غزوة أحد

قال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورءوسائهم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا؛ كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: لما أصيبت قريش - أو من قاله منهم - يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، فرجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه سلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة؛ وكل أولئك قد استعووا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وكان فقيراً ذا بنات، وكان في الأسارى، فقال: يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك! فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان ابن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤٌ شاعرٌ، فاعنا بلسانك، فأخرج معنا. فقال: إن محمداً قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه، فقال: بلى فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بنى كنانة. وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح؛ إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا جبير بن مطعم غلاماً له يقال له وحشى، كان حبشياً يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها. فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت عم محمد بعمى طعيمة بن عدي فأنت عتيقٌ.

فخرجت قريش بحدها وجدها وأحابيشها، ومن معها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة؛ ولئلا يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب - وهو قائد الناس، معه هند بنت عتبة ابن ربيعة - وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة - قال أبو جعفر: وقيل ببرة - بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية؛ وهي أم عبد الله ابن صفوان - وخرج عمرو بن العاص بن وائل بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد - وهي أم بني طلحة مسافع والجلاس وكلاب؛ قتلوا يومئذ وأبوهم - وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك ابن حسل، مع ابنها أبي عزيز بن عمير وهي أم مصعب بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة؛ وكانت هند بن عتبة بن ربيعة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت: إيهٍ أبا دسمة ! اشف واشتف - وكان وحشي يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة؛ من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت بقرأ فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام؛ وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.

ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء. فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة. وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد. فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال؛ وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: ألا يخرج إليهم؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضوره: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم؛ فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس؛ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.

فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم؛ حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لأمته؛ وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لنا.

قال أبو جعفر: وأما السدي؛ فإنه قال في ذلك غير هذا القول؛ ولكنه قال ما حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحداً، قال لأصحابه: أشيروا علي ما أصنع ! فقالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب، فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌ قط أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول - ولم يدعه قط قبلها - فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري، فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة؛ فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة، فقال له: بم ؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأني لا أفر من الزحف. قال: صدقت، فقتل يومئذ.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا ! نشير على رسول الله والوحي يأتيه ! فقاموا فاعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل؛ وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرج رجع عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم؛ فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا؛ قال الله عز وجل: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا "، فهم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله عز وجل، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: قالوا: لما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله؛ استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل؛ فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه؛ حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة أنخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، فقال: أطاعهم فخرج وعصاني؛ والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوهم ! قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم؛ ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبو إلا الانصراف عنه ، قال: أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم ! قال أبو جعفر: قال محمد بن عمر الواقدي: انخزل عبد الله بن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين بثلثمائة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، وكان المشركون ثلاثة آلاف، والخيل مائتي فرس، والظعن خمس عشرة امرأة.

قال: وكان المشركين سبعمائة دارع؛ كان في المسلمين مائة دارع؛ ولم يكم معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة بن نيار الحارثي. فأدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين حين طلعت الحمراء - وهما أطمان، كان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما؛ فيتحدثان فلذلك، سميا الشيخين، وهو في طرف المدينة - قال: وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلة بالشيخين بعد المغرب؛ فأجاز من أجاز، ورد من رد، قال: وكان فيمن رد زيد بن ثابت وابن عمر، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وعرابة بن أوس. قال: وهو الذي قال فيه الشماخ:

رأيت عرابة الأوسي ينمـي          إلى الخيرات منقطع القرين
إذا مارايةٌ رفعت لـمـجـدٍ              تلقاها عـرابة بـالـيمـين

قال: ورد أبا سعيد الخدري، وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد استصغر رافعاً، فقام على خفين له فيهما رقاع، وتطاول على أطراف أصابعه؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه.

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: كانت أم سمرة بن جندب تحت مرى بن سنان بن ثعلبة، عم أبي سعيد الخدري، فكان ربيبه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وعرض أصحابه، فرد من استصغر رد سمرة بن جندب، وأجاز رافع بن خديج، فقال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان: يا أبت، أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج، وردني وأنا أصرع رافع بن خديج، فقال: مرى بن سنان: يا رسول الله، رددت ابني، وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه ! فقال النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم لرافع وسمرة: تصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدها مع المسلمين.

قال: وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم أبو حثمة الحارثي.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه، فأصاب كلاب سيف، فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان يحب الفأل ولا يعتاف - لصاحب السيف: شم سيفك، فإني أرى السيوف ستسل اليوم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من رجلٌ يخرج بنا على القوم من كثبٍ، من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو حثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فقدمه فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك به في مال المربع بن قيظي - وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر - فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله؛ فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي؛ قال: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا؛ فهذا الأعمى البصر، الأعمى القلب. وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه، حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحدٌ حتى نأمره بالقتال؛ وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة المسلمين.

فقال رجل من المسلمين حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ! وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل؛ ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف وهو يومئذ معلمٌ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً، وقال: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.

فحدثنا هارون بن إسحاق: قال حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسٍحاق، عن البراء، قال: لما كان يوم أحد، ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير. وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.

فلما لقي القوم هزم المشركين حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن، وبدت خلاخيلهن، فجعلوا يقولون ،: الغنيمة الغنيمة ! فقال عبد الله: مهلاً، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم؛ فأصيب من المسلمين سبعون.

حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي: عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أقبل أبو سفيان في ثلاث ليال خلون من شوال، حتى نزل أحداً، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن في الناس فاجتمعوا، وأمر الزبير على الخيل؛ ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر ، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين؛ ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وقال: استقبل خالد بن الوليد؛ فكن بإزائه حتى أؤذنك، وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحن حتى أوذنكم.

وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد؛ فهزمه الله ومن معه، فقال: " ولقد صدقكم الله وعده " - إلى قوله - " من بعد ما أراكم ما تحبون" ؛ وإن الله عز وجل وعد المؤمنين أن ينصرهم؛ وأنه معهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناساً من الناس؛ فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كونوا ها هنا، فردوا وجه من فر منا، وكونوا حراساً لنا من قبل ظهورنا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم بعض لبعض، ورأوا النساء مصعدات في الجبل، ورأوا الغنائم: انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوا الغنيمة قبل أن يسبقونا إليها، وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا، فلذلك قوله لهم: " منكم من يريد الدنيا " الذين أرادوا الغنيمة، " ومنكم من يريد الآخرة " الذين قالوا: نطيع رسول الله ونثبت مكاننا، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يومئذ.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين؛ وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتم أننا قد هزمناهم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم. وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير.

ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام: فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة؛ فهل منكم أحدٌ يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار ! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار، أو تعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم يا بن عم ! فتركه، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لعلي: ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه. ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان.

فلما رأى خالد بن الوليد - وهو علي خيل المشركين - حمل فرمته الرماة فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة؛ وحمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل، تنادوا فشدوا على المسلمين، فهزموهم وقتلوهم.

فحدثني بشر بن آدم، قال: حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: حدثنا عبيد الله بن الوازع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال الزبير: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا في يده يوم أحد؛ فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ قال: فقمت فقلت: أنا يا رسول الله، قال: فأعرض عني، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقمت فقلت: أنا يا رسول الله، فأعرض عني، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ قال: فقام أبو دجانة سماك بن خرشة، فقال: أنا آخذه بحقه، وما حقه ؟ قال: حقه ألا تقتل به مسلماً، وألا تفر به عن كافر؛ قال: فدفعه إليه. قال: وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة؛ قال: فقلت: لأنظرن اليوم ما يصنع، قال: فجعل لايرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه؛ حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل، معهن دفوف لهن؛ فيهن امرأةٌ تقول:

نحن بنات طـارق          إن تقبلوا نعانـق
ونبسط النمـارق           أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
قال: فرفع السيف ليضربها، ثم كف عنها، قال: قلت: كل عملك قد رأيت، أرأيت رفعك للسيف عن المرأة بعد ما أهويت به إليها ! قال: فقال: أكرمت سيف رسول الله أن أقتل به امرأة .

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم؛ حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني؛ فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله؛ فأعطاه إياه - وكان أبو دحانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء يعصبها على رأسه علم الناس أنه سيقاتل - فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عصابته تلك، فعصب بها رأسه؛ ثم جعل يتبختر بين الصفين.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، عن رجل من الأنصار من بني سلمة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دحانة يتبختر: إنها لمشيةٌ يبغضها الله عز وجل إلا في هذا الموطن. وقد أرسل أبو سفيان رسولاً، فقال: يا معشر الأوس والخزرج، خلوا بيننا وبينم ابن عمنا ننصرف عنكم، فإنه لا حاجة لنا بقتالكم. فردوه بما يكره.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان بن أمة، أحد بني ضبيعة؛ وقد كان خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، معه خمسون غلاماً من الأوس؛ منهم عثمان ابن حنيف - وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر - فكان يعد قريشاً أن لو قد لقى محمداً لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس، كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق - وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق - فلما سمع ردهم عليه، قال: لقد أصاب قومي بعدي شر. ثم قاتلهم قتالا شديداً، ثم راضخهم بالحجارة، وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال: يا بنى عبد الدار، إنكم وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم؛ وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم؛ إذا زالت زالوا؛ فإنما أن تكفونا لواءنا؛ وإما أن تخلوا بيننا وبينه فسنكفيكموه. فهموا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءانا، ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع ! وذلك الذي أرتاد أبو سفيان. فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بن عتبة في النسوة اللواتي معها، وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم، فقالت هند فيما تقول:

إن تقبلوا نعانـق              ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق               فراق غير وامق

وتقول:

ويهاً بنى عبد الدار !              ويهاً حماة الأدبار !
ضرباً بكل بتـار

واقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دحانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين، فأنزل الله عز وجل نصره، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمة لا شك فيها.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، قال: قال الزبير: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل كثير؛ إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل؛ فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخٌ: ألا إن محمداً قد قتل ! فانكفأنا وانكفأ علينا القوم؛ بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحدٌ من القوم.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبنى أبي طلحة، حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه؛ وهو يقول: اللهم هل أعذرت ! فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر:

فخرتم باللواء وشـر فـخـرٍ                 لواءٌ حين رد إلـى صـواب
جعلتم فخركم فيهـا لـعـبـدٍ              من الأم من وطى عفر التراب

ظنتم والسفـيه لـه ظـنـونٌ              وما إن ذاك من أمر الصواب
بأن جلادنـا يوم الـتـقـينـا                بمكة بيعكم حمر الـعـياب
أقر العين أن عصـبـت يداه               وما إن تعصبان على خضاب

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حبان ابن علي، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، قال: لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم؛ ففرق جمعهم، وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي.

قال: ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةً من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جماعتهم؛ وقتل شيبة بن مالك أحد بنى عامر بن لؤي، فقال جبريل: يارسول الله، إن هذه للمواساة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه منى وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكما، قال: فسمعوا صوتا:

لا سيف إلا ذو الفقا             ر ولا فتى إلا على

قال أبو جعفر: فلما أتى المسلمون من خلفهم انكشفوا وأصاب منهم المشركون، وكان المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثاً: ثلث قتيل، وثلث جريح، وثلث منهزم؛ وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع، وأصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم السفلى، وشقت شفته، وكلم في وجنتيه وجبهته في أصول شعره، وعلاه ابن قميئة بالسيف على شقه الأيمن؛ وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم أحدٍ، كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيهم بالدم. وهو يدعوهم إلى الله عز وجل ! فأنزل الله عز وجل : " ليس لك من الأمر شيءٌ " الآية.

قال أبو جعفر: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم: من رجلٌ يشري لنا نفسه ! فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن، قال: فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: إنما هو عمارة بن زياد ابن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، ثم رجلاً، يقتلون دونه؛ حتى كان آخرهم زيادٌ - أو عمارة بن زياد بن السكن - فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت من المسلمين فئةٌ حتى أجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنوه منى، فأدنوه منه، فوسده قدمه؛ فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه؛ حتى كثرت فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعدٌ: فلقد رأيته يناولني ويقول: ارم فداك أبي وأمي ! حتى إنه ليناولني السهم ما فيه نصلٌ، فيقول: ارم به ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان؛ فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان؛ حتى وقعت على وجنته.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده؛ فكانت أحسن عينيه وأحدهما.

قال أبو جعفر: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميثة الليثي.

وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرجع إلى قريش، فقال: قتلت محمداً. فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي؛ وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني - وكان يكنى بأبي نيار - فقال له حمزة بن عبد المطلب: هلم إلي يا بن مقطعة البظور - وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختانة بمكة - فلما التقيا ضربه حمزة فقتله، فقال وحشي غلام جبير بن مطعم: والله إني لأنظر إلى حمزة يهذ الناس بسيفه، ما يليق شيئاً يمر به؛ مثل الجمل الأورق؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم إلي يا بن مقطعة البظور ! فضربه؛ فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في لبته حتى خرجت من بين رجليه، وأقبل نحوي، فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي؛ ثم تنحيت إلى العسكر؛ ولم يكن لي بشيء حاجة غيره.
وقد قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة؛ كلاهما يشعره سهماً؛ فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بني، من أصابك ؟ فيقول: سمعت رجلاً حين رماني يقول: خذها وأنا ابن الأقلح ! فتقول: أقلحي ! فنذرت لله إن الله أمكنها من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر. وكان عاصم قد عاهد الله ألا يمس مشركاً أبداً ولا يمسه.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ؛ أخو بني عدي بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر؛ عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم ؟ قالوا: قتل محمد رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا كراما، على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم استقبل القوم؛ فقاتل حتى قتل؛ وبه سمى أنس بن مالك.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة وطعنة فما عرفه إلا أخته ، عرفته بحسن بنانه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس: " قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم " - كما حدثني ابن شهاب الزهري - كعب بن مالك، أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا ! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أنصت.

فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين. فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد ! لا نجوت إن نجوت !فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا ؟ قال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة - قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها؛ ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً .

وكان أبي بن خلف - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فيقول: يا محمد إن عندى العود، أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه ! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا اقتلك إن شاء الله. فلما رجع إلى قريش، وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير؛ فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد. قالوا: ذهب والله فؤادك؛ والله إن بك بأس. قال: إنه قد كان بمكة قال لي: أنا أقتلك؛ فوالله لو بصق على لقتلني. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة.

قال: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس. ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه؛ فوجد له ريحاً فعافه؛ ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم؛ وصب على رأسه؛ وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يقول: والله ما حرصت على قتل رجل قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص؛ وإن كان ما علمت لسيئ الخلق، مبغضاً في قومه؛ ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله ".

حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: أتى ابن قميئة الحارثي أحد بني الحارث ابن عبد مناة بن كنانة، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر، فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه، فأثقله وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إلى عباد الله ! إلى عباد الله ! فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنبف، فحماه طلحة، فرمى بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي؛ وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل أنا أقتله، فقال: يا كذاب، أين تفر ! فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع؛ فجرح جرحاً خفيفاً، فوقع يخور خوار الثور؛ فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة، فما يجزعك ؟ قال :أليس قال: " لأقتلنك "! لو كانت بجميع ربيعة ومضر لقتلتهم ! فلم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.

وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي؛ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان ! يا قوم إن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم .

قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل؛ فإن رب محمد لم يقتل. فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد: اللهم أني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل؛ وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة؛ فلما رأوه وضع رجلٌ سهماً في قوسه، فأراد أن يرميه فقال: أنا رسول الله؛ ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله حياً، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن؛ فأقبلوا يذكرون الفتح، وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فقال الله عز وجل للذين قالوا: " إن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ": " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ".

فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وأهمهم أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لهم أن يعلونا؛ اللهم إن تقتل العصابة لا تعبد ! ثم ندب أصحابه، فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم؛ فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويومٌ بيوم بدر. وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب، وكان جنباً فغسلته الملائكة؛ وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر؛ وقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: قل: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: أفيكم محمداً !أما إنها قد كانت فيكم مثلة؛ ما أمرت بها ولا نهيت عنها؛ ولا سرتني ولا ساءتني؛ فذكر الله عز وجل إشراف أبي سفيان عليهم، فقال: " فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم "، والغم الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني إشارف العدو عليهم، " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " من الغنيمة " ولا ما أصابكم " من القتل حين تذكرون. فشغلهم أبو سفيان.

قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عنه - بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب؛ ومعه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا؛ فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها. وقد كان بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع؛ فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، ، عن الزبير ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع.

قال أبو جعفر: وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى بعضهم إلى المنقى دون الأعوص، وفر عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان " رجلان من الأنصار "؛ حتى بلغوا الجلعب " جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص "، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.

قال أبو جعفر: وقد كان حنظلة بن أبي عامر الغسيل، التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود - وكان يقال له: ابن شعوب - قد علا أبا سفيان، فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم - يعنى حنظلة - لتغسله الملائكة. فسلوا أهله: ما شأنه ؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة، فقال شداد ابن الأسود في قتله حنظلة:

لأحمين صاحبي ونفسـي            بطعنةٍ مثل شعاع الشمس

وقال أبو سفيان بن حرب، وهو يذكر صبره ذلك اليوم، ومعاونة ابن شعوب شداد بن الأسود إياه على حنظلة:

ولو شئت نجتني كميتٌ طـمـرةٌ                  ولم أحمل النعماء لابن شـعـوب
فما زال مهرى مزجر الكلب منهم                لدى غدوةٍ حتى دنت لـغـروب
أقاتلـهـم وأدعـى يال غـالـبٍ                      وأدفعهم عني بركـن صـلـيب
فبكى ولا ترعى مـقـالة عـاذلٍ                   ولا تسأمى من عبرةٍ ونـجـيب
أباك وإخواناً له قد تـتـابـعـوا                       وحق لهم من عبرةٍ بـنـصـيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني        قتلت من النجار كـل نـجـيب
ومن هاشم قرماً نجيباً ومصعـبـاً               وكان لدى الهيجاء غـير هـيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونـتـي             لكانت شجي في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منـهـم                  لهم خدبٌ من مغـبـطٍ وكـئيب
أصابهم من لم يكـن لـدمـائهـم                 كفياً ولا في خـطةٍ بـضـريب

فأجابه حسان بن ثابت فقال:

ذكرت القروم الصيد من آل هاشمٍ                ولست لزورٍ قلته بـمـصـيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهـم                   نجيباً وقد سمـيتـه بـنـجـيب
ألم يقتلوا عمراً وعتـبة وابـنـه                     وشيبة والحجاج وابن حبـيب !
غداة دعا العاصي عليا فـراعـه                   بضربة عضبٍ بله بخـضـيب

وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:

ولولا دفاعي يا بن حربٍ ومشهدي            لألفيت يوم النعف غير مـجـيبٍ
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت                ضباعٌ عليه أو ضـراء كـلـيب

وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله:

وما زال مهري مزجر الكلب منهم

وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر:

وإنك لو عاينت ما كان منهـم                  لأبت بقلبٍ ما بقيت نـخـيب
لدى صحن بدرٍ أو لقامت نوائحٌ               عليك، ولم تحفل مصاب حبيب
جزيتهم يوماً ببدر كـمـثـلـه                    على سابحٍ ذي ميعة وشبـيب

قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدعن الآذان وألأنوف؛ حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشياً، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب قال لحسان: يا بن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها، قائمة على صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة ! فقال له حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وأنا على رأس فارع - يعني أطمه - فقلت: والله إن هذه لسلاحٌ ما هي بسلاح العرب؛ وكأنها إنما تهوي إلى حمزة؛ ولا أدري. أسمعني بعض قولها أكفيكموها؛ قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هنداً:

أشرت لكاع وكان عادتهـا                لؤماً إذا أشرت مع الكفر
لعن الإله وزوجها معهـا                   هند الهنود عظيمة البظر
أخرجت مرقصةً إلى أحدٍ                 في القوم مقتبةً على بكر
بكرٍ ثفـال لا حـراك بـه                    لا عن معاتبةٍ ولا زجـر
وعصاك إستك تتقين بهـا               دقى العجاية هند بالفهـر
قرحت عجيزتها ومشرجها               من دأبها نصا على القتـر
ظلت تداويها زميلـتـهـا                   بالماء تنضحه وبالـسـدر
أخرجت ثـائرةً مـبـادرةً                    بأبيك وابنك يوم ذي بـدر
وبعمك المستوه فـي ردعٍ               وأخيك منعفرين في الجفر
ونسيت فاحشةً أتيت بـهـا           يا هند، ويحك سبة الدهر
فرجعت صاغرةً بلا تـرةٍ                 منا ظفرت بها ولا نصـر
زعم الولائد أنهـا ولـدت                ولداً صغيراً كان من عهر

قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم -فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل.

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: ثم إن أبا سفيان أشرف علينا، فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه؛ مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتجيبوه، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت ياعدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك ! فقال: اعل هبل ! اعل هبل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل ! قال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول ؟ قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ! قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال؛ أما إنكم ستجدون في القوم مثلاً لم آمر بها ولم تسؤني.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في حديثه: لما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيته فانظر ما شأنه ؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً ؟ فقال عمر: اللهم لا؛ وإنه ليسمع كلامك الآن، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر؛ لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمداً. ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاهم مثلٌ والله ما رضيت ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت.

وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة؛ وهو يومئذ سيد الأحابيش، قد مر بأبي سفيان بن حرب، وهو يضرب في شدق حمزة يزج الرمح؛ وهو يقول ذق عقق ! فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بأبن عمه كما ترون لحماً ! فقال: اكتمها، فإنها كانت زلة؛ فلما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل نعم هي بيننا وبينك موعد.

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون ! فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل، وامتطوا الإبل؛ فإنهم يريدون مكة؛ وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل؛ فهم يريدون المدينة؛ فوالذي نفسي بيده؛ لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؛ فلما اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني. قال عليٌ عليه السلام: فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح؛ ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بي من الفرح؛ إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة.

وفرغ الناس لقتلاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخي بني النجار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من رجلٌ ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع ؟ - وسعد أخو بني الحارث بن الخزرج - أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل؛ فنظر فوجده جريحاً في القتلى به رمق، قال: فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر له: أفي الأحياء أنت أم في الأموات ؟ قال: فأنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته؛ وأبلغ عني قومك السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وفيكم عينٌ تطرف. ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت رسول الله فأخبرته خبره. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى بحمزة ما رأى، قال: لو لا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أنا أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على ما فعل بعمه، قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أخبرني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، قال ابن حميد، قال سلمة: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل أنزل في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين "، إلى آخر السورة، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.

قال ابن إسحاق: وأقبلت - فيما بلغني - صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة - وكان أخاها لأبيها وأمها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فارجعها، لا ترى ما بأخيها. فلقيها الزبير فقال لها: يا أمه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فقالت: ولم، وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان من ذلك ! لاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه؛ واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: فزعم بعض آل عبد الله بن جحش - وكان لأميمة بنت عبد المطلب خاله حمزة؛ وكان قد مثل به كما مثل بحمزة؛ إلا أنه لم يبقر عن كبده - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفنه مع حمزة في قبره، ولم أسمع ذلك إلا عن أهله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد وقع حسيل بن جابر - وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان - وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه؛ وهما شيخان كبيران: لا أبا لك ! ما تنتظر ؟ فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار ؛إنما نحن هامة اليوم أو غد؛ أفلا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعل الله عز وجل يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأخذا أسيافهما، ثم خرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما؛ فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر، اليمان، فاختلف عليه أسياف المسليمن فقتلوه؛ ولا يعرفونه. فقال حذيفة: أبي ! قالوا: والله إن عرفناه.

وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ! فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسليمن، فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رجلاً منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد، فأتى به إلى دار قومه وهو يموت؛ فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولن من الرجال والنساء: أبشر يا بن حاطب بالجنة، قال: وكان حاطب شيخاً قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فقال: بأي شيء، تبشرونه، أبجنة من حرمل ! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني به ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجلٌ أتى لا يدرى من أين هو، يقال له قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار؛ فلما كان يوم أحد، قاتل قتالاً شديداً، فقتل هو وحده ثمانيةً من المشركين أو تسعة، وكان شهماً شجاعاً ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجالٌ من المسلمين يقولن: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر ! قال: بم أبشر ! والله إن قاتلت إلا على أحساب قومي؛ ولولا ذلك ما قاتلت؛ فلما اشتدت عليه جراحته، أخذ سهماً من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات؛ فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أشهد أنى رسول الله حقاً ! وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي، وكان أحد بني ثعلبة ابن الفطيون، لما كان ذلك اليوم قال: يا معشر يهود؛ والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌ. قالوا: إن اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته. وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني: مخيريق خير يهود.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وقد احتمل ناسٌ من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن أشياخ من بني سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ حين أمر بدفن القتلى: انظروا عمرو بين الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام. فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، فاجعلوهما في قبر واحد. قال: فلما احتفر معاوية القناة أخرجا وهما يثنيان كأنما دفنا بالأمس.

قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش - كما ذكر لي - فنعى لها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له؛ ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن زوج المرأة منها لبمكان؛ لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها.

قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له ! فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد؛ فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيراً يا أم فلان؛ هو بحمد الله كما تحبين؛ قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جللٌ ! قال أبو جعفر: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، وناولها عليٌ عليه السلام سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه؛ فوالله لقد صدقني اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وزعموا أن علي بن أبي طالب حين أعطى فاطمة عليهما السلام سيفه قال:

أقاطم هاك السـيف غـير ذمـيم                فلست بـرعـديدٍ ولا بـمـلـيم
لعمري لقد قاتلت في حب أحمـدٍ            وطاعة ربٍ بالـعـبـاد رحـيم
وسيفي بكفي كالشـهـاب أهـزه             أجذ به من عـاتـقٍ وصـمـيم
فما زلت حتى فض ربي جموعهم           وحتى شفينا نفس كـل حـلـيم

وقال أبو دجانة حين أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل به قتالاً شديداً - وكان يقول:

رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولولت؛ فإذا امرأة؛ فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة - وقال أبو دجانة:

أن الذي عاهدني خلـيلـي         ونحن بالسفح لدى النخـيل
ألا أقوم الدهر في الكـيول           أضرب بسيف الله والرسول