مقدمة الحكواتي

لأبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني اللّيثي البصري المعروف بالجاحظ

المولود في البصرة عام 159 هـ والمتوفي عام 255 هـ

 

هو إمام البلاغة المشهور وصاحب الكتب الممتعة، من أشهرها "كتاب الحيوان" و"البيان والتبيين" و"كـتاب البـخـلاء" وغيرها. 

توفي وقد نيّف على التّسعين سنة. اسمه أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني اللّيثي البصري. له مقالة في أصول الدّين وإليه تُنسَب الجاحظية التّي تشكّل إحدى فرق المعتزلة التي كان لها ركنًا بارزًا من أركانها. 

كان تلميذ أبي إسحق إبراهيم بن سيار البلخي، المعروف بالنّظام المتكلّم المشهور. من مذهبه أن المعارف كلّها طباعًا وليس بشيء من ذلك من أفعال العباد، وليس للعباد سوى الإرادة. قال في أهل النار إنّهم لا يخلدون فيها عذاباً بل يصيرون إلى طبيعة النار. ومذهبه مذهب الفلاسفة المعتزلة في نفي الصّفات وفي إثبات القدر، خيره وشرّه. وقال إنّ الناس محجوبون بمعرفتهم، وهم صُنفان: عالِمٌ بالتّوحيد وجاهِلٌ به. فالجّاهل معذور والعالم محجوج ومن انتحل دين الإسلام، فإن اعتقد أن اللّه تعالى ليس بجسمٍ ولا بصورةٍ ولا يُرَى بالأبصار وهو عدل لا يجور ولا يريد المعاصي.. وبعد الإعتقاد والتّبيين أقرّ بذلك كلّه. فهو مسلم حقًا. وإن عرف ذلك كله ثم جحده وأنكره أو دان بالتشبيه والجبر فهو مشرك كافر حقًا. وإن لم ينظر في شيء من ذلك واعتقد أن اللّه تعالى ربه وأن محمدًا رسول اللّه فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك. 

احتل الجاحظ في دنيا الأدب والعلم مكان الصدارة، فهو رائد المدرسة الأدبيّة الشعبية التي تناولت مختلف طبقات الناس، بعد أن كانت المدرسة الأدبية الأرستقراطية هي السائدة مع ابن المقفع، وتقتصر على الحديث عن الملوك والأمراء، فأصبحت مع الجاحظ تتناول العامة من الناس، لا تستثني منهم أحدًا. 

تمتاز مدرسة أبي عثمان الأدبية بأسلوبٍ عُرِف باسمه، يقوم على التّنوع اللّفظي والإستطراد من موضوعٍ إلى آخر والإسهاب والبُعد عن الصناعة اللّفظية والإرسال، لإعتقاده أنّ الألوان البديعية من سجع وطباق وجناس تقيد الفكرة وتُلهي القارئ بألاعيبها عن المعنى. لكنّه استعاض عن هذه الألوان بحسن تزاوج الألفاظ والإكثار من المترادفات، فحقّق بذلك نوعًا من التّناغم الموسيقيّ. 

وقد نظر البعض إلى الإستطراد عند الجاحظ على انّه نقطة ضعفٍ في أدبه ولكنّ أبا عثمان اعتمده حتى يزيل الملل من ذهن القارئ. فالإستطراد، وبخاصّة في المواضيع العلمية، كان أشبه بمحطّة استراحة. 

والجاحظ المعتزلي كان يؤمن بسيادة العقل ويدعو إلى العمل بأحكامه لا بأحكام الحواس التي قد تخطئ فيقول: "لا تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل". والرّوح الجاحظية ضَرْب مثلٍ بالظّرف والكياسة، جعلته خفيف الظّل، حاضر النّكتة. 

ومجمل القول في الجاحظ إنّه أديب العربية الكبير، جمع إلى طول باعيه في الأدب الرّفيع العالِم الذي انتقد نظريات المعلّم الأول أرسطو، ولم يقر رأيًا علميًا إلاّ بعد إخضاعه للتّجربة والمراقبة. ولو عاش اليوم في عصرنا، عصر المختبرات العلمية المختلفة، لكان من كبار العلماء إلى جانب كونه من كبار الأدباء.

قال ياقوت الحموي في "معجم الأدباء": (( أبو عثمان الجاحظ مولى أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقمي أحد النسابين، قال يموت بن المزرع: الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمالاً لعمرو بن قلع الكناني. وقال أبو القاسم البلخي: الجاحظ كناني من أهل البصرة، وكان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره، وعلا قدره، واستغنى عن الوصف.

قال المرزباني: حدث المادي قال: حدثني من رأى الجاحظ يبيع الخبز والسمك بسيحان. قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمس ومائة وولد في آخرها. مات الجاحظ سنة خمس وخمسين ومائتين في خلافة المعتز وقد جاوز التسعين، سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد. وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.

وحدث أبو هفان قال: لم أر قط ولا سمعت من أب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر. والفتح بن خاقان، فإنه يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتاباً من كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه حتى في الخلاء وإسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب، أو يقلب كتباً أو ينفضها. وقال المرزباني: قال أبو بكر أحمد بن علي: كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظام، وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين، وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذهب المخالفين، وفي الآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرؤوها وعرفوا فضلها. وإذا تدبر العاقل المميز أمر كتبه علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان، ومعرفة أصول الكلام وجواهره، وإيصال خلاف الإسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب - كتب تشبهها، والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور.

قال المرزباني: وكان الجاحظ ملازماً لمحمد بن عبد الملك خاصاً به، وكان منحرفاً عن أحمد بن أبي دؤاد للعداوة بين أحمد ومحمد. ولما قبض على محمد هرب الجاحظ فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، يريد ما صنع بمحمد، وإدخاله تنور حديد فيه مسامير كان هو صنعه ليعذب الناس فيه، فعذب هو فيه حتى مات - يعني محمد بن الزيات -.

وحدث علي بن محمد الوراق قال: من كتاب الجاحظ إلى ابن الزيات: لا والله، ما عالج الناس داءً قط أدوى من الغيظ، ولا رأيت شيئاً هو أنفذ من شماتة الأعداء، ولا أعلم باباً أجمع لخصال المكروه من الذل، ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثي له، فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام، فكم من كربة فادحة، وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفككت أغلالها، ومهما قصرت فيه فلم أقصر في المعرفة بفضلك، وفي حسن النية بيني وبينك، لا مشتت الهوى، ولا مقسم الأمل، على تقصير قد احتملته، وتفريط قد اغتفرته، ولعل ذلك أن يكون من ديون الإدلال وجرائم الإغفال، ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار، وإن كنت كما تصف من التقصير وكما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان، وحسن الحال. متوسط المذهب، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين، وقد كانت علي بك نعمة أذاقتني طعم العز، وعودتني روح الكفاية، ولوت هذا الدهر وجهده، ولما مسخ الله الإنسان قرداً وخنزيراً ترك فيهما مشابه من الإنسان، ولما مسخ زماننا لم يترك فيه مشابه من الأزمان.

وقال أبو عثمان: ليس جهد البلاء مد الأعناق وانتظار وقع السيف، لأن الوقت قصير، والحين معمور، ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلة وتطول المدة، وتعجز الحيلة، ثم لا تعدم صديقاً مؤنباً، وابن عم شامتاً، وجاراً حاسداً، وولياً قد تحول عدواً، وزوجة مختلعة، وجارية مسبعة، وعبداً يحقرك، وولداً ينتهرك.