كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للأمراء

كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للأمراء

ففصلت الأمراء من ذي القصة ، ونزلوا على قصدهم ، فلحق بكل أمير جنده ، وقد عهد إليهم عهده ، وكتب إلى من بعث إليه من جميع المرتدة .

حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ؛ وشاركه في العهد والكتاب قحذم ؛ فكانت الكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتاباً واحداً : بسم الله الرحمن الرحيم . من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة ؛ أقام على إسلامه أو رجع عنه . سلام على من اتبع الهدى ، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى ؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، نقر بما جاء به ، ونكفر من أبي ونجاهده . أما بعد ؛ فإن الله تعالى أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين . فهدى الله بالحق من أجاب إليه ، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه ؛ حتى صار إلى الإسلام طوعاً وكرهاً . ثم توفي الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله ، ونصح لأمته ؛ وقضى الذي عليه ، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل ؛ فقال : "إنك ميت وإنهم ميتون" ، وقال : "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون" ، وقال للمؤمنين : "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين" ؛ فمن كان إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد ؛ حي قيوم لا يموت ؛ ولا تأخذه سنة ولا نوم ، حافظ لأمره ، منتقم من عدوه ، يجزيه . وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله ، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وأن تهتدوا بهداه ، وأن تعتصموا بدين الله ، فإن كل من لم يهده الله ضال ، وكل من لم يعافه مبتلي ، وكل من لم يعنه الله مخذول ، فمن هداه الله كان مهتدياً ، ومن أضله كان ضالاً ؛ قال الله تعالى : "من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً" ، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به ؛ ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل . وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به ؛ اغتراراً بالله ، وجهالة بأمره ، وإجابة للشيطان ، قال الله تعالى : "وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً" . وقال : "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" ؛ وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله ؛ فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه ؛ ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ؛ ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه ، وأن يحرقهم بالنار ، ويقتلهم كل قتلة ، وأن يسبى النساء والذرارى ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام ؛ فمن اتبعه فهو خير له ، ومن تركه فلن يعجز الله . وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم ؛ والداعية الأذان ؛ فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم ؛ وإن لم يؤذنوا عاجلوهم ؛ وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم ؛ فإن أبوا عاجلوهم ، وإن أقروا قبل منهم ؛ وحملهم على ما ينبغي لهم .

فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود ، وخرجت الأمراء ومعهم العهود : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام ، وعهد إليه أن يتقى الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته ، وأمره بالجد في أمر الله ، ومجاهدة من تولى عنه ، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام ؛ فإن أجابوه أمسك عنهم ، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ؛ ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم ، فيأخذ ما عليهم ، ويعطيهم الذي لهم ؛ لا ينظرهم ، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم ؛ فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف ؛ وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله ؛ فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل ؛ وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به ، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان ؛ وحيث بلغ مراغمه ،لا يقبل من أحد شيئاً أعطاه إلا الإسلام ؛ فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ، ومن أبى قاتله ؛ فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران ، ثم قسم ما أفاء الله عليه ، إلا الخمس فإنه يبلغناه ، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد ، وألا يدخل فيهم حشواً حتى يعرفهم ويعلم ما هم ؛ لا يكونوا عيوناً ، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم ، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ، ولا يعجل بعضهم عن بعض ، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول .

ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد وبدر بن الخليل وهشام بن عروة ، قالوا : لما أرزت عبس وذبيان ولفها إلى البزاخة ، أرسل طليحة إلى جديلة والغوث أن ينضموا إليه ، فتعجل إليه أناس من الحيين ، وأمروا قومهم باللحاق بهم ، فقدموا على طليحة ، وبعث أبو بكر عدياً قبل توجيه خالد من ذي القصة إلى قومه ، وقال : أدركهم لا يؤكلوا . فخرج إليهم فقتلهم في الذروة والغارب ، وخرج خالد في أثره ، وأمره أبو بكر أن يبدأ بطيئ على الأكناف ، ثم يكون وجهه إلى البزاخة ، ثم يثلث بالبطاح ، ولا يريم إذا فرغ من قوم حتى يحدث إليه ، ويأمره بذلك . وأظهر أبو بكر أنه خارج إلى خيبر ومنصب عليه منها حتى يلاقيه بالأكناف ، أكناف سلمى ؛ فخرج خالد فازوار عن البزاخة ، وجنح إلى أجأ ، وأظهر أنه خارج إلى خيبر ، ثم منصب عليهم ، فقعد ذلك طيئاً وبطأهم عن طليحة ؛ وقدم عليهم عدي ؛ فدعاهم فقالوا : لا نبايع أبا الفصيل أبداً ، فقال : لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم ، ولتكننه بالفحل الأكبر ؛ فشأنكم به . فقالوا له : فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا ، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم . فاستقبل عدي خالداً وهو بالسنح ، فقال : يا خالد ، أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك ؛ وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار ؛ وتشاغل بهم ؛ ففعل . فعاد عدي إليهم وقد أرسلوا إخوانهم ؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد لهم ؛ ولولا ذلك لم يتركوا ؛ فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد ، وارتحل خالد نحو الأنسر يريد جديلة ، فقال له عدي : إن طيئاً كالطائر ، وإن جديلة أحد جناحي طيئ ؛ فأجلني أياماً لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث ؛ ففعل ، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه ؛ فجاءه بإسلامهم ، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب ؛ فكان خير مولود ولد في أرض طيئ وأعظمه عليهم بركة .

وأما هشام بن الكلبي ؛ فإنه زعم أن أبا بكر لما رجع إليه أسامة ومن كان معه من الجيش ؛ جد في حرب أهل الردة ، وخرج بالناس وهو فيهم حتى نزل بذي القصة ؛ منزلا من المدينة على بريد من نحو مجد ؛ فعبى هنالك جنوده ، ثم بعث خالد بن الوليد على الناس ، وجعل ثابت بن قيس على الأنصار ، وأمره إلى خالد ، وأمره أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن ، وهما على بزاخة ؛ ماء من مياه بني أسد ؛ وأظهر أني ألاقيك بمن معي من نحو خيبر ، مكيدة ؛ وقد أوعب مع خالد الناس ؛ ولكنه أراد أن يبلغ ذلك عدوه فيرعبهم . ثم رجع إلى المدينة ، وسار خالد بن الوليد ؛ حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم - أحد بني العجلان حليفاً للأنصار - طليعة ؛ حتى إذا دنوا من القوم خرج طليحة وأخوه سلمة ، ينظران ويسألان : فأما سلمة فلم يمهل ثابتاً أن قتله ، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه أن أعني على الرجل ؛ فإنه آكل ؛ فاعتونا عليه ، فقتلاه ثم رجعا ، وأقبل خالد بالناس حتى مروا بثابت بن أقرم قتيلاً ، فلم يفطنوا له حتى وطئته المطئ بأخفافها ، فكبر ذلك على المسلمين ، ثم نظروا فإذا هم بعكاشة بن محصن صريعاً ؛ فجزع لذلك المسلمون ، وقالوا : قتل سيدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم ؛ فانصرف خالد نحو طيئ .

قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثني سعد بن مجاهد ، عن المحل ابن خليفة ، عن عدي بن حاتم ، قال : بعثت إلى خالد بن الوليد أن سر إلى فأقم عندي أياماً حتى أبعث إلى قبائل طيئ ، فأجمع لك منهم أكثر ممن معك ، ثم أصحبك إلى عدوك . قال : فسار إلى .

قال هشام : قال أبو مخنف : حدثنا عبد السلام بن سويد أن بعض الأنصار حدثه أن خالداً لما رأى ما بأصحابه من الجزع عند مقتل ثابت وعكاشة ، قال لهم : هل لكم إلى أميل بكم إلى حي من أحياء العرب ؛ كثير عددهم ، شديدة شوكتهم ، لم يرتد منهم عن الإسلام أحد ! فقال له الناس : ومن هذا الحي الذي تعني ؟ فنعم والله الحي هو ! قال لهم : طيئ ؛ فقالوا : وفقك الله ، نعم الرأى رأيت ! فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيئ .

قال هشام : حدثني جديل بن خباب النبهاني من بني عمرو بن أبي ، أن خالداً جاء حتى نزل على أرك ؛ مدينة سلمى .

قال هشام : قال أبو مخنف : حدثني إسحاق أنه نزل بأجأ ، ثم تعبى لحربه ، ثم سار حتى التقيا على بزاخة ، وبنو عامر على سادتهم وقادتهم قريباً يستمعون ويتربصون على من تكون الدبرة .

قال هشام عن أبي مخنف : حدثني سعد بن مجاهد ، أنه سمع أشياخاً من قومه يقولون : سألنا خالداً أن نكفيه قيساً فإن بني أسد حلفاؤنا ، فقال : والله ما قيس بأوهن الشوكتين ، اصمدوا إلى أي القبلتين أحببتم ؛ فقال عدي : لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه ، فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لجلفهم ! لا لعمر الله لا أفعل ! فقال له خالد : إن جهاد الفريقين جميعاً جهاد ؛ لا تخالف رأى أصحابك ، امض إلى أحد الفريقين ، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط .

قال هشام ، عن أبي مخنف : فحدثني عبد السلام بن سويد ، أن خيل طيئ كانت تلقي خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم فيتشامون ولا يقتتلون ، فتقول أسد وفزارة : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً . فتقول لهم خيل طيئ : أشهد ليقاتلنكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر ! فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال : حدثت أن الناس لما اقتتلوا ، قاتل عيينة مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديداً ، وطليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر ، يتنبأ لهم ، والناس يقتتلون ، فلما هزت عيينة الحرب ، وضرس القتال ، كر على طليحة ، فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : لا ، قال : فرجع فقاتل حتى إذا ضرس القتال وهزته الحرب كر عليه فقال : لا أبا لك ! أجاءك جبريل بعد ؟ قال : لا والله ، قال : يقول عيينة حلفاً : حتى متى ! قد والله بلغ منا ! قال : ثم رجع فقاتل ، حتى إذا بلغ كر عليه ، فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : نعم ، قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : (( إن لك رحاً كرحاه ، وحديثاً لا تنساه )) ، قال : يقول عيينة : أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه ؛ يا بني فزارة هكذا ؛ فانصرفوا ؛ فهذا والله كذاب . فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة يقولون : ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعد فرسه عنده ، وهيأ بعيراً لامرأته النوار ، فلما أن غشوه يقولون : ماذا تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه ، وحمل امرأته ثم نجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل ؛ ثم سلك الحوشية حتى لحق بالشأم وارفض جمعه ؛ وقتل الله من قتل منهم ، وبنو عامر قريباً منهم على قادتهم وسادتهم ؛ وتلك القبائل من سليم وهوازن على تلك الحال ؛ فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع ، أقبل أولئك يقولون : ندخل فيما خرجنا منه ، ونؤمن بالله ورسوله ، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا .

قال أبو جعفر : وكان سبب ارتداد عيينة وغطفان ومن ارتد من طيئ ما حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري قال : حدثنا شعيب عن سيف - عن طلحة بن الأعلم عن حبيب ابن ربيعة الأسدي ، عن عمارة بن فلان الأسدي ، قال : ارتد طليحة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فادعى النبوة ، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد في ذلك ؛ وأمرهم بالقيام في ذلك على كل من ارتد ، فأشجوا طليحة وأخافوا ، ونزل المسلمون بواردات ، ونزل المشركون بسميراء ، فما زال المسلمون في نماء والمشركون في نقصان ؛ حتى هم ضرار بالمسير إلى طليحة ، فلم يبق أحد إلا أخذه سلماً ، إلا ضربة كان ضربها بالجراز ، فنباعنه ، فشاعت في الناس . فأتى المسلمون وهم على ذلك بخير موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وقال ناس من الناس لتلك الضربة : إن السلاح لا يحيك في طليحة ؛ فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتى عرفوا النقصان ، وارفض الناس إلى طليحة واستطار أمره ، وأقبل ذو الخمارين عوف الجذمي حتى نزل بإزائنا ، وأرسل إليه ثمامة بن أوس بن لأم الطائي : إن معي من جديلة خمسمائة ، فإن دهمكم أمر فنحن بالقردودة والأنسر دوين الرمل . وأرسل إليه مهلهل بن زيد : إن معي حد الغوث ؛ فإن دهمكم أمر فنحن بالأكناف بحيال فيد . وإنما تحدبت طي على ذي الخمارين عوف ؛ أنه كان بين أسد وغطفان وطيئ حلف في الجاهلية ، فلما كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت غطفان وأسد على طيئ ، فأزاحوها عن دارها في الجاهلية : غوثها وجديلتها ، فكره ذلك عوف ؛ فقطع ما بينه وبين غطفان ، وتتابع الحيان على الجلاء ، وأرسل عوف إلى الحيين من طيئ ، فأعاد حلفهم ، وقام بنصرتهم ، فرجعوا إلى دورهم ، واشتد ذلك على غطفان ؛ فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عيينة بن حصن في غطفان ، فقال : ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ؛ وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة ؛ والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش ؛ وقد مات محمد ، وبقي طليحة . فطابقوه على رأيه ، ففعل وفعلوا .

فلما اجتمعت غطفان على المطابقة لطليحة هرب ضرار وقضاعي وسنان ومن كان قام بشيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في بني أسد إلى أبي بكر ، وارفض من كان معهم ، فأخبروا أبا بكر الخبر ، وأمروه بالحذر ، فقال ضرار بن الأزور : فما رأيت أحداً - ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم - أملأ بحرب شعواء من أبي بكر ؛ فجعلنا نخبره ، ولكأنما نخبره بما له ولا عليه . وقدمت عليه وفود بني أسد وغطفان وهوازن وطيئ ، وتلقت وفود قضاعة أسامة بن زيد ، فحوزها إلى أبي بكر ؛ فاجتمعوا بالمدينة فنزلوا على وجوه المسلمين ؛ لعاشر من متوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة ، واجتمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك حتى يبلغوا ما يريدون ؛ فلم يبق من وجوه المسلمين أحد إلا أنزل منهم نازلا إلا العباس . ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم ، إلا ما كان من أبي بكر ، فإنه أبي إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ ، وأبوا ، فردهم وأجلهم يوماً وليلة ؛ فتطايروا إلى عشائرهم .

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث عمرو ابن العاص إلى جيفر ، منصرفه من حجة الوداع ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بعمان ، فأقبل حتى إذا انتهى إلى البحرين وجد المنذر بن ساوي في الموت . فقال له المنذر : أشر علي في مالي بأمر لي ولا علي ، قال : صدق بعقار صدقة تجري من بعدك ، ففعل . ثم خرج من عنده ، فسار في بني تميم ، ثم خرج منها إلى بلاد بني عامر ، فنزل على قرة بن هبيرة ، وقرة يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً ؛ وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا خواص ، ثم سار حتى قدم المدينة ، فأطافت به قريش ، وسألوه فأخبرهم أن العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم ، فتفرقوا وتحلقوا حلقاً ، وأقبل عمر بن الخطاب يريد التسليم على عمرو ، فمر بحلقة ، وهم في شيء من الذي سمعوا من عمرو في تلك الحلقة : عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد ؛ فلما دنا عمر منهم سكتوا ، فقال : فيم أنتم ؟ فلم يجيبوه ، فقال : ما أعلمني بالذي خلوتم عليه ! فغضب طلحة ، وقال : تالله يابن الخطاب لتخبرنا بالغيب ! قال : لا يعلم الغيب إلا الله ؛ ولكن أظن قلتم : ما أخوفنا على قريش من العرب وأخلقهم ألا يقروا بهذا الأمر ! قالوا : صدقت ، قال : فلا تخافوا هذه المنزلة ، أنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم ؛ والله لو تدخلون معاشر قريش حجراً لدخلته العرب في آثاركم ؛ فاتقوا الله فيهم . ومضى إلى عمرو فسلم عليه ، ثم انصرف إلى أبي بكر .

حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : نزل عمرو بن العاص منصرفه من عمان - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - بقرة بن هبيرة بن سلمة بن قشير ، وحوله عسكر من بني عامر من أفنائهم ، فذبح له وأكرم مثواه ، فلما أراد الرحلة خلا به قرة ، فقال : يا هذا ، إن العرب لا تطيب لكم نفساً بالإتاوة ، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع ؛ وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم . فقال عمرو : أكفرت يا قرة ! وحوله بنو عامر ؛ فكره أن يبوح بمتابعتهم فيكفروا بمتابعته ، فينفر في شر ، فقال : لنردنكم إلى فيئتكم - وكان من أمره الإسلام - اجعلوا بيننا وبينكم موعداً . فقال عمرو : أتوعدنا بالعرب وتخوفنا بها ! موعدك حفش أمك ؛ فو الله لأوطئن عليك الخيل . وقدم على أبي بكر والمسلمين فأخبرهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ خالد من أمر بني عامر وبيعتهم على ما بايعهم عليه ، أوثق عيينة بن حصن وقرة بن هبيرة ، فبعث بهما إلى أبي بكر ، فلما قدما عليه قال له قرة : يا خليفة رسول الله ، إني قد كنت مسلماً ، ولي من ذلك على إسلامي عند عمرو بن العاص شهادة ؛ قد مر بي فأكرمته وقربته ومنعته . قال : فدعا أبو بكر عمرو بن العاص ، فقال : ما تعلم من أمر هذا ؟ فقص عليه الخبر ، حتى انتهى إلى ما قال له من أمر الصدقة ، قال له قرة : حسبك رحمك الله ! قال : لا والله ؛ حتى أبلغ له كل ما قلت ، فبلغ له ، فتجاوز عنه أبو بكر ، وحقن دمه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة ، قال : أخبرني من نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، ينخسه غلمان المدينة بالجريد ، يقولون : أي عدو الله ، أكفرت بعد إيمانك ! فيقول : والله ما كنت آمنت بالله قط . فتجاوز عنه أبو بكر وحقن له دمه .

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، قال : أخذ المسلمون رجلاً من بني أسد ، فأتى به خالد بالغمر - وكان عالماً بأمر طليحة - فقال له خالد : حدثنا عنه وعما يقول لكم ، فزعم أن مما أتى به : ((والحمام واليمام ، والصرد الصوام ، قد صمن قبلكم بأعوام ، ليبلغن ملكنا العراق والشام)) .

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن أبي يعقوب سعيد بن عبيد ، قال : لما أرزى أهل الغمر إلى البزاخة ، قام فيهم طليحة ، ثم قال : ((أمرت أن تصنعوا رحاً ذات عراً ، يرمى الله بها من رمى ، يهوى عليها من هوى)) ، ثم عبى جنوده ، ثم قال : ((ابعثوا فارسين ، على فرسين أدهمين ، من بني نصر بن قعين ، يأتيانكم بعين )) . فبعثوا فارسين من بني قعين ، فخرج هو وسلمة طليعتين .

حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع ، عن عبد الرحمن بن كعب ، عمن شهد بزاخة من الأنصار ، قال : لم يصب خالد على البزاخة عيلا واحداً ، كانت عيالات بني أسد محرزة - وقال أبو يعقوب : بين مثقب وفلج ، وكانت عيالات قيس بين فلج وواسط - فلم يعد أن انهزموا ، فأقروا جميعاً بالإسلام خشية على الذراري ، واتقوا خالداً بطلبته ، واستحقوا الأمان ؛ ومضى طليحة ؛ حتى نزل كلب على النقع ، فأسلم ، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر ؛ وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسداً وغطفان وعامرا قد أسلموا ؛ ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر ، ومر بجنبات المدينة ، فقيل لأبي بكر : هذا طليحة ، فقال : ما أصنع به ! خلوا عنه ، فقد هداه الله للإسلام . ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته ، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف ، فقال له عمر : أنت قاتل عكاشة وثابت ! والله لا أحبك أبداً . فقال : يا أمير المؤمنين ، ماتهم من رجلين أكرمهما الله بيدي ، ولم يهنى بأيديهما ! فبايعه عمر ثم قال له : يا خدع ، ما بقي من كهانتك ؟ قال : نفخة أو نفختان بالكير . ثم رجع إلى دار قومه ؛ فأقام بها حتى خرج إلى العراق .