كتاب القيان

الجاحظ
أبو عثمان بن بحر الجاحظ المولود عام 159 هـ والمتوفي عام 255 هـ


نبذة عن الكاتب

أبو عثمان عمرو بن بحر، أديب وعالم موسوعي اشتهر في القرنين الثاني والثالث الهجريين / التاسع الميلادي. ولقب بالجاحظ لجحوظ عينيه وكان إلى ذلك جهم الخلقة. ولد في البصرة وفيها نشأ وترعرع. وكان أول أمره يبيع الخبز والسمك بسيحان بالقرب من البصرة بالعراق.

لقد شغف الجاحظ منذ نشأته بالقراءة، حتى أنه اعتاد أن يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها ليطالع الكتب، التي لا يقدر على اقتنائها، المؤلفة منها والمترجمة، في مختلف العلوم وفروع المعرفة، مما ساعده بما وُهب من قوة حفظ وسرعة خاطر، على أن يلم بمختلف العلوم والمعارف ويحصل على ذخيرة وفيرة من ثقافة عصره وأخبار الأولين، والتاريخ والكلام والإلهيات والطبيعيات والفلسفة. كما أخذ الفصاحة من شفاه العرب، ودرس اللغة والأدب والشعر والأخبار على أشهر علماء البصرة منهم أبو عبيد بن المثنى، وأبو زيد الأنصاري، والأصمعي، ودرس النحو على الأخفش. أما علم الكلام وأصول المعتزلة فقد درسهما على شيخ المعتزلة أبي إسحاق النظام. ثم انتقل إلى بغداد واتصل بشيوخ اللغة والنحو والأدب والفلسفة والتاريخ وأفاد منهم كثيرا. كما اختلط الجاحظ بمختلف طبقات المجتمع من رجال الدولة وعلمائها وأدبائها، وعامة الناس، واطلع على العديد من الأوضاع الاجتماعية. فوعى كل ذلك وأحسن تسجيله ووصفه، مما أتاح له أن يصنف عددا كبيرا من الكتب والرسائل في شتى العلوم.

ولقد عرف الجاحظ بخفة روحه وميله الفطري إلى الهزل والفكاهة، ومن ثم كانت كتاباته على اختلاف مواضيعها لا تخلو من الهزل والتهكم. كما أنه وُهب روحا فنية كانت تسيطر على ما يكتبه، فكانت أغلب المواضيع التي كتب فيها قريبة إلى حياة الناس وأذواقهم وأفهامهم وتراثهم. كما كان واقعيا يعطي لكل مقام مقالا. ولذا فإنه لا يتردد فيما يكتبه عن أخلاق العامة من استعمال لغتهم وألفاظهم ولو كانت سمجة بذيئة أو غير مستملحة.

وقد أهله كل ذلك أن يتولى رئاسة ديوان الرسائل أيام الخليفة المأمون، إلا أنه طلب أن يعفى منه فأعفي، ثم اتصل برجال الدولة في سامراء فكسب صداقتهم ورعايتهم، ولازم الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وهو أديب شاعر، والفتح بن خ اقان الذي كان كالجاحظ في حبه الكتاب والمطالعة، ولم يكد يفارقه كتاب حتى في مجلس الخليفة، وإبراهيم بن العباس الكاتب الشاعر، ثم قاضي القضاة أحمد بن دؤاد كبير المتكلمين وزعيم الاعتزال. وكان الجاحظ يلازم الوزير ابن الزيات مختصا به مقربا منه، ومنصرفا عن أحمد بن دؤاد للمنافسة بين الوزير وقاضي القضاة. ولما قبض الخليفة المتوكل على ابن الزيات هرب الجاحظ. ولما قتل ابن الزيات جيء بالجاحظ مقيدا إلى أحمد بن دؤاد، فنظر إليه أحمد وقال: "والله ما علمتك إلا متناسيا للنعمة، كفورا للصنيعة، معددا للمساوئ وما فتني باستصلاحي لك ولكن الأيام لا تصلح منك إلا لفساد طويتك ورداءة داخلتك وسوء اختيارك وتغالب طبعك. فقال الجاحظ: "خفض عليك أيدك الله، فوالله لأن يكون لك الأمر علي خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن عنك من أن أحسن وتسيء، وأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل من الانتقام مني. فقال له ابن دؤاد: قبحك الله، ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام... فقال: جيئوا بحداد، فقال أعز الله القاضي ليفك عني أو ليزدني؟ فقال: بل ليفك عنك. فجيء بالحداد فغمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ ويطيل أمره قليلا، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم وعمل يوم في ساعة وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي وليس بجذع ولا ساجة. فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه... ثم قال: يا غلام صر به إلى الحمام وأمط عنه الأذى واحمل إليه تخت ثياب وطويلة وخفا، فلبس ذلك، ثم أتاه فتصدر في مجلسه".

أصيب الجاحظ في أواخر أيامه بـالفالج ، فكان نصفه مفلوجا لو نشر بالمناشير ما حسّ بها، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه. ثم توفي في البصرة في شهر المحرم عام 255هـ / 869 م في عهد المعتز بالله، بعد أن جاوز التسعين من عمره. وقيل في موته إنه توفي بوقوع مجلدات الكتب عليه، إذ اعتاد أن يصف كتبه قائمة محيطة به ويجلس عليها، وكان عليلا فسقط عليه فمات.


ترك الجاحظ مؤلفات عديدة في شتى مجالات المعرفة، كما ترك مؤلفات تمثل مدرستين متميزتين أحداهما أدبية والأخرى في علم الكلام، فمن مؤلفاته الأدبية: البيان والتبيين ، وكتاب البخلاء ، والمزاح والجد ، وكتاب المحاسن والأضداد ،وكتاب عناصر الأدب ، وكتاب الأمثال ، وكتاب التاج في أخلاق الملوك . ومن مؤلفاته في علم الكلام: الحجة في ثبت النبوة ، والرد على اليهود ، والرد على الجهمية ، وكتاب الحيوان وهو الكتاب الذي انفرد به الجاحظ عن علماء عصره ومن تلوه.

نبذة عن الكتاب

كتاب دعا فيه الجاحظ إلى الخروج عن الأعراف والتقاليد في معاشرة النساء. واستشهد لذلك بنوادر النصوص والأخبار، وعثر وتعثر، وأخطأ وأصاب. وهو الكتاب الذي ذكره ياقوت باسم (كتاب المقيّنين والغناء والصنعة). وافتتحه بمقدمة شذ فيها عن جميع مقدمات كتبه، إذ جعل المقدمة رسالة من جماعة المستمتعين بالنعمة والمؤثرين للذة، المتمتعين بالقيان. (انظر أسماءهم في أول الرسالة) واستمر نص الرسالة حتى آخر الكتاب، نقتطف منها قولهم: أما بعد: فإنه ليس كل صامت عن حجته مبطلاً في اعتقاده، ولا كل ناطق بها لا برهان له محقاً في انتحاله...وقد كنا ممسكين عن القول بحجتنا فيما تضمنه كتابنا هذا، اقتصاراً على أن الحق مكتف بظهوره...إلى أن تفاقم الأمر وعيل الصبر...وخفنا أن يظن جاهل أن إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة...فوضعنا في كتابنا هذا حججاً على من عابنا بملك القيان....ولولا المحنة والبلوى...لم يكن واحد أحق بواحدة منهن من الآخر...ولولا وقوع التحريم لزالت الغيرة...وإنما هن بمنزلة المشام والتفاح الذي يتهاداه الناس بينهم...ثم كانت الشرائف يقعدن للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية ولا حراماً في الإسلام...والدليل على أن النظر إلى النساء كلهن ليس بحرام، أن المراة المعنسة تبرز للرجال فلا تحتشم من ذلك، فلو كان حراماً وهي شابة لم يحل إذا عُنّست، (ولكنه أمر أفرط فيه المتعدون حد الغيرة إلى سوء الخلق وضيق العطن فصار عندهم كالحق الواجب

كتاب القيان

الرسالة الرابعة عشرة
(كتاب العشق)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

من أبي موسى بن إسحاق بن موسى ومحمد بن خالد خذار خذاه وعبد الله بن أيوب أبي سُمير ومحمد بن حماد كاتب راشد والحسن بن إبراهيم بن رباح وأبي الخيار وأبي الرنال وخاقان بن حامد وعبد الله بن الهيثم بن خالد اليزيديَّ المعروف بمشرطة وعلك بن الحسن ومحمد بن هارون كبّة وإخوانهم المستمتعين بالنعمة والمؤثرين للذّة المتمتعين بالقيان وبالإخوان المعدين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس أصحاب الستر والستارات والسرور والمراوءات‏.‏

إلى أهل الجهالة والجفاء وغلظ الطبع وفساد الحسّ‏.‏

سلام من وفق لرشده وآثر حظَّ نفسه وعرف قدر النعمة فإنّه لا يشكر النعمة من لم يعرفها ويعرف قدرها ولا يزاد فيها من لم يشكرها ولا بقاء لها على من أساء حملها‏.‏

وقد كان يقال‏:‏ حمل الغنيِّ أشد من حمل الفقير ومؤونة الشكر أضعف من مشقة الصبر‏.‏

أمّا بعد فإنه ليس كلُّ صامتٍ عن حجته مبطلاً في اعتقاده ولا كلُّ ناطقٍ بها لا برهان له محقّاً في انتحاله‏.‏

والحاكم العادل من لم يعجلْ بفصْل القضاء دون استقصاء حُجج الخصماء و دون أن يحوّل القول فيمن حضر من الخصماء والاستماع منه وأن تبلغ الحجّة مداها من البيان ويشرك القاضي الخصمين في فهم ما اختصما فيه حتى لا يكون بظاهر ما يقع عليه من حكمه أعلم منه بباطنه ولا بعلانية ما يُفلْج الخصام منه أطبَّ منه بسرِّه‏.‏

ولذلك ما استعمل أهل الحزم والرويّة من القضاة طول الصمت وإنعام التفهُّم والتمهُّل ليكون الاختيار بعد الاختيار والحكم بعد التبيُّن‏.‏

وقد كُنّا ممسكين عن القول بحجّتنا فيما تضمَّنه كتابنا هذا اقتصاراً على أن الحقَّ مكتفٍ بظهوره مُبينٌ عن نفسه مستغنٍ عن أن يُستدلَّ عليه بغيره إذْ كان إنمَّا يُستدلُّ بظاهرٍ على باطن وعلى الجوهر بالعرض ولا يُحتاج أن يستدلَّ بباطن على ظاهر‏.‏

وعلمنا أنّ خصماءنا وإنْ موّهوا وزخرفوا غير بالغين للفلج والغلبة عند ذوي العدْل دون الاستماع منّا وأنَّ كلَّ دعوى لا يفلُجُ صاحبها بمنزلة ما لم يكن بل هي على المدَّعي كلٌّ وكربٌ حتَّى تؤدِّيه إلى مسّرة النُّجح أو راحة اليأس‏.‏

إلى أنْ تفاقم الأمر وعيل الصَّبر وانتهى إلينا عيب عصابةٍ لو أمسكْنا عن الإجابة عنها والاحتجاج فيها علماً بأنَّ من شأن الحاسد تهجين ما يحسد عليه ومن خُلق المحروم ذمَّ ما حُرم وتصغيره والطَّعن على أهله كان لنا في الإمساك سعة‏.‏

فإنّ الحسد عقوبةٌ موجبة للحاسد بما يناله منه ويشينه من عصيان ربّه واستصغار نعمته والسَّخط لقدره مع الكرب اللازم والحزن الدائم والتنفس صُعُداً والتشاغل بما لا يُدرك ولا يُحصى‏.‏

وأنَّ الذي يشكر فعلى أمرٍ محدودٍ يكون شكره والذي يحسد فعلى ما لا حد له يكون حسده‏.‏

فحسده متَّسع بقدر تغيُّر اتّساع ما جسد عليه‏.‏

لأنّا خفنا أن يظنّ جاهل أنَّ إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها‏.‏

فوضعنا في كتابنا هذا حُججاً على من عابنا بملك القيان وسبَّنا بمنادمة الإخوان ونقم علينا إظهار النِّعم والحديث بها‏.‏

ورجونا النّصر إذ قد بدينا والبادي أظلم وكاتب الحقّ فصيح - ويروي ‏"‏ ولسان الحقِّ فصيح ‏"‏ - ونفْس المحرج لا يُقام لها وصولة الحليم المتأني لا بقاء بعدها‏.‏

فبيَّنَّا الحجّة في اطِّراح الغيرة في غير محرَّم ولا ريبة ثم وصفْنا فضل النعمة علينا ونقضْنا أقوال خصمائنا بقولٍ موجزٍ جامعٍ لما قصدْنا‏.‏

فمهما أطنبنا فيه فللشَّرح والإفهام ومهما أدمجنا وطوينا فليخفَّ حمله‏.‏

واعتمدنا على أنَّ المطوّل يقصَّر والملخَّص يختصر والمطويَّ يُنشر والأصول تتفرع وبالله الكفاية والعون‏.‏

إنّ الفروع لا محالة راجعةٌ إلى أصولها والأعجاز لاحقةٌ بصدورها والموالي تبعٌ لأوليائها وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة ومنفردة بالمضادَّة وبعضها عِلَّةٌ لبعض كالغيث علَّة السَّحاب والسَّحاب علَّة الماء والرُّطوبة وكالحبّ عِلّته الزَّرع والزَّرع علَّته الحبّ والدَّجاجة علَّتها البيضة والبيضة علَّتها الدجاجة والإنسان علّته الإنسان‏.‏

والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض وكلُّ ما تُقلُّه أكنافها للإنسان خولٌ ومتاعٌ إلى حين‏.‏

إلاّ أنّ أقرب ما سُخِّر له من روحه وألطفه عند نفسه ‏"‏ الأُنثى ‏"‏ فإنّها خُلقت له ليسكن إليها وجُعلت بينه وبينها مودّة ورحمة‏.‏

ووجب أن تكون كذلك وأن يكون أحقَّ وأولى بها من سائر ما خُوِّل إذْ كانت مخلوقةً منه‏.‏

وكانت بعضاً له وجزءاً من أجزائه وكان بعض الشيء أشكل ببعض وأقرب به قُرباً من بعضه ببعض غيره‏.‏

فالنساء حرثٌ للرجال كما النبات رزقٌ لما جُعل رزقاً له من الحيوان‏.‏

ولولا المحنة والبلوى في تحريم ما حرَّم وتحليل ما أحلّ وتخليص المواليد من شُبهات الاشتراك فيها وحصول المواريث في أيدي الأعقاب لم يكن واحدٌ أحقَّ بواحدةٍ منهن من الآخر كما ليس بعض السَّوام أحقَّ برعْي مواقع السَّحاب من بعض ولكان الأمر كما قالت المجوس‏:‏ إن للرجل الأقرب فالأقرب إليه رحماً وسبباً منهنّ‏.‏

إلا أنّ الفرض وقع بالامتحان فخصَّ المطلق كما فعل وكلُّ شيءٍ لم يُوجد محرَّماً في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمباحٌ مُطلق‏.‏

وليس على استقباح الناس واستحسانهم قياسٌ ما لم نخرج من التحريم دليلاً على حسنه وداعياً إلى حلاله‏.‏

ولم نعلم للغيرة في غير الحرام وجهاً ولولا وقوع التحريم لزالت الغيرة ولزمنا قياس من أحقُّ بالنساء فإنَّه كان يقال‏:‏ ليس أحدٌ أولى بهنَّ من أحد وإنَّما هنَّ بمنزلة المشامّ والتُّفَّاح الذي يتهاداه الناس بينهم‏.‏

ولذلك اقتصر من له العدَّة على الواحدة منهنَّ وفرَّق الباقي منهنَّ على المقرّبين‏.‏

غير أنّه لما عزم الفريضة بالفرق بين الحلال والحرام اقتصر المؤمنون على الحدِّ المضروب لهم ورخّصوه فيما تجاوزه‏.‏

فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجابٌ ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة ولا لحظة الخُلْسة دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة ويسمَّى المولع بذلك من الرجال الزِّير المشتَّق من الزيارة‏.‏

وكلّ ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر حتّى لقد حسك في صدر أخي بُثينة من جميل ما حسك من استعظام المؤانسة وخروج العذر عن المخالطة وشكا ذلك إلى زوجها وهزَّه ما حشّمه فكمنا لجميلٍ عند إتيانه بثينة ليقتلاه فلما دنا لحديثه وحديثها سمعاه يقول ممتحناً لها‏:‏ هل لك فيما يكون بين الرِّجال والنساء فيما يشفي غليل العشق ويُطفئ نائرة الشوق قالت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ولم قالت‏:‏ إنَّ الحبَّ إذا نكح فسد‏!‏ فأخرج سيفاً قد كان أخفاه تحت ثوبه فقال‏:‏ أمّا والله لو أنْعمت لي لملأته منك‏!‏ فلمَّا سمعا بذلك وثقا بغيبه وركنا إلى عفافه وانصرفا عن قتله وأباحاه النظر والمحادثة‏.‏

فلم يزل الرِّجال يتحدثون مع النساء في الجاهلية والإسلام حتَّى ضُرب الحجاب على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة‏.‏
وتلك المحادثة كانت سبب الوصلة بين جميلٍ وبثينة وعفراء وعُروة وكثيِّر وعزَّة وقيسٍ ولُبنى وأسماء ومقِّش وعبد الله بن عجلان وهند‏.‏

ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرِّجال للحديث ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية ولا حراماً في الإسلام‏.‏

وكانت ضباعة من بني عامر بن قُرط بن عامر بن صعصعة تحت عبد الله بن جُدعان زماناً لا تلد فأرسل إليها هشام بن المغيرة المخزوميُّ‏:‏ ما تصنعين بهذا الشَّيخ الكبير الذي لا يولد له قولي له حتّى يطلِّقك‏.‏

فقالت لعبد الله ذلك فقال لها‏:‏ إنِّي أخاف عليك أن تتزوَّجي هشام بن المغيرة‏.‏

قالت‏:‏ لا أتزوّجه‏.‏

قال‏:‏ فإن فعلت فعليك مائة من الإبل تنحرينها في الحزورة وتنسجين لي ثوباً يقطع ما بين الأخشبيْن والطواف بالبيت عُريانة‏.‏
قالت‏:‏ لا أطيقه‏.‏

وأرسلتْ إلى هشامٍ فأخبرتْه الخبر فأرسل إليها‏:‏ ما أيسر ما سألك وما يكرُثك وأنا أيسر قريشٍ في المال ونسائي أكثر نساء رجل من قريش وأنت أجمل النِّساء فلا تأبَّيْ عليه‏.‏

فقالت لابن جُدعان‏:‏ طلِّقْني فإنْ تزوجت هشاماً فعليَّ ما قلت‏.‏

فطلَّقها بعد استيثاقه منها فتزوَّجها هشامٌ فنحر عنها ماءةً من الجُزُر وجمع نساءه فنسجن ثوباً يسع ما بين الأخشبين ثم طافت بالبيت عُريانة فقال المطَّلب بن أبي وداعة‏:‏ لقد أبصرتها وهي عُريانةٌ تطوف بالبيت وإنِّي لغلامٌ أتْبعها إذا أدبرتْ وأستقبلها إذا أقبلت فما رأيت شيئاً مما خلق الله أحسن منها واضعةً يدها على ركبها وهي تقول‏:‏ اليوم يبدو بعضه أو كلُّه فما بدا منه فلا أُحلُّه كم ناظرٍ فيه فما يملُّه أخْثم مثل القعْب بادٍ ظلُّه قال‏:‏ ثم إنَّ النساء إلى اليوم من بنات الخلفاء وأمّهاتهن فمن دونهنَّ يطفن بالبيت مكشّفات الوجوه ونحو ذلك لا يكمل حجٌّ إلا به‏.‏

وأعرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نُفيل وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر فمات عنها بعد أن اشترط عليها ألا تتزوَّج بعده أبداً على أن نحلها قطعةً من ماله سوى الإرث فخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأفتاها بأن يعطيها مثل ذلك فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا فلما ابتنى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أولم ودعا المهاجرين والأنصار فلمَّا دخل عليُّ بن أبي طالب عليه السلام قصد لبيت حجلتها فرفع السِّجف ونظر إليها فقال‏:‏ فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً عليك ولا ينفكُّ جلدي أصفرا فخجلت فأطرقت وساء عمر رضي الله عنه ما رأى من خجلها وتشوُّرها عند تعيير عليٍّ إياها بنقض ما فارقت عليه زوجها فقال‏:‏ يا أبا الحسن رحمك الله ما أردت إلى هذا فقال‏:‏ حاجةٌ في نفسي قضيتها‏.‏
هذا‏.‏

وأنتم تروون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أغير الناس وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ إني رأيت قصراً في الجنة فسألت‏:‏ لمن هذا القصر فقيل‏:‏ لعمر بن الخطاب‏.‏

فلم يمنعني من دخوله إلاّ لمعرفتي بغيرتك ‏"‏‏.‏

فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ وعليك يُغارُ يا نبيَّ الله‏!‏‏.‏

فلو كان النظر والحديث والدُّعابة يُغار منها لكان عمر المقدَّم في إنكاره لتقدُّمه في شدَّة الغيرة‏.‏

ولو كان حراماً لمنع منه إذ لا شكَّ في زهده وورعه وعلمه وتفقُّهه‏.‏

وكان الحسن بن علي عليهما السلام تزوَّج حفصة ابنة عبد الرحمن وكان المنذر بن الزُّبير يهواها فبلغ الحسن عنها شيء فطلَّقها فخطبها المنذر فأبت أن تتزوَّجه وقالت‏:‏ شهَّرني‏!‏‏.‏

وخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتزوَّجها فرقَّى المنذر عنها شيئاً فطلَّقها وخطبها المنذر فقيل لها‏:‏ تزوَّجيه ليعلم الناس أنَّه كان يعضهك‏.‏

فتزوَّجتْه فعلم الناس أنَّه كذب عليها فقال الحسن لعاصم‏:‏ لنستأذنْ عليها المنذر فندخل إليها فنتحدَّث عندها فاستأذناه فشاور أخاه عبد الله بن الزُّبير فقال‏:‏ دعهما يدخلان‏.‏

فدخلا فكانت إلى عاصمٍ أكثر نظراً منها إلى الحسن وكان أبسط للحديث‏.‏

فقال الحسن للمنذر‏:‏ خذ بيد امرأتك‏.‏

فأخذ بيدها وقام الحسن وعاصمٌ فخرجا‏.‏

وكان الحسن يهواها وإنمَّا طلَّقها لما رقَّى إليه المنذر‏.‏

وقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق‏:‏ هل لك في العقيق فخرجا فعدل الحسن إلى منزل حفصة فدخل إليها فتحدَّثا طويلا ثم خرج ثم قال لابن أبي عتيق‏:‏ هل لك في العقيق قال‏:‏ نعم‏.‏

فنزل بمنزلة حفصة ودخل فقال له مرَّة أخرى‏:‏ هل لك في العقيق فقال‏:‏ يا ابن أُمِّ ألا تقول‏:‏ هل لك في حفصة‏!‏‏!‏‏.‏

وكان الحسن في ذلك العصر أفضل أهل دهره‏.‏

فلو كان محادثة النساء والنَّظر إليهنَّ حراماً وعاراً لم يفعله ولم يأذن فيه المنذر بن الزُّبير ولم يُشرْ به عبد الله بن الزُّبير‏.‏

وهذا الحديث وما قبله يُبطلان ما روت الحُشويّة من أنَّ النظر الأوَّل حرام والثاني حرام لأنَّه لا تكون محادثةٌ إلاَّ ومعها ما لا يحصى عدده من النَّظر‏.‏

إلاَّ أن يكون عني بالنظرة المحرَّمة النَّظر إلى الشعر والمجاسد وما تخفيه الجلابيب مما يحلُّ للزّوج والوليِّ ويحرم على غيرهما‏.‏

ودعا مصعب بن الزُّبير الشَّعبيَّ وهو في قُبّةٍ له مجلَّلةٍ بوشى معه فيها امرأته فقال‏:‏ يا شعبيُّ من معي في هذه القبّة فقال‏:‏ لا أعلم أصلح الله الأمير‏!‏ فرفع السِّجف فإذا هو بعائشة ابنة طلحة‏.‏

والشعبيُّ فقيه أهل العراق وعالمهم ولم يكن يستحلُّ أن ينظر إن كان النَّظر حراماً‏.‏

ورأى معاوية كاتباً له يكلِّم جاريةً لامرأته فاختة بنت قرظة في بعض طُرق داره ثم خطب ذلك الكاتب تلك الجارية فزوَّجها منه فدخل معاوية إلى فاختة وهي متحشِّدة في تعبئة عطر لعرس جاريتها فقال‏:‏ هوِّني عليك يا ابنة قرظة فإني أحسب الابتناء قد كان منذ حين‏!‏‏.‏

ومعاوية أحد الأئمّة فلما لم يقع عنده ما رأى من الكلام موقع يقينٍ وإنَّما حلَّ محلَّ ظنٍّ وحسبان لم يقضِ به ولم يوجبْه ولو أوجبه لحدَّ عليه‏.‏

وكان معاوية يؤتى بالجارية فيجرِّدها من ثيابها بحضرة جلسائه ويضع القضيب على ركبها ثم يقول‏:‏ إنَّه لمتاعٌ لو وجد متاعاً‏!‏ ثم يقول لصعصعة بن صوحان‏:‏ خذها لبعض ولدك فإنّها لا تحلُّ ليزيد بعد أن فعلت بها ما فعلت‏.‏

ولم يكن يُعدم من الخليفة ومن بمنزلته في القدرة والتأتِّي أن تقف على رأسه جارية تذبُّ عنه وتروِّحه وتعاطيه أخرى في مجلسٍ عامٍّ بحضرة الرجال‏.‏

فمن ذلك حديث الوصيفة التي اطلَّعت في كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج وكان يُسرُّه فلما فشا ما فيه رجع على الحجّاج باللَّوم وتمثَّل‏:‏ ألم ترَ أنَّ وشاة الرجا ل لا يتركون أديماً صحيحاً فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصيحا ثم نظر فوجد الجارية كانت تقرأ فنمَّت عليه‏.‏

ومن ذلك حديثه حين نعس فقال للفرزدق وجرير والأخطل‏:‏ من وصف نُعاساً بشعرٍ وبمثلٍ يُصيب فيه ويُحسن التمثيل فهذه الوصيفة له‏.‏

فقال الفرزدق‏:‏ رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه أميم جلاميدٍ تركن به وقرا فقال‏:‏ شدختني ويلك يا فرزدق‏!‏ فقال جرير‏:‏ رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه يرى في سواد الليل قُنبرة سقرا فقال‏:‏ ويلك تركتني مجنوناً‏!‏ ثم قال‏:‏ يا أخطل فقل‏.‏

