ثم دخلت سنة ثلاث عشرة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ففيها وجه أبو بكر رحمه الله الجيوش إلى الشأم بعد منصرفه من مكة إلى المدينة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى اشأم، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسين، فأخذ طريق المعرقة على أيلة، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل ين حسنة - وهو أحد الغوث - وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشأم.

حدثني عمر بن شبة، عن على بن حمد بالأسناد الذي ذكرت قبل، عن شيوخه الذين مضى ذكرهم، قال: ثم وجه أبو بكر الجنود إلى الشأم أول سنة ثلاث عشرة، فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير، وولى يزيد بن أبي سفيان، فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشأم، وخرجوا في سبعة آلاف.

قال أبو جعفر: وكان سبب عزل أبي بكر خالد بن سعيد - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر ؛ أن خالد بن سعيد لما قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم تربص ببيعته شهرين، يقول: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يعزلني حتى قبضه الله. وقد لقى على بن أبي طالب وعثمان بن عفان ؛ فقال: يا بني عبد مناف ؛ لقد طبتم نفساً عن أمركم يليه غيركم! فأما أبو بكر فلم يحفلها عليه ، وأما عمر فاضطغنها عليه. ثم بعث أبو بكر الجنود إلى الشأم، وكان أول من استعمل على ربع منها خالد بن سعيد، فأخذ عمر يقول: اتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال! فلم يزل بأبي بكر حتى عزله، وأمر يزيد بن أبي سفيان.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن فضيل، عن جبير بن صخر حارس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ عن أبيه، قال: كان خالد بن سعيد بن العاصى باليمن زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بها، وقدم بعد وفاته بشهر، وعليه جبة ديباج عليه جبته! أيلبس الحرير وهو في رجلنا في السلم مهجور! فمزقوا جبته، فقال خالد: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغلبتم عليها! فقال على عليه السلام: أمغالبة ترى أم خلافة؟ قال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم يا بني عبد مناف. وقال عمر لخالد: فض الله فاك! والله لا يزال كاذب يخوض فيما قلت ثم لا يضر إلا نفسه. فأبلغ عمر أبا بكر مقالته ؛ فلما عقد أبو بكر الألوية لقتال أهل الردة عقد له فيمن عقد، فنهاه عنه عمر الأرض مدل بها وخائض فيها، فلا تستنصر به . فلم يحتمل أبو بكر عليه، وجعله رداءاً بتيماء ؛ أطاع عمر في بعض أمره وعصاه في بعض.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف عن أبي إسحاق الشيباني، عن أبي عثمان، قالوا: أمر أبو بكر خالداً بأن ينزل تيماء، ففضل ردءاً حتى ينزل بتيماء ؛ وقد أمره أبو بكر ألا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالإنضمام إليه، وألا تقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قتله؛ حتى يأتيه أمره. فأقام فاجتمع إليه جموع كثيرة ؛ وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية البعوث بالشأم إليهم ؛ فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك، وبنزول من استنفرت الروم ؛ ونفر إليهم من بهراء وكلب وسليح وتنوخ ولخم وجذام وغسان من دون زيزاء بثلاث ؛ فكتب إليه أبو بكر: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله ؛ فسار خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم ؛ فنزله ودخل عامة من كان تجمع له في الإسلام ؛ وكتب خالد إلى أبي بكر بذلك فكتب إليه أبو بكر: أقدم ولاتقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل ؛ حتى نزلوا فيما بين آبل وزيزاء والقسطل ؛ فسار إليه بطريق من بطارقة الروم، يدعى بدهان ؛ فهزمه وقتل جنده، وكتب بذلك إلى أبي بكر واستمده. وقدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن ومن بين مكة واليمن ؛ وفيهم ذو الكلاع، وقدم عليه عكرمة قافلاً وغازياً فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين والسرو. فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصدقات أن يبدلوا من استبدل ؛ فكلهم استبدل ؛ فسمى ذلك الجيش جيش البدال. فقدموا على خالد بن عسيد؛ وعند ذلك اهتاج أبو بكر الشأم ، وعناه أمره. وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاها إياه م صدقات سعد هذيم، وعذرة ومن لفها من جذام، وحدس قبل ذهابه إلى عمان. فخرج إلى عمان وهو على عدة من عمله ؛ إذا هو رجع . فأ،جز له ذلك أبو بكر.

فكتب أبو بكر عند اهتياجه للشأم إلى عمرو: إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة ، وسماه لك أخرى ؛ مبعثك إلى عمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد وليته ثم وليته ؛ وقد أحببت - أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه ؛ إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك . فكتب إليه عمرو : إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي. وكتب إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك، فأجابه بإيثار الجهاد.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كتب أبو بكر إلى عمرو، وإلى الوليد بن عقبة - وكان على النصف من صدقات قضاعة - وقد كان أبو بكر شيعهما مبعثهما على الصدقة، وأوصى كل واحد منهما بوصية واحدة: اتق الله في السر والعلانية ؛ فإنه من يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب ؛ ومن يتق الله بكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً . فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله ؛ إنك في سبيل من سبيل الله ؛ لا يسعك فيه الإذهان والتفريط والغفلة عما فيه قوام دينكم ، وعصمة أمركم، فلا تن ولا تفتر. وكتب إليهما: استخلفا على أعمالكما، واندبا من يليكما.

فولى عمرو على عليا قضاعة عمرو بن فلان العذري، وولى الوليد على ضاحية قضاعة مما يلي دومة امرأ القيس، وندبا الناس، فتتام إليهما بشر كثير، وانتظر أمر أبي بكر.

وقام أبو بكر في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، وقال: ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبة ؛ ومن عمل لله كفاه اللهش. عليكم بالجد والقصد ؛ فإن القصد أبلغ؛ ألا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له. ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به ؛ هي التجارة التي دل الله عليها، ونجى بها من الخزي ؛ وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.

فأمد عمراً ببعض من انتدب إلى من اجتمع إليه، وأمره على فلسطين، وأمره بطريق سماها له ؛ وكتب إلى الوليد وأمره بالأردن، وأمد ببعضهم. ودعا يزيد بن أبي سفيان، فأمره على جند عظيم ، هم جمهور من انتدب له ، وفي جنده سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة، وأمره على حمص وخرج معه وهما ماشيان والناس معهما وخلفهما، وأوصى كل واحد منهما.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم، ومبشر عن سالك، ويزيد بن أسيد الغساني عن خالد، وعبادة، قالوا: ولما قدم الوليد على خالد بن سعيد فسانده ، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم وسموا جيش البدال، وبلغه عن الأمراء وتوجههم إليه، اقتحم على الروم طلب الحظوة، وأعرى ظهره، وبادر الأمراء بقتال الروم، واستطرد له باهان فأرز هو ومن منه إلى دمشق ؛ واقتحم خالد في الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل مرج الصفر ؛ من بين الواقوصة ودمشق ؛ فانطوت مسالح باهان عليه، وأخذوا عليه الطريق ولا يشعر ، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمر في الناس، فقتلوهم. وأتى الخبر خالداً، فخرج هارباً في جريدة، فأفلت من أفلت من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، وقد أجهضوا عن عسكرهم؛ ولم ينته بخالد بن سعيد الهزيمة عن ذي المروة، وأقام عكرمة في الناس ردءاً لهم ، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوه، وأقام من الشأم على قريب، وقد قدم شرحبيل بن حسنة وافداً من عند خالد بن الوليد، فندب معه الناس، ثم استعمله أبو بكر على عمل الوليد، وخرج معه يوصيه، فأتى شرحبيل على خالد، ففصل بأصحابه إلا القليل، واجتمع إلى أبي بكر أناس، فأمر عليهم معاوية، وأمره باللحاق بيزيد، فخرج معاوية حتى لحق بيزيد ؛ فلما مر بخالد فصل ببقية أصحابه.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب لم يزل يكلم أبا بكر في خالد بن الوليد وفي خالد ابن سعيد ؛ فأبى أن يعطيه في خالد بن الوليد، وقال: لا أشيم سيفاً سله الله على الكفار، وأطاعه في خالد بن سعيد بعد كا فعل فعلته. فأخذ عمرو طريق المعرفة ، وسلك أبو عبيدة طريقه، وأخذ يزيد طريق التبوكية ؛ وسلك شرحبيل طريقه، وسمى لهم أمصار الشأم، وعرف أن الروم ستشغلهم ؛ فأحب أن يصعد المصوب ويصوب المصعد ؛ لئلا يتوكلوا، فكان كما ظن وصاروا إلى ما أحب.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما قدم خالد بن سعيد ذا المروة، وأتى أبا بكر الخبر كتب إلى خالد: أقم مكانك ، فلعمري إنك مقدام محجام، نجاء من الغمرات، لا تخزوضها إلا إلى الحق، ولا تصبر عليه. ولما كان بعد؛ وأذن له في دخوله المدينة قال خالد: اعذرني، قال: كان عمر وعلى أعلم بخالد؛ ولو أطعتهما فيه اختشيته واتقيته! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر وسهل وأبي عثمان، عن خالد وعبادةة وأبي حارثة، قالوا: وأوعب القواد بالناس نحو الشأم وعكرمة ردء للناس، وبلغ الروم ذلك؛ فكتبوا إلى هرقل؛ وخرج هرقل حتى نزل بحمص، فاعد لهم الجنود، وعبى لهم العساكطر؛ وأراد اشتغال بعضهم عن بعض لكثرة حنده، وفضول رجاله؛ وأرسل إلى عمرو أخاه تذارق لأبيه وأمنه، فخرج نحوهم في تسعين ألفاً، وبعث من يسوقهم، حتى نزل صاحب الساقة ثنية جلق بأعلى فلسطين، وبعث جرحه بن توذار نحو يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بإزائه ، وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث الفيقار بن نسطوس في ستين ألفاً نحو أبي عبيدة؛ فهاجم المسلمون وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفاً؛ سوى عكرمة في ستة آلاف؛ ففزعوا جميعاً بالكتب وبالرسل إلى عمرو: أن ما الرأي ؟ فكاتبهم وراسلهم: إن الرأي الإجماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة ؛ وإذا نحن تفرقنا لم يبق الرجل منا في عدد يقرن فيه لأحد ممن استقبلنا وأعد لنا لكل طائفة منا. فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا به. وقد كتب إلى أبي بكر بمثل كا كاتبوا به عمراً ؛ فطلع عليهم كتابه بمثل رأى عمرو، بأن اجتمعوا عسكراً واحداً، وألقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله؛ والله ناصر من نصرهن، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة ؛ وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب ؛ فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين وليصل كل رجل منكم بأصحابه.

وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطاقته: أن اجتمعوا لهم، وانزلوا بالروم منزلاً واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب؛ وعلى الناس التذارق وعلى المقدمة جرجة، وعلى مجنبتيه باهان والد راقص، وعلى الحرب الفيقار ؛ وأبشروا فإن باهان في الأثر مدد لكم. ففعلوا فنزلوا الواقوصة وهي على ضفة اليرموك، وصار الوادي خندقاً لهم؛ وهو لهب لا يدرك ؛ وإنما أراد باهان وأصحابه أن تستفيق الروم ويأنسوا بالمسلمين ؛ وترجع إليهم أفئتهم عن طيرتها.

وانتقل المسلمون عن عسكرهم الذي اجتمعوا به فنزل عليهم بحذائهم على كريقهم؛ وليس للروم طريق إلا عليهم . فقال عمرو: أيها الناس، أبشروا، حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير? فأقاموا بإزائهم وعلى ريقهم ؛ ومخرجهم صفر من سنة ثلاث عشرة وشهري ربيع، لا يقدون من الروم على شئ ؛ ولا يخلصون إليهم ؛ اللهب - وهو الواقصة - من ورائهم ، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجه إلا أديل المسلمون منهم ؛ حتى إذا سلخوا شهر ربيع الأول ؛ وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن في صفر ؛ فكتب إلى خالد ليلحق بهم، وأمره أن يخلف على العراق المثنى ؛ فوافهاهم في ربيع.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو والمهلب، قالوا: ولما نزل المسلمون اليرموك، واستمدوا أبا بكر، قال: خالد لها فبعث إليه وهو بالعراق، وعزم عليه واستحثه في السير، فنفذ خالد لذلك فطلع عليهم خالد؛ وطلع باهان على الروم، وقد قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين ؛ يغرونهم ويخضضونهم على التقال ؛ ووافق قدوم خالد قدوم باهان، فخرج بهم باهان كالمقتدر ؛ فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم ؛ فهزم باهان، وتتابع الروم على الهزيمة، فاقتحموا خندقهم ؛ وتيمنت الروم بباهان ؛ وفرح المسلمون بخالد وحرد المسلمون. وحرب المشركون وهم أربعون ومائتا ألف ؛ منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألفاً منهم مسلسل للموت، وأربعون ألفاً مربطوزن بالعمائم، وثمانون ألف فارس وثمانون ألف راجل، والمسلمون سبعة وعشرون ألفاً ممن كان مقيماً ؛ إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف ؛ فصاروا ستة وثلاثين ألفاً.

ومرض أبو بكر رحمه الله في جمادى ا"لولى، وتوفى للنصف من جمادى الآخرة، قبل الفتح بعشر ليال.