ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين

ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين

قال أبو جعفر : وكان فيما بلغنا من خبر أهل البحرين وارتداد من ارتد منهم ما حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا سيف ، قال : خرج العلاء بن الحضرمي نحو البحرين ؛ وكان من حديث البحرين أن النبي صلى الله عليه وسلم والمنذر بن ساوى اشتكيا في شهر واحد ، ثم مات المنذر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقليل ، وارتد بعده أهل البحرين ، فأما عبد القيس ففاءت ، وأما بكر فتمت على ردتها ؛ وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود حتى فاءوا .

حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : قدم الجارود بن المعلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرتاداً ، فقال : أسلم يا جارود ، فقال : إن لي ديناً ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن دينك يا جارود ليس بشئ ، وليس بدين ؛ فقال له الجارود : فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك ؟ قال : نعم . فأسلم ومكث بالمدينة حتى فقه فلما أراد الخروج ، قال : يا رسول الله ، هل نجد عند أحد منكم ظهراً نتبلغ عليه ؟ قال : ما أصبح عندنا ظهر ، قال : يا رسول الله ؛ إنا نجد بالطريق ضوال من هذه الضوال ، قال : تلك حرق النار ، فإياك وإياها . فلما قدم على قومه دعاهم إلى الإسلام فأجابوه كلهم ، فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم . فقالت عبد القيس : لو كان محمد نبياً لما مات ؛ وارتدوا ، وبلغه ذلك فبعث فيهم فجمعهم ، ثم قام فخطبهم ، فقال : يا معشر عبد القيس ؛ إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ولا تجيبوني إن لم تعلموا . قالوا : سل عما بدا لك ، قال : تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى ؟ قالوا : نعم ، قال : تعلمونه أو ترونه ؟ قالوا : لا بل نعلمه ، قال : فما فعلوا ؟ قالوا : ماتوا ، قال : فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ؛ وأنك سيدنا وأفضلنا . وثبتوا على إسلامهم ، ولم يبسطوا ولم يبسط إليهم وخلوا بين سائر ربيعة وبين المنذر والمسلمين ، فكان المنذر مشتغلاً بهم حياته ، فلما مات المنذر حصر أصحاب المنذر في مكانين حتى تنقذهم العلاء .

قال ابو جعفر : وأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عنه ، قال : لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث أبو بكر رضى الله عنه العلاء بن الحضرمي . وكان العلاء هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم المنذر ، فأقام بها العلاء أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات المنذر بن ساوى بالبحرين بعد متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عمرو بن العاص بعمان ، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بها فأقبل عمرو ، فمر بالمنذر بن ساوى وهو بالموت فدخل عليه فقال المنذر له : كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل للميت من المسلمين من ماله عند وفاته ؟ قال عمرو : فقلت له : كان يجعل له الثلث ؛ قال : فما ترى لي أن أصنع في ثلث مالي ؟ قال عمرو : فقلت له : إن شئت قسمته في أهل قرابتك ، وجعلته في سبيل الخير ؛ وإن شئت تصدقت به فجعلته صدقة محرمة تجري من بعدك على من تصدقت به عليه . قال : ما أحب أن أجعل من مالي شيئاً محرماً كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولكن أقسمه ، فأنفذه على من أوصيت به له يصنع به ما يشاء .

قال : : فكان عمرو يعجب لها من قوله . وارتدت ربيعة بالبحرين فيمن ارتد من العرب ، إلا الجارود بن عمرو بن حنش بن معلى ؛ فإنه ثبت على الإسلام ومن معه من قومه ، وقام حين بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأكفر من لا يشهد . واجتمعت ربيعة بالبحرين وارتدت ، فقالوا : نرد الملك في آل المنذر ، فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر ، وكان يسمى الغرور ، وكان يقول حين أسلم وأسلم الناس وغلبهم السيف : لست بالغرور ؛ ولكنى المغرور حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمير بن فلان العبدي ، قال : لما مات النبي صلى الله عليه وسلم خرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة فيمن اتبعه من بكر بن وائل على الردة ، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم بزل كافراً ، حتى نزل القطيف وهجر ، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة ، وبعث بعثاً إلى دارين ، فأقاموا له ليجعل عبد القيس بينه وبينهم ، وكانوا مخالفين لهم ، يمدون المنذر والمسلمين ؛ وأرسل إلى الغرور بن سويد ، أخي النعمان بن المنذر ؛ فبعثه إلى جؤاثي ، وقال : اثبت ، فإني إن ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة . وبعث إلى جؤاثي ، فحصرهم وألحوا عليهم فاشتد على المحصورين الحصر ، وفي المسلمين المحصورين رجل من صالح المسلمين يقال له عبد الله بن حذف ؛ أحد بني أبي بكر بن كلاب ، وقد اشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا . وقال في ذلك عبد الله بن حذف :

ألا أبلغ أبـا بـكـر رسـولاً                 وفتيان المدينة أجـمـعـينـا
فهل لكـم إلـى قـوم كـرام              قعود في جؤائي محصرينا !
كأن دماءهم فـي كـل فـج              شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الـرحـمـن إنـا              وجدنا الصبر للمتوكـلـينـا

كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية ابن بلال ، عن سهم بن منجاب ، عن منجاب بن راشد ، قال : بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين ؛ فلما أقبل إليها ؛ فكان بحيال اليمامة ، لحق به ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة من بني سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفه ، وكان متلدداً ؛ وقد ألحق عكرمة بعمان ثم مهرة ، وأمر شرحبيل بالمقام حيث انتهى إلى أن يأتيه أمر أبي بكر ، ثم يغاور هو وعمرو بن العاص أهل الردة من قضاعة . فأما عمرو بن العاص فكان يغاور سعداً وبلياً وأمر هذا بكلب ولفها ، فلما دنا منا ونحن في عليا البلاد لم يكن أحد له فرس من الرباب وعمرو بن تميم إلا جنبه ، ثم استقبله ؛ فأما بنو حنظلة فإنهم قدموا رجلا وأخروا أخرى . وكان مالك بن نويرة في البطاح ومعه جموع يساجلنا ونساجله . وكان وكيع بن مالك في القرعاء معه جموع يساجل عمرا وعمرو يساجله ، وأما سعد بن زيد مناة فإنهم كانوا فرقتين ؛ فأما عوف والأبناء فإنهم أطاعوا الزبرقان بن بدر ، فثبتوا على إسلامهم وتموا وذبوا عنه ؛ وأما المقاعس والبطون فإنهما أصاخا ولم يتابعا ؛ إلا ما كان من قيس بن عاصم ؛ فإنه قسم الصدقات التي كانت اجتمعت إليه في المتقاعس والبطون حين شخص الزبرقان بصدقات عوف والأبناء ؛ فكانت عوف والأبناء مشاغيل بالمقاعس والبطون . فلما رأى قيس بن عاصم ما صنعت الرباب وعمرو ومن تلقى العلاء ندم على ما كان فرط منه ، فتلقى العلاء بإعداد ما كان قسم من الصدقات ، ونزع عن أمره الذي كان هم به ، واستاق حتى أبلغها إياه ، وخرج معه إلى قتال أهل البحرين ؛ وقال في ذلك شعراً كما قال الزبرقان في صدقته حين أبلغها أبا بكر ؛ وكان الذي قال الزبرقان في ذلك :

وفيت بأذواد الرسـول وقـد أبـت                    سعاة فلم يردد بعيراً مـجـيرهـا
معاً ومنعناها من النـاس كـلـهـم                  ترامى الأعادي عندنا ما يضيرهـا
فأديتها كـي لا أخـون بـذمـتـى                     محانيق لم تدرس لراكب ظهورها
أردت بها النقوى ومجد حـديثـهـا                   إذا عصبة سامى قبيلي فخـورهـا
وإني لمن حي إذا عـد سـعـيهـم                 يرى الفخر منها حيها وقبـورهـا
أصاغرهم لم يضرعوا وكبـارهـم                    رزان مراسيها ، عفاف صدورها
ومن رهط كناد تـوفـيت ذمـتـي                     ولم يثن سيفي نبحها وهـريرهـا
ولله ملـك قـد دخـلـت وفـارس                        طعنت إذا ما الخيل شد مغـيرهـا
ففرجت أولاهـا بـنـجـلاء ثـرة                          بحيث الذي يرجو الحياة يضيرهـا
ومشهد صدق قد شهدت فلـم أكـن                به خاملاً واليوم يثنى مصـيرهـا
أرى رهبة الأعداء منـي جـراءةً                       ويبكي إذا ما النفس يوحى ضميرها

وقال قيس عند استقبال العلاء بالصدقة :

ألا أبلغا عنـي قـريشـاً رسـالة                 إذا ما أتتـهـا بـينـات الـودائع
حبوت بها في الدهر أعراض منقر            وأيأست منها كل أطلس طـامـع
وجدت أبي والخال كانا بـنـجـوة               بقاع فلم يحلل بهـا مـن أدافـع

فأكرمه العلاء ، وخرج مع العلاء بن عمرو وسعد الرباب مثل عسكره ، وسلك بنا الدهناء ؛ حتى إذا كنا في بحبوحتها والحنانات والعزافات عن يمينه وشماله ، وأراد الله عز وجل أن يرينا آياته نزل وأمر الناس بالنزول ، فنفرت الإبل في جوف الليل ؛ فما بقي عندنا بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء إلا ذهب عليها في عرض الرمل ، وذلك حين نزل الناس ، وقبل أن يحطوا ؛ فما علمت جمعاً هجم عليهم من الغم ما هجم علينا وأوصى بعضنا إلى بعض ، ونادى منادي العلاء : اجتمعوا ، فاجتمعنا إليه ، فقال : ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم ؟ فقال الناس : وكيف نلام ونحن إن بلغنا غداً لم تحم شمسه حتى نصير حديثاً ! فقال : أيها الناس ؛ لا تراعوا ، ألستم مسلمين ! ألستم في سبيل الله ! ألستم أنصار الله ! قالوا : بلى ، قال : فأبشروا ؛ فواله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم . ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بنا ، ومنا المتيمم ، ومنا من لم يزل على طهوره ؛ فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس ، فنصب في الدعاء ونصبوا معه ؛ فلمع لهم سراب الشمس ؛ فالتفت إلى الصف ، فقال : رائد ينظر ما هذا ؟ ففعل ثم رجع ، فقال : سراب ، فأقبل على الدعاء ، ثم لمع لهم آخر فكذلك ، ثم لمع لهم آخر ، فقال : ماء ، فقام وقام الناس ، فمشينا إليه حتى نزلنا عليه ، فشربنا واغتسلنا ، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد من كل وجه ، فأناخت إلينا ، فقام كل رجل إلى ظهره ، فأخذه ، فما فقدنا سلكاً . فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النهل ؛ وتروينا ثم تروحنا - وكان أبو هريرة رفيقي - فلما غبنا عن ذلك المكان ، قال لي : كيف علمك بموضع ذلك الماء ؟ فقلت : أنا من أهدى العرب بهذه البلاد قال : فكن معي حتى تقيمني عليه ، فكررت به ، فأتيت به على ذلك المكان بعينه ؛ فإذا هو لا غدير به ، ولا أثر للماء ، فقلت له : والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان ؛ وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعاً قبل اليوم ؛ وإذا إداوة مملوءة ، فقال : يا أبا سهم ، هذا والله المكان ؛ ولهذا رجعت ورجعت بك . وملأت إداوتي ثم وضعنها على شفيره ، فقلت صلى الله عليه وسلم إن كان منا من المن وكانت آية عرفتها؛ وإن كان غياثاً عرفته ؛ فإذا من من المن ، فحمد الله ، ثم سرنا حتى ننزل هجر. قال: فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر أن انضما في عبد القيس حتى تنزل على الحطم مما يليكما ؛ وخرج هو فيمن جاء معه وفيمن قدم عليه ؛ حتى ينزل عليه مما يلي هجر، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي وخندق المسلمون والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم ؛ فكانوا كذلك شهراً ؛ فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة ؛ كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال ، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - وكانت أمه عجلية - فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له صلى الله عليه وسلم من أنت ؟ فانتسب لهم ، وجعل ينادي: يا أبجراه ! فجاء أبجر بن بجير ، فعرفه فقال : ما شأنك ؟ فقال : لا أضيعن الليلة بين اللهازم ! علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وقيس وعنزة ! أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود ! فتخلصه، وقال : والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة ! فقال : دعني من هذا وأطمعني ؛ فإني قد مت جوعاً. فقرب له طعاماً ؛ فأكل ثم قال : زودني واحملني وجوزني أنكطلق إلى كيتي. ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب ، ففعل وحمله على بعير ، وزوده وجوزه ؛ وخرج عبد الله بن حذف حتى دخل عسكر المسلمين ، فأخبرهم أن القوم سكارى ، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عليهم عسكرهم، فوضعوا السيوف فيهم حيث شاءوا ، واقتحموا الخندق هرابا ، فمترد ، وناج ودهش ، ومقتول أو مأسور ، واستولى المسلمون على ما في العسكر ؛ لم يفلت رجل إلا بما عليه ؛ فأما أبجر فأفلت ، وأما الحطم فإنه الحطم بعل ودهش، وطار فؤاده ؛ فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم - ليركبه ؛ فلما وضع رجله في الركاب انقطع به ، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم ، والحطم يستغيث ويقول : ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني! فرفع صوته ، فعرف صوته ،

فقال : أبو ضبيعية ! قال : نعم ، قال : أعطني رجلك أعقلك ، فأعطاه رجله يعقله ، فنفحها فأطنها من الفخذ ، وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه ، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال : هل لك في الحطم أن تقتله ؟ ويقول : ذاك لمن لا يعرفه ، حتى مر به قيس بن عاصم ، فقال له ذلك ، فمال عليه فقتله ، فلما رأى فخذه نادرة ، قال : واسوأتاه ! لو علمت الذي به لم أحركه ؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم ، فاتبعوهم ، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب ، وسلم النسا ؛ فكانت رادة ، وقال عفيف بن المنذر :

فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا             وما كل من يهوى بذلك عالـم
ألم تر أنا قد فللنا حمـاتـهـم               بأسرة عمرو والرباب الأكارم

وأسر عفيف بن المنذر الغرورين سويد ، فكلمته الرباب فيه ، وكان أبوه ابن أخت التيم ، وسألوه أن يجيره ، فقال للعلاء : إني قد أجرت هذا ، قال : ومن هذا ؟ قال : الغرور ، قال : أنت غررت هؤلاء ، قال : أيها الملك ، إني لست بالغرور ؛ ولكني المغرور ، قال : أسلم ، فأسلم وبقي بهجر ، وكان إسمه الغرور ، وليس بلقب ؛ وقتل عفيف المنذر بن سويد المنذر، أخا الغرور لأمه، وأصبح العلاء فقسم الأنفال ، ونفل رجالاً من أهل ثباتا ، فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمتنة بن أثال ؛ فأما ثمامة فنفل ثباباً فيها خميصة ذات أعلام ، كان الحطم يباهي فيها ، وباع الثباب وقصد عظم الفلال لدارين ، فركبوا فيها السفن ، ورجع الآخرون إلى وائل فيهم ؛ فكتب العلاء بن الحضرمي إلى عامر بن عبد الأسود بلزوم ما هم عليه والقعود لأهل الردة بكل سبيل ، وأمر مسمعاً بمبادرتهم ، وارسل إلى خصفة التيمي والمثنى بن حارثة الشيباني ، فأقاموا لأولئك بالطريق ، فمنهم من أناب ، فقبلوا منه واشتملوا عليه ؛ ومنهم من أبى ولج فمنع من الرجوع فرجعوا عودهم على بدئهم ؛ حتى عبروا إلى دارين ، فجمعهم الله بها ، وقال في ذلك رجل من بني ضبيعة بن عجل ، يدعى وهبا ، يعير من ارتد من بكر بن وائل

ألم تر أن الله يسبك خلـقـه           فيخبث أقوام ويصفو معشـر
لحى الله أقواماً اصيبوا بخنعة         أصابهم زيد الضلال ومعمر!

ولم يزل العلاء مقيماً في عسكر المشركين حتى رجعت إليه الكتب من عند من كان كتب إليه من بكر بن وائل ، وبلغه عنهم القيام بأمر الله ، والغضب لدينه ، فلما جاءه عنهم من ذلك من ذلك ما كان يشتهي ، أيقن أنه لن يؤتى من خلقه بشئ يكرهه على أحد من أهل البحرين ، وندب الناس إلى دارين ، ثم جمعهم فخطبهم ، وقال : إن الله قد جمع لكم أحزاب الشياطين وشرد الحرب في هذا البحر ؛ وقد أراكم من آباته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم ، ثم استعرضوا البحر إليهم ، فإن الله قد جمعهم ، فاقلوا : مفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولاً ما بقينا .

فارتحل وارتحلوا ، حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموا على الصاهل ، والجامل ، والشاحج والناهق ؛ والراكب والراجل ، ودعا ودعوا ؛ وكان دعاؤه ودعاؤهم : يا أرحم الراحمين ، يا كريم ، يا كحليم ، يا أحد ، يا صمد ي حي يا محيي الموتى ، يا حي يا قيوم ، لا إله إإلا أنت يا ربنا . فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعاً يمشون على مثل رملة ميثاء ، فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل ، وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر في بعض الحالات ، فالتقوا بها ، واقتتلوا قتالاً شديداً ، فما تركوا بها مخبراً وسبوا الذراري ، واستاقوا الأموال ؛ فبلغ نفل الفارس ستة آلاف ، والراجل ألفين ، قطعوا ليلهم وساروا يومهم ؛ فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا ، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر :

ألم تر أن اللـه ذلـل بـحـره              وأنزل بالكفار إحدى الجلائل!

دعونا الذي شق البحار فجاءنـا       بأعجب من فلق البحار الأوائل

ولما رجع العلاء إلى البحرين ، وضرب الإسلام فيها بجرانه ، وعز الإسلام وأهله ، وذل الشرك وأهله ؛ أقبل الذين في قلوبهم ما فيها على الإرجاف مرجفون ، وقالوا : ها ذاك مفروق ، قد جمع رهطه. شيبان وتغلب والنمر ، فقال لهم أقوام من المسلمين : إذا تشغلهم عنا اللهازم - واللهازم يومئذ قد استجمع أمرهم على نصر العلاء وطابقوا . وقال عبد الله بن حذف في ذلك :

لا توعدنا بمفـرق وأسـرتـه                   إن يأتنا يلق فينا سنة الحـطـم
وإن ذا الحي من بكر وإن كثروا              لأمة داخلون النار فـي أمـم
فالنخل ظاهره خيل وباطـنـه                خيل تكدس بالفتيان في النعـم

وأقفل العلاء بن الحضرمي الناس ، فرجع الناس إلا من أحب المقام فقفلنا وقفل ثمامة ، ورأوا خميصة الحطم عليه دسوا له رجلاً ، وقالوا : سله عنها كيف صارت له ؟ وعن الحطم : أهو قتله أو غيره ؟ فأتاه ، فسأله عنها ، فقال : نفلتها . قال : أأنت قتلت الحطم : أهو قتله الحطم ؟ قال : لا ، ولوددت أنى كنت قتلته ، قال : فما بال هذه الخمصية معك ؟ قال : ألم أخبرك ! فرجع إليهم فأخبرهم ، فتجمعوا له ، ثم أتوه فاحتوشوه ؛ فقال : ما لكم ؟ قالوا : هل ينفل إلا القاتل ! قال إنها لم تكن عليه ، إنما وجدت في رحله ، قالوا : كذبت . فأصابوه .

قال : وكان مع المسلمين راهب في هجر ؛ فأسلم يومئذ فقيل : ما دعاك إلى الإسلام ؟ قال : ثلاثة أشياء ، خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل : فيض في الرمال ، وتمهيد أثباج البحار ، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر . قالوا : وما هو ؟ قال : اللهم أنت الرحمن الرحيم ؛ لا إله غيرك ، والبديع ليس قبلك شئ ، والدائم غير الغافل ، والحي الذي لا يموت ، وخالق ما يرى وما لا يرى ، وكل يوم أنت في شأن ، وعلمت اللهم كا شئ بغير تعلم فعلمت أن القوم لم يعانوا أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله .

فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون من ذلك الههجري بعد وكتب العلاء إلى أبي بكر : أما بعد ؛ فإن الله تبارك وتعالى فجر لنا الدهناء فيضاً لا ترى غوار به ، وأرانا آية وعبرة بعد غم وكرب ، لنحمد الله ونمجده ، فادع الله واستنصره لجنوده وأعوان دينه.

فحمد أبو بكر الله ودعاه ، وقال : وما زلت العرب فيما تحدث عن بلدانها يقولون : إن لقمان حين سئل عن الدهناء : أيحتقرونها أو يدعونها ؟ نهاهم ، وقال لا تبلغها الأرشية ، ولم تقر العيون ؛ وإن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلها . اللهم أخلف محمداً صلى الله عليه وسلم فينا ثم كتب إليه العلاء بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم . قتله زيد ومعمر : أما بعد، فإن الله تبارك إسمه سلب عدونا عقولهم، وأذهب ريحهم بشراب أصابوه منالنهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم ، فوجدناهم سكارى . فقلناهم إلا الشريد ، وقد قتل الله الحطم .

فكتب إلي أبو بكر : أما بعد، فإن بلغك عن نبي شيبان بن ثعلبة تمام على ما بلفك ، وخاض فيه المرجفون ، فابعث إليهم جنداً فأوطئهم وشرد بهم من خلفهم . فلم يجتمعوا ؛ ولم يصر ذلك من إرجافهم إلى شئ .