ذكر خبر سليمان بن داود عليهما السلام ذكر خبر سليمان بن داود عليهما السلام

ثم ملك سليمان بن داود بعد أبيه داود أمر بني إسرائيل، وسخر الله له الجن والإنس والطير والريح، وآتاه مع ذلك النبوة وسأل ربه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له فأعطاه ذلك وكان فيما حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره، وكان - فيما يزعمون - أبيض جسيماً وضيئاً، كثير الشعر يلبس من الثياب البياض، وكان أبوه في أيام ملكه بعد أن بلغ سليمان مبلغ الرجال يشاوره - فيما ذكر - في أموره. وكان من شأنه وشأن أبيه داود الحكم في الغنم التي نفشت في حرث القوم، الذين قص الله في كتابه خبرهم و خبرهما فقال: "وداود و سليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً".

فحدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم، قالا: حدثنا المحاربي، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود في قوله: "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرْث إذ نفشت فيه غنم القوم"، قال: كَرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله؟ قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم فيصيب منها، حتى إذا كان الكرْم كما كان، دفعت الكرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها. فذلك قوله: "ففهّمناها سليمان". وكان رجلاً غَزّاء لا يكاد يعقد عن الغزو، وكان لا يسمع بملِك في ناحية من الأرض إلا أتاه حتى يُذلّه. وكان فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق -فيما يزعمون- إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلّت به أمر الرُّخاء فمرّ به شهراً في روْحته، وشهراً في غدوته إلى حيث أراد ويقول الله عز وجل: "فسخّرنا له الريحَ تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب"، أي حيث أراد، وقال الله: "ولسليمان الريحَ غُدُوُّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ".

قال: وذكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه: كتاب كتبه بعض أصحاب سليمان، إما من الجن، وإما من الإنس: "نحن نزلناه وما بنيناه، ومبنياً وجدناه، غدوْنا من اصطخر فقلْناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله، فبائتون بالشام".

قال: وكان -فيما بلغني- لتمرّ بعسكره الريح، والرُّخاء تهوى به إلى ما أراد، وإنها لتمرُّ بالمزرعة فما تحرّكها.

وقد حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سرّية، فأمر الريح العاصف فرفعته وأمر الرخاء فسيّرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: أنى قد زدتُ في ملكك، أنه لا يتكلم أحدٌ من الخلائق إلا جاءت به الريح وأخبرتك.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود يوضَع له ستمائة كرسيّ، ثم يجيء أشرافُ الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، قال: ثم يدْعو الطير فتظلّهم، ثم يدعو الريح فتحملهم، قال: فتسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر.

ذكر ما انتهى إلينا من مغازي سليمان عليه السلام

فمن ذلك غزوته التي راسل فيها بلقيس -وهي فيما يقول أهل الأنساب- يلمقة ابنة اليشرح- ويقول بعضهم: ابنة أيلى شرح، ويقول بعضهم: ابنة ذي شرح- بن ذي جَدَن بن أيلى شرح بن الحارث بن قيس بن صيفيّ بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم صارت إليه سِلْماً بغير حرب ولا قتال. وكان سبب مراسلته إياها -فيما ذكر- أنه فَقَد الهدهد يوماً في مسير كان يسيره، واحتاج إلى الماء فلم يعلم منْ حضره بُعْدَه، وقيل له علْم ذلك عند الهدهد، فسأل عن الهدهد فلم يجده وقال بعضهم: بل إنما سأل سليمان عن الهدهد لإخلاله بالنّوبة.

فكان من حديثه وحديث مسيره ذلك وحديث بلقيس، ما حدثني العباس بن الوليد الآمليّ، قال: حدثنا علي بن عاصم، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: حدثني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود إذا سافر أو أراد سفراً قَعَد على سريره، ووضعت الكراسي يميناً وشمالاً، فيأذن للإنس، ثم يأذن للجنّ عليه بعد الإنس، فيكونون خلْف الإنس، ثم يأذن للشياطين بعد الجنّ فيكونون خلْف الجنّ، ثم يرسل إلى الطير فتظلّهم من فوقهم، ثم يرسل إلى الريح فتحملهم وهو على سريره، والناس على الكراسيّ فتسير بهم، غدوُّها شهر ورواحُها شهر، رخاء حيث أصاب، ليس بالعاصف ولا الليّن، وسطا بين ذلك. فبينما سليمان يسير -وكان سليمان اختار من كل طير طيراً؛ فجعله رأس تلك الطير، فإذا أراد أن يسائل شيئاً من تلك الطير عن شيء سأل رأسها- فبينما سليمان يسير إذ نزل مفازةً فسأل عن بُعْد الماء ها هنا، فقال الإنس: لا ندري، فسأل الجنّ فقالوا: لا ندري، فسأل الشياطين، فقالوا: لا ندري، فغضب سليمان فقال: لا أبرح حتى أعلم كم بُعْد مسافة الماء ها هنا! فقالت له الشياطين: يا رسول الله لا تغضب، فإن يك شيئاً يُعلم فالهدهد يعلمه، فقال سليمان: عليّ بالهدهد، فلم يوجدْ، فغضب سليمان فقال: "ما ليّ لا أرى الهدهدَ أمْ كان من الغائبين، لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيَني بسلطانٍ مبينٍ"، يقول: بعذر مبيّن لم غاب عن مسيري هذا؟ وكان عقابُه للطير أن ينتف ريشه ويشمّسه فلا يستطيع أن يطير، ويكون من هوام الأرض إن أراد ذلك، أو يذبحه، فكان ذلك عذابه.

قال: ومر الهدهد على قصر بلقيس، فرأى بستاناً لها خلْف قصرها، فمال إلى الخضرة فوقع عليها، فإذا هو بهدهد لها في البستان، فقال هدهد سليمان: أين أنت عن سليمان؟ وما تصنع ها هنا؟ قال له هدهد بلقيس: ومن سليمان؟ فقال: بعث الله رجلاً يقال له سليمان رسولاً، وسخّر له الريح والجنّ والإنس والطير. قال: فقال له هدهد بلقيس: أي شيء تقول! قال: أقول لك ما تسمع، قال: إن هذا لعجب، وأعجبُ من ذاك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة، "أوتيَت من كل شيءٍ ولها عرشٌ عظيم"، جعلوا الشكر لله أن يسجدوا للشمس من دون الله. قال: وذكر الهدهد سليمان فنهض عنه، فلما انتهى إلى العسكر تلقّته الطير وقالوا: توعّدك رسول الله، فأخبروه بما قال. قال: وكان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمّسه فلا يطير أبداً، فيصير من هوامّ الأرض، أو يذبحه فلا يكون له نسل أبداً. قال: فقال: الهدهد: أو ما استثنى رسول الله؟ قالوا: بل قال: أو ليأتيني بعذر مبين، قال: فلما أتى سليمانَ، قال: ما غيّبك عن مسيري؟ قال: "أحطْت بما لم تُحط به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين" حتى بلغ "فانظر ماذا يرجعون". قال: فاعتلّ له بشيء، وأخبره عن بلقيس وقومها وما أخبره الهدهد، فقال له سليمان: قد اعتللت، "سننظر أصدقْت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم"، قال: فوافقها وهي في قصرها، فألقى إليها الكتاب فسقط في حِجْرها أنه كتاب كريم، وأشفقت منه، فأخذته وألقت عليه ثيابها، وأمرت بسريرها فأخرج، فخرجت فقعدت عليه، ونادت في قومها؛ فقالت لهم: "يأيها الملأ إني أُلقيَ إليّ كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين" ولم أكن لأقطع أمراً حتى تشهدون، "قالوا نحن أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديد والأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين" -إلى- "وإني مرسلةٌ إليهم بهدية"، فإن قبلها فهذا ملك من ملوك الدنيا وأنا أعزّ منه وأقوى، وإن لم يقبْلها فهذا شيء من الله.

فلما جاء سليمان الهدية قال لهم سليمان: "أتمدّوننِ بمالٍ فما آتانيَ الله خيرٌ مما آتاكم" -إلى قوله: "وهم صاغرون"، يقول: وهم غير محمودين. قال: بعثت إليه بخرزة غير مثقوبة، فقالت: اثقب هذه، قال: فسأل سليمان الإنس فلم يكن عندهم علم ذاك، ثم سأل الجن فلم يكن عندهم علم ذاك، قال: فسأل الشياطين، فقالوا: ترسل إلى الأرَضة، فجاءت الأرَضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها فنقبتها بعد حين، فلما رجع إليها رسولها خرجت فزِعة في أول النهار من قومها وتبعها قومها. قال ابن عباس: وكان معها ألفَ قيْل.

قال ابن عباس: أهل اليمن يسمّون القائد قيْلاً، مع كل قَيْل عشرة آلاف. قال العباس: قال عليّ: عشرة آلاف ألف.

قال العباس: قال عليّ: فأخبرنا حصين بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: فأقبلت بلقيس إلى سليمان ومعها ثلاثمائة قَيْل واثنا عشر قَيْلاً، مع كل قيل عشرة آلاف.

قال عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباس: وكان سليمان رجلاً مَهيباً لا يُبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يُسأل عنه، فخرج يومئذ فجلس على سريره، فرأى رهجاً قريباً منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس يا رسول الله، قال: وقد نزلت منا بهذا المكان! قال مجاهد: فوصف لنا ذلك ابن عباس فحزَرْته ما بين الكوفة والحيرة قدْر فرسخ، قال: فأقبل على جنوده فقال: "أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك" الذي أنت فيه إلى الحين الذي تقوم إلى غدائك. قال: قال سليمان: من يأتيني به قبل ذلك؟ "قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفُك"، فنظر إلى سليمان، فلما قطع كلامه ردّ سليمان بصره على العرش، فرأى سريرها قد خرج ونبع من تحت كرسيه، "فلما رآه مستقرّاً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر" إذ أتاني به قبل أن يرتد إليّ طرفي "أم أكفُر" إذ جعل من تحت يدي أقدَر على المجيء به منّي. قال: فوضعوا لها عرشها، قال: فلما جاءت قعدتْ إلى سليمان، قيل لها: "أهكذا عرشُكِ"؟ فنظرت إليه فقالت: "كأنه هو"! ثم قالت: لقد تركتُه في حصوني، وتركت الجنود محيطة به، فكيف جيء بهذا يا سليمان! إني أريد أن أسألك عن شيء فأخبرنيه، قال: سلي، قالت: أخبرْني عن ماء رواء، لا من سماء ولا من أرض -قال: وكان إذا جاء سليمان شيء لا يعلمه بدأ فسأل الأنس عنه، فإن كان عند الإنس فيه علم وإلا سأل الجن، فإن لم يكن عند الجن علم به سأل الشياطين: قال: فقالت له الشياطين: ما أهون هذا يا رسول الله! مُرِ الخيل فلتجْر ثم تملأ الآنية من عَرَقها، فقال لها سليمان: عرق الخيل، قالت: صدقت. قالت: أخبرني عن لون الربّ. قال: قال ابن عباس: فوثب سليمان عن سريره فخرّ ساجداً. قال العباس: قال عليّ: فأخبرني عمرو بن عبيد، عن الحسن، قال: صعِق فغُشي عليه، فخرّ عن سريره.

ثم رجع، إلى حديثه قال: فقامت عنه، وتفرّقت عنه جنوده، وجاءه الرسول فقال: يا سليمان، يقول لك ربك: ما شأنُك؟ قال: سألتني عن أمر يكابرني -أو يكابدني- أن أعيدَه، قال: فإن الله يأمرك أن تعود إلى سريرك فتعقد عليه، وترسل إليها وإلى منْ حضرها من جنودها، وترسِل إلى جميع جنودك الذين حضروا فيدخلوا عليك فتسألها وتسألهم عما سألتك عنه. قال: ففعل، فلما دخلوا عليه جميعاً، قال لها: عم سألتني؟ قالت: سألتك عن ماء رواء، لا من سماء ولا من أرض، قال: قلت لكِ: عرق الخيل، قالت: صدقت، قال: وعن أي شيء سألتِني؟ قالت: ما سألتك عن شيء غير هذا. قال: قال لها سليمان، فلأي شيء خررتُ عن سريري؟ قالت: قد كان ذاك لشيء لا أدري ما هو -قال العباس: قال عليّ: نسيتْه- قال: فسأل جنودها فقالوا مثل ما قالت، قال: فسأل جنوده من الإنس والجن والطير وكل شيء كان حضره من جنوده، فقالوا: ما سألتك يا رسول الله إلا عن ماء رواء، قال: -وقد كان قال له الرسول: يقول الله لك: عدْ إلى مكانك فإني قد كفيتهم- قال: وقال سليمان: للشياطين: ابنوا لي صرْحاً تدخل عليّ فيه بلقيس، قال: فرجع الشياطين بعضُهم إلى بعض، فقالوا: سليمان رسول الله سخّر الله ما سخر، وبلقيس ملكة سبأ ينكِحها فتلد له غلاماً، فلا ننفكّ من العبودية أبداً.

قال: وكانت امرأة شَعراء الساقين، فقالت الشياطين: ابنوا له بنياناً ليرى ذلك منها، فلا يتزوجها، فبنوا له صرحاً من قوارير أخضر، وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنه الماء، وجعلوا في باطن الطوابيق كل شيء يكون من الدوابّ في البحر من السمك وغيره، ثم أطبقوه، ثم قالوا لسليمان: ادخل الصرح، قال: فألقِي لسليمان كرسيّ في أقصى الصّرح، فلما دخله ورأى ما رأى أتى الكرسي، فقعد عليه، ثم قال: أدخلوا علي بلقيس، فقيل لها: ادخلي الصرح، فلما ذهبت تدخله رأت صورة السمك وما يكون في الماء من الدواب، فحسبته لُجّة -حسبته ماء- وكشفت عن ساقيها لتدخل، وكان شعرُ ساقيها ملتوياً على ساقيها، فلما رآها سليمان، ناداها- وصرف بصره عنها: إنه صرح ممرّد من قوارير، فألقت ثوبها فقالت: "رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" قال: فدعا سليمان الإنس فقال: ما أقبح هذا! ما يُذهب هذا؟ قالوا: يا رسول الله الموسى. قال: المواسي تقطع ساقي المرأة. قال: ثم دعا الجن فسألهم فقالوا: لا ندري، ثم دعا الشياطين فقالوا ما يُذهب هذا؟ قالوا مثل ذلك: الموسى، فقال: المواسي تقطع ساقي المرأة. قال: فتلكّؤوا عليه، ثم جعلوا له النُّورة -قال ابن عباس: فإنه لأول يوم رئيت فيه النورة- فاستنكحها سليمان.

حدثنا ابن حميد: قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب ابن منبه، قال: لما رجعتِ الرسل إلى بلقيس بما قال سليمان، قالت: قد والله عرفتُ ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئاً، وبعثت إليه أنّى قادمة عليك بملوك قومي حتى انظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك. ثم أمرت بسرير مُلْكها الذي كانت تجلس عليه -وكان من ذهب مفصّص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ- فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض، ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما تخدُمها النساء، معها ستمائة امرأة تخدُمها. ثم قالت لمن خلّفت على سلطانها: احتفظ بما قبَلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا يرينّه حتى آتيك. ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيْل معها من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جَمَع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يديه، فقال: "يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين". قال: وأسلمتْ فحسُن إسلامها. قال: فزُعم أن سليمان قال لها حين أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلاً من قومك أوزّجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان لي! قال: نعم، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت، زوجني إن كان لا بد ذا تُبّع ملك همدان، فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك لقومه. قال: فصنع لذي تبّع الصنائع باليمن، ثم لم يزل بها ملكاً يُعمل له فيها ما أراد؛ حتى مات سليمان بن داود عليه السلام.

فلما حال الحول وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم، فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجِن، إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديَكم. قال: فعمدت الشياطين إلى حجريْن عظيمين، فكتبوا فيهما كتاباً بالمسند: نحن بنينا سَلْحين، سبعة وسبعين خريفاً، دائبين، وبنينا صِرْواح ومراح وبَينون برحاضة أيْدين، وهندة وهنيدة، وسبعة أمجِلة بقاعة، وتلثوم برَيْدة، ولولا صارخ بتهامة، لتركنا بالبون إمارة.

قال: وسَلْحين وصِرْواح ومَراح وبَيْنون وهندة وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن، عملتها الشياطين لذي تبّع، ثم رفعوا أيديهم، ثم انطلقوا، وانقضى ملك ذي تُبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان بن داود عليهما السلام.

ذكر غزوته أبا زوجته

جرادة وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض العلماء، قال قال وهب بن منبّه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها صيدون، بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس إليه سبيل، لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع منه شيء في برّ ولا بحر، إنما يركب إليه إذا ركب على الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستفاء ما فيها، وأصاب فيما أصاب ابنةٌ لذلك الملك لم يُر مثلُها حسناً وجمالاً، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبّها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه، ووقعت نفسُه عليها، فكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنُها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى: ويحكِ ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت: إن أبي أذكرُه وأذكر ملكَه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدَلك الله به ملكاً هو أعظم من ملكه، وسلطاناً هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك لكذلك؛ ولكني إذا ذكرتُه أصابني ما قد ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوّروا صورة أبي في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشية لرجوت أن يُذهب ذلك حزني، وأن يسلّيَ عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشيطان، فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئاً، فمثّلوه لها حتى نظرت إلى أبيها في نفسه، إلا انه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه لها فأزّرته وقمّصته وعممتْه وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس، مثل ما كان يكون فيه من هيئة، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له، كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، لا يعلم سليمان بشيء من ذلك أربعين صَباحاً، وبلغ ذلك آصف بن برخيا -وكان صديقاً، وكان لا يُرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضراً كان سليمان أو غائباً- فأتاه فقال: يا نبي الله، كبِرت سِني، ودق عظمي، ونفِذ عمري، وقد حان مني ذهاب! وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه مَنْ مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناسَ بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيباً، فذكر مَنْ مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضّله الله به، حتى انتهى إلى سليمان وذكَره، فقال: ما كان أحلمَك في صغرك، وأورعَك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يُكرَه في صغرك! ثم انصرف فوجَد سليمان في نفسه حتى ملأه غضباً، فلما دخل سليمان دارَه أرسل إليه، فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتَني جعلت تُثني عليّ بخيرٍ في صغري، وسكتّ عما سِوى ذلك من أمري في كِبَري، فما الذي أحدثتُ في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليُعبد في دارك منذ أربعين صباحاً في هوى امرأة، فقال: في داري! قال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد عرفتُ أنك ما قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهرة فأتِيَ بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، ولا تمسّها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائباً إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد، فتمعّك فيه بثيابه تذللاً لله عز وجل وتضرّعاً إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره، ويقول فيما يقول -فيما ذكر لي والله أعلم: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرَك، وأن يُقِرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرَك! فلم يزلْ كذلك يومه حتى أمسى، يبكي إلى الله ويتضرّع إليه ويستغفره، ثم رجع إلى داره- وكانت أم ولد له يقال لها: الأمينة، كان إذا دخل مذهبَه، أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهّر، وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكُه في خاتمه، فوضعه يوماً من تلك الأيام عندها كما كان يضعه. ثم دخل مذهبه وأتاه الشيطان صاحب البحر -وكان اسمه صخراً- في صورة سليمان لا تنكر منه شيئاً، فقال: خاتَمي يا أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكَفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غُيّرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة، خاتَمي! فقالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبتَ، لست بسليمان بن داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتَمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه. فعرف سليمانُ أن خطيئته قد أدركته، فخرج يقَف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثّون عليه الترابَ ويسبّونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود. فلما رأى سليمان ذلك عمَد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيُعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلَها، فمكث بذلك أربعين صباحاً، عِدّة ما عُبِد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حُكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحاً، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهنّ: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكنّ! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشدُّه ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل، فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامّة، فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه، ثم مرّ بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له سليمان صدرَ يومه ذلك، حتى إذا كان العشيّ أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويَها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً لله، وعكَفَ عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني به، فطلبتْه له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في قوله: "ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيّه جسداً"، قال: الشيطان جسداً"، قال: الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوماً، قال: كان لسليمان مائة امرأة، وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وأمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولا يأتمن عليه أحداً من الناس غيرها، فجاءته يوماً من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضيَ له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتُلي فأعطاها خاتمه، ودخل المحرج فخرج الشيطان في صورته، فقال: هاتي الخاتم، فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائهاً، قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً. قال: فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم، وجاؤوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان، فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه! قال: فبكى النساء عند ذلك، قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوْه، فأحدقوا به ثم نشروا فقرؤوا التوراة، قال: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر، قال: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع، وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضُهم فضربه بعصاً فشجّه، قال: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبَهم الذي ضربه وقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته! قال: إنه زعم أنه سليمان، قال: فأعطوه سمكتين مما قد ضُرب عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتى قام على شطّ البحر، فشقّ بطونهما، وجعل يغسلهما، فوجد خاتَمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فرد الله عليه بهاءه ومُلكه، وجاءت الطير حتى حامتْ عليه، فعرف القومُ أنه سليمان، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عُذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه.

قال: فجاء حتى أتى مُلكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسُخّرت له الريح والشياطين يومئذ، ولم تكن سُخّرت له قبل ذلك، وهو قوله: "وهبْ لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهّاب".

وبعث إلى الشيطان فأتى به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقُفل، وختم عليه بخاتَمه، ثم أمر به فألقِيَ في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة، وكان اسمه حبقيق.

قال أبو جعفر: ثم لبث سليمان بن داود في ملكه بعد أن ردّه الله إليه، تعمل له الجن ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وغير ذلك من أعماله، ويعذّب من الشياطين من شاء، ويطلق من أحبّ منهم إطلاقه، حتى إذا دنا أجله، وأراد الله قبضه إليه، كان من أمره -فيما بلغني- ما حدثني به أحمد بن منصور قال: حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة قال حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان نبي الله إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غُرِست، إن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخُرّوب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عمّ على الجن موتى حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصاً، فتوكأ عليها حولاً ميتاً، والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فسقط، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

قال: وكان ابن عباس يقرؤها "حولاً في العذاب المهين" قال: فشكرت الجن الأرضة، فكانت تأتيها بالماء.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السديّ في حديث ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس 0وعن مرة الهمذاني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يومُ يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: لأي شيء نبتّ؟ فتقول نبتّ لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع، فإن كانت نبتت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء قالت: نبتّ دواء لكذا وكذا، فيجعلها لذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة فسألها: ما اسمك؟ قالت: أنا الخروبة، قال: ولأي شيء نبتّ؟ قالت: نبتّ لخراب هذا المسجد. قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات، ولا تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حولَ المحراب، وكان المحراب له كوىً بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك، فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق -ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقف في البيت فلم يحترق ونظر إلى سليمان قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه، ووجدوا مِنْسأته -وهي العصا بلسان الحبشة- قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرَضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي في قراءة ابن مسعود: "فمكثوا يدينون له من بعد موته حولاً كاملاً"، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا موت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذاك في قول الله عز وجل: "ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض" -إلى قوله- "في العذاب المُهين" يقول: بيّن أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم. ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنتِ تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين. قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشياطين شكراً لها! وكان جميع عمر سليمان بن داود فيما ذكر نيفاً وخمسين سنة، وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر.