آخر حديث الجمل

بعثة عليّ بن أبي طالب قيس بن سعد بن عبادة أميراً على مصر وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ وثلاثين - قتل محمد بن أبي حذيفة، وكان سبب قتله أنه لما خرج المصريّون إلى عثمان مع محمد بن أبي بكر، أقام بمصر، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وضبطها، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وبويع لعليّ، وأظهر معاوية الخلاف، وبايعه على ذلك عمرو بن العاص، فسار معاوية وعمرو إلى محمد بن أبي حذيفة قبل قدوم قيس بن سعد مصر، فعالجا دخول مصر، فلم يقدرا على ذلك، فلم يزالا يخدعان محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى عريش مصر في ألف رجل، فتحصّن بها، وجاءه عمرو فنصب المنجنيق عليه حتى نزل في ثلاثين من أصحابه وأخذوا وقتلوا رحمهم الله.

وأما هشام بن محمد فإنه ذكر أن أبا مخنف لوط بن يحي بن سعيد ابن مخنف بن سليم، حدّثه عن محمد بن يوسف الأنصاريّ من بني الحارث بن الخزرج، عن عبّاس بن سهل الساعديّ أنّ محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف هو الذي كان سرّب المصريّين إلى عثمان بن عفان، وإنهم لما ساروا إلى عثمان فحصروه وثب هو بمصر على عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤيّ القرشيّ، وهو عامل عثمان يومئذ على مصر، فطرده منها، وصلّى بالناس، فخرج عبد الله ابن سعد من مصر فنزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين، فانتظر ما يكون من أمر عثمان، فطلع راكب فقال: يا عبد الله، ما وراءك؟ خبّرنا بخبر الناس خلفك؛ قال: أفعل، قتل المسلمون عثمان رضي الله عنه، فقال عبد الله بن سعد: "إنّا لله وإنّا إليه راجهون!"، يا عبد الله، ثم صنعوا ماذا؟ قال: ثم بايعوا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، قال عبد الله بن سعد:"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، قال له الرجل: كأنّ ولاية عليّ بن أبي طالب عدلت عندك قتل عثمان! قال: أجل. قال: فنظر إليه الرّجل، فتأملّه فعرفه وقال: كأنّك عبد الله بن أبي سرح أمير مصر! قال: أجل؛ قال له الرجل: فإن كان لك في نفسك حاجة فالنّجاء النّجاء، فإنّ رأى أمير المؤمنين فيك وفي أصحابك سيّئ، إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين، وهذا بعدي أمير يقدم عليك. قال له عبد الله: ومن هذا الأمير؟ قال: قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ؛ قال عبد الله بن سعد: أبعد الله محمد بن أبي حذيفة! فإنه بغى على ابن عمّه، وسعى عليه، وقد كان كفله ورّباه وأحسن إليه، فأساء جواره، ووثب على عمّاله، وجهز الرجال إليه حتى قتل، ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان، لم يمتّعه بسلطان بلاده حولا ولا شهراً، ولم يره لذلك أهلاً، فقال له الرجل: انج بنفسك، لا تقتل. فخرج عبد الله بن سعد هارباً حتى قدم على معاوية ابن أبي سفيان دمشق.

قال أبو جعفر: فخبر هشام هذا يدلّ على أن قيس بن سعد ولى مصر ومحمد بن أبي حذيفة حيّ.

وفي هذه السنة بعث عليّ بن أبي طالب على مصر قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، فكان من أمره ما ذكر هشام بن محمد الكلبيّ، قال: حدّثني أبو مخنف، عن محمد بن يوسف بن ثابت، عن سهل بن سعد، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه وولى عليّ بن أبي طالب الأمر، دعا قيس ابن سعد الأنصاريّ فقال له: سر إلى مصر فقد ولّيتكها، واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوّك وأعزّ لولّيك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن، واشتدّ على المريب، وارفق بالعامة والخاصّة، فإنّ الرفق يمن.

فقال له قيس بن سعد: رحمك الله يا أمير المؤمنين! فقد فهمت ما قلت، أمّا قولك: اخرج إليها بجند، فوالله لئن لم أدخلها إلاّ بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبداً، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن أنت احتجت كانوا عدّة لك، وأنا أصير إليها بنفسي وأهل بيتي. وأمّا ما أوصيتني به من المرفق والإحسان، فإنّ الله عزّ وجلّ هو المستعان على ذلك.

قال: فخرج قيس بن سعد في سبعة نفر من أصحابه حتى دخل مصر، فصعد المنبر، فجلس عليه، وأمر بكتاب معه من أمير المؤمنين فقرئ على أهل مصر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أمّا بعد، فإنّ الله عزّ وجلّ بحسن صنعه وتقديره وتدبيره، اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرّسل عليهم السلام إلى عباده، وخصّ به من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله عزّ وجلّ به هذه الأمّة، وخصّهم به من الفضيلة أن بعث إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فعلّمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنّة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما لا يتفرّقوا، وزكّاهم لكيما يتطّهروا، ورفّههم لكيما لا يجوروا، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عزّ وجلّ صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم إنّ المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين، عملا بالكتاب والسنّة، وأحسنا السيرة، ولم يعدوا السنّة، ثم توفّاهما الله عزّ وجلّ، رضي الله عنهما. ثم ولى بعدهما وال فأحدث أحداثاً، فوجدت الأمة عليه مقالاً فقالوا، ثم نقموا عليه فغيّروا، ثم جاءوني فبايعوني، فأستهدي الله عزّ وجلّ بالهدى، وأستعينه على التقوى. ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقيام عليكم بحقه والتنفيذ لسنّته، والنّصح لكم بالغيب، والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة أميراً، فوازروه وكانفوه، وأعينوه على الحقّ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدّة على مريبكم، والرّفق بعوامّكم وخواصّكم، وهو ممّن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته. أسأل الله عزّ وجلّ لنا ولكم عملاً زاكياً، وثواباً جزيلاً، ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب عبيد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين.

قال: ثمّ إنّ قيس بن سعد قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: الحمد لله الذي جاء بالحقّ، وأمات الباطل، وكبت الظالمين. أيّها الناس، إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد محمد نبينا صلى الله عليه وسلم، فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم.

فقام الناس فبايعوا، واستقامت له مصر، وبعث عليها عمّاله، إلاّ أن قرية منها يقال لها: خربتا فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبها رجل من كنانة ثم من بنى مدلج يقال له يزيد بن الحارث من بني الحارث بن مدلج. فبعث هؤلاء إلى قيس بن سعد: إنّا لا نقاتلك فابعث عمّالك، فالأرض أرضك، ولكن أقرّنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس.

قال: ووثب مسلمة بن مخلّد الأنصاريّ، ثمّ من ساعده من رهط قيس ابن سعد، فنعى عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس بن سعد: ويحك، عليّ تثب! فوالله ما أحبّ أنّ لي ملك الشأم إلى مصر وأني قتلتك. فبعث إليه مسلمة: إني كافّ عنك ما دمت أنت والي مصر.

قال: وكان قيس بن سعد له حزم ورأي، فبعث إلى الذين بخربتا: إنّي لا أكرهكم على البيعة، وأنا أدعكم وأكفّ عنكم. فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلّد، وجبى الخراج، ليس أحد من الناس ينازعه.

قال: وخرج أمير المؤمنين إلى أهل الجمل وهو على مصر، ورجع إلى الكوفة من البصرة وهو بمكانه، فكان أثقل خلق الله على معاوية بن أبي سفيان لقربه من الشأم، مخافة أن يقبل إليه عليّ في أهل العراق، ويقبل إليه قيس بن سعد في أهل مصر، فيقع معاوية بينهما.

وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد - وعليّ بن أبي طالب يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفّين: من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد. سلام عليك، أمّا بعد، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان بن عفان رضي الله عنه في أثرة رأيتموها، أو ضربة سوط ضربها، أو شتيمة رجل، أو في تسييره آخر، أو في استعماله الفتيّ، فإنكم قد علمتم - إن كنتم تعلمون - أنّ دمه لم يكن يحلّ لكم، فقد ركبتم عظيماً من الأمر، وجئتم شيئاً إدّاً، فتب إلى الله عزّ وجلّ يا قيس ابن سعد. فإنك كنت في المجلبين على عثمان بن عفان - إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئاً - فأمّا صاحبك فإنا استيقنّا أنّه الذي أغرى به الناس، وحملهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يسلم دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل. تابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني غير هذا مما تحبّ، فإنّك لا تسألني شيئاً إلا أوتيته، واكتب إليّ برأيك فيما كتبت به إليك. والسلام.

فلما جاءه كتاب معاوية أحبّ أن يدافعه ولا يبدي له أمره، ولا يتعجّل له حربه، فكتب إليه: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان، وذلك أمر لم أقارفه، ولم أطف به. وذكرت أنّ صاحبي هو أغرى الناس بعثمان، ودسّهم إليه حتى قتلوه، وهذا ما لم أطّلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان، فأوّل الناس كان فيه قياماً عشيرتي. وأمّا ما سألتني من متابعتك، وعرضت عليّ من الجزاء به، فقد فهمته، وهذا أمر لي فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كافّ عنك، ولن يأتيك من قبلي شئ تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله، والمستجار الله عزّ وجلّ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

قال: فلما قرأ معاوية كتابه، لم يره إلاّ مقارباً مباعداً، ولم يأمن أن يكون له في ذلك مباعداً مكايداً، فكتب إليه معاوية أيضاً: أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، فلم أرك تدنو فأعدّك سلماً، ولم أرك تباعد فأعدّك حرباً، أنت فيما هاهنا كحنك الجزور، وليس مثلي يصانع المخادع، ولا ينتزع للمكايد، ومعه عدد الرّجال، وبيده أعنّة الخيل؛ والسلام عليك.

فلما قرأ قيس بن سعد كتاب معاوية، ورأى أنه لا يقبل معه المدافعة والمماطلة، أظهر له ذات نفسه، فكتب إليه: بسم الله الرّحمن الرّحيم. من قيس بن سعد، إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فإنّ العجب من اغترارك بي، وطمعك فيّ، واستسقاطك رأيي. أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق، وأهداهم سبيلاً، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، وتأمرني بالدّخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزّور، وأضلّهم سبيلاً، وأبعدهم من الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم وسيلة، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس! وأمّا قولك إني مالئ عليك مصر خيلاً ورجلاً فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك؛ لذو جدّ، والسلام. فلما بلغ معاوية كتاب قيس أيس منه، وثقل عليه مكانه.

حدثني عبد الله بن أحمد المروزيّ، قال: حدثني أبي قال: حدّثني سليمان، قال: حدّثني عبد الله، عن يونس، عن الزّهريّ، قال: كانت مصر من حين عليّ، عليها قيس بن سعد بن عبادة وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ذوي الرأي والبأس، وكان معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص جاهدين على أن يخرجاه من مصر ليلغبا عليها، فكان قد امتنع فيها بالدّهاء والمكايدة، فلم يقدرا عليه، ولا على أن يفتتحا مصر؛ حتى كاد معاوية قيس بن سعد من قبل عليّ، وكان معاوية يحدّث رجالاً من ذوي الرأي من قريش يقول: ما ابتدعت مكايدة قطّ كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيساً من قبل عليّ وهو بالعراق حين امتنع منّي قيس. قلت لأهل الشأم: لا تسبّوا قيس بن سعد، ولا تدعوا إلى عزوه، فإنه لنا شيعة، يأتينا كيّس نصيحته سرّاً. ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، ويؤمّن سربهم؛ ويحسن إلى كلّ راكب قدم عليه منكم، لا يستنكرونه في شئ!.

قال معاوية: وهممت أن أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق، فيسمع بذلك جواسيس عليّ عندي وبالعراق. فبلغ ذلك عليّاً، ونماه إليه محمد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر بن أبي طالب. فلما بلغ ذلك عليّاً اتهم قيساً، وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا - وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف - فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم، وكتب إلى عليّ: إنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، وأهل الحفاظ منهم، وقد رضوا منّي أن أؤمّن سربهم، وأجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، وقد علمت أنّ هواهم مع معاوية، فلست مكايدهم بأمر أهون عليّ وعليك من الذي أفعل بهم، ولو أني غزوتهم كانوا لي قرناً، وهو أسود العرب، ومنهم بسر بن أبي أرطأة، ومسلمة بن مخلّد، ومعاوية بن حديح، فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم. فأبى عليّ إلاّ قتالهم، وأبى قيس أن يقاتلهم.

فكتب قيس إلى عليّ: إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك، وابعث إليه غيري. فبعث عليّ الأشتر أميراً إلى مصر، حتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه. فبلغ حديثهم معاوية وعمرا، فقال عمرو: إن لله جنداً من عسل.

فلما بلغ عليّاً وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميراً على مصر. فالزّهريّ يذكر أنّ عليّاً بعث محمد بن أبي بكر أميراً على مصر بعد مهلك الأشتر بقلزم، وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر في خبره أنّ عليّاً بعث بالأشتر أميراً على مصر بعد مهلك محمد بن أبي بكر.

رجع الحديث إلى حديث هشام بن أبي مخنف: ولما أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره، شقّ عليه ذلك، لما يعرف من حزمه وبأسه، وأظهر للناس قبله؛ أنّ قيس بن سعد قد تابعكم، فادعوا الله له، وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه. قال: واختلق معاوية كتاباً من قيس بن سعد، فقرأه على أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد، سلام عليك، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد، فإنّي لمّا نظرت رأيت أنه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً محرّماً برّاً تقيّاً، فنستغفر الله عزّ وجلّ لذنوبنا، ونسأله العصمة لديننا. ألا وأنّي قد ألقيت إليكم بالسّلم، وإني أجبتك إلى قتال قتلة عثمان، إمام الهدى المظلوم، فعوّل عليّ فيما أحببت من الأموال والرجال أعجّل عليك، والسلام.

فشاع في أهل الشام أنّ قيس بن سعد قد بايع معاوية بن أبي سفيان، فسرّحت عيون عليّ بن أبي طالب إليه بذلك؛ فلما أتاه ذلك أعظمه وأكبره، وتعجّب له، ودعا بنيه، ودعا عبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال: ما رأيكم؟ فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيساً عن مصر. قال لهم عليّ: إني والله ما أصدّق بهذا على قيس؛ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، اعزله، فوالله لئن كان هذا حقّاً لا يعتزل لك إن عزلته.

فإنهم كذلك إذ جاء كتاب من قيس بن سعد فيه: بسم الله الرّحمن الرّحيم، أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ قبلي رجالاً معتزلين قد سألوني أن أكفّ عنهم، وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس، فنرى ويروا رأيهم، فقد رأيت أن أكفّ عنهم، وألاّ أتعجّل حربهم، وأن أتألّفهم فيما بين ذلك لعلّ الله عزّ وجلّ أن يقبل بقلوبهم، ويفرّقهم عن ضلالتهم، إن شاء الله.

فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، ما أخوفني أن يكون هذا ممالأة لهم منه، فمره يا أمير المؤمنين بقتالهم، فكتب إليه عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فسر إلى القوم الّذين ذكرت، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلاّ فناجزهم إن شاء الله.

فلما أتى قيس بن سعد الكتاب فقرأه، لم يتمالك أن كتب إلى أمير المؤمنين: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد عجبت لأمرك، أتأمرني بقتال قوم كافّين عنك، مفرّغيك لقتال عدوّك! وإنّك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوّك، فأطعني يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإنّ الرأي تركهم، والسلام.

فلما أتاه هذا الكتاب قال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، ابعث محمد بن أبي بكر على مصر يكفك أمرها، واعزل قيساً، والله لقد بلغني أن قيساً يقول: والله إنّ سلطاناً لا يتمّ إلاّ بقتل مسلمة بن مخلّد لسلطان سوء؛ والله ما أحبّ أنّ لي ملك الشأم إلى مصر وأني قتلت ابن المخلّد. قال: وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمّه، فبعث عليّ محمد بن أبي بكر على مصر، وعزل عنها قيساً.