ذكر استخلافه عمر بن الخطاب

ذكر استخلافه عمر بن الخطاب

وعقد أبو بكر في مرضته التي توفى فيها لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده.

وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف ؛ فيما ذكر ابن سعد، عن الواقدي، عن ابن سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ؛ قال: لما نزل بأبي بكر رحمه الله الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ؛ ولكن فيه غلطة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشئ أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه؛ لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئاً، قال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر: على ذاك يا أبا عبد الله ! قال اللهم علمني به أن سريرته خير من علانيته ؛ وأن يس فينا مثله. قال أبو بكر رحمه الله: رحمك الله يا أبا عبد الله ، لا تذكر مما ذكرت لك شيئاً، قال أفعل ، فقال له أبو بكر: لو تركته ما وعدتتك، وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئاً، ولوددت أني كنت خلواً من أموركم ؛ وأني كنت فيمن مضى من سلفكم ؛ يا أبا عبد الله، لا تذكرون مما قلت لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئاً .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن عمرو، عن أبي السفر، قال : أشرف أبو بكر على الماس من كنيفه وأسماء ابنة عميس ممسكته، موشومة اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلف عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا.

حدثني عثمان بن يحيى، عن عثمان القرقساني، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن اسماعيل، عن قيس، قال: رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة، وهو يقول: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إنه يقول: إني لم آلكم نصحاً. قال: ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر.

قال أبو جعفر: وقال الواقدي: حدثني ابراهيم بن أبي النضر، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: دعا أبو بكر عثمان خالياً، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ؛ أما بعد. قال: ثم أغمى عليه، فذهب عنه، فكتب عثمان: أما بعد ؛ إني قد استخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيراً منه، ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ على، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر ، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتى! قال: نعم، قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر رضى الله عنه من هذا الموضع.

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا علوان، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، أنه دخل على أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه في مرضه الذي توفى فيه ؛ فأصابه مهتماً، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً! فقال أبو بكر رضى الله عنه: أتراه؟ قال: نعم، قال: إني وليت أمركم خيركم في نفسي؛ فكلكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر لخ دونه،؛ ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ومنضائد الديباج، وتألموا الإضطجاع على الصوف الأذري ؛ كما يألم أحدكم أن ينام على حسك ؛ والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا وأنتم أول ضال بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً. يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البجر ، فقلت له : خفض عليك رحمك الله ؛ فإن هذا يهيضك في أمرك. إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب ؛ ولا نعلمك أردت إلا خيراً، ولم تزل صالحاً مصلحاً، وأنك لا تأسى على شئ من الدنيا .

قال أبو بكر رضى الله عنه: أجل، إني لا آسي على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أنى فعلتهن ؛ وثلاث وددت أنى سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما الثلاث اللاتي وددت أنى تركتهن ؛ فوددت أنى لم أكشف بيت فاطمة عن شئ. وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمى، وأني كنت قتلته سريحاً أو خليته نجيحاً. ووددت أنى يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً ؛ وكنت وزيراً. وأما اللاتي تركتهن ؛ فوددت أنى يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلى أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه. ووددت أنى حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة ؛ كنت أقمت بذي القصة ؛ فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدداًز ووددت أنى كنت إذا وجهت خالد بن الوليد إلى الشأم كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق ؛ فكنت قد بسطت يدي كليتهما في سبيل الله - ومد يديه - ووددت أنى كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لمم هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد ؛ ووددت أنى كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أنى كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة ؛ فإن في نفسي منهما شيئاً.

قال لي يونس: قال لنا يحيى: ثم قدم علينا علوان بعد وفاة الليث، فسألته عن هذا الحديث، فحدثني به كما حدثني الليث بن سعد، وسألته عن اسم أبيه، فأخبرني أنه علوان بن داود.

وحدثني محمد بن إسماعيل المرادي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال حدثني الليث، عن علوان بن صالح، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ؛ أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه، قال - ثم ذكر نحوه، ولم يقل فيه: عن أبيه.

قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قبل أن يشتغل بأمور المسلمين تاجراً، وكان منزله بالسنخ، ثم تحول إلى المدينة. فحدثني الحارث ، قال: حدثنا بن سعيد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: سمعت سعيد بن المسيب. قال: وأخبرنا موسى بن محمد بن أبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن صبيحة التيميمي، عن أبيه، قال. وأخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، قال: وأخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: وأخبرنا أبو قدامة عثمان بن محمد، عن أبي وجزة، عن أبيه ؛ قال. وغير هؤلاء أيضاً قد حدثني ببعضه ، فدخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قالت عائشة: كان منزل أبي بالسنح عند زوجته حبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث ابن الخزرج، وكان قد حجر عليه حجرة من سعف ؛ فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزلة بالمدينة ؛ فأقام هنالك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على رجليه إلى المدينة فيصلى الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء ؛ رجع إلى أهله بالسنح ؛ فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب. قال: فكان يقيم يوم الجمعة صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة، فيجمع بالناس. وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع ؛ وكانت له قطعة غنم تروح عليه ؛ وربما خرج هو بنفسه فيها ؛ وربما كفيها فرعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر، فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم ؛ وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه. فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية أتحبينأن أرعى لك، أو أصرح؟ فربما قالت: ارع، وربما قالت: صرح ؛ فأي ذلك قالته فعل ؛ فمكث كذلك بالسنح ستة أشهر ؛ ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها، ونظر في أمره، فقال: لا والله، ما تصلح أمور الناس التجارة، وما يصلحهم. فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر. وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم ؛ فلما حضرته الوفاة، قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين ؛ فإ،ي لا أصيب من هذا المال شيئاً، وإن أرضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصيب من أموالهم ؛ فدفع ذلك إلى عمر، ولقوحاً وعبداً صقيلاً، وقطيفة ما تساوى خمسة دراهم ؛ فقال عمر: لقد أتعب من بعده.

وقال على بن محمد - فيما حدثني أبو زيد عنه في حديثه عن القوم الذين ذكرت روايته عنهم - قال أبو بكر: انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عني. فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف درهم في ولايته.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن أسماء ابنة عميس، قالت" دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ؛ فكيف به إذا خلا بهم! وأنت لاق ربك فسئلك عن رعيتك. فقال أبو بكر - وكان مضطجعاً: أجلسوني، فأجلسوه، فقال لطلحة: أبا لله تفرقني - أو أبالله تخوفني - إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحصين بمثل ذلك.

قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا وقت عقد أبي بكر لعمر بن الخطاب الخلافة، ووقت وفاة أبي بكر، وأن عمر صلى عليه، وأنه دفن ليلة وفاته قبل أن يصبح الناس، فأصبح عمر صبيحة تلك الليلة، فكان أول ما عمل وقال - فيما ذكر - ما حدثنا أبة كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن أبيه؛ قال: لما استخلف عمر صعد المنبر، فقال: إني فائل كلمات فأمنوا عليهن، فكان أول منطق نطق به حين استخلف - فيما حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ضرار ، عن حصين المرى، قال: قال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائدة، فلينظر قائده حيث يقود ؛ وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.

حدثنا عمر، قال: حدثني على، عن عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، قال: كان أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد:أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ؛ الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكه رجاء غنيمة؛ ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم ؛ وتعلم كيف مأتاه ؛ ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس ؛ وإيامك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك ؛ فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قبلك عنها ؛ وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم.