ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الإسكندر وهم ملوك الطوائف ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الإسكندر وهم ملوك الطوائف

ونرجع الآن إلى ذكر خبر الفرس بعد مهلك الإسكندر لسياق التأريخ على ملكهم.

فاختلف أهلُ العلم بأخبار الماضين في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الإسكندر، وفي عدد ملوك الطوائف الذين كانوا ملكوا إقليم بابل بعد ه إلى أن قام بالملك أردشير بابكان.

فأما هشام بن محمد فإنه قال - فيما حدثت عنه: ملك بعد الإسكندر يلاقس سلقيس، ثم أنطيحس. قال: وهو الذي بنى مدينة أنطاكية. قال: وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة، قال: وكانوا يتطرقون الجبال وناحية الأهواز وفارس، حتى خرج رجل يقال له أشك، وهو ابن دارا الأكبر، وكان مولده ومنشؤه بالري، فجمع جمعاً كثيراً وسار يريد أطيحس فزحف إليه أنطيحس فالتقيا ببلاد الموصل فقتل أنطيحس، وغلب أشك على السواد فصار في يده من الموصل إلى الري وأصبهان وعظمه سائرُ ملوك الطوائف لنسبه، وشرفه فيهم ما كان من فعله، وعرفوا له فضله، وبدءوا به في كتبهم، وكتب إليهم فبدأ بنفسه، وسموه ملكاً، وأهدوا إليه من غير أن يعزل أحداً منهم أو يستعمله.

ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان. قال: وهو الذي غزا بني إسرائيل المرة الثانية، وكان سبب تسليط الله إياه عليهم - فيما ذكر أهل العلم - قتلهم يحيى بن زكرياء، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله عنهم النبوة وأنزل بهم الذل. قال: وقد كانت الروم غزت بلاد فارس، يقودها ملكها الأعظم يلتمس أن يدرك بثأرها في فارس لقتل أشك ملك بابل أنطيحس، وملك بابل يومئذ بلاش أبو أردوان، الذي قتله أردشير ابن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما اجتمعت عليه الروم من غزو بلادهم، وأنه قد بلغه من حشدهم وجمعهم مالا كفاء له عنده، وأنه إن ضعف عنه ظفروا بهم جميعاً، فوجه كل ملك من ملوك الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوته، حتى اجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولى عليهم صاحب الحضر - وكان ملكاً من ملوك الطوائف يلى ما بين انقطاع السواد إلى الجزيرة - فسار بهم حتى لقى ملك الروم فقتله واستباح عسكره، وذلك هيج الروم على بناء القسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها. فكان الذي ولى إنشاءها الملك قسطنطين، وهو أول ملوك الروم تنصر، وهوأجلى من بقى من بني إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم - بزعمه - عيسى بن مريم، فأخذ الخشبة التي وجدهم يزعمون أنهم صلبوا المسيح عليها، فعظمها الروم، فأدخلوها خزائنهم، فهي عندهم، إلى اليوم.

قال: ولم يزل ملك فارس متفرقاً حتى ملك أردشير. فذكر هشام ما ذكرت عنه، ولم يبين مدة ملك القوم.

وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بعد الإسكندر ملك دارا أناس من غير ملوك الفرس، غير أنهم كانوا يخضعون لكل من يملك بلاد الجبل ويمنحونه الطاعة.

قال: وهم الملوك الأشغانون الذين يدعون ملوك الطوائف. قال: فكان ملكهم مائتي سنة وستاً وستين سنة.

فملك من هذه السنين أشك بن أشجان عشر سنين.

ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وفي سنة إحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين. وإن ططوس بن أسفسيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بن مريم بنحو من أربعين سنة، فقتل من في مدينة بيت المقدس، وسبى ذراريهم، وأمرهم فنسفت مدينة بيت المقدس، حتى لم يترك بها حجراً على حجر.

ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، عشر سنين.
ثم ملك بيزن الأشغاني، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك جوذرز الأشغاني، تسع عشر سنةز ثم ملك نرسى الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك هرمز الأشغاني، سبع عشرة سنة.
ثم ملك أردوان الأشغاني، اثنتى عشرة سنة.
ثم ملك كسرى الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك بلاش الأشغاني، أربعاً وعشرين سنة.
ثم ملك أردوان الأصغر الأشغاني، ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك أردشير بن بابك.

وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرد بكل ناحية من ملك عليها من حين ملكه، ما خلا السواد، فإنها كانت أربعاً وخمسين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم. وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك مملكاً على الجبال وأصبهان، ثم غلب ولده بعد ذلك على السواد، فكانوا ملوكاً عليها وعلى الماهات والجبال وأصبهان، كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأن السنة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصر على تسميتهم دون غيرهم.

قال: ويقال إن عيسى بن مريم عليه السلام ولد بأوريشلم بعد إحدى وخمسين سنة من ملوك الطوائف، فكانت سنو ملكهم من لدن الإسكندر إلى وثوب أردشير بن بابك وقتله أردوان واستواء الأمر له، مائتين وستاً وستين سنة.

قال: فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت لأولادهم بعد ذلك الغلبة على السواد أشك بن حره بن رسبيان بن أرتشاخ بن هرمز بن ساهم بن رزان بن أسفنديار بن بشتاسب. قال: والفرس تزعم أنه أشك بن دارا. وقال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، وكان من ولد كيبيه بن كيقباذ، وكان ملكه عشر سنين.
ثم ملك من بعده أشك بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، ثلاثين سنة.
ثم ملك جوذرز الأكبر بن سابور بن أشكان، عشر سنين.
ثم ملك بيرن بن جوذرز، إحدى وعشرين سنة.
ثم جوذرز الأصغر بن بيزن، تسع عشرة سنة.
ثم نرسه بن جوذرز الأصغر، أربعين سنة.
ثم هرمز بن بلاش بن أشكان، سبع عشرة سنة.
ثم أردوان الأكبر وهو أردوان بن أشكان، اثنتى عشرة سنة.
ثم كسرى بن أشكان، أربعين سنة.
ثم بهافريد الأشكاني، تسع سنين.
ثم بلاش الأشكاني، أربعاً وعشرين سنة.

ثم أردوان الأصغر وهو أردوان بن بلاش بن فيروز بن هرمز بن بلاشر بن سابور بن أشك بن أشكان الأكبر، وكان جده كيبيه بن كيقباذ. ويقال: إنه كان أعظم الأشكانية ملكاً، وأظهرهم عزاً، وأسناهم ذكراً، وأشدهم قهراً لملوك الطوائف، وأنه كان قد غلب على كورة إصطخر لاتصالها بأصبهان، ثم تخطى إلى جور وغيرها من فارس، حتى غلب عليه، ودانت له ملوكها لهيبة ملوك الطوائف كانت له، وكان ملكه ثلاث عشرة سنة.

ثم ملك أردشير.

وقال بعضهم: ملك العراق وما بين الشأم ومصر بعد الإسكندر تسعون ملكاً على تسعين طائفة كلهم يعظم من يملك المدائن، وهم الأشكانيون. قال: فملك من الأشكانيين أفقور شاه بن بلاش بن سابور بن أشكان بن أرش الجبار بن سياوش بن كيقاوس الملك اثنتين وستين سنة.

ثم سابور بن أفقور - وعلى عهده كان المسيح ويحيى عليهما السلام - ثلاثاً وخمسين سنة.
ثم جوذرز بن سابور بن أفقور الذي غزا بني إسرائيل طالباً بثأر يحيى ابن زكرياء، ملك تسعاً وخمسين سنة.
ثم ابن أخيه أبزان بن بلاش بن سابور، سبعاً وأربعين سنة.
ثم جوذرز بن أبزان بن بلاش، إحدى وثلاثين سنة.
ثم أخوه نرسى بن أبزان، أربعاً وثلاثين سنة.
ثم عمه الهرمزان بن بلاش، ثمانياً وأربعين سنة.
ثم ابنه الفيروزان بن الهرمزان بن بلاش تسعاً وثلاثين سنة.
ثم ابنه كسرى بن الفيروزان سبعاً وأربعين سنة.
ثم ابنه أردوان بن بلاش، وهو آخرهم، قتله أردشير بن بابك، خمساً وخمسين سنة.
قال: وكان ملك الإسكندر وملك سائر ملوك الطوائف في النواحي خمسمائة وثلاثاً وعشرين سنة.

ذكر الأحداث التي كانت في أيام الطوائف

فكان من ذلك - فيما زعمته الفرس -لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، ولإحدى وخمسين سنة من ملك الأشكانيين - ولادة مريم بنت عمران عيسى بن مريم عليه السلام.

فأما النصارى فإنها تزعم أن ولادتها إياه كانت لمضي ثلثمائة سنة وثلاثة سنين من وقت غلبه الإسكندر على أرض بابل. وزعموا أن مولد يحيى بن زكرياء كان قبل مولد عيسى عليه السلام بستة أشهر. وذكروا أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأنّ مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، وكان جميع عمرها نيفاً وخمسين سنة.
قال: وزعموا أن يحيى اجتمع هو وعيسى بنهر الأردن وله ثلاثون سنة، وأن يحيى قتل قبل أن يرفع عيسى. وكان زكرياء بن برخيا أبو يحيى بن زكرياء وعمران بن ماثان أبو مريم متزوجين بأختين، إحدهما عند زكرياء وهي أم يحيى، والأخرى منهما عند عمران بن ماثان، وهي أم مريم، فمات عمران بن ماثان وأم مريم حامل بمريم، فلما ولدت مريم كفلها زكرياء بعد موت أمها، لأن خالتها أخت أمها كانت عنده. واسم أم مريم حنة بنت فاقود ابن قبيل، واسم أختها أم يحيى الأشباع ابنة فاقود وكفلها زكرياء وكانت مسماة بيوسف بن يعقوب بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن الياقيم بن أبيوذ بن زر بابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود، ابن عم مريم.
وأما ابن حميد، فإنه حدثنا عن سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: مريم - فيما بلغني عن نسبها - ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا ابن أحزيق بن يوثام بن عزريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان. فولد لزكرياء يحيى ابن خالة عيسى بن مريم، فنبئ صغيراً، فساح، ثم دخل الشأم يدعو الناس، ثم اجتمع يحيى وعيسى، ثم افترقا بعد ان عمد يحيى عيسى.

وقيل: إن عيسى بعث يحيى بن زكرياء في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس: قال: وكان فيما نهوهم عنه نكاح بنات الأخ، فحدثني أبو السائب ، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكرياء، في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: فكان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ. قال:وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه، يريد أن يتزوجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخلت على الملك، فسألك حاجتك فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكرياء، فلما دخلت عليه سألها حاجتها قالت حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكرياء فقال سليني غير هذا، قالت: ما أسألك إلا هذا، قال: فلما أبت عليه دعا يحيى،ودعا بطست فذبحه، فندرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل، فدلته على ذلك الدم، قال: فألقى الله في قلبه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن، فقتل سبعين ألفاً منهم من سنّ واحدة، فسكن.

حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناسٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً من بني إسرائيل، رأى في النوم أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدى غلام يتيم، ابن أرملة من أهل بابل، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل يسأل عنه، حتى نزل على أمه وهو يحتطب، فلما جاء وعلى رأسه حزمة حطب ألقاها، ثم قعد في جانب البيت، فكلّمه، ثم أعطاه ثلاثة دراهم فقال: اشتر بهذه طعاماً وشراباً، فاشترى بدرهم لحماً، وبدرهم خبزاً، وبدرهم خمراً، فأكلوا وشربوا، حتى إذا كان اليوم الثاني فعل به ذلك، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل ذلك، ثم قال: إني أحب أن تكتب لي أماناً إن أنت ملكتَ يوماً من الدهر قال: تسخر بي! قال: إني لا أسخر بك: ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يداً! فكلمته أمه، فقالت: وما عليك إن كان، وإلا لم ينقصك شيئاً! فكتب له أماناً، فقال: أرأيت إن جئت والناسُ حولك، قد حالوا بيني وبينك! فاجعل لي آية تعرفني بها، قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها. فكساه وأعطاه.

ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكرياء، ويدنى مجلسه، ويستشيره في أمره، ولا يقطع أمراً دونه، وإنه هوى أن يتزوج ابنة امرأة له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها، وقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوج انبتها، فعمدت إلى الجارية حين جلس الملك على شرابه، فألبستها ثياباً رقاقاً حمراً، وطيبتها، وألبستها من الحلي، وألبستها فوق ذلك كساء أسود، فأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، وأن تعرض له، فإن أرداها على نفسها أبت عليه، حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن تؤتى برأس يحيى بن زكرياء في طست، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له، فلما أخذ فيه الشراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك، قال: ما تسأليني؟ قالت: أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكرياء، فأوتى بأسه في هذا الطست، فقال: ويحك سليني غير هذا? قالت: ما أريد أن أسألك إلا هذا. قال: فلما أبت عليه، بعث إليه فأتى برأسه، والرأس يتكلم، حتى وضع بين يديه، وهو يقول: لا تحل لك، فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقى عليه فرقى الدم فوق التراب يغلي، فألقى عليه التراب أيضاً، فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة، وهو في ذلك يغلي وبلغ صيحائين فنادي في الناس، وأراد أن يبعث إليهم جيشاً، ويؤمر عليهم رجلاً، فأتاه بختنصر، فكلمه، وقال: إن الذي كنت أرسلت تلك المرة ضعيف، فإني قد دخلتُ المدينة، وسمعت كلام أهلها، فابعثني، فبعثه فسار بختنصر، حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم، فلم يطقهم، فلما اشتد عليه المقام، وجاء أصحابه أراد الرجوع، فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل، فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى به إليها، فقالت: إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة. قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابي، فلستُ أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحتُ لك المدينة، أتعطيني ما أسألك، فتقتل من أمرتك بقتله، وتكف إذا أمرتك أن تكف. قال لها: نعم، قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع، ثم أقم على كل زاوية ربعاً، ثم ارفعوا بأيديكم إلى السماء، فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكرياء فإنها سوف تتساقط. ففعلوا، فتساقطت المدينة، ودخلوا من جوانبها، فقالت له: كفّ يدك، اقتل على هذا الدم حتى يسكن، فانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير، فقتل عليه حتى سكن، فقتل سبعين ألف رجل وامرأة، فلما سكن الدم، قالت له: كف يدك، فإنّ الله عز وجل إذا قتل نبي لم يرض حتى يقتل من قتله ومن رضى قتله. فأتاه صاحبُ الصحيفة بصحيفته، فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخرب بيت المقدس، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وقال: من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكرياء فلما خربه بختنصر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وسراتهم، وذهب بدانيال وعليا وعزريا وميشائيل، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء، وذهب معه برأس الجالوت، فلما قدم أرض بابل وجد صيحائين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم للناس عليه دانيال وأصحابه، فحسدهم المجوس، فوشوا بهم إليه، فقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبيحتك، فدعاهم فسألهم فقالوا: أجل إن لنا رباً نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم، وأمر بخد فخد، فألقوا فيه وهم ستة، وألقى معهم سبعٌ ضارٍ ليأكلهم، فقالوا: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا، فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوساً، والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً، ولم ينكأه شيئاً، فوجدوا معهم رجلاً، فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقال: ما بال هذا السابع؟ إنما كانوا ستة? فخرج إليه السابع - وكان ملكاً من الملائكة - فلطمه لطمة فصار في الوحش، فكان فيهم سبع سنين.

قال أبو جعفر: وهذا القول - الذي روي عمن ذكرت في هذه الأخبار التي رويت وعمن لم يذكر في هذا الكتاب، من أن بختنصر، هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكرياء - عند أهل السير والأخبار والعلم بأمور الماضين في الجاهلية، وعند غيرهم من أهل الملل غلط، وذلك أنهم بأجمعهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعيا في عهد إرميا بن حلقيا، وبني عهد إرميا وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكرياء أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة في قول اليهود والنصارى. ويذكرون أن ذلك عندهم في كبتهم وأسفارهم مبين، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بختنصر بيت المقدس إلى حين عمرانها في عهد كيرش بن أخشويرش أصبهبذ بابل من قبل أردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب. ثم من قبل ابنته خمانى سبعين سنة، ثم من بعد عمرانها إلى ظهور الإسكندر عليها وحيازة مملكتها إلى مملكته ثمانياً وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر لها إلى مولد يحيى بن زكرياء ثلاثمائة سنة وثلاث سنين، فذلك على قولهم أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة.

وأما المجوس فإنها توافق النصارى واليهود في مدة خراب بيت المقدس، وأمر بختنصر، وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل إلى غلبة الإسكندر على بيت المقدس والشام وهلاك دارا، وتخالفهم في مدة ما بين ملك الإسكندر ومولد يحيى، فتزعم أن مدة ذلك إحدى وخمسون سنة. فبين المجوس والنصارى من الاختلاف في مدة ما بين ملك الإسكندر ومولد يحيى وعيسى وما ذكرت. والنصارى تزعم أن يحيى ولد قبل عيسى بستة أشهر، وأنّ الذي قتله ملك لبني إسرائيل يقال له هيردوس، بسبب امرأة يقال لها هيروذيا، كانت امرأة أخ له، يقال له فيلفوس، عشقها فوافقته على الفجور، وكان لها ابنة يقال لها دمنى فأراد هيردوس أن يطأ امرأة أخيه المسماة هيروذيا، فنهاه يحيى وأعلمه أن لا تحل له، فكان هيردوس معجباً بالابنة، فألهته يوماً، ثم سألته حاجة فأجابها إليها، وأمر صاحباً له بالنفوذ لما تأمره به، فأمرته أن يأتيها برأس يحيى، ففعل، فلما عرف هيردوس الخبر أسقط في يده وجزع جزعاً شديداً.

وأما ما قال في ذلك أهلُ العلم بالأخبار وأمور أهل الجاهلية فقد حكيتُ منه ما قاله هشام بن محمد الكلبي.

وأما ما قال ابن إسحاق فيه، فهو ما حدثنا به ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: عمرت بنو إسرائيل بعد ذلك - يعنى بعد مرجعهم من أرض بابل إلى بيت املمدس - يحدثون الأحداث، يعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون، حتى كان آخر من بعث فيهم من أنبيائهم زكرياء ويحيى بن زكرياء وعيسى بن مريم، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام. وهو يحيى بن زكرياء بن أدى ابن مسلم بن صدوق بن نحشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخية بن شفاطية بن فاحور بن شلوم بن يهفاشاط بن أسا بن أبيا بن رحبعم ابن سليمان بن داود.

قال: فلما رفع الله عيسى عليه السلام من بين أظهرهم، وقتلوا يحيى بن زكرياء عليه السلام - وبعض الناس يقول: وقتلوا زكرياء - أبتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار إليه بأهل بابل، حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤس جنوده يدعى نبوزراذان، صاحب القتل، فقال له: إني كنت حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلى ألا أجد أحداً أقتله، فأمره أن يقتلهم، حتى يبلغ ذلك منهم. وإنّ نبوزراذان دخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي، وسألهم، فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره ولا تكتموني شيئاً من أمره، فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قربناه فلم يقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد قربنامنذ ثمانمائة سنة القربان، فقبل منا إلى هذا القربان. قال: ما صدقتوني الخبر، قالوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا، ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم نبوزراذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحاً من رؤسهم فلم يهدأ، فأمر فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة ألاف من نيتهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى نبوزراذان الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل، ويلكم أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم، قبل ألا أترك منكم نافخ نار، أنثى ولا ذكراً إلا قتلته فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه، فهذه دمه. فقال لهم نبوزراذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكرياء، قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا ينتقم ربكم منكم. فلما رأى نبوزراذان أنهم قد صدقوه خر ساجداً، وقال لمن حوله أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل. ثم قال: يا يحيى بن زكرياء، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قتل منهم من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي من قومك أحداً، فهدأ دم يحيى بإذن الله، ورفع نبوزراذان عنهم القتل، وقال: آمنتُ بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدقتُ به وأيقنتُ أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، لو كان معه شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي يملك السموات السبع بعلم وحكم وجبروت وعزة، الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه. فأوحى إلى رأس من رؤوس بقية الأنبياء أن بوزراذان جبور صدوق - والحبور بالعبرانية حديث الإيمان - وأن نبوزراذان قال لبني إسرائيل: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره. وإني فاعل، لستُ أستطيع أن أعصيه. قالوا له: أفعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقاً، وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها، حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، حتى كانوا فوقهم، فلم يظن خرودس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل.

فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى بنوزراذان: ارفع عنهم، فقد بلغني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا. ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الواقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب" إلى قوله: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً".

وعسى من الله حق، فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، ثم ردّ الله لهم الكرة عليهم، ثم كانت الوقعة الأخيرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم ونسائهم، يقول الله عز وجل: "وليتبروا ما علوا تتبيراً".

رجع الحديث إلى حديث عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام. قال: وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها يليان خدمة الكنيسة، فكانت مريم إذا نفد ماؤها - فيما ذكر - وماء يوسف أخذ كل واحد منهما قلته، فانطلق إلى المغارة التي فيها الماء الذي يستعذبانه، فيملأ قلته، ثم يرجعان إلى الكنيسة. فلما كان اليوم الذي لقيها فيه جبرئيل - وكان أطول يوم في السنة وأشده حراً - نفد ماؤها، فقالت: يا يوسف، ألا تذهب بنا نستقي قال: إن عندي لفضلاً من ماء أكتفي به يومي هذا إلى غد، قالت: لكني والله ما عندي ماء، فأخذت قلتها، ثم انطلقت وحدها، حتى دخلت المغارة فتجد عندها جبرئيل قد مثله الله لها بشراً سوياً: فقال لها: يا مريم، إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلاماً زكيا، قالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا"، وهي تحسبه رجلاً من بني آدم فقال: إنما أنا رسول ربك، قالت: "إني يكون لي غلام ولم يمسني بشر ولم أكُ بغياً قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً"، أي أن الله قد قضى أن ذلك كائن. فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيبها، ثم انصرف عنها، وملأت قلّتها.
قال: فحدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، ابن أخي وهب، قال: سمعت وهباً قال: لما أرسل الله عز وجل جبرئيل إلى مريم، تمثل لها بشراً سوياً. فقالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً"، ثم نفخ في جيب درعها حتى ومصلت النفخة إلى الرحم، واشتملت على عيسى.

قال: وكان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتجميره وكناسته وطهوره، وكلّ عمل يعمل فيه، فكان لا يعلم من أهل زمانهما أحد أشد اجتهاداً وعبادة منهما، وكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف، فلما رأى الذي بها استعظمه،وعظم عليه، وفظع به، ولم يدر على ماذا يضع أمرها? فإذا أراد يوسف أن يتهمها ذكر صلاحها وبراءتها وأنها لم تغب عنه ساعة وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها. فلما اشتد عليه ذلك كلمها، فكان أول كلامه إياها أن قال لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك أمر قد حرصت على أن أميته، وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيتُ أن الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولاً جميلاً، قال: ما كنت لأقول إلا ذلك، فحدثيني: هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر إنما كان من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر? أو لم تعلم أن الله أنبت الشجر من غير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده أو تقول لم يقد الله على أن ينبت الشجر، حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته قال لها يوسف: لا أقول ذلك، ولكني أعلم أن الله بقدرته على ما يشاء يقول لذلك: كن فيكون. قالت له مريم: أو لم تعلم أن الله عز وجل خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: بلى، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله عز وجل، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك. ثم تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوء بطنها،وضعف قوتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك، فلما دنانفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ونقلوا ولدك. فأفضت عند ذلك إلى أختها - وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحي - فلما التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجداً معروفاً بعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الأكاف شيء، فانطلق يوسف بها، حتى إذا كان متاخماً لأرض مصر في منقطع بلاد قومها أدرك مريم النفاس، وألجأها إلى آرى حمار - يعني مزود الحمار - في أصل نخلة، وذلك في زمان الشتاء، فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة، فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفاً محدقين بها.

فلما وضعت وهي محزونة، قيل لها: "ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً" إلى "إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً"، فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء.

فأصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله حين ولدت بكل أرض مقلوبة منكوسة على رؤسها، ففزعت الشياطين وراعها، فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين، حتى جاءوا إبليس، وهو على عرش له، في لجة خضراء، يتمثل بالعرش يوم كان على الماء ويحتجب، يتمثل بحجب النور التي من دون الرحمن، فأتوه وقد خلا ست ساعات من النهار، فلما رأى إبليس جماعتهم، فزع من ذلك، ولم يرهم جميعاً منذ فرّقهم قبل تلك الساعة؛ إنما كان يراهم أشتاتاً، فسألهم فأخبروه أنه قد حدث في الأرض حدث أصبحتْ الأصنام منكوسة على رؤوسها، ولم يكن شيء أعونُ على هلاك بني آدم منها؛ كنا ندخلُ فنكلّمهم، وندبّر أمرهم فيظنون أنها التي تكلّمهم، فلما أصابها هذا الحدث صغّرها في أعين بني آدم، وأذلّها وأدناها، ذلك وقد خشينا ألا يعبدوها بعد هذا أبداً. واعلم أنا لن تأتِك حتى أحصينا الأرضَ، وقلبنا البحار وكل شيء قوبنا عليه، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلاً. قال لهم إبليس: إن هذا لأمر عظيم، لقد علمت بأني كُتِمتُه، وكونوا على مكانكم هذا. فطار إبليس عند ذلك، فلبث عنهم ثلاث ساعات، فمرّ فيهن بالمكان الذي وُلد فيه عيسى؛ فلما رأى الملائكة محدِقين بذلك المكان، علم أن ذلك الحدَث فيه، فأراد إبليس أن يأتيه من فوقه؛ فإذا فوقه رؤوس الملائكة ومناكبهم عند السماء. ثم أراد أن يأتيَه من تحت الأرض؛ فإذا أقدام الملائكة راسية أسفل مما أراد إبليس. ثم أراد أن يدخل من بينهم فنحّوه عن ذلك.

ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال لهم: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها مشرقها ومغربها، وبرها وبحرها، والخافقين، والجوّ الأعلى؛ وكل هذا بلغتُ في ثلاث ساعات؛ وأخبرهم بمولد المسيح، وقال لهم: لقد كتِمتُ شأنه، وما اشتملت قبله رحم أنثى على ولد إلا بعلمي، ولا وضعته قط، إلا وأنا حاضرها؛ وإني لأرجو أن أضلّ به أكثر مما يهتدِي به، وما كان نبيّ قبله أشدّ عليّ وعليكم منه.
وخرج في تلك الليلة قوم يؤمونه من أجل نجم طلع أنكروه، وكان قبل ذلك يتحدثون أن مطلع ذلك النجم من علامات مولود في كتاب دانيال. فخرجوا يريدونه، ومعهم الذهب والمُرّ واللّبان، فمروا بملك من ملوك الشأم، فسألهم: أين يريدون؟ فأخبروه بذلك، قال: فما بال الذهب والمرّ واللبان أهديتموه له من بين الأشياء كلها؟ قالوا: تلك أمثاله: لأن الذهب هو سيد المتاع كله، وكذلك هذا النبي هو سيد أهل زمانه، ولأن المر يُجبِر به الجرح والكسر، وكذلك هذا النبي يشفي به كل سقيم ومريض؛ ولأن اللبان ينال دخوله السماء ولا ينالها دخان غيره، كذلك هذا النبي يرفعه الله إلى السماء لا يرفع في زمانه أحد غيره.

فلما قالوا ذلك لذلك الملك حدث نفسه بقتله، فقال: اذهبوا، فإذا علمتم مكانه فأعلموني ذلك، فإني أرغب في مثل ما رغبتم فيه من أمره. فانطلقوا حتى دفعوا ما كان معهم من تلك الهدية إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى هذا الملك ليعلموه مكان عيسى، فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه، ولا تعلموه بمكانه، فإنه إنما أراد بذلك ليقتله، فانصرفوا في طريق آخر، واحتملته مريم على ذلك الحمار ومعها يوسف، حتى وردا أرض مصر، فهي الربوة التي قال الله: "وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعينٍ".

فمكثت مريم اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس، لا يطلع عليه أحد، وكانت مريم لا تأمن عليه ولا على معيشته أحداً، كانت تلتقط السنبل من حيث ما سمعت بالحصاد، والمهد في منكبها والوعاء الذي تجعل فيه السنبل في منكبها الآخر، حتى تم لعيسى عليه السلام اثنتا عشرة سنة، فكان أول آية رآها الناس منه أن أمه كانت نازلةً في دار دهقان من أهل مصر، فكان ذلك الدهقان قد سرقت له خزانة، وكان لا يسكن في داره إلا المساكين، فلم يتهمهم، فحزنت مريم لمصيبة ذلك الدهقان، فلما أن رأى عيسى حزن أمه بمصيبة صاحب ضيافتها، قال لها: يا أمه، أتحبين أن أدله على ماله؟ قالت: نعم يا بني، قال: قولي له يجمع لي مساكين داره، فقالت مريم للدهقان ذلك، فجمع له مساكين دراه، فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم: أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المعقد على عاتق الأعمى، ثم قال له: قم به، قال الأعمى: أنا أضعف من ذلك، قال عيسى عليه السلام: فكيف قويت على ذلك البارحة؟ فلما سمعوه يقول ذلك، بعثوا الأعمى، حتى قام به، فلما استقل قائماً حاملاً هوى المقعد إلى كوة الخزانة. قال عيسى: هكذا احتالا لمالك البارحة، لأنه استعان الأعمى بقوته، والمقعد بعينيه، فقال المقعد والأعمى: صدق، فردا على الدهقان ماله ذلك، فوضعه الدهقان في خزانته، وقال: يا مريم خذي نصفه، قالت: إني لم أخلق لذلك، قال الدهقان: فأعطيه ابنك، قالت هو أعظم مني شأناً، ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس ابن له فصنع له عيداً فجمع عليه أهل مصر كلهم، فلما انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشآم لم يحزرهم الدهقان، حتى نزلوا به، وليس عنده يومئذ شراب، فلما رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتاً من بتوت الدهقان، فيه صفان من جرار، فأمرّ عيسى يده على أفواههم، وهو يمشي، فكلما أمرّ يده على جرة امتلأت شراباً، حتى أتى عيسى على آخرها، وهو يومئذ ابن اثنتى عشرة سنة، فلما فعل ذلك عيسى فزع الناس لشأنه وما أعطاه الله من ذلك فأوحى الله عز وجل إلى أمه مريم، أن أطلعي به إلى الشأم، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشأم حتى كان ابن ثلاثين سنة، فجاءه الوحي على ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين. ثم رفعه الله إليه، فلما رآه إبليس يوم لقيه على العقبة لم يطق منه شيئاً، فتمثل له برجل ذي سن وهيئة، وخرج معه شيطانان ماردان متمثلين كما تمثل إبليس، حتى خالطوا جماعة الناس.

وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفاً فمن أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله عز وجل، فجاءه إبليس في هيئة يبهر الناس حسنها وجمالها، فلما رآه الناس فرغوا له، ومالوا نحوه، فجعل يخبرهم بالأعاجيب، فكان في قوله: إن شأن هذا الرجل لعجب، تكلم في المهد، وأحيا الموتى، وأنبأ عن الغيب، وشفى المريض، فهذا الله. قال أحد صاحبيه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت لا ينبغي لله أن يتجلى للعباد. ولا يسكن الأرحام، ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله. وقال الثالث: بئس ما قلتما، كلاكما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولداً، ولكنه إله معه، وغابوا حين فرغوا من قولهم، فكان ذلك آخر العهد منهم.

حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجاباً من الجدران، وهو قوله: "فانتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجاباً" في شرق المحراب، فلما طهرت إذا هي برجل معها، وهو قوله: "فأرسلنا إليها روحنا" فهو جبرئيل "فتمثل لها بشراً سوياً". فلما رأته فزعت منه وقالت: "إني أعوذُ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً، قالت أني يكون لي غلامٌ ولم يمسني بشرٌ ولم أكُ بغياً" -تقول زانية- "قال كذلك قال ربك وهو على هين ولنجعله آية للناس ورحمةً منا وكان أمراً مقضياً". فخرجت، عليها جلبابها، فأخذ بكميها، فنفخ في جيب درعها - وكان مشقوقاً من قدامها - فدخلت النفخة في صدرها، فحملت، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكرياء: يا مريم أشعرت أني حبلى. قالت مريم: أشعرت أني أيضاً حبلى. قالت امرأة زكرياء: فإني وجدتُ ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قوله: "مصدقاً بكلمة من الله. فولدت امرأة زكرياء يحيى، ولما بلغ أن تضع مريم، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه، فأتت أقصاه: "فأجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة" يقول: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، "قالت: وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: "ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً". تقول: نسياً: نُسيَ ذكري، ومنسياً، تقول: نسى أثري، فلا يرى لي أثر ولا عين. "فناداها"، جبرئيل: "من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا"، والسرى هو النهر. "وهزي إليك بجذع النخلة"، وكان جذعاً منها مقطوعاً فهزته، فإذا هو نخلة، وأجرى لها من المحراب نهراً فتساقطت النخلة رطباً جنياً، فقال لها: كلي واشربي وقري عيناً، "فإنا ترين من البشر أحد فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا"، فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي، فقيل له: لا تزيدي على هذا، فلما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون، فدعوها "فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً -يقول عظيماً- "يا أخت هارون ما كان أبوك أمرأ سوء وما كنت أمكِ بغياً"، فما بالك أنت يا أخت هارون? وكانت من بني هارون أخي موسى، وهي كما تقول: يا أخا بني فلان، إنما تعني قرابته. فقالت لهم ما أمرها الله، فلما أرادوها بعد ذلك على الكلام أشارت إليه -إلى عيسى- فغضبوا وقالوا: لسخريتها بنا حين تأمرنا أن تكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها? "قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً" فتكلم عيسى فقال: "إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت" فقالت بنو إسرائيل: ما أحبلها أحد غير زكرياء، هو كان يدخل إليها، فطلبوه ففر منهم فتشبه له الشيطان في صورة راع، فقال: يا زكرياء، قد أدركوك، فادعُ الله حتى تنفتح لك هذه الشجرة فتدخل فيها، فدعا الله فانتفتحت الشجرة، فدخل فيها وبقي من ردائه هدبُ، فمرت بنو إسرائيل بالشيطان، فقالوا: يا راعي، هل رأيت رجلاً من ها هنا قال: نعم سحر هذه الشجرة، فانفتحت له، فدخل فيها، وهذا هدب ردائه، فعمدوا فقطعوا الشجرة، وهو فيها بالمناشير، وليس تجد يهودياً إلا تلك الهدبة في ردائه، فلما ولد عيسى لم يبقَ في الأرض صنم يعبد من دون الله إلا أصبح ساقطاً لوجهه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهباً يقول: إن عيسى بن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين، فصنع لهم طعاماً، فقال احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه في الليل، عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد على شيئاً الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه فأقروه حتىإذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، ولا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض، كما بذلك نفسي لكم. وأما حاجتي التي أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم، حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم، ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة واحدة حتى تعينوني فيها? قالوا: والله ما ندري ما لنا? لقد كنا نسمر فنكثر السمر، ومانطيق الليلة سمراً، ومانريد دعاءً إلا حيل بيننا وبينه فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم. وجعل يأتي بكلام نحو هذا، ينهى به نفسه، ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم، قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني. فخرجوا فتفرقوا، وكان اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون، أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخر فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك، فبكى، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً، فأخذها ودلهم عليه - وكان شبه عليهم قبل ذلك - فأخذوه، فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تفتح نفسك من هذا الحبل ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فكمث سبعاً. ثم إن أمه والمرأة - التي كان عيسى يداويها فأبرأها الله من الجنون - جاءتا تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى عليه السلام، فقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإنّ هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه، ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب تاب الله عليه ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحيى، فقال: هو معكم، فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: توفي الله عيسى بن مريم ثلاث ساعات من النهار، حتى رفعه الله إليه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:والنصارى يزعمون أنه توفاه الله سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله، فقال له: اهبط، فأنزل على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحز عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين، فبثهم في الأرض دعاةً إلى الله، فإنك لم تكن فعلت ذلك، فأهبطه الله عليها، فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، فجمعت له الحواريين، فبثهم وأمرهم، أن يبلغوا الناس عنه ما أمره الله به، ثم رفعه الله إليه، فكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة وهو معهم حول العرش، فكان إنسياً ملكياً سمائياً أرضياً، وتفرق الحواريون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبط فيها الليلة التي تدخن فيها النصارى.

وكان ممن وجه من الحواريين والأتباع الذين كانوا في الأرض بعدهم، فطرس الحواري ومعه بولس - وكان من الأتباع، ولم يكن من الحواريين - إلى رومية، وأندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس - وهي فيما نرى للأساود - وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيلبس إلى القيروان وقرطاجنة، وهي إفريقية، ويحنس إلى دفسوس، قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوريشليم، وهي إيليا بيت المقدس، وابن تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر دون أفريقية، ويهوذا -ولم يكن من الحواريين - إلى أريوبس، جعل مكان يوذس زكريا يوطا، حين أحدث ما أحدث.

حدثنا ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر ابن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن ابن سليم الأنصاري، ثم الزرقي، قال: كان على امرأة منا نذرٌ، لتظهرن على رأس الجماء - جبل بالعقيق من ناحية المدينة- قال: فظهرتُ معها، حتى إذا استوينا على رأس الجبل، إذا قبرٌ عظيم، عليه حجران عظيمان، حجر عند رأسه وحجر عند رجليه فيهما كتاب بالمسند، لا أدري ما هو? فاحتملتُ الحجرين معي، حتى إذا كنت ببعض الجبل منهبطاً ثقلا علي، فألقيت أحدهما وهبطت بالآخر، فعرضته على أهل السريانية: هل يعرفون كتابه؟ فلم يعرفوه، وعرضته على من يكتب بالزبور من أهل اليمن، ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه. قال: فلما لم أجد أحداُ ممن يعرفه ألقيته تحت تابوت لنا، فمكث سنين، ثم دخل علينا ناس من أهل ماه من الفرس يبتغون الخرز، فقلت لهم: هل لكم من كتاب؟ فقالوا: نعم، فأخرجتُ إليهم الحجر، فإذا هم يقرؤونه، فإذا هو بكتابهم: هذا قبر رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام إلى أهل هذه البلاد، فإذا هم كانوا أهلها في ذلك الزمان، مات عندهم فدفنوه على رأس الجبل.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم عدوا على بقية الحواريين يشمسونهم ويعذبونهم، وطافوا بهم، فسمع بذلك ملك الروم -وكانوا تحت يديه، وكان صاحب وثن -فقيل له: إن رجلاً كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنه رسول الله، قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى، وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهئية الطير، ونفخ فيه فكان طائراً بإذن الله، وأخبرهم بالغيوب. قال: ويحكم فما منعكم أن تذكروا هذا لي من أمره وأمرهم فوالله لو علمت ما خليتُ بينهم وبينه. ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن دين عيسى وأمره، فأخبروه خبره، فتابعهم على دينهم، واستنزل سرجس فغيبه، وأخذ خشبته التي صلب عليها، فأكرمها وصانها لما مسها منه، وعدا على بني إسرائيل، فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هنالك كان أصل النصرانية في الروم.

وذكر بعض أهل الأخبار أن مولد عيسى عليه السلام كان لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك أغوسطوس، وأن أغوسطوس عاش بعد ذلك بقية ملكه، وكان جميع ملكه ستاً وخمسين سنة - قال بعضهم: وأياماً.

قال: و وثبت اليهود بالمسيح، والرياسة ببيت المقدس في ذلك الوقت ليقصر، والملك على بيت المقدس من قبل قيصر هيردوس الكبير الذي دخلت عليه رسل ملك فارس الذين وجههم الملك إلى المسيح، فصار إلى هيردوس غلطا، وأخبروه أن ملك فارس بعث بهم ليقربوا إلى المسيح ألطافاً معهم من ذهب ومر ولبان، وأنهم نظروا إلى نجمه قد طلع، فعرفوا ذلك بالحساب وقربوا الألطاف إليه ببيت لحم من فلسطين. فلما عرف هيردوس خبرهم كاد المسيح، فطلبه ليقتله، فأمر الله الملك أن يقول ليوسف الذي كان مع مريم في الكنيسة ما أراد هيردوس من قتله، وأمره أن يهرب بالغلام وأمه إلى مصر، فلما مات هيردوس قال الملك ليوسف وهو بمصر: إن هيردوس قد مات، وملك مكانه أركلاوس ابنه، وذهب من كان يطلب نفس الغلام، فانصرف به إلى ناصرة من فلسطين ليتم قول شعيا النبي: من مصر دعوتك. ومات أركلاوس، وملك مكانه هيردوس الصغير، الذي صلب شبه المسيح في ولايته، وكانت الرياسة في ذلك الوقت لملوك اليونانية والروم، وكان هيردوس وولده من قبلهم، إلا أنهم كانوا يلقبون باسم الملك، وكان الملوك الكبار يلقبون بقيصر، وكان ملك بيت المقدس في وقت الصلب لهيردوس الصغير من قبل طيباريوس بن أغوسطوس دون القضاء، وكان القضاء لرجل رومي يقال له: فيلاطوس من قبل قيصر، وكانت رياسة الجالوت ليونن بن بهبوثن.

قال: وذكروا أن الذي شبه بعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي، يقال له: أيشوع بن فنديرا وكان ملك طيبا ريوس ثلاثاً وعشرين سنة وأياماً منها إلى وقت ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام، ومنها بعد ذلك خمس سنين.