يوم أغواث

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكان سعد قد تزوج سلمى بنت خصفة ؛ امرأة المثنى بن حارثة قبله بشراف، فنزل بها القادسية، فلما كان يوم أرمات،ث وجال الناس، وكان لا يطيق جلسة إلا مستوفزاً أو على بطنه ؛ جعل سعد يتململ ويحول جزعاً فوق القصر ؛ فملا رأت ما يصنع أهل فارس، قالت: وامثنياه ولا مثنى للخيل لايوم! - وهي عند رجل قد أضجره ما يرى من أصحابه وفي نفسه - فلطم وجهها، وقال: اين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى! - يعنى أسداً وعاصماً وخيله - فقالت: أغيرة وجبناً! قال: والله لا يعذروني اليوم أحد إذا أنت لم تعذريني وأنت ترين ما بي، والناس أحق ألا يعذرونى! فتعلقها الناس ؛ فلما ظهر الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه ؛ وكان غير جبان ولا ملوم. ولما أصبح القوم من الغد أصبحوا على تعبية، وقد وكل سعد رجالاً بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث ؛ فأما الرثيث فأسلم إلى النساء يقمن عليهم إلى قضاء الله عز وجل عليهم ؛ وأما الشهداء فدفنوهم هنالك على مشرق - وهو واد بين العذيب وبين عين الشمس في عدوتيه جميعاً ؛ الدنيا منهما إلى العذيب والقصوى منهما من العذيب - والناس ينتظرون بالقتال حمل الرثيث الأموت ؛ فلما استقلت بهم الإبل وتوجهت بهم نحو العذيب طلعت نواصى الخيل من الشأم - وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر - فلما قدم على أبي عبيدة كتاب عمر بصرف أهل العراق أصحاب خالد ؛ ولم يذكر خالداً ضن بخالد فحبسه وسرح الجيش ؛ وهم ستة آلاف؛ خمسة آلاف من ربيعة ومضر وألف من أفناء اليمن من أهل الحجاز ؛ وأمر عليهم هاشم بن عتيبة بن أبي وقاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، فجعله أمامه ؛ وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن هبيرة بن عبد يغوث المرادي - ولم يكن شهد الأيام، أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق وصرف معهم - نوعلى المجنة الأخرى الهزهاز بن عمرو العجلي، وعلى الساقة أنس بن عباس. فانجذب القعقاع وطوى وتعجل، فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشاراً ؛ وهم ألف فكلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا في آثارهم عشرة، فقدم القعقاع أصحابه في عشرة، فأتى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، فقال: يأيها الناس ؛ إني قد جئتكم في قوم ؛ والله أن لو كانوا بمكانكم، ثم أحسوكم حسدوكم حظوتها، وحاولوا أن يطيروا دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فقالوا فيه بقول أبي بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا، وسكنوا إليه، فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع: من أنت؟ قال: أنا بهمن جاذويه، فنادى: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر! فاجتلدا، فقتله القعقاع، وجعلت خيله ترد قطعاً، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس ؛ وكأن لم يكن بالأمس مصيبة ؛ وكأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وللحاق القطع ، وانكسرت الأعاجم لذلك. ونادى القعقاع أيضاً: من يبارز؟ فخرج إليه رجلان: أحدهما البيرزان والآخر البندوان ؛ فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أخو بني تيم اللات، فبارز القعقاع البيرزان، فضربه فأذرى رأسه ، وبارزا بن ظبيان البندوان، فضربه فأذرى رأسه، وتوردوهم فرسان المسلمين، وجعل القعقاع يقول: يا معاشر المسلمين، باشروهم بالسيوف، فإنما يحصد الناس بها فتواصى الناس، نوتشايعوا إليهم، فاجتلدوا بها حتى المساء. فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئاً مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، كانت توابيتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان الغد.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية ؛ فقالت لبنيها: إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثوبوا ، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين أهل فارس ؛ والله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم ؛ انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره. فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ادفع عن بني! فرجعوا إليها، وقد أحسنوا القتال ؛ ما كلم منهم رجل كلماً ؛ فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، ثم يأتون أمهم، فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم ويرضيهم.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فأزر القعقاع يومئذ ثلاثة نفر من بني يربوع رياحيين، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمين، ويحمل ويحملون، واليربوعيون: نعيم بن عمرو بن عتاب، وعتاب بن نعيم بن عتاب ابن الحارث بن عمر بن همام، وعمرو بن شيب بن زنباع بن الحارث بن ربيعة ؛ أحد بني زيد. وقدم ذلك اليوم رسول لعمر بأربعة أسياف وأربعة أفراس يقسمها فيمن انتهى إليه البلاء، إن كنت لقيت حرباً. فدعا حمال بن مالك والربيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد الفقعسي - وكلهم من بني أسد - وعاصم بن عمرو التميمي ؛ فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع ابن عمرو واليربوعيين فحملهم على الأفراس ؛ فأصاب ثلاثة من بني يربوع ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال في ذلك الربيل بن عمرو:

لقد علم الأقـوام أنـا أحـقـهـم                 إذا حصلوا بالمرهفات البواتـر
وما فتئت خيلي عشية أرمـثـوا              يذودون رهواً عن جموع العشائر
لدن غدوة حتى أتى الليل دونهـم           وقد أفلحت أخرى الليالي الغوابر

وقال القعقاع في شأن الخيل:

لم تعرف الخيل العراب سـواءنـا              عشية أغواث بجنـب الـقـوادس
عشية رحنا بالـرمـاح كـأنـهـا                 على القوم ألوان الطيور الرسارس

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن سليم بن عبد الرحمن السعدي، عن أبيه، قال: كان يكون أول القتال في كل أيامها المطاردة، فلما قدم القعقاع قال: يأيها الناس، اصنعوا كما أصنع، ونادى : من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، ثم البيرزان فقتله، ثم خرج الناس من كل ناحية، وبدأ الحرب والطعان، وحمل بنو عم القعقاع يومئذ ؛ عشرة عشرة من الرجالة، على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم تحميهم ، وأمرهم أن يحملوا على خيلهم بين الصفين يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين. فلما رأى ذلك الناس استنوا بهم، فلقى فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وحمل رجل من بني تميم ممن كان يحمى العشيرة يقال له سواد، وجعل يتعرض للشهادة، فقتل بعد ما حمل، وأبطأت عليه الشهادة ؛ حتى تعرض لرستم يريده، فأصيب دونه.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء بن زياد، والقاسم بن سليم عن أبيه، قالا: خرج رجل من أهل فارس، ينادى : من يبارز؟ فبرز له علباء بن جحش العجلى، فنفحه علباء، فأسحره ، ونفحه الآخر فأمعاه، وخرا ؛ فأما الفارسي فمات من ساعته، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج إدخالها فلم يتأدت له حتى مر به رجل من المسلمين، فقال: يا هذا، أعني على بطني، فأدخله له، فأخذ بصفاقيه ، ثم زحف صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعاً من مصرعه، إلى صف فارس، وقال:

أرجو بها من ربنـا ثـوابـاً            قد كنت ممن أحسن الضرابا

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: وخرج رجل من أهل فارس فنادى: من يبارز؟ فبرز له الأعراف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه فأخذوه، فغبر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه ؛ وقال في ذلك:

وإن يأخذوا بزى فإني مـجـرب                خروج من الغماء محتضر النصر
وإني لحام من وراء عـشـيرتـي              ركوب لآثار الهوى محفل الأمر

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: فحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة ؛ كلما طلعت قطعة حملة، وأصاب فيها، وجعل يرتجز ويقول:

أزعجهم عمداً بها إزعاجاً                أطعن طعناً صائباً ثجاجا

أرجو به من جنة أفواجاً كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة ؛ كلما حمل حملة قتل فيها، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني، وقال في ذلك القعقاع:

حبونه جيلشة بالـنـفـس               هدارة مثل شعاع الشمس
في يوم أغواث فليل الفرس            أنخش بالقوم أشد النخـس

حتى تفيض معشري ونفسي وبارز الأعور بن قطبة شهر براز سجستان، فقتل كل واحد منهما صاحبه، فقال أخوه في ذلك:

لم ار يوما"ً كان أحلى وأمـر                 من يوم أغواث إذا افتر الثغر

من غير ضحك كان أسوا وأبر كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد ؛ وشاركهم ابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف النهار ؛ فلما عدل النهار تزاحف الناس ؛ فاقتتلوا بها صتيتا حتى انتصف الليل ؛ فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، والنصف الأول يدعى السواد. ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث في القادسية الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم ؛ وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم ؛ فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد بات الناس على مثل ما بات عليه القوم ليلة أرماث ؛ ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا حتى تفايئوا. فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الإنتماء فلا توقظني، فإنهم أقوياء على عدوهم ؛ وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقطنى، فإنهم على السواء فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني ؛ فإن انتماءهم عن السوء.

فقالوا: ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفييه ويستقيله، فزبره ورده، فنزل، فأتى سلمى بنت خصفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خصفة ؛ هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عنى وتعيرينني البلقاء ؛ فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فقالت: وما أنا وذاك! فرجع يرسف في قيوده، ويقول:

كفى حزناً أن تردى الخيل بالقنا               وأترك مشدوداً على وثـاقـياً
إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت                مصاريع دونى قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخـوة                      فقد تركوني واحداً لا أخالـيا
ولله عهد لا أخيس بـعـهـده                       لئن فرجت ألا أزور الحوانـيا

فقالت سلمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته. وقالت: أما الفرس فلا أعيرها ؛ ورجعت إلى بيتها، فاقتادها فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها ؛ ثم دب عليها ؛ حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ؛ فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم: عرياً ؛ ثم رجع من خلف المسلمين إلى المسيرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فنذر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ؛ وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه. وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء! وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر، وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لآ تباشر القتال لقلنا: ملك يثبتنا ؛ ولا يذكره الناس ولا يأبهون له ؛ لأنه بات في محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج ؛ ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيديه، وقال:

لقـد عـلـمـت ثـقـيف غـير فـخـــر              بأنـا نـحـن أكـرمـهــم ســـيوفـــاً
وأكـثـرهـم دروعـاً ســابـــغـــات                وأصـبـهـم إذا كـرهـوا الـوقــوفـــا
وأنـا وفـــدهـــم فـــي كـــل يوم                فإن عـمـيوا فـسـل بـهـم عــريفـــاً
ولـيلة قـادس لـم بـشـعـــروا بـــي            ولـم أشـعـر بـمـخـرجـي الـزحـوفـا
فإن أحبس فذلكم بلائي وإن أترك أذيقهم الحتوفا

فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شئ حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسني بحرام أكتله ولا شربته ؛ ولكني كنت صاحب شراب في الجاهليه، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحياناً، فيساء لذلك ثنائي ؛ ولذلك حبسني، قلت:

 إذا مت فادفنى إلى أصل كـرمة              تروى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفننـى بـالـفـلاة فـإنـي                   أخاف إذا ما مـت ألا أذوقـهـا
وتروى بخمر الحص لحدى فإنني              أسير لها من عبد ما قد أسوقهـا

ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث، وليلة الهدأة، وليلة السواد ؛ حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: اذهب فما مؤاخذك بشئ تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً .