخافُ لديَّ المرسَلون". "أقْبِل ولا تخَفْ إنّك من الآمنين"، "واضمُم إليكَ جَناحَك من الرَّهْبِ فذانِكَ بُرهانانِ مِنْ ربِّك" العصا واليد آيتان، فذلك حين يدعو موسى ربه، فقال: "ربّ إني قتلْت منهُم نفساً فأخاف أنْ يقتُلونِ، وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معيَ رِدءاً يُصَدِّقُني"، يقول: كما يصدقني "إني أخافُ أن يكذّبونِ" قال" "ولهم عليّ ذنبٌ فأخافُ أن يقتلونِ" -يعني بالقتيل- "سنشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك ونجعلُ لكُما سلْطاناً" -والسلطان الحجة- "فلا يَصِلُونَ إليكما بآياتنا ومَنْ اُتَّبعَكُما الغالِبونَ"، "فاْتيا فرعونَ فقولا إنّا رسولُ الله ربِّ العالمينَ".

حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة: "فلمّا قضَى موسى الأجَلَ"، خرج -فيما ذكر لي ابن إسحاق، عن وهب بن منبّه اليمانيّ -فيما ذكر له- عنه، ومعه غنم له، ومعه زند له وعصاه في يده يهشّ بها على غنمه نهاره، فإذا أمسى اقتدح بزنده ناراً، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح إذا بأهله وبغنمه يتوكأ على عصاه، وكانت -كما وُصف لي عن وهب بن منبّه- ذات شعبتين في رأسها، ومحجن في طرفها.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتّهم من أصحابه، أن كعب الأحبار قدم مكة وبها عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم فإنه عالم، سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول ما وضع في الأرض؟ وما أول شجرة غرست في الأرض؟ فسئل عبد الله عنها فقال: أما الشيء الذي وضعه الله للناس في الأرض من الجنة فهو هذا الركن الأسود، وأما أول ما وضع في الأرض فبرهوت باليمن يردُه هام الكفار، وأما أول شجرة غرسها الله في الأرض فالعوسجة التي اقتطع منها موسى عصاه. فلما بلغ ذلك كعباً قال: صدق الرجل، عالم والله! قال: فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامَته، وابتدأه فيها بنبوته وكلامه، أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد عليه زنده فلا يورى له ناراً، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها، "فقال لأهله امكُثوا إني آنست ناراً لعلي أتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدىً"، بقبس تصطلون، وهدى: عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبير. فخرج نوها، فإذا هي في شجرة من العُلَّيق. وبعض أهل الكتاب يقول: في عوْسجة، فلما دنا استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة، فلما أراد الرجعة منتْ منه، ثم كلّم من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، وقال الله: يا موسى "اخلعْ نعليك إنك بالوادِ المقدَّس طُوىً". فألقاهما ثم قال: "ما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهُشُّ بها على غنمي ولي فيها مآربُ أخرى"، أي منافع أخرى، "قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى" قد صار شعبتاها فمها وصار محجنها عُرفاً لها، في ظهر تهتز، لها أنياب، فهي كما شاء الله أن تكون. فرأى أمراً فظيعاً فولى مدبراً ولم يعقّب، فناداه ربه: أن يا موسى أقبل ولا تخف، "سنعيدها سيرتَها الأولى"، أي سيرتها عصا كما كانت. قال: فلما أقبل قال: "خذها ولا تخف"، وأدخل يدك في فمها، وعلى موسى جبّة من صوف، فلفّ يده بكمّه وهو لها هائب، فنودي أن ألق كمك عن يدك، فألقاه عنها، ثم أدخل يده بين لحيَيْها، فلما أدخلها قبض عليها فإذا هي عصاه في يده، ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها، ومحجنها بموضعه الذي كان لا ينكر منها شيئاً. ثم قيل: "أدخلْ يدَك في جيبك تخرُجْ بيضاءَ من غير سوء" أي من غير بَرَص -وكان موسى عليه السلام رجلاً آدم أقنى جَعْداً طُوالاً- فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردّها في جيبه، فخرجت كما كانت على لونه، ثم قال: "فذانِكَ بُرهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوْماً فاسقين، قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أنْ يقتلونِ، وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معيَ رداءً يُصدِّقني"، أي يبين لهم عني ما أكلّمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون. "قال سنشدُّ عَضُدَكَ بأخيكَ ونجعلُ لكما سلطاناً فلا يَصِلون إليكما بآياتنا أنتما ومَنِ اتبعَكُما الغالبون".

رجع الحديث إلى حديث السُّديّ. فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلاً، فتضيّف على أمه وهو لا يعرفهم، فأتاهم في ليلة كانوا يأكلون الطَّفَيْشَل، فنزل في جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف، فدعاه معه فأكل معه، فلما قعدا تحدّثا، فسأله هارون: منْ أنت؟ قال: أنا موسى، فقام كلّ واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه، فلما أن تعارفا قال له موسى: يا هارون انطلق معي إلى فرعون، إن الله قد أرسلنا إليه، فقال هارون: سمعٌ وطاعة، فقامت أمّهما فصاحت وقالت: أنشدكما الله ألاّ تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا. فانطلقا إليه ليلاً، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون، وفزع البواب، وقال فرعون: مَنْ هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب، فكلّمهما، فقال له موسى: "إني رسولُ ربّ العالمين" ففزع البواب فأتى فأخبره فقال: إن ها هنا إنساناً مجنوناً يزعم أنه رسول ربّ العالمين، قال: أدخله، فدخل فقال: إني رسول رب العالمين؛ أن أرسل معي بني إسرائيل، فعرفه فرعون فقال: "ألم نربّك فينا وليداً ولبِثْت فينا من عُمُرِكَ سنين، وفعلْت فَعْلَتك التي فعلت وأنت مِنَ الكافرين". معنا على ديننا هذا الذي تعيب! "قال فعلْتُها إذاً وأنا من الضّالّين، ففرَرْتُ منكم لمّا خِفْتُكُم فوهبَ لي ربّي حُكماً" -والحكم النبوة- "وجعلني مِنَ المرسَلين، وتلك نِعْمةٌ تمِنُّها عليَّ أن عبَّدْتَ بني إسرائيل" وربيتني قبل وليداً! "قال فرعونُ وما رب العالمينَ". "فمَنْ ربُّكما يا موسى، قال ربُّنا الَّذي أعطى كلَّ شيء خلْقَهُ ثمَّ هدى". يقول: أعطى كل دابة زوجها ثم هدى للنكاح، ثم قال له: "إنْ كنْت جِئْتَ بآيةٍ فأت بها إنْ كنت من الصادقينَ"، وذلك بعدما قال له من الكلام ما ذكر الله تعالى. قال موسى: "أوَ لوْ جئتك بشيءٍ مبينٍ، قال فأت به إن كنْتَ من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثُعبانٌ مبينٌ" -والثعبان الذكر من الحيّات- قاتحة فاها، واضعة لحْيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها ووثب، فأحدث -ولم يكن يُحدث قبل ذلك- وصاح: يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى فعادت عصا، ثم نزع يده وأخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين. فخرج موسى من عنده على ذلك، وأبى فرعون أن يؤمن به، أو يرسل معه بني إسرائيل، وقال لقومه: "يا أيها الملأُ ما علمْتُ لكم مِنْ إلهٍ غيري فأوقِدْ لِيَ يا هامان على الطين فاجعلْ لي صَرْحاً لعلِّي أطَّلعُ إلى إله موسى". فلما بني له الصرح ارتقى فوقه؛ فأمر بنُشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه، وهي ملطخة دماً، فقال: قد قتلت إله موسى.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: :فأوقد لي يا هامان على الطينِ"، قال: كان أول مَنْ طبخ الآجرّ يبني به الصرح.

وأما ابن إسحاق، فإنه قال ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج موسى لما بعثه الله عز وجل حتى قدم مصر على فرعون هو وأخوه هارون، حتى وقفا على باب فرعون يلتمسان الإذن عليه، وهما يقولان : إنا رسولا رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل. فمكثا -فيما بلغنا- سنتين يغدوان على بابه، ويروحان لا يعلم بهما، ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى دخل عليه بطّال له يلعّبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك، إنّ على الباب رجلاً يقول قولاً عجيباً، يزعم أن له إلهاً غيرُك، قال: أدْخلوه، فدخل ومعه هارون أخوه، وبيده عصاه، فلما وقف على فرعون قال له: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون فقال: "ألم نربِّك فينا وليداً ولبِثْت فينا من عُمُرك سنين، وفعلْتَ فَعْلَتَكَ التي فعلْتَ وأنْتَ من الكافرين، قال فَعْلتُها إذاً وأنا من الضّالّين" أي خطأ لا أريد ذلك. ثم أقبل عليه موسى ينكر عليه ما ذكر من يده عنده، فقال: "وتلك نِعمةٌ تمُنُّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل"! أي اتخذتهم عبيداً تنزع أبناءهم من أيديهم، فتسْترقّ منْ شئت، وتقتل من شئت. إني إنما صيّرني إلى بيتك وإليك ذلك. "قال فرعون وما رب العالمين"، أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي ما إلهك هذا! "قال رب السموات والأرض وما بينهما إنْ كنْتُم موقِنين، قال لمن حولَهُ" مٍنْ ملئه "ألا تَسْمعونَ" أي إنكاراً لما قال: ليس له إله غيري. "قال ربُّكم وربُّ آبائكم الأوّلين" الذي خلق آباءكم الأولين وخلفكم من آبائكم. قال فرعون: "إن رسولَكم الذي أُرسِل إليكُم لمجنونٌ"، أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن لكم إلهاً غيري، "قال ربُّ المشْرِق والمغْرب وما بينَهُما إنْ كُنْتُم تعقِلون" أي خالق المشرق والمغرب وما بينهما من الخلق إن كنتم تعقلون. "قال لئِن اُتَّخذْت إلهاً غيري" لتعبد غيري وتترك عبادتي "لأجعلنَّك مِنَ المسجونين، قال أو لوْ جئتُك بشيء مبينٌ"، أي بما تعرف بها صدقي وكذبك وحقي وباطلك! "قال فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاهُ فإذا هي ثُعبانٌ مُبينٌ"، فملأت ما بين سَماطَي فرعون، فاتحة فاها، قد صار محجنها عرْفاً على ظهرها. فارفضّ عنها الناس، وحال فرعون عن سريره يُنشده بربه. ثم أدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها كهيئتها، وأدخل موسى يده في جيبه فصارت عصا في يده، يده بين شعبتيها، ومحجنها في أسفلها كما كانت، وأخذ فرعون بطنه، وكان فيما فرعون يمكث الخمس والست ما يلتمس المذهب -يريد الخلاء- كما يلتمسه الناس، وكان ذلك مما زيّن له أن يقول ما يقول: إنه ليس من الناس بشبه.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمَة، عن ابن إسحاق، قال: حدِّثت عن وهب بن منبّه اليمانيّ، قال: فمشى بضعاً وعشرين ليلة، حتى كادت نفسه أن تخرج، ثم استمسك فقال لملئه: "إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ" أي ما ساحر أسحر منه، "يريد أن يخرِجَكم من أرضكم بسحره فماذا تأمُرُون" أقتله؟ فقال مؤمن من آل فرعون -العبد الصالح وكان اسمه فيما يزعمون حبرك: "أتقتلون رجلاً أَنْ يقولَ ربيَ الله وقد جاءَكم بالبيّنات من ربّكم" بعصاه ويده! ثم خوّفهم عقاب الله وحذرهم ما أصاب الأمم قبلهم، وقال: "يا قومِ لكمُ المُلْكُ اليومَ ظاهرين في الأرض فمَنْ يًنصُرنا من بأس اللهِ إنْ جاءَنا قال فرعون ما أرِيكم إلا ما أرى وما أهديُكم إلا سبيلَ الرَّشادِ". وقال الملأ من قومه- وقد وهنهم من سلطان الله وما وهَنهم: "أرْجِهْ وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوكَ بكلِّ سحّارٍ عليمٍ"، أي كاثِرْه بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة من جاء بمثل ما جاء به. وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم، وبعث فرعون مكانه في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحراً إلا أتى به؛ فذكر لي -والله أعلم- أنه جمع خمسةَ عشرَ ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره، فقال لهم: قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله قطّ، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضّلتكم وقرّبتكم على أهل مملكتي، قالوا: إن لنا ذلك عليك إن غلَبْناه! قال؟: نعم، قالوا: فعدْ لنا موعداً نجتمع نحن وهو، فكان رؤوس السحرة الذين جمع فرعون لموسى: ساتور، وعادور، وحطحط، ومصفى؛ أربعة، وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله، فآمنت السحرة جميعاً وقالوا لفرعون حيت توعدهم القتلَ والصلب: "لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاْقضِ ما أنت قاضٍ". فبعث فرعون إلى موسى: أن اجعل "بيننا وبينك موعداً لا تُخْلِفه نحن ولا أنت مكاناً سُوىً، قال موعدكم يومُ الزينة"، يوم عيد كان فرعون يخرج إليه، "وأن يُحْشرَ الناسُ ضحىً"، حتى يحضروا أمري وأمرك، فجمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال: "ائتوا صفاً وقد أفلح اليومَ مَنِ استعلى"، أي قد أفلح من استعلى اليوم على صاحبه. فصف خمسة عشر ألف ساحراً، مع كلّ ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى ومعه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه ومعه أشراف أهل مملكته، وقد استكفَّ له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءكم: "ويلكم لا تَفتروا على الله كذِباً فيُسحِتَكم بعذابٍ وقد خاب منِ افترى"، فترادّ السحرة بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، ثم قالوا وأشار بعضهم إلى بعض بتناجٍ: "إنْ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكمُ المُثلى". ثم قالوا: "يا موسى إما أن تلقيَ وإما أن نكون أوّلَ مَنْ ألقى، قال بلْ ألقًوا فإذا حبالهم وعِصيُّهُم يُخَّل إليه من سحرهم أنها تسعى". فكان اول ما اختطفوا بسحرهم بصرَ موسى وبصرَ فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كلُّ رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال، فإذا هي حيّات كأمثال الجبال، قد ملأت الواديَ يركب بعضها بعضاً. "فأوجسَ في نفْسِه خَيفةً موسى"، وقال: والله إن كانت لعصيّاً في أيديهم، ولقد عادت حيّات، وما تعدو عصايَ هذه -أو كما حدّث نفسه- فأوحى الله إليه: "وألقِ ما في يمينك تلْقفْ ما صنعوا إنما صنعوا كيدُ ساحرٍ ولا يفلح الساحر حيثُ أنى". وفُرج عن موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألْقوا من حبالهم وعصيهم -وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى- فجعلت تلقفها، تبتلعها حية حية، حتى ما يُرى في الوادي قليل ولا كثير مما ألْقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصاه في يده كما كانت، ووقع السَّحرة سجداً "قالوا آمنا برب هارونَ وموسى"، لو كان هذا سحراً ما غلَبنا. قال لهم فرعون -وأسف ورأى الغلبة البيّنة: "آمنتم له قبل أن آذنَ لكم إنه لكبيرٌكم الذي علّمكمُ السِّحرَ"، أي لعظيم السَّحّار الذي علمكم "فلأقطِّعنّ أيديَكم وأرجُلَكُم مِنْ خلاف" -إلى قوله- "فاقض ما أنت قاضٍ"، أي لن نؤثرك على الله وعلى ما جاءنا من الحجج مع نبيه فاقض ما أنت قاض، أي فاصنع ما بدا لك، "إنّما تقضي هذه الحياةَ الدنيا" التي ليس لك سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان لك بعدها، "إنّا آمنّا بربّنا ليغفرَ لنا خَطايانا وما أكرهْتَنا عليه من السِّحر والله خيرٌ وأبقى"، أي خير منك ثواباً، وأبقى عقاباً. فرجع عدوُّ الله مغلوباً وملعوناً ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان.

رجع الحديث إلى حديث السديّ. وأما السديّ فإنه قال في خبره: ذُكِرَ أن الآيات التي ابتلى الله بها قوم فرعون كانت قبل اجتماع موسى والسحرة، وقال: لما رجع إليهم ملطخاً بالدم قال: قد قتلنا إله موسى. ثم إن الله أرسل عليهم الطوفان -وهو المطر- فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفْ عنا، ونحن نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فكشفه الله عنهم، ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنا لم نُمْطَر. فبعث الله عليهم الجراد فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعوَ ربَّه فيكشفه ويؤمنوا به، فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لن نؤمن وقد بقي لنا من زروعنا بقية، فبعث الله عليهم الدّبا -وهو القُمّل-، فلحس الأرض كلَّها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضّه، وكان أحدُهم يأكل الطعام فيمتلئ دباً حتى إنّ أحدهم ليبني الأسطوانة بالجصّ والآجرّ فيُزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء من الذباب، ثم يرفع فوقها الطعام؛ فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دباً، فلم يصبهم بلاء كان أشدّ عليهم من الدبا؛ وهو الرِّجز الذي ذكره الله في القرآن أنه وقع عليهم. فسألوا موسى أن يدعوَ ربه فيكشفه عنهم ويؤمنوا به، فلما كُشف عنهم أبوّا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان الإسرائيليّ يأتي هو والقبطي فيستقيان من ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دماً، ويخرج للإسرائيلي ماء. فلما اشتدّ ذلك عليهم سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به فكُشف ذلك عنهم، فأبوا أن يؤمنوا، فذلك حين يقول الله: "فلمّا كشفْنا عنهمُ العذابَ إذا همْ يَنْكُثُون" ما أعطوْا من العهود، وهو حين يقول: "ولقد أخذْنا آل فرعون بالسنين" -وهو الجوع- "ونقصٍ من الثَّمرات لعلّهم يذّكّرون".

ثم إن الله عز وجل أوحى إلى موسى وهارون أن "قُولاَ قولاً ليِّناً لعلّه يتذَكّرُ أو يخشى"، فأتياه فقال له موسى: هل لك يا فرعون في أن أعطيَك شبابك ولا تهرم، وملكك ولا ينزع منك، ويردّ إليك لذّة المناكح والمشارب والركوب، فإذا متّ دخلت الجنة؟ تؤمن بي! فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينة، فقال: كما أنت حتى يأتي هامان. فلما جاء هامان قال له: أشعرت أن ذلك الرجل أتاني؟ قال: من هو؟ -وكان قبل ذلك إنما يسميه الساحر، فلما كان ذلك اليوم لم يسمّه الساحر- قال فرعون: موسى، قال: وما قال لك؟ قال: قال لي: كذا وكذا، قال هامان: وما رددت عليه؟ قال: قلت: حتى يأتيَ هامان فأستشيره، فعجّزه هامان وقال: قد كان ظنّي بك خيراً من هذا، تصير عبداً يعبد بعد أن كنتَ رباً يُعبد! فذلك حين خرج عليهم فقال لقومه وجمعهم فقال: "أنا ربُّكُمُ الأعلى". وكان بين كلمته "ما علمت لكم من إلهٍ غيري" وبين قوله: "أنا ربُّكُمُ الأعلى" أربعون سنة. وقال لقومه: "إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ، يريد أن يُخرجَكُم من أرضِكم بسحرِهِ فماذا تأمرون، قالوا أرْجِهِ وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحّار عليم". قال فرعون: "أجئتنا لتُخرجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحرٍ مثلَه فاجعل بيننا وبينك موعداً لا تُخلفه نحن ولا أنت مكانا سُوىً"- يقول: عدلاً، قال موسى: "موعدكم يومُ الزينة وان يُحشرَ الناس ضُحىً" -وذلك يوم عيد لهم- "فتولّى فرعون فجمع كيده ثم أتى". وأرسل فرعون في المدائن حاشرين؛ فحشَروا عليه السحرة، وحشروا الناس ينظرون، يقول: "هل أنتم مجتمِعون، لعلّنا نتبع السحرة إنْ كانوا همُ الغالبين" -إلى قوله: "أئن لنا لأجْراً إنْ كنّا نحن الغالبين"- يقول: عطية تعطينا- "قال نعمْ وإنّكم إذاً لمِنَ المقرّبين". فقال لهم موسى: "ويلكم لا تفتروا على الله كذِباً فيُسْحِتكُم بعذابٍ"، يقول: يهلككم بعذاب. "فتنازعوا أمرَهم بينهم وأسرّوا النّجوى"، من دون موسى وهارون، وقالوا في نجواهم: "إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضِكم بسحرهما ويذهبا بطريقتِكمُ المثلى"، يقول: يذهبا بأشراف قومكم.

فالتقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال: نعم، قال الساحر: لآتينّ غداً بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومننّ بك، ولأشهدنّ أنك على حق -وفرعون ينظر إليهما- وهو قول فرعون: "إنْ هذا لمكرٌ مكرتُموه في المدينةِ"، إذ التقيتما لتتظاهرا "لتُخرجوا منها أهلها" فقالوا: "يا موسى إما أن تُلقيَ وإما أن نكون نحن المُلقينَ"، قال لهم موسى: ألقوا فألقوا حبالهم وعصيَّهم- وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم إلا ومعه حبل وعصا- "قلما ألقوا سحروا أعينَ الناس واسترهبهم" يقول: فرّقوهم. "فأوجَسَ في نفسِهِ خيفةً موسى"، فأوحى الله إليه: ألا تخف، "وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا". فألقى موسى عصاه فأكلت كلَّ حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: "آمنا برب العالمين موسى وهارون". قال فرعون: "فلأقطِّعنّ أيديكم وأرجلكم من خِلافٍ ولأصلّبنّكم في جُذوع النخل" فقتلهم وقطَّعهم -كما قال عبد الله بن عباس- حين قالوا: "ربّنا أفرغْ علينا صَبْراً وتوفّنا مسلمين". قال: كانوا في أول النهار سَحرة، وفي آخر النهار شهداء.

ثم أقبل على بني إسرائيل فقال له قومه: "أتذَرُ موسى وقوْمَهُ ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك"، وآلهتُه -فيما زعم ابن عباس- كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلاً بقرة.

ثم إن الله تعالى ذكره أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال: "أنْ أسْر بعبادي" ليلاً "إنّكم متّبَعون". فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحليّ من القبط، وامر ألا ينادي إنسان صاحبَه، وأن يُسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأنّ من خرج إذا قال: موسى، قال: "عمرو" وأمر من خرج يلطخ بابه بكفّ من دم حتى يعلم أنه قد خرج. وإن الله أخرج كل ولد زنا في القبْط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كلّ ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، حتى أتوْا آباءهم.

ثو خرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون، وقد دعوا قبْل ذلك على القبط، فقال موسى: "ربنا إنك آتيْتَ فرعون وملأه زينةً وأمْوالاً في الحياة الدُّنيا" إلى قوله: "حتى يروا العذاب الأليم"، فقال الله تعالى: "قد أُجِيبت دعْوتُكما" فزعم السديّ أن موسى هو الذي دعا وأمّن هارون، فذلك حين يقول الله: "قد أُجِيبت دعْوتُكما".

وقوله: "ربّنا اطْمِسْ على أموالِهم" فذكِرَ أم طمْس الأموال أنه جعل دراهمهم ودنانيرهم حجارة، ثم قال لهما استقيما، فخرجا في قومهما، وألفِّيَ على القبط الموتَ، فمات كل بِكْر رجل، فأصبحوا يَدفنونهم، فشُغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس؛ فذلك حين يقول الله: "فأَتبَعوهم مُشرِفينَ".

وكان موسى على سَاقه بني إسرائيل، وكان هارون أمامَهم يقدمهم، فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمِرت؟ قال: البحر، فأراد أن يقتحم فمنعه موسى. وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يُعدُّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لِكبَره، وإنما عدّواً ما بين ذلك سوى الذريّة، وتبعهم فرعون، وعلى مقدمته هامان، في ألف ألف وسبعمائة حصان، ليس فيها ماذيانة، وذلك حين يقول الله: "فأرْسلَ فرعون في المدائنِ حاشرينَ، إن هؤلاء لشرذمةٌ، وإنهم لنا لغائظون" -يعني بني إسرائيل- "وإنا لجميعٌ حاذرون"-، يقول: قد حذرنا فأجمعنا أمرنا، "فلمّا تراءى الجمعان"، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا: "إنا لمدرِكون". قالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبّحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قال موسى: "كلاَّ إنّ معيَ ربي سيهدينِ"، يقول: سيكفيني، "قال عسى ربُّكم أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرضِ فينظُرَ كيف تعملون". فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال: مَنْ هذا الجبّار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، "فانْفَلَقَ فكانَ كُلُّ فِرقٍ كالطُّودِ العظيمِ"، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقاً، في كل طريق سِبط، وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران. فقال كلّ سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان، فنظر أخرُهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعاً؛ ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً قال: ألا ترون البحر فرق مني، وقد تفتّح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله: "وأزلفنا ثمّ الآخرين"، يقول: قرّبنا ثمَّ الآخرين؛ هم آل فرعون.

فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيلُه أن تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانة، فشمّت الحُصْن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أوّلُهم أن يخرج ودخل آخرُهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم، وتفرد جبرئيل بفرعون بمَقْلةٍ من مَقل البحر، فجعل يُدسُّها فيه، فقال حين أدركه الغرق: "آمنتُ أنه لا إله إلا الذي أمنتْ بنو إسرائيل وأنا من المُسلمين"، فبعث الله إليه ميكائيل يعيّره، قال: "آلآن وقد عصيْتَ قبلُ وكنت من المُفْسِدين". فقال جبرئيل: يا محمد، ما أبغضت أحداً من الخلق ما أبغضتُ رجلين: أما أحدهما فمن الجنّ وهو إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الآخر فهو فرعون حين قال: "أنا ربُّكُمُ الأعلى"، ولو رأيتني يا محمد، وأنا آخذ مَقْل البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل: لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فأخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفاً، عليهم الحديد فأخذته بنو إسرائيل يمثّلون به، وذلك قول الله لفرعون: "فاليوم ننجّيك ببدَنك لتكون لمن خلفَك آية"؛ يقول: لبني إسرائيل آية. فلما أرادوا أن يسيروا ضُرب عليهم تيهٌ، فلو يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل فسألهم: ما بالُنا؟ فقالوا له: إن يوسف لما مات بمصر أخذ على إخوته عهداً ألاّ تخرجوا من مصر حتى تخرجوني معكم، فذلك هذا الأمر، فسألهم: أين موضع قبره؟ فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشِد الله كلَّ منْ كان يعلم أين موضع قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمَّتْ أذناه عن قولي! وكان يمرّ بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أسأل ربي، فأمره الله عز وجل أن يعطيَها، فأتاها فأعطاها، فقالت: إني أريد ألا تنزلَ غُرْفة من الجنة إلا نزلتُها معك، قال: نعم، قالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع أن أمشِيَ فاحملْني، فلما دنا من النيل، قالت: إنه في جوف الماء، فادعُ الله أن يُحسِر عنه الماء، فدعا الله فحسر الماء عن القبر، فقالت: احفره، ففعل فحمل عظامه، ففتح لهم الطريق، فساروا، "فأَتَوْا على قومٍ يعْكفُون على أصنامٍ لهُم قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ قال إنّكم قومٌ تَجْهَلون، إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه" -يقول: مهلك ما هم فيه- "وباطلٌ ما كانوا يَعمَلون".

فأما ابنُ إسحاق، فإنه قال: -فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن سلمة عنه- فتابع الله عليه بالآيات -يعني على فرعون- وأخذه بالسنين إذ أبى أن يؤمن بعد ما كان من أمره وأمر السحرة ما كان، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمَّل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصّلات، أي آية بعد آية، يتبع بعضُها بعضاً، فأرسل الطوفانَ وهو الماء، ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئاً، حتى جهدوا جوعاً. فلما بلغهم ذلك قالوا: يا موسى ادع لنا ربك، "لئن كشَفْتَ عنّا الرِّجْزَ لنَومِننَّ لكَ ولنُرسِلنَّ مَعَكَ بني إسرائيل". فدعا موسى ربع فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر -فيما بلغني حتى أنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم فلم يفوا لي بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمّل. فذكر لي أن موسى أمِر أن يمشيَ إلى كثيب فيضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيَل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قمَّلاً حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربّه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد منهم ثوباً ولا طعاماً ولا إناء إلا وجدَ فيه الضفادع قد غلبتْ عليه، فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفُوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دماً، لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عادت دماً عبيطاً.

حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظيّ أنه حدّث أن المرأة من آل فرعون كانت تأتِي المرأةَ من بني إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتغرف لها من جَرتها أو تصُبّ لها من قربتها، فيعود في الإناء دماً، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجّيه في فيّ، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجّته في فمها صار دماً، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: "ادْعُ لنا ربّك بما عهِد عندَك لئن كشفت عنا الرِّجْزَ لنؤمننّ لك ولنُرسِلنّ معك بني إسرائيل". فلما كشِف عنهم الرجز نكثوا ولم يفُوا بشيء مما قالوا، فأمر الله موسى أن يسير، وأخبره أنه منجيه ومن معه، ومهلك، فرعون وجنوده، وقد دعا موسى عليهم بالطَّمْسة؛ فقال: "ربنا إنك آتيْتَ فرعون ومَلأَهُ زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلّوا عن سبيلك" -إلى- "ولا تتَّبعانَّ سبيل الذين لا يعلمون". فمسخ الله أموالهم حجارة: النخل والرقيق والأطعمة، فكانت إحدى الآيات التي أراهنَّ الله فرعون.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بُرَيدة ابن سفيان بن فروة الأسلميّ، عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع الآيات التي أراهنّ الله فرعون، فقلت: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، عصاه، ويده والطمسة، والبحر. فقال عمر: فأنّى عرفت أن الطمسة إحداهنّ؟ قلت: دعا عليهم موسى وأمّن هارون، فمسخ الله أموالهم حجارة، فقال: كيف يكون الفقه إلا هكذا! ثم دعا بخريطة فيها أشياء مما كان أصيب لعبد العزيز بن مروان بمصر؛ إذ كان عليها من بقايا أموال آل فرعون، فأخرج البيضة مقْشورة نصفين؛ وإنها لحجر، والجوزة مقشورة وإنها لحجر، والحمُصة، والعدسة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد، عن رجل من أهل الشأم كان بمصر، قال: قد رأيت النخلة مصروعة، وإنها لحجّر، وقد رأيت إنساناً ما شككت أنه إنسان وإنه لحجر، من رقيقهم، فيقول الله عز وجل: "ولقد أتيْنا موسى تسع آياتٍ بيّناتٍ" إلى قوله "مثبوراً" يقول: شقياً.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، أن الله حين أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمرَه أن يحتمل يوسفَ معه حتى يضعه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمّن يعرف موضعَ قبره، فما وجد إلا عجوزاً من بني إسرائيل، فقالت: يا نبيّ الله، أنا أعرف مكانه. إن أنت أخرجتني معك، ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه قال: أفعل، وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقاً من مرمر، فاحتمله معه. قال عروة: فمن ذلك تحمِل اليهود موتاها من كل أرض إلى الأرض المقدسة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان -فيما ذُكر لي- أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله به: استعيروا منهم المتعة والحُليّ والثياب فإني منفِّلكم أموالَهم مع هلاكهم؛ فلما أذّن فرعون في الناس كان مما يحرّض به على بني إسرائيل أن قال حين ساروا: لم يرضُوا أن خرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن كعب القرظيّ، عن محمد عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لقد ذكِرَ لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفاً دُهم الخيل سوى ما في جنده من شيات الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف طلع فرعون في جنده من خلفهم، "فلمّا تراءى الجمْعانِ قال أصحابُ موسى إنّا لمدركون، قال كلاَّ إن معيَ ربي سيهدينِ"، أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خُلف لموعوده.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: فأوحى الله تبارك وتعالى -فيما ذكر لي- إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانْفلق له، فبات البحر يضربُ بعضه بعضاً فرَقاً من الله وانتظاراً لأمره، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، "فانفلق فكان كلُّ فِرقِ كالطُّودِ العظيم"، أي كالجبل على نَشَز من الأرض. يقول الله لموسى عليه السلام: "فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دّرَكاً ولا تخشى". فلما استقرّ له البحر على طريق قائمة يبسَ سلك فيه موسى ببني إسرائيل، واتبعه فرعون بجنوده.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظيّ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليْثي، قال: حُدّثت أنه لما دخلتْ بنو إسرائيل فلم يبق منهم أحدٌ أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن يتقدم، فغرض له جبرئيل على فرس أنثى وديق، فقرّبها منه فشمّها الفحل، ولما شمّها قدمها، فتقدم معه الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون أن فرعون قد دخل دخلوا معه، وجبرئيل أمامه، فهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم يقول: الحقوا بصاحبكم، حتى إذا فصل جبرئيل من البحر ليس أمامه أحدٌ، ووقف ميكائيل على الناحية الأخرى ليس خلفه أحد، طبّق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى، وعرف ذلّه وخذلته نفسه، نادى: أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو داود البصريّ، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: جاء جبرئيل إلى النبي عليه السلام فقال: يا محمد، لقد رأيتني وأنا أدسّ من حمأِ البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة! يقول الله: "آلآن وقد عصيْت قبلُ وكنتَ من المفسِدين، فاليوم ننجّيك ببدنِك"، أي سواءٌ لم يذهب منك شيء، "لتكون لمن خلْفَكَ آيةً" أي عبرة وبينة. فكان يقال: لو لم يخرجه الله ببدنه حتى عرفوه لشطَّ فيه بعضُ الناس.

ولما جاوز ببني إسرائيل البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، "قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنّكم قومٌ تجْهَلون، إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، قال أغيرَ الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين". ووعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومَه ونجاه وقومَه ثلاثين ليلة.

رجع الحديث إلى حديث السديّ. ثم إن جبرئيل أتى موسى يذهب به إلى الله عز وجل فأقبل على فرس فرآه السامريّ فأنكره، ويقال: إنه فرس الحياة، فقال حين رآه: إن لهذا لشأناً، فأخذ من تربة الحافِر الفرس، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إنّ الغنيمة لا تحلّ لكم، وإن القِبْط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعاً فاحفروا لها حفرة فادفنوها فيها، فإن جاء موسى فأحلّها أخذتموها، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه، فجمعوا ذلك الحليّ في تلك الحفرة، وجاء السامريّ بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحليّ عجلاً له خُوار، وعدّت بنو إسرائيل موعدَ موسى، فعدوا الليلة يوماً واليوم يوماً، فلما كان العشر خرج لهم العجلُ فلما رأوه قال لهم السامريّ: :هذا إلهُكُم وإلهُ موسى فنسِيَ". يقول: ترك موسى إلهه ها هنا، وذهب يطلبه فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي، فقال لهم هارون: "يا بنِي إسرائيل إنّما فُتنتم به" يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل، "وإنّ ربَّكم الرحمنُ فاتّبعوني وأطيعوا أمري"، فأقام هارون ومن معَه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه، فلما كلّمه قال له: "وما أعجلَك عنْ قومِكَ يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجِلْتُ إليك ربّ لترضى، قال فإنا فد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامريّ". فلما أخبره خبرهم قال موسى: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، أرأيت الروحَ منْ نفخها فيه؟ قال الربّ: أنا. قال: رب أنت إذاً أضللتهم.

ثم أن موسى لما كلمه ربّه أحبّ أن ينظر إليه، "قال ربِّ أرِنِي أنظُر إليكَ قال لن تراني ولكن انظُر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني"، فحَفّ حول الجبل الملائكة، وحُفّ حول الملائكة بنار، وحُفّ حول النار بملائكة، وحول الملائكة بنار، ثم يتجلّى ربه للجبل.

فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، قال: حدثني السديّ، عن عكْرمة، عن ابن عباس، أنه قال: تجلّى منه مثل طَرف الخنِصر، فجعل الجبلَ دكّاً وخرّ موسى صعقاً، فلم يزل صَعِقاً ما شاء الله، ثم أنه أفاق فقال: "سبحانك تُبت إليكَ وأنا أوّل المؤمنين"، يعني أول المؤمنين من بني إسرائيل، فقال: "يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن مِنَ الشاكرين، وكتبْنا له في الألواح من كُلِّ شيءٍ موْعِظَةً وتفصيلاً لكل شيء" من الحلال والحرام "فخذها بقوةٍ"، يعني بجدّ واجتهاد "وأْمُرْ قومك يأخذوا بأحسنِها" أي بأحسن ما يجدون فيها. فكان موسى بعد ذلك لا يستطيع أحدَ أن ينظر في وجهه، وكان يُلْبِس وجهه بحريرة، فأخذ الألواح ثم رجع إلى مومه "غضبانَ أَسِفاً" يقول: حزيناً "قال يا قومِ ألم يعدْكم ربُّكم وعداً حسناً" -إلى- "قالوا ما أخلفْنا موعدَك بملكِنا" يقولون: بطاقتنا، "ولكنّا حُمّلنا أوزاراً من زينةِ القوم" يقول: من حُليّ القبط "فقذفناها فكذلك ألقَى السامريُّ"، ذلك حين قال لهم هارون: احفِروا لهذا الحلْي حُفرة، واطْرحوه فيها، فطرحوه فقذف السامري تربته، فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، "قال يا بن أمَّ لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقولَ فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم ترقُب قولي". فترك موسى هارون، ومال إلى السامريّ، فقال: "فما خطْبُكَ يا سامريُّ"، قال السامريّ: "بصُرتُ بما لم يبْصِروا به" إلى: "في اليمِّ نسْفاً". ثم أخذه فذبحه، ثم حرفَهُ بالمبرد ثم ذراه في البحر، فلم يبق بحر يجري إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب، فلذلك حين يقول: "وأُشرِبوا في قلوبِهِم العِجْلَ بكُفرهم". قلما سُقِط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى "ورأوا أنهُم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمْنا ربُّنا ويفغِرْ لنا لنكوننّ من الخاسرين". فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهُمْ حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: " يا قومِ إنكم ظَلمْتم أنفُسَكم باتِّخاذِكُمُ العجلَ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفُسُكُم"، فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيداً، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفاً، حتى دعا موسى وهارون: رَبّنا هلكتْ بنو إسرائيل! ربّنا البقية البقية! فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قُتِل كان شهيداً، ومن بقيَ كان مُكفَّراً عنه، فذلك قوله: "فتاب عليكم إنه هو التوّاب الرّحيم".

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان السامريّ رجلاً من أهل باجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، فكان حبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد اظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما فصل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى معهم إلى ربه تبارك وتعالى قال لهم هارون: إنكم قد تحمّلتم أوزاناً من زينة القوم آل فرعون، وأمتعة وحليّاً، فتطهّروا منها فإنها نجس، وأوقد لهم ناراً، وقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها، قالوا: نعم، فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الحليّ وتلك الأمتعة فيقذفون به فيها، حتى انكسرت الحليّ فيها، رأى السامري أثر فرس جَيْرَئيل، فأخذ تراباً من أثر حافره، ثم أقبل إلى الحفرة فقال لهارون: يا نبي الله، ألقى ما في يدك؟ قال: نعم، ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من تلك المتعة والحليّ، فقذفه فيها، وقال: كن عجلاً جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة، فقال: هذا إلهُكم وإله موسى، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا مثله شيئاً قطّ، فقال الله عز وجل" "فنسي"، أي ترك ما كان عليه من الإسلام؛ -يعني السامريّ- "أفلا يرون ألاَّ يرجِعُ إليهم قولاً ولا يملك لهم ضَراً ولا نفعاً".

قال: وكان اسم السامريّ موسى بن ظفر، فوقع في أرض مصر، فدخل في بني إسرائيل، فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: "يا قومِ إنّما فُتنْتم به" -إلى قوله- "حتى يرجِع إلينا موسى". فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام مَنْ يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: "فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقُبْ قولي"، وكان هائباً له مطيعاً، ومضى موسى ببني إسرائيل إلى الطور، وكان الله عز وجل وعد بني إسرائيل حين أنجاهم واهلك عدوّهم جانب الطور الأيمن، وكان موسى حين سار ببني إسرائيل من البحر قد احتاجوا إلى الماء، فاستسقى موسى لقومه، فأمِر أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سِبْط عين يشربون منها قد عرفوها، فلما كلم الله موسى طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال له: إنك "لن تَراني ولكنِ انظر إلى الجبل" إلى قوله: "وأنا أوّل المؤمنين".

ثم قال الله لموسى: "إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتُكَ" إلى قوله: "سأُريكم دارَ الفاسقين". وقال له: "وما أعجلك عن قومك يا موسى" إلى قوله: "فرجَع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفاً"، ومعه عهد الله في ألواحه.

ولما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل ألقى الألواح من يده، وكانت -فيما يذكرون- من زبرجد أخضر، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته ويقول: "ما منعك إذ رأيْتهم ضلّوا، ألاّ تتبعني" إلى قوله: "ولم ترقُب قولي". فقال: "يا بن أُمَّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تُشْمِتْ بيَ الأعداءَ ولا تجعلْني مع القوم الظالمين"، فارعوي موسى وقال: "رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين".

وأقبل على قومه فقال: "يا قومِ ألم يعِدْكم ربُّكم وعداً حسناً" إلى قوله: "عجْلاً جَسَداً له خُوارٌ". وأقبل على السامريّ فقال: "فما خطبُكَ يا سامريّ، قال بصُرتُ بما لم يَبصُرُوا به" إلى قومه: "وسِع كُلَّ شيْء عِلماً". ثم أخذ الألواح، يقول الله: "أخذ الألواح. وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين همْ لربهم يرهبون".

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقة ابن يسار، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان الله تعالى قد كتب لموسى فيها موعظة وتفصيلاً لكلّ شيء وهدى ورحمة، فلما ألقاها رفع الله ستة أسباعها وأبقى سبعاً، يقول الله عز وجل: "وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين هم لربهم يَرْهَبون"، ثم أمر موسى بالعجل فأحرِق، حتى رجع رماداً، ثم أمر به فقذف في البحر.
قال ابن إسحاق: فسمعت بعض أهل العلم يقول: إنما كان أحرقه ثم سحله ثم ذرّاه في البحر. والله أعلم.

ثم اختار موسى منهم سبعين رجلاً: الخيّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهِّروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون -فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى كلّه، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلّمه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضُرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا لموسى: "لن نؤْمنَ لك حتى نرى الله جَهْرةً"، "فأخذتْهمُ الرَّجْفَةُ"، وهي الصاعقة، فانفلتت أرواحهم فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول: "ربِّ لو شئت أهلكْتهم من قبلُ وإياي" قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا! إن هذا هلاك لهم. اخترت منهم سبعين رجلاً الخيّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد، فما الذي يصدقونني به! فلم يزل موسى يناشد ربَّه، ويسأله ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى مَنْ لم يكن عبد العجل أن يقتل مَنْ عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلتَ عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى وبهش إليه الصبيان والنساء يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف.

وأما السديّ فإنه ذكر في خبره الذي ذكرت إسناده قبلُ أن مصير موسى إلى ربه بالسبعين الذين اختارهم من قومه بعد ما تاب الله على عبدة العجل من قومه، وذلك انه ذكر بعد القصة التي قد ذكرتها عنه بعد قوله: "إنه هو التوّاب الرحيم". قال: ثم إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعداً، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلم أتوا ذلك المكان قالوا: "لأن نؤمن لك حتى نرى الله جَهْرة"، فإنك قد كلّمته فأرِناه، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله يقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارَهم! رب لو شئت أهلكتَهم من قبل إياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا! فأوحى الله عز وجل إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممّن اتّخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: "إن هِيَ إلاّ فِتنتُك تُضِلُّ بها من تشاء وتهذي من تشاء" إلى قوله: "إنا هُدْنا إليك"، يقول تبنا إليك، وذلك قوله تعالى: "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن حتى نرى الله جَهرة فأخذتكُمُ الصاعقة"، والصاعقة نار. ثم إن الله أحياهم، فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً، ينظر بعضُهم إلى بعض: كيف يحيَوْن؟ فقالوا: يا موسى، أنتَ تدعو الله فلا تسأله شيئاً إلا أعطاك، فادعُه يجعلنا أنبياء، فدعا الله فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: "ثم بعثناكم من بعد موتِكم"، ولكنّه قدّم حرفاً وأخّر حرفاً.

ثم أمرهم بالسير إلى أرِيحا، وهي ارض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريباً منها بعث موسى اثني عشر نقيباً من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبّارين، فلقيَهم رجل من الجبارين يقال له عاج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حُجْزته وعلى رأسه حملة حطب، فانطلق به إلى امرأته فقال: انظري إى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنُهم برجلي! فقالت امرأته: لا، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوْا، ففعل ذلك، فلما خرج القومُ قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنكم أخبرتُم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدّوا عن نبي الله، ولكن اكتموهم وأخبروا نبيَّ الله، فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة فنكثوا العهد، فجعل الرجل منهم يخبر أخاه وأباه بما رأوا من أمر عاج، وكتَم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون فأخبرهما الخبر، فذلك حين يقول الله: "ولقد أخذ اللهُ الميثاق بني إسرائيل وبعثْنا منهمُ اثني عشر نقيباً". فقال لهم موسى: "يا قوم اذْكُروا نِعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ وجعلَكم مُلُوكاً" يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. "يا قومِ ادخلوا الأرضَ المقدَّسة الني كتبَ الله لكم"، يقول: التي أمركم الله بها "ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا" مما سمعوا من العشرة: "إن فيها قوماً جبّارين وإنا لن ندخلَها حتى يخرجوا منها فإنْ يَخرجوا منها فإنا داخِلون، قال رجُلانِ من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وهما اللذان كتما، وهما يوشع بن نون فتى موسى وكالوب بن يوفنّة -وقيل: كلاب بن يوفنّة ختن موسى- فقالا: يا قوم "ادخُلوا عليهِمُ الباب". "قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون". فغضب موسى، فدعا عليهم، فقال: "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين" وكانت عجَلة من موسى عجِلها، فقال الله: "فأنها محرّمة عليهِمْ أربعين سنة يتيهون في الأرض". فلما ضُرب عليهم التيه، ندم موسى وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه، فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم أوحى الله عز وجل إليه: ألا تأسَ، أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين. فلم يحزن، فقالوا: يا موسى، فكيف لنا بماء ها هنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، فكان يَسقط على الشجر الترنجبين والسلوى -وهو طير يشبه السُّمانيّ- فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذَبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، يشرب كل سِبْط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظلّ؟ فظلل الله عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظلّ، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: "وظلّلْنا عليهِمُ الغَمامَ وأنزلْنا عليهِمُ المَنَّ والسلوى". وقوله: "وإذ استسقى موسى لقومه فقُلنا اضرِب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلُّ أناسٍ مشربَهُم"، فأجمعوا ذلك، فقالوا: "يا موسى لن نصبِر على طعام واحدٍ فادع ربك يُخرِجْ لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومِها" -وهي الحنطة- "وعدسها وبصلها". قال: "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهبِطوا مصْراً" من الأمصار، "فإنّ لكم ما سألتم". فلما خرجوا من التيه رفع المن والسلوى، وأكلوا البقول، والتقى موسى وعاج فنزا موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عاج فقتله.

حدثنا ابن بشار، حدثنا مُؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوْف، قال: كان طول عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ثم وثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجاً فأصاب كعبه فسقط ميتاً، فكان جِسْراً للناس يمرّون عليه.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: أخبرنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبتُه عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسراً لأهل النيل. وقيل إن عوج عاش ثلاثة آلاف سنة.