قال‏:‏ رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه نديمٌ تروَّى بين ندمانه خمرا ثم لم يزل للملوك والأشراف إماءٌ يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين ونساءٌ يجْلسْن للناس مثل خالصة جارية الخيزران وعتْبة جارية ريطة ابنة أبي العباس وسُكَّر وتركيَّة جاريتي أمِّ جعفر ودقاق جارية العبَّاسة وظلوم وقسطنطينة جاريتي أم حبيب وامرأة هارون بن جعبويه وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك ثم كنّ يبرزْن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ به فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب‏.‏

ولقد نظر المأمون إلى سُكَّر فقال‏:‏ أحُرَّةٌ أنت أم مملوكة قالت‏:‏ لا أدري إذا غضبتْ عليَّ أمُّ جعفر قالت‏:‏ أنت مملوكة وإذا رضيتْ قالت‏:‏ أنت حُرَّة‏.‏

قال‏:‏ فاكتبي إليها السَّاعة فاسأليها عن ذلك‏.‏

فكتبتْ كتاباً وصلته بجناح طائرٍ من الهُدَّى كان معها أرسلتْه تعلم أمَّ جعفرٍ ذلك فعلمت أمُّ جعفرٍ ما أراد فكتبتْ إليها‏:‏ ‏"‏ أنت حُرَّة ‏"‏‏.‏

فتزوّجها على عشرة آلاف درهم ثم خلا بها من ساعتها فواقعها وخلَّى سبيلها وأمر بدفع المال إليها‏.‏

والدَّليل على أنَّ النَّظر إلى النساء كلِّهنَّ ليس بحرام أنَّ المرأة المعنَّسة تبرز للرِّجال فلا تحتشم من ذلك‏.‏

فلو كان حراماً وهي شابَّةٌ لم يحلَّ إذا عُنِّستْ ولكنَّه أمرٌ أفرط فيه المتعدُّون حدَّ الغيرة إلى سوء الخُلق وضيق العطن فصار عندهم كالحقّ الواجب‏.‏

وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدّة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلاّ الموت ما دام الرجال يريدونها‏.‏

وهم اليوم يكرهون هذا ويستسمجونه في بعض ويعافون المرأة الحرّة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً ويلزمون من خطبها العار ويُلحقون به اللَّوم ويعيِّرونها بذلك ويتحظَّون الأمة وقد تداولها من لا يُحصى عدده من الموالي‏.‏

فمن حسَّن هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر‏!‏ ولمَ لمْ يغاروا في الإماء وهنَّ أمّهات الأولاد وحظايا الملوك وغاروا على الحرائر‏.‏

ألا ترى أنَّ الغيرة إذا جاوزتْ ما حرّم الله فهي باطلٌ وأنَّها بالنِّساء لضعفهنَّ أولع حتى يغرْن على الظّنّ والحلْم في النَّوم‏.‏

وتغار المرأة على أبيها وتعادي امرأته وسرِّيته‏.‏

ولم تزل القيان عند الملوك من العرب والعجم على وجه الدَّهر‏.‏

وكانت فارس تعُدُّ الغناء أدباً والرُّوم فلسفةً‏.‏

وكانت في الجاهليّة الجرادتان لعبد الله بن جُدعان‏.‏

وكان لعبد الله بن جعفر الطّيار جوارٍ يتغنَّيْن وغلاكمٌ يقال له ‏"‏ بديع ‏"‏ يتغنَّى فعابه بذلك الحكم بن مروان فقال‏:‏ وما عليَّ أن آخذ الجيِّد من أشعار العرب وأُلقيه إلى الجواري فيترنَّمن به ويشذِّرنه بحلوقهنَّ ونغمهنّ‏!‏‏.‏

وسمع يزيد بن معاوية الغناء‏.‏

واتَّخذ يزيد بن عبد الملك حبابة وسلاَّمة وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع فقال الشاعر في إذا ما حنَّ مزهرها إليها وحنَّتْ دونه أُذن الكرامِ وأصغوا نحوه الآذان حتَّى كأنّهم وما ناموا نيامِ وقال في سلاَّمة‏:‏ ألم ترها والله يكفيك شرَّها إذا طرَّبتْ في صوتها كيف تصنعُ تردُّ نظام القول حتَّى تردَّه إلى صُلصُلٍ من حلقها يترجَّعُ وكان يسمع فإذا طرب شقَّ برُده ثم يقول‏:‏ أطير‏!‏ فتقول حبابة‏:‏ لا تطير فإنَّ بنا إليك حاجة‏.‏

ثم كان الوليد بن يزيد المتقدِّم في اللَّهو والغزل والملوك بعد ذلك يسلكون على هذا المنهاج وعلى هذا السبيل الأوّل‏.‏

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن تناله الخلافة يتغنَّى‏.‏

فممّا يعرف من غنائه‏:‏ أمَّا صاحبيَّ نزُرْ سعادا لقرب مزارها ودعا البعادا وله‏:‏ عاود القلب سعادا فقلا الطَّرف السُّهادا ولا نرى بالغناء بأساً إذا كان أصله شعراً مكسوّاً نغماً‏:‏ فما كان منه صدقاً فحسنٌ وما كان منه كذباً فقبيح‏.‏

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ الشعر كلامٌ فحسنه حسنٌ وقبيحه قبيح ‏"‏‏.‏

ولا نرى وزن الشعر أزال الكلام عن جهته فقد يوجد ولا يضرُّه ذلك ولا يزيل منزلته من الحكمة‏.‏

فإذا وجب أنّ الكلام غير محرَّم فإنّ وزنه وتقفيته لا يوجبان تحريماً لعلّة من العلل‏.‏

وإنّ الترجيع له أيضاً لا يخرج إلى حرام‏.‏

وإنّ وزن الشعر من جنس وزن الغناء وكتاب الموسيقي وهو من كتاب حدّ النُّفوس تحدُّه الألسن بحدًّ مقْنع وقد يعرف بالهاجس كما يعرف بالإحصاء والوزن‏.‏

فلا وجه لتحريمه ولا أصل لذلك في كتاب الله تعالى ولا سنّة نبيِّه عليه السلام‏.‏

فإن كان إنمّا يحرِّمه لأنه يُلهى عن ذكر الله فقد نجد كثيراً من الأحاديث والمطاعم والمشارب والنَّظر إلى الجنان والرَّياحين واقتناص الصيد والتشاغل بالجماع وسائر اللذات تصدُّ وتُلهى عن ذكر الله‏.‏

ونعلم أنّ قطع الدَّهر بذكر الله لمنْ أمكنه أفضل إلاّ أنّه إذا أدَّى الرجل الفرض فهذه الأمور كلُّها له مباحة وإذا قصَّر عنه لزمه المأثم‏.‏

ولو سلم من اللَّهو عن ذكر الله أحدٌ لسلم الأنبياء عليهم السلام‏.‏

هذا سليمان بن داود عليهما السلام ألهاه عرض الخيل عن الصَّلاة حتّى غابت الشّمس فعرقبها وقطع رقابها‏.‏

وبعد فإنَّ الرقيق تجارةٌ من التجارات تقع عليه المساومات والمشاراة بالثَّمن ويحتاج البائع والمبتاع إلى أن يستشفَّا العلق ويتأمّلاه تأمُّلاً بيّناً يجب فيه خيار الرؤية المشترط في جميع البياعات‏.‏

وإن كان لا يُعرف مبلغه بكيلٍ ولا وزنٍ ولا عددٍ ولا مساحة فقد يُعرف بالحسن والقبح‏.‏

ولا يقف على ذلك أيضاً إلاّ الثاقب في نظره الماهر في بصره الطَّبُّ بصناعته فإنّ أمر الحسن أدقُّ وأرقُّ من أن يدركه كلُّ من أبصره‏.‏

وكذلك الأمور الوهميّة لا يُقضى عليها بشهادة إبصار الأعين ولو قُضي عليها بها كان كلُّ من رآها يقضى حتّى النَّعم والحمير يحكم فيها لكلِّ بصير العين يكون فيها شاهداً وبصيراً للقلب ومؤدياً إلى العقل ثم يقع الحكم من العقل عليها‏.‏

وأنا مبين لك الحسن‏.‏

هو التمام والاعتدال‏.‏

ولست أعني بالتمام تجاوز مقدار الاعتدال كالزيادة في طول القامة وكدقة الجسم أو عظم الجارحة من الجوارح أو سعة العين أو الفم مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخَلق فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان من الحسن وإنْ عدت زيادة في الجسم‏.‏

والحدود حاصرةٌ لأمور العالم ومحيطة بمقاديرها الموقوتة لها فكلُّ شيءٍ خرج عن الحدِّ في خُلُق حتّى في الدين والحكمة الذين هما أفضل الأمور فهو قبيحٌ مذموم‏.‏

وأما الاعتدال فهو وزن الشيء لا الكمية والكون كون الأرض لا استواؤها‏.‏

ووزن النفوس في أشباه أقسامها‏.‏

فوزن خلقة الإنسان اعتدال محاسنه وألاّ يفوت شيء منها شيئاً كالعين الواسعة لصاحب الأنف الصغير الأفطس والأنف العظيم لصاحب العين الضَّيِّقة والذَّقن الناقص والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المدَّع النِّضو والظَّهر الطويل لصاحب الفخذين القصيرتين والظَّهر القصير لصاحب الفخذين الطويلتين وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل الوجه‏.‏

ثم هذا أيضاً وزن الآنية وأصناف الفُرُش والوشْي واللباس ووزن القنوات التي تجري فيها المياه‏.‏

وإنما نعني بالوزن الاستواء في الخرط والتركيب‏.‏

فلا بدَّ ممّا لا يمنع الناظر من النظر إلى الزَّرع والغرس والتفسُّح في خضرته والاستنشاق من روائحه‏.‏

ويسمّى ذلك كلُّه له حِلاًّ ما لم يمد له يداً‏.‏

فإذا مدّ يداً إلى مثقال حبّةٍ من خردل بغير حقِّها فعل ما لا يحلُّ وأكل ما يحرم عليه‏.‏

وكذلك مكالمة القيان ومفاكهتهنَّ ومغازلتهن ومصافحتهنَّ للسَّلام ووضع اليد عليهنَّ للتَّقليب والنظر حلالٌ ما لم يشبْ ذلك ما يحرم‏.‏

وقد استثنى الله تبارك وتعالى اللَّمم فقال‏:‏ ‏"‏ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللَّمم إنّ ربَّك واسع المغفرة ‏"‏‏.‏

قال عبد الله بن مسعود وسُئل عن تأويل هذه الآية فقال‏:‏ إذا دنا الرجل من المرأة فإنْ تقدَّم ففاحشة وإنْ تأخَّر فلممٌ‏.‏

وقال غيره من الصَّحابة‏:‏ القبلة واللَّمْس‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الإتيان فيما دون الفرج‏.‏

وكذلك قال الأعرابيّ حين سئل عمّا نال من عشيقته فقال‏:‏ ما أقرب ما أحل الله مما حرَّم الله‏!‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فيما روى من الحديث‏:‏ ‏"‏ فرِّقوا بين أنفاس الرجال والنِّساء ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لا يخْلُ رجلٌ بامرأة في بيتٍ وإن قيل حموها إلا إنَّ حموها الموت ‏"‏ وإنّ في الجمع بين الرِّجال والقيان ما دعا إلى الفسق والارتباط والعشق مع ما ينزل بصاحبه من الغُلمة التي تضطرُّ إلى الفجور وتحميل على الفاحشة وأنَّ أكثر من يحضُر إنمّا يحضُر لذلك لا لسماع ولا ابتياع‏.‏

قلنا‏:‏ إن الأحكام إنّما على ظاهر الأمور ولم يكلِّف الله العباد الحكم على الباطن والعمل على النيَّات فيُقضى للرجل بالإسلام بما يظهر منه ولعلّه ملحد فيه ويُقضى أنّه لأبيه ولعلّه لم يلدْه الأب الذي ادَّعى إليه قطّ إلاَّ أنّه مولود على فراشه مشهورٌ بالانتماء إليه‏.‏

ولو كُلِّف من يشهد لرجلٍ بواحدٍ من هذين المعنيين على الحقيقة لم تقم عليه شهادة‏.‏

ومن يحضر مجالسنا لا يظهر نسباً مما ينسبونه إليه ولو أظهر ثمَّ أغضينا له عليه لم يلحقْنا في ذلك إثم‏.‏

والحسب والنَّسب الذي بلغ به القيان الأثمان الرغيبة إنما هو الهوى‏.‏

ولو اشترى على مثل شرى الرَّقيق لم تجاوز الواحدة منهنَّ ثمن الرأس الساذج‏.‏

فأكثر من بالغ في ثمن جاريةٍ فبالعشق ولعله كان ينوي في أمرها الرِّيبة ويجد هذا أسهل سبيلاً إلى شفاء غليله ثم تعذَّر ذلك عليه فصار إلى الحلال وإن لم ينوه ويعرف فضله فباع المتاع وحلَّ العقد وأثقل ظهره بالعُبِّيَّة حتى ابتاع الجارية‏.‏

ولا يعمل عملاً ينتج خيراً غير إغرائه بالقيان وقيادته عليهنّ فإنّه لا ينجم الأمر إلاّ وغايته فيهنّ العشق فيعوق عن ذلك ضبط الموالي ومراعاة الرقباء وشدَّة الحجاب فيضطر العاشق إلى الشراء ويحلّ به الفرج ويكون الشيطان المدحور‏.‏

والعشق داءٌ لا يملك دفعه كما لا يستطاع دفع عوارض الأدواء إلاّ بالحمية ولا يكاد ينتفع بالحمية مع ما تولِّد الأغذية وتزيد في الطبائع بالازدياد في الطُّعم‏.‏

ولو أمكن أحداً أن يحتمي من كل ضرر ويقف عنْ كل غذاء للزم ذلك المتطِّبب في آفات صحته ونحل جسمه وضوي لحمه حتَّى يؤمر بالتخليط ويشار عليه بالعناية في الطَّيبات‏.‏

ولو ملك أيضاً صرف الأغذية واحترس بالحمية لم يملك ضرر تغيرُّ الهواء ولا اختلاف الماء‏.‏

وأنا واصفٌ لك حدَّ العشق لتعرف حدَّه‏:‏ هو داءٌ يصيب الرُّوح ويشتمل على الجسم بالمجاورة كما ينال الروح الضعف في البطش والوهن في المرء ينهكه‏.‏

وداء العشق وعمومه في جميع البدن بحسب منزلة القلب من أعضاء الجسم‏.‏

وصعوبة دوائه تأتي من قبل اختلاف علله وأنّه يتركب من وجوهٍ شتَّى كالحمى التي تعرض مركَّبةً من البرد والبلغم‏.‏

فمن قصد لعلاج أحد الخلطين كان ناقصاً من دائه زائداً في داء الخلط الآخر وعلى حسب قوة أركانه يكون ثبوته وإبطاؤه في الانحلال‏.‏

فالعشق يتركب من الحبّ والهوى والمشاكلة والإلف وله ابتداءٌ في المصاعدة ووقوف على غاية وهبوطٌ في التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال‏.‏

والحبّ اسمٌ واقع على المعنى الذي رسم به لا تفسير له غيره لأنه قد يقال‏:‏ إن المرء يحبُّ الله وإن الله جلّ وعزّ يحبّ المؤمن وإن الرجل يحبُّ ولده والولد يحبّ والده ويحبُّ صديقه وبلده وقومه ويحبُّ على أي جهة يريد ولا يسمَّي ذلك عشقاً‏.‏

فيعلم حينئذ أن اسم الحبّ لا يُكتفي به في معنى العشق حتّى تُضاف إليه العلل الأُخر إلاّ أنه ابتداء العشق ثم يتبعه حبُّ الهوى فربّما وافق الحقّ والاختيار وربّما عدل عنهما‏.‏

وهذه سبيل الهوى في الأديان والبلدان وسائر الأمور‏.‏

ولا يميل صاحبه عن حجّته واختياره فيما يهوى‏.‏

ولذلك قيل‏:‏ ‏"‏ عين الهوى لا تصدق ‏"‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ حبُّك الشيء يعمي ويصمّ ‏"‏‏.‏

يتخذون أديانهم أرباباً لأهوائهم‏.‏

وذلك أنَّ العاشق كثيراً ما يعشق غير النِّهاية في الجمال ولا الغاية في الكمال ولا الموصوف بالبراعة ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى ولا يسمَّيان عشقاً فيكون ذلك في الولد والصديق والبلد والصِّنف من اللِّباس والفرش والدوابّ‏.‏

فلم نر أحداً منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحه من حبّ بلده ولا ولده وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق‏.‏

وقد رأينا وبلغنا عن كثير ممن تلف وطال جُهده وضناه بداء العشق‏.‏

فعلم أنّه إذا أضيف إلى الحبّ والهوى المشاكلة أعني مشاكلة الطبيعة أي حبّ الرجال النساء وحبَّ النساء الرجال المركَّب في جميع الفحول والإناث من الحيوان صار ذلك عشقاً صحيحاً‏.‏

وإن كان ذلك عشقاً من ذكر لذكرٍ فليس إلا مشتقّاً من هذه الشهوة وإلاّ لم يسمَّ عشقاً إذا فارقت الشهوة‏.‏

ثم لم نره ليكون مستحكماً عند أوَّل لُقياه حتَّى يعقد ذلك الإلف وتغرسه المواظبة في القلب فينبت كما تنبت الحبّة في الأرض حتَّى تستحكم وتشتد وتثمر وربّما صار لها كالجذع السَّحوق والعمود الصُّلب الشديد‏.‏

وربما انعقف فصار فيه بوار الأصل‏.‏

فإذا اشتمل على هذه العلل صار عشقاً تاماً‏.‏

ثم صارت قلّة العيان تزيد فيه وتوقد ناره والانقطاع يسعِّره حتى يذهل وينهك البدن ويشتغل القلب عن كلِّ نافعة ويكون خيال المعشوق نصب عين العاشق والغالب على فكرته وإذا طال العهد واستمرَّت الأيام نقص على الفرقة واضمحلَّ على المطاولة وإن كانت كلومه وندوبه لا تكاد تعفو آثارها ولا ترس رسومها‏.‏

فكذلك الظَّفر بالمعشوق يُسرع في حلّ عشقه‏.‏

والعلة في ذلك أنّ بعض الناس أسرع إلى العشق من بعض لاختلاف طبائع القلوب في الرِّقَّة والقسوة وسرعة الإلف وإبطائه وقلّة الشَّهوة وضعفها‏.‏

وقلَّ ما يظهر المعشوق عشقاً إلاَّ عداه بدائه ونكت في صدره وشغف فؤاده‏.‏

وذلك من المشاكلة وإجابة بعض الطبائع بعضاً وتوقان بعض الأنفس إلى بعض وتقارب الأرواح‏.‏

كالنائم يرى آخر ينام ولا نوم به فينعس وكالمتثائب يراه من لا تثاؤب به فيفعل مثل فعله قسراً من الطبيعة‏.‏

وقلَّ ما يكون عشقٌ بين اثنين يتساويان فيه إلاّ عن مناسبةٍ بينهما في الشَّبه في الخَلْق والخُلُق وفي الظَّرف أو في الهوى أو الطِّباع‏.‏

ولذلك ما نرى الحسن يعشق القبيح والقبيح يحبُّ الحسن ويختار المختار الأقبح على الأحسن وليس يرى الاختيار في غير ذلك فيتوهّم الغلط عليه لكنّه لتعارف الأرواح وازدواج القلوب‏.‏

ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن وسكون النفوس إليهنَّ وأنَّهنَّ يجمعن للإنسان من واللذَّات كلُّها إنمّا تكون بالحواسّ والمأكول والمشروب حظٌّ لحاسّة الذَّوق لا يشركها فيه غيرها‏.‏

فلو أكل الإنسان المسك الذي هو حظُّ الأنف وجده بشعاً واستقذره إذْ كان دماً جامداً‏.‏

ولو تنسَّم أرواح الأطعمة الطَّيبة كالفواكه وما أشبهها عند انقطاع الشهوة أو ألحَّ بالنَّظر إلى شيءٍ من ذلك عاد ضرراً‏.‏

ولو أدنى من سمعه كل طيِّب وطيب لم يجد له لذَّة‏.‏

فإذا جاء باب القيان اشترك فيه ثلاثة من الحواسِّ وصار القلب لها رابعاً‏.‏

فللعين النَّظر إلى القينة الحسناء والمشهِّية إذْ كان الحذق والجمال لا يكادان يجتمعان لمستمتع ومرتع وللسَّمع منها حظُّ الذي لا مؤونة عليه ولا تطرب آلته إلا إليه‏.‏

وللَّمس فيها الشَّهوة والحنين إلى الباه‏.‏

والحواسُّ كلُّها رواد للقلب وشهودٌ عنده‏.‏

وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنِّي حدَّق إليها الطَّرْف وأصغى نحوها السَّمع وألقى القلب إليها الملك فاستبق السّمع والبصر أيُّهما يؤدِّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه فيتوافيان عند حبَّة القلب فيُفرغان ما وعياه فيتولَّد منه مع السُّرور حاسَّة اللمس فيجتمع له في وقتٍ واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قطّ ولم تؤدِّ إليه الحواسُّ مثلها‏.‏

فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة لأنه روى في الأثر‏:‏ ‏"‏ إياكم والنَّظرة فإنّها تزْرع في القلب الشَّهوة ‏"‏‏.‏

وكفى بها لصاحبها فتنةً فكيف بالنَّظر والشهوة إذا صاحبهما السَّماع وتكانفتهما المغازلة‏.‏

إنَّ القينة لا تكاد تُخالص في عشقها ولا تُناصح في ودِّها لأنها مكتسبة ومجبولةٌ على نصب الحبالة والشَّرك للمتربِّطين ليقتحموا في أُنشوطتها فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللَّحظ وداعبتْه بالتبسُّم وغازلته في أشعار الغناء ولهجت باقتراحاته ونشطت للشُّرب عند شربه وأظهرت الشَّوق إلى طول مكثه والصَّبابة لسرعة عودته والحزن لفراقه‏.‏

فإذا أحسَّت بأنَّ سحرها قد نفذ فيه وأنّه قد تعقّل في الشَّرك تزيّدت فيما كانت قد شرعت فيه وأوهمته أنَّ الذي بها أكثر مما به منها ثم كاتبته تشكو إليه هواه وتقسم له أنَّها مدَّت الدواة بدمْعتها وبلَّت السِّحاءة بريقها وأنه شجبها وشجْوها في فكرتها وضميرها في ليلها ونهارها وأنَّها لا تريد سواه ولا تؤْثر أحداً على هواه ولا تنوي انحرافاً عنه ولا تريده لماله بل لنفسه ثم جعلت الكتاب في سُدْسِ طومار وختمتْه بزعفران وشدَّته بقطعة زير وأظهرت ستره عن مواليها ليكون المغرور أوثق بها‏.‏

وألحَّت في اقتضاء جوابه فإن أجيبت عنه ادّعت أنها قد صيَّرت الجواب سلوتها وأقامت الكتاب مقام رؤيته وأنشدت‏:‏ وصحيفةٍ تحكي الضَّمي ر مليحةٍ نغماتُها جاءت وقد قرح الفؤا د لطول ما استبْطاتُها فضحكت حين رأيتُها وبكيت حين قراتُها أظلوم نفسي في يدي ك‏:‏ حياتُها ووفاتُها ثم تغنت حينئذ‏:‏ باب كتاب الحبيب ندماني محدِّثي تارةً وريحاني أضحكني في الكتاب أوّلُه ثم تمادى به فأبكاني ثم تجنّتْ عليه الذُّنوب وتغايرتْ على أهله وحمتْه النظر إلى صواحباتها وسقتْه أنصاف أقداحها وجمَّشته بعضوض تفاحها وتحيَّةٍ من ريحانها وزوّدته عند انصرافه خُصْلةً من شعرها وقطعةً من مرطها وشظيَّةً من مضرابها وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةً وسُكَّراً وفي المهرجان خاتماً وتفّاحة ونقشت على خاتمها اسمه وأبدت عند العثرة اسمه وغنَّته إذا رأته‏:‏ نظر المحبِّ إلى الحبيب نعيمُ وصدوده خطرٌ عليك عظيمُ ثم أخبرته أنّها لا تنام شوقاً إليه ولا تتهنَّأ بالطعام وجداً به ولا تملُّ - إذا غاب - الدُّموع فيه ولا ذكرتْه إلا تنغَّصت ولا هتفت باسمه إلاّ ارتاعت وأنَّها قد جمعت قنِّينةً من دموعها من البكاء عليه وتنشد عند موافاة اسمه بيت المجنون‏:‏ أهوى من الأسماء ما وافق اسمها وأشبهه أو كان منه مُدانيا وعند الدُّعاء به قوله‏:‏ دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما أطار بليلى طائراً كان في صدري وربما قادها التمويه إلى التصحيح وربَّما شاركت صاحبها في البلوى حتَّى تأتي إلى بيته فتمكِّنه من القبلة فما فوقها وتُفرشه نفسها إن استحلَّ ذلك منها وربَّما جحدت الصناعة لترحض عليه وأظهرت العلّة والتاثت على الموالي واستباعت من السادة وادَّعت الحريّة احتيالاً لأن يملكها وإشفاقاً أن يجتاحه كثرة ثمنها ولا سيمّا إذا صادفْته حلو الشمائل رشيق الإشارة عذب اللَّفظ دقيق الفهم لطيف الحسّ خفيف الرُّوح‏.‏

فإن كان يقول الشعر ويتمثَّل به أو يترنَّم كان أحظى له عندها‏.‏

وأكثر أمرها قلّة المناصحة واستعمال الغدر والحيلة في استنطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه‏.‏

وربّما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنَّهم يتحامون من الاجتماع ويتغايرون عند الالتقاء فتبكي لواحدٍ بعين وتضحك للآخر بالأخرى وتغمز هذا بذاك وتعطي وأحداً سرَّها والآخر علانيتها وتوهمه أنَّها له دون الآخر وأنَّ الذي تُظهر خلاف ضميرها‏.‏

وتكتب إليهم عند الانصراف كتباً على نسخة واحدة تذكر لكلِّ واحدٍ منهم تبرُّمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم‏.‏

فلو لم يكن لإبليس شرك يقتل به ولا علم يدعو إليه ولا فتنةٌ يستهوي بها إلاّ القيان لكفاه‏.‏

وليس هذا بذمٍّ لهنَّ ولكنَّه من فرط المدح‏.‏

وقد جاء في الأثر‏:‏ ‏"‏ خير نسائكم السَّواحر الخلاَّبات ‏"‏‏.‏

وليس يُحسن هاروت وماروت وعصا موسى وسحرة فرعون إلاَّ دون ما يُحسنه القيان‏.‏

ثم إذا منعهنَّ الزِّنى غلبه عليهنَّ مخارج بيوت الكشاخنة ترميهنَّ في حُجور الزُّناة‏.‏

ثم هنَّ أمَّهات أولاد من قد بلغ بالحبِّ أنْ غفروا لهنَّ كلَّ ذنب وأغضوا منهنَّ على كلِّ عيب‏.‏

وإذا كنَّ في منزل رجلٍ من السُّوقة عذرتهنَّ وإذا انتقلن إلى منازل الملوك زال العُذْر‏.‏

والسبب فيه واحد والعلّة سواء‏.‏

وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً وإنمّا تكتسب الأهواء وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخانيث وبين الخلعاء والمجَّان ومن لا يسمع منه كلمة جدٍّ ولا يُرجع منه إلى ثقةٍ ولا دين ولا صيانة مروَّة‏.‏

وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً يكون الصَّوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات عدد ما يدخل في ذلك من الشِّعر إذا ضُرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيتٍ ليس فيها ذكر الله عن غفلة ولا ترهيب من عقاب ولا ترغيبٌ في ثواب وإنما بُنيت كلُّها على ذكر الزِّنى ثم لا تنفكُّ من الدراسة لصناعتها منكبَّةً عليها تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كلُّه تجميشٌ وإنشادهم مراودة‏.‏

وهي مضطرَّةٌ إلى ذلك في صناعتها لأنَّها إن جفتْها تفلَّتت وإنْ أهملتْها نقصتْ وإن لم تستفد منها وقفتْ‏.‏

وكلُّ واقف فإلى نقصانٍ أقرب‏.‏

وإنَّما فرق بين أصحاب الصناعات وبين من لا يُحسنها التزيُّدُ فيها والمواظبة عليها‏.‏

فهي لو أرادت الهُدى لم تعرفه ولو بغت الغفلة لم تقدر عليها وإنْ ثبَّتت حُجّة أبي الهُذيل فيما يجب على المتفكِّر زالت عنها خاصّته لأنّ فكرها وقلبها ولسانها وبدنها مشاغيل بما هي فيه وعلى حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها لمن يلي مجالستها عليه وعليها‏.‏

ومن فضائل الرجال منّا أنّ الناس يقصدونه في رحله بالرَّغبة كما يُقصد بها للخلفاء والعظماء فيُزار ولا يُكلَّف الزيارة ويُوصل ولا يُحمل على الصِّلة ويُهدى له ولا تُقتضى منه الهديَّة وتبيت العيون ساهرةً والعيون ساجمة والقلوب واجفة والأكباد متصدِّعة والأماني واقفة على ما يحويه ملكه وتضمُّه يده مما ليس في جميع ما يباع ويُشترى ويستفاد ويُقتنى بعد العُقد النَّفيسة‏.‏

فمن يبلغ شيئاً من الثمن ما بلغت حبشيّة جارية عوْن مائةُ ألف دينار وعشرون ألف دينار‏.‏

ويرسلون إلى بيت مالكها بصنوف الهدايا من الأطعمة والأشربة فإذا جاءوا حصلوا على النظر فالذي يقاسيه الناس من عيلة العيال ويفكِّرون فيه من كثرة عددهم وعظيم مؤونتهم وصعوبة خدمتهم هو عنه بمعزلٍ‏:‏ لا يهتمُّ بغلاء الدقيق ولا عوز السَّويق ولا عزَّة الزيت ولا فساد النبيذ قد كُفي حسرته إذا نزر والمصيبة فيه إذا حمض والفجيعة به إذا انكسر‏.‏

ثم يستقرض إذا أعسر ولا يُردُّ ويسأل الحوائج فلا يُمنع ويُلقي أبداً بالإعظام ويكنَّى إذا نودي ويُفدَّى إذا دُعي ويُحيَّا بطرائف الأخبار ويُطلع على مكنون الأسرار ويتغاير الرُّبطاء عليه ويتبادرون في برِّه ويتشاحُّون في ودّه ويتفاخرون بإيثاره‏.‏

ولا نعلم هذه الصِّفة إلاَّ للخلفاء‏:‏ يُعطَون فوق ما يأخذون وتُحصَّل بهم الرغائب ويدرك منهم الغنى‏.‏

والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العرض ويفوز بالعين ويعطي الأثر ويبيع الريّح الهابة بالذهب الجامد وفلذ اللجين والعسجد‏.‏

وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القداد لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سأله عفةً ونزاهة لتركه حذقاً واختياراً وشحاً على صناعته ودفعاً عن حريم ضيعته لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار عشقه ونقص من برِّه ورفده بقدر ما نقص من عشقه‏.‏

فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه‏.‏

ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويعنى بأخبار الرقباء ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء ويعرض عن الغمزة ويغفر القبلة ويتغافل عن الإشارة ويتعامى عن المكاتبة ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة ولا يُعاتبها على المبيت ولا يفضُّ ختام سرّها ولا يسألها عن خبرها في ليلها ولا يعبأ بأن تُقفل الأبواب ويُشدَّد الحجاب ويُعدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها‏.‏

ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير‏.‏

فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج‏.‏

ومن كان ذا مالٍ ولا جاه له استقرض منه بلا عينة‏.‏

ومن كان من السُّلطان بسببٍ كُفيت به عادية الشُّرط والأعون وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّرانيّ مثل سلمة الفُقَّاعي وحَمْدون الصِّحنائي وعليّ الفاميّ وحجر التَّور وفقْحة وابن دجاجة وحفْصويه وأحمد شعْرة وابن المجوسيّ وإبراهيم الغلام‏.‏

فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها‏!‏‏.‏

ولو يعلم هؤلاء المسمَّون فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيبُ منها وهو في ذلك ثقةٌ ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة‏.‏

فهل على مزوَّجة من حرج وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة‏.‏

هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمَّيناها في صدرها‏.‏

فإن كانت صحيحةً فقد أدّينا منها حقَّ الرواية والذين كتبوها أولى بما قد تقلَّدوا من الحجّة منها‏.‏

وإن كانت منحولة فمن قبل الطُّفيليِّين إذْ كانوا قد أقاموا الحجّة في اطِّراح الحشمة والمرتبطين ليسهِّلوا على المقيِّنين ما صنعه المقترفون‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إنَّ لها في كل صنفٍ من هذه الثلاثة الأصناف حظاً وسبباً فقد صدق‏.‏

وبالله سبحانه التوفيق‏.‏

تمت الرسالة في القيان من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ بعون الله تعالى ومنّه وتوفيقه وتأييده ومشيئته‏.‏

والله سبحانه المسئول في التجاوز عن الخطأ واللغو في نقل ذلك والمرتجى عفوه ومغفرته برحمته‏.‏

حول العشق

وليس كما يغتصب السكر ويعتسف الداذي ويفترس الزبيب ولكن بالتفتير والغمز والحيلة والختل وتحبيب النوم وتزيين الصمت‏.‏

وهذه صفة شرابك إلا ما لا نحيط به ونعوته تتبدل إلا ما يقبح منها الجهل به‏.‏

وخير الأشربة ما جمع المحمود من خصالها وخصال غيرها‏.‏

وشرابك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل وتمشيها في العظام ولونها الغريب وأخذ برد الماء ورقة الهواء وحركة النار وحمرة خدك إذا خجلت وصفرة لونك إذا فزعت وبياض عارضيك إذا ضحكت‏.‏

ولا تعجب أن كانت نهاية الهمة وغاية المنية فإن حسن الوجوه إذا وافق حسن القوام وشدة العقل وجودة الرأي وكثرة الفضل وسعة الخلق والمغرس الطيب والنصاب الكريم والظرف الناصع واللسان الفخم والمخرج السهل والحديث المونق مع الإشارة الحسنة والنبل في الجلسة والحركة الرشيقة واللهجة الفصيحة والتمهل في المحاورة والهز عند المناقلة والبديه البديع والفكر الصحيح والمعنى الشريف واللفظ المحذوف والإيجاز يوم الإيجاز والإطناب يوم الإطناب يفل الحز ويصيب المفصل ويبلغ بالعفو ما يقصرعنه الجهد كان أكثر لتضاعف الحسن وأحق بالكمال‏.‏

والحمد لله‏.‏

وإن التاج بهي وهو في رأس الملوك أبهى والياقوت الكريم حسن وهو في جيد المرأة الحسناء أحسن والشعر الفاخر حسن وهو من في الأعرابي أحسن‏.‏

فإن كان من قول المنشد وقريضه ومن نحته وتحبيره فقد بلغ الغاية وأقام النهاية‏.‏

وهذا الشراب حسن وهو عندك أحسن والهدية منه شريفة وهي منك أشرف‏.‏

وإن كنت قدرت أني إنما طلبته منك لأشربه أو لأسقيه أو لأهبه أو لأتحساه في الخلا أو أديره في الملا أو لأنافس فيه الأكفاء وأجتر زيادة الخلطاء أو لأبتذله لعيون الندماء أو أعرضه لنوائب الأصدقاء فقد أسأت بي الظن وذهبت من الإساءة بي في كل فن وقصرت به فهو وإن ظننت أني إنما أريده لأطرف به معشوقة أو لأستميل به هوى ملك أو لأغسل به أوضار الأفئدة أو أداوي به خطايا الأشربة أو لأجلو به الأبصار العليلة وأصلح به الأبدان الفاسدة أو لأتطوع به على شاعر مفلق أو خطيب مصقع أو أديب مدقع ليفتق لهم المعاني وليخرج المذاهب ولما في جانبهم من الأجر وفي أعناقهم من الشكر ولينفضوا ما قالت الشعراء في الحمد وليرتجعوا ما شاع لهم من الذكر فإني أريد أن أضع من قدرها وأن أكسر من بالها فقد تاهت وتيه بها‏.‏

أو لأن أتفاءل برؤيته وأتبرك بمكانه وآنس بقربه أو لأشفي به الظماء أو أجعله إكسير أصحاب الكيمياء أو لأن أذكرك كلما رأيته وأداعبك كلما قابلته أو لأجتلب به اليسر وأنفي العسر‏.‏

ولأنه والفقر لا يجتمعان في دار ولا يقيمان في ربع‏.‏

ولأتعرف به حسن اختيارك وأتذكر به جودة اجتبائك‏.‏

أو لأن أستدل به على خالص حبك وعلى معرفتك بفضلي وقيامك بواجب حقي فقد أحسنت بي الظن وذكرت من الإحسان في كل فن‏.‏

بل هو الذي أصونه صيانة الأعراض وأغار عليه غيرة الأزواج‏.‏

واعلم أنك إن أكثرت لي منه خرجت إلى الفساد وإن أقللت أقسمت على الاقتصاد‏.‏

وأنا رجل من بني كنانة وللخلافة قرابة ولي فيها شفعة وهم بعد جنس وعصبة فأقل ما أصنع إن اكترثت لي منه أن أطلب الملك وأقل ما يصنعون بي أن أنفى من الأرض‏.‏

فصل من صدر كتابه في طبقات المغنين

ثم إنا وجدنا الفلاسفة المتقدمين في الحكمة المحيطين بالأمور معرفة ذكروا أن أصول الآداب التي منها يتفرع العلم لذوي الألباب أربعة‏:‏ فمنها النجوم وبروجها وحسابها الذي يعرف به الأوقات والأزمنة وعليها مزاج الطبائع وأيام السنة‏.‏

ومنها الهندسة وما اتصل بها من المساحة والوزن والتقدير وما أشبه ذلك‏.‏

ومنها الكيمياء والطب اللذان بهما صلاح المعاش وقوام الأبدان وعلاج الأسقام وما يتشعب من ذلك‏.‏

ومنها اللحون ومعرفة أجزائها وقسمها ومقاطعها ومخارجها ووزنها حتى يستوي على الإيقاع ويدخل في الوتر وغير ذلك مما اقتصرنا من ذكره على أسمائه وجمله اجتناباً للتطويل وتوخياً للاختصار‏.‏

وقصدنا للأمر الذي إليه انتهينا وإياه أردنا‏.‏

والله الموفق وهو المستعان‏.‏

ولم يزل أهل كل علم فيما خلا من الأزمنة يركبون منهاجه ويسلكون طريقه ويعرفون غامضه ويسهلون سبيل المعرفة بدلائله خلا الغناء فإنهم لم يكونوا عرفوا علله وأسبابه ووزنه وتصاريفه وكان علمهم به على الهاجس وعلى ما يسمعون من الفارسية والهندية إلى أن نظر الخليل البصري في الشعر ووزنه ومخارج ألفاظه وميز ما قالت العرب منه وجمعه وألفه ووضع فيه الكتاب الذي سماه العروض وذلك أنه عرض جميع ما روي من الشعر وما كان به عالماً على الأصول التي رسمها والعلل التي بينها فلم يجد أحداً من العرب خرج منها ولا قصر دونها‏.‏
فلما أحكم وبلغ منه ما بلغ أخذ في تفسير النغم واللحون فاستدرك منه شيئاً ورسم له رسماً احتذى عليه من خلفه واستتمه من عني به‏.‏

وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي أول من حذا حذوه وامتثل هديه واجتمعت له في ذلك آلات لم تجتمع للخليل بن أحمد قبله منها معرفته بالغناء وكثرة استماعه إياه وعلمه بحسنه من قبيحه وصحيحه من سقيمه‏.‏

ومنها حذقه بالضرب والإيقاع وعلمه بوزنها‏.‏

وألف في ذلك كتباً معجبة وسهل له فيها ما كان مستصعباً على غيره فصنع الغناء بعلم فاضل وحذق راجح ووزن صحيح وعلى أصل مستحكم له دلائل صحيحة وواضحة وشواهد عادلة‏.‏

ولم نر أحداً وجد سبيلاً إلى الطعن عليه والعيب له‏.‏

وصنع كثير من أهل زمانه أغاني كثيرة بهاجس طبعهم والاتباع لمن سبقهم فبعض أصاب وجه ووجدنا لكل دهر دولة للمغنين يحملون الغناء عنهم ويطارحون به فتيان زمانهم وجواري عصرهم‏.‏

وكان يكون في كل وقت من الأوقات قوم يتنادمون ويستحسنون الغناء ويميزون رديه من جيده وصوابه من خطائه ويجمعون إلى ذلك محاسن كثيرة في آدابهم وأخلاقهم وروائهم وهيئاتهم فلم نجد هذه الطبقة ذكروا‏.‏

ووجدنا ذكر الغناء وأهله باقياً‏.‏

وخصصنا في أيامنا وزماننا بفتية أشراف وخلان نظاف انتظم لهم من آلات الفتوة وأسباب المروءة ما كان محجوباً عن غيرهم معدوماً من سواهم فحملني الكلف والمودة لهم والسرور بتخليد فخرهم وتشييد ذكرهم والحرص على تقويم أود ذي الأود منهم حتى يلحق بأهل الكمال في صناعته والفضل في معرفته على تمييز طبقة طبقة منهم وتسمية أهل كل طبقة بأوصافهم وآلاتهم وأدواتهم والمذاهب التي نسبوا إليها أنفسهم واحتملهم إخوانهم عليها‏.‏

وخلطنا جداً بهزل ومزجنا تقريعاً بتعريض ولم نرد بأحد مما سمينا سوءاً ولا تعمدنا نقداً ولا تجاوزنا حداً‏.‏

ولو استعملنا غير الصدق لفضلنا قوماً وحابينا آخرين‏.‏

ولم نفعل ذلك تجنباً للحيف وقصداً للإنصاف‏.‏

وقد نعلم أن كثيراً منهم سيبالغ في الذم ويحتفل في الشتم ويذهب في ذلك غير مذهبنا‏.‏

وما أيسر ذلك فيما يجب من حقوق الفتيان وتفكيههم والله حسيب من ظلم عليه نتوكل وبه ولم نقصد في وصف من وصفنا من الطبقات التي صنفنا منهم إلا لمن أدركنا من أهل زماننا ممن حصل بمدينة السلام إذ من خرج عنها ونزع إلى الفتوة بعد التوبة وإلى أخلاق الحداثة بعد الحنكة وذلك في سنة خمس عشرة ومائتين‏.‏

فرحم الله أمراً أحسن في ذلك أمرنا وحذا فيه حذونا ولم يعجل إلى ذمنا ودعا بالمغفرة والرحمة لنا‏.‏

وقد تركنا في كل باب من الأبواب التي صنفنا في كتابنا فرجاً لزيادة إن زادت ولاحقة إن لحقت أو نابتة إن نبتت‏.‏

ومن عسى أن ينتقل به الحذق من مرتبته إلى ما هو أعلى منها أو يعجز به القصور عما هو عليه منها إلى ما هو دونها إلى مكانه الذي إليه نقله ارتفاع درجة أو انحطاطها ومن لعلنا نصير إلى ذكره ممن عزب عنا ذكره وأنسينا اسمه ولم يحط علمنا به فنصيره في موضعه ونلحقه بأصحابنا‏.‏

وليس لأحد أن يثبت شيئاً من هذه الأصناف إلا بعلمنا ولا يستبد بأمر فيه دوننا‏.‏

ويورد ذلك علينا فنمتحنه ونعرفه بما عنده ويصير إلى ترتيبه في المرتبة التي يستحقها والطبقة التي يحتملها‏.‏

فلما استتب لنا الفراغ مما أردنا من ذلك خطر ببالنا كثرة العيابين من الجهال برب العالمين فلم نأمن أن يسرعوا بسفه رأيهم وخفة أحلامهم إلى نقض كتابنا وتبديله وتحريفه عن مواضعه وإزالته عن أماكنه التي عليها رسمنