غزوة بني قريظة

فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلةٍ عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج، فقال: أقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال نعم، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح وما رجعت الآن إلا من طلب القوم؛ إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إلى بني قريظة.

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً، فأذن في الناس: إن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.

وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي بن أبي طالب عليه السلام؛ حتى إذا دنا من الحصون، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؛ فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث ! قال: لم ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى ! قال: نعم يا رسول الله. لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم، قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته ! قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد ؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي، على بغلة بيضاء، عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم، يقال لها بئر أنا؛ فلاحق به الناس، فأتاه رجالٌ من بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، لشيء لم يكن لهم منه بد من حربهم؛ وأبوا أن يصلوا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: حتى تأتوا بني قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة. فما عابهم الله بذلك في كتابه؛ ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري .

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد ابن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد قبة في المسجد، ووضع السلاح - يعني عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق - ووضع المسلمون السلاح، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال: أوضعتم السلاح ! فوالله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إليهم فقاتلهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلأمته فلبسها، ثم خرج وخرج المسلمون؛ فمر ببني غنم، فقال: من مر بكم ؟ قالوا: علينا دحية الكلبي - وكان يشبه سنته ولحيته ووجهه بجبريل عليه السلام - حتى نزل عليهم، وسعدٌ في قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فحاصرهم شهراً - أو خمساً وعشرين ليلة - فلما اشتد عليهم الحصار قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله، فأشار أبو لبابة بن عبد المنذر إنه الذبح، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكمه، فنزلوا ، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمار بإكاف من ليف، فحمل عليه. قالت عائشة: لقد كان برأ كلمه حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة؛ حتى جهدهم الحصار؛ وقذف الله في قلوبهم الرعب - وقد كان حيى بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن اسد بما كان عاهده عليه - فلما ايقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم ! قالوا: وما هن ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه؛ فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذه علي فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجلا مصلتين السيوف؛ ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا؛ حتى يحكم الله بيننا وبين محمد؛ فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء ولأبناء.

قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؛ فما خير العيش بعدهم ! قال: فإذا أبيتم هذه على فإن الليلة ليلة السبت؛ وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها؛ فانزلوا لعلنا نصيب محمد وأصحابه غرةً.

قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت. فأصابه من المسخ ما لم يخفف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.

قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر؛ أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا حلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال، وبهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد ! قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح؛ قال: قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله.

ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت؛ وعاهد الله ألا يطأ بني قريظة أبداً.

وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وأبطأ عليه - وكان قد استبطأه - قال: أما لو جاءني لا ستغفرت له؛ فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن فضل، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو في بيت أم سلمة.

قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك ! قال: تيب على أبي لبابة، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله ! قال: بلى إن شئت؛ قال: فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - فقالت: يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك. قال: فثار الناس إليه ليطلقوه؛ فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجاً إلى الصبح أطلقه.

قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد - وهم نفر من بني هدل؛ ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك - هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة؛ فلما رآه قال: من هذا ؟ قال: عمرو بن سعدي - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: لا أغدر بمحمد أبداً - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني عثرات الكرام. ثم خلى سبيله؛ فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة. ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا ! فذكر لرسول اله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال: ذاك الرجل نجاه الله بوفائه.

قال ابن إسحاق: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاةً لا يدري أين يذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المقالة. والله أعلم.

قال ابن إسحاق. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس. فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قنينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه؛ فسأله إياهم عبد الله بن أبي سلول، فوهبهم له.

فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ! قالوا: بلى: قال: فذاك إلى سعد بن معاذ - وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب - فلما حكمه رسول اله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه، فاحتملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدمٍ - وكان رجلاً جسيماً - ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال: قد أني لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.

قال أبو جعفر: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، في حديث ذكره، قال: قال أبو سعيد الخدري: فلما طلع - يعني سعداً - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم - أو قال: إلي خيركم - فأنزلوه، فقال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم. فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: وأما ابن إسحاق فإنه قال في حديثه: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت ! قالوا: نعم، قال: وعلى من ها هنا ؟ - في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث، امرأة من بني النجار. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق؛ يخرج بهم إليه أرسالاً؛ وفيهم عدو الله حيى بن أخطب، وكعب بن أسد، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة؛ المكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة.

وقد قالوا لكعب بن أسد - وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً -: يا كعب، ما ترى ما يصنع بنا ! فقال كعب: في كل موطن لا تعقلون: ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل ! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بحيى بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك؛ ولكنه من يخذل الله يخذل.

ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمةٌ قد كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي:

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه           ولكنه من يخذل اللـه يخـذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها          وقلقل يبغي العز كل مقلقـل

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة.

قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، وتضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق؛ إذ هتف هاتفٌ باسمها: أين فلانة ؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك مالك ! قالت: أقتل ! قلت: ولم ؟ قالت: حدثٌ أحدثته. قالت: فانطلق بها فضربت عنقها. فكانت عائشة تقول: ما أنسى عجبنا منها، طيب نفس وكثرة ضحك، وقد عرفت أنها تقتل ! وكان ثابت بن قيس بن شماس - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - أتى الزبير بن باطا القرظي - وكان يكنى أبا عبد الرحمن - وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية.

قال محمد: مما ذكر لي بعض ولد الزبير، أنه كان من عليه يوم بعاث؛ أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله - فجاءه وهو شيخ كبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني ؟ قال: وهو يجهل مثلي مثلك ! قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم. ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ قد كانت للزبير عندي يدٌ؛ وله علي منةٌ؛ وقد أحببت أن أجزيه بها؛ فهب لي دمه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك، فأتاه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد؛ فما يصنع بالحياة ! فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله، أهله ولده، قال: هم لك، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك.

قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاءهم ! فأتى ثابتٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ماله ! قال: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك، قال: أي ثابت ! ما فعل الذي كأنه وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذاري الحي، كعب بن أسد ؟ قال: قتل، قال: فما فعل الحاضر والبادي، حيى بن أخطب ؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا؛ عزال بن شمويل ؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا، قتلوا. قال: فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت ،إلا ألحقتني بالقوم؛ فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر الله قبلة دلو نضج حتى ألقى الأحبة ! فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ أبا بكر قوله: ألقى الأحبة قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالداً فيعا مخلداً أبداً. فقال ثابت بن قيس بن الشماس في ذلك، يذكر الزبير بن باطا :"

وفت ذمتـي أنـي كـريمٌ وأنـنـي         صبورٌ إذا ما القوم حادوا عن الصبر
وكان زبيرٌ أعظـم الـنـاس مـنةً          على فلما شد كـوعـاه بـالأسـر
أتيت رسول اللـه كـيمـا أفـكـه         وكان رسول الله بحراً لنـا يجـري

قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أيوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، أخي بني عدي بن النجار؛ أن سلمى بنت قيس أم المنذر أخت سليط بن قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صلت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء - سألته رفاعة بن شمويل القرظي - وكان رجلاً قد بلغ ولاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك - فقالت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي ! هب لي رفاعة بن شمويل؛ فإنه قد زعم أنه سيصلي، ويأكل لحم الجمل؛ فوهبه لها؛ فاستحيته.

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم؛ للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل ممن ليس له فرسٌ سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرساً، وكان أول فىء وقع فيه السهمان وأخرج منه الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازي؛ ولم يكن يسهم للخيل إذا كانت مع الرجل إلا لفرسين.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري، أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلاً وسلاحاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله، بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. فتركها؛ وقد كانت حين سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعصت بالإسلام، وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه لذلك من أمرها؛ فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، ، فقال: إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك.

فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا - كما حدثني ابن وكيع، قال: حدثنا ابن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو؛ قال: حدثني أبي، عن علقمة، في خبر ذكره عن عائشة: ثم دعا سعد بن معاذ - بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم - فقال: اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أقاتل أو أجاهد من قوم كذبوا رسولك. اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها، وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضي إليك. فانفجر كلمه، فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد. قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر؛ فوالذي نفس محمد بيده؛ إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وإني لفي حجرتي. قالت: وكانوا كما قال الله عز وجل: " رحماء بينهم " قال علقمة: أي أمه ! كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد؛ ولكنه كان إذا اشتد وجده على أحد، أو إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته .

حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم بني قريظة خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو ابن بلحارث بن الخزرج، طرحت عليه رحى فشدخته شدخاً شديداً. ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان، أخو بني أسد بن خزيمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة، فدفن في مقبرة بني قريظة. ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخندق، قال: الآن نغزوهم - يعني قريشاً - ولا يغزوننا، فكان كذلك حتى فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة.

وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة أو في صدر ذي الحجة، في قول ابن إسحاق. وأما الواقدي فإنه قال: غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، لليال بقين منه؛ وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يشق لبني قريظة في الأرض أخاديد ثم جلس؛ فجعل علي والزبير يضربان أعناقهم بين يديه، وزعم أن المرأة التي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ كانت تسمى بنانة، امرأة الحكم القرظي، كانت قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحى، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب عنقها بخلاد بن سويد.

واختلف في وقت غزوة النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق؛ وهي الغزوة التي يقال لها غزوة المريسيع - والمريسيع اسم ماء من مياه خزاعة بناحية قديد إلى الساحل - فقال: ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست من الهجرة.

وقال الواقدي: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم المريسيع في شعبان سنة خمس من الهجرة. وزعم أن غزوة الخندق وغزوة بني قريظة كانتا بعد المريسيع لحرب بني المصطلق من خزاعة.

وزعم ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف بعد فراغه من بني قريظة؛ وذلك في آخر ذي القعدة أو في صدر ذي الحجة - فأقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وولى الحجة في سنة خمس المشركون.