حجة الوداع

فلما دخل ذو القعدة من هذه السنة - أعني سنة عشر - تجهز النبي إلى الحج ، فأمر الناس بالجهاز له . فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ؛ عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ؛ حتى إذا كان بسرف ، وقد ساق رسول الله معه الهدى وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدى ، وحضت ذلك اليوم ؛ فدخل علي وأنا أبكي ؛ فقال : مالك يا عائشة ؟ لعلك نفست ! فقلت : نعم ، لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر ، قال : لا تفعلي ؛ لا تقولن ذلك ؛ فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج ؛ إلا أنك لا تطوفين بالبيت . قالت : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ؛ فحل كل من كان لا هدى معه ، وحل نساؤه بعمرة ؛ فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير ، فطرح في بيتي ، قلت : ما هذا ؟ قالوا : ذبح رسول الله عن نسائه البقر ؛ حتى إذا كانت ليلة الحصبة ، بعثني رسول الله مع أخي عبد الرحمن بن أبي بكر ، لأقضي عمرتي من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى نجران ، فلقيه بمكة ؛ وقد أحرم ؛ فدخل علي على فاطمة ابنة رسول الله ، فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : مالك يا ابنة رسول الله ؟ قالت : أمرنا رسول الله أن نحل بعمرة ؛ فأحللنا ، قال : ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من الخبر عن سفره ، قال له رسول الله : انطلق فطف بالبيت ، وحل كما حل أصحابك ، فقال : يا رسول الله ، إني قد أهللت بما أهللت به ؛ قال : ارجع فاحلل كما حل أصحابك ، قال : قلت : يا رسول الله ، إني قلت حين أحرمت : اللهم إني أهللت بما أهل به عبدك ورسولك ؛ قال : فهل معك من هدى ؟ قال : قلت : لا ، قال : فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله ؛ حتى فرغا من الحج ، ونحر رسول الله الهدى عنهما .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، قال : لما أقبل علي بن أبي طالب من اليمن ليلقي رسول الله بمكة تعجل إلى رسول الله ، واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل ، فكسا رجالاً من القوم حللاً من البز الذي كان مع علي بن أبي طالب ؛ فلما دنا جيشه ؛ خرج علي ليلقاهم ؛ فإذا هم عليهم الحلل ، فقال : ويحك ما هذا ! قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ، فقال : ويلك ! انزع من قبل أن تنتهي إلى رسول الله . قال : فانتزع الحلل من الناس ، وردها في البز ؛ وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب ابن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد ، قال : شكا الناس علي بن أبي طالب ، فقام رسول الله فينا خطيباً ، فسمعته يقول : يأيها الناس ؛ لا يشكوا علياً ، فو الله إنه لأخشى في ذات الله - أو في سبيل الله - من أن يشكي .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، قال : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه ؛ فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ؛ وخطب الناس خطبته التي بين للناس فيها ما بين ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ ثم قال : أيها الناس ، اسمعوا قولي ؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، بهذا الموقف أبداً . أيها الناس ؛ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ؛ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وحرمة شهركم هذا ؛ وستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم . وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن كل رباً موضوع ، ولكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون . قضى الله أنه لا ربا . وإن ربا العباس بن عبد الطلب موضوع كله ، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان مسترضعاً في بني ليث ، فقتلته بنو هذيل - فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية .

أيها الناس ؛ إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ؛ ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم .

أيها الناس : "إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله" ، ويحرموا ما أحل الله ؛ وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ؛ و "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم" ، ثلاثة متوالية ؛ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .

أما بعد أيها الناس ؛ فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً ، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين يفاحشة مبينة ؛ فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ؛ فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي ؛ فإني قد بلغت وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ؛ كتاب الله وسنة نبيه .

أيها الناس ، اسمعوا قولي فإني قد بلغت ، واعقلوه . تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ؛ فلا تظلموا أنفسكم . اللهم هل بلغت ! قال : فذكر أنهم قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله : اللهم أشهد .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : كان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله وهو على عرفة ، ربيعة بن أمية بن خلف ، قال : يقول له رسول الله : قل : أيها الناس ؛ إن رسول الله يقول : هل تدرون أي شهر هذا ! فيقولون : الشهر الحرام ، فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا . ثم قال : قل : إن رسول الله ، يقول : أيها الناس ؛ فهل تدرون أي بلد هذا ؟ قال : فيصرخ به ، فيقولون : البلد الحرام ، قال : فيقول : قل : إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة بلدكم هذا . ثم قال : قل : أيها الناس ، هل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال لهم ، فقالوا : يوم الحج الأكبر ، فقال : قل : إن الله حرم عليكم أموالكم ودماءكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، أن رسول الله حين وقف بعرفة ، قال : هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف . وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة : هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف . ثم لما نحر بالمنحر ، قال : هذا المنحر ، وكل مني منحر ؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج وقد أراهم مناسكهم ، وعلمهم ما افترض عليهم في حجهم في المواقف ورمى الجمار والطواف بالبيت ، وما أحل لهم في حجهم وما حرم عليهم ؛ فكانت حجة الوداع وحجة البلاغ ؛ وذلك أن رسول الله لم يحج بعدها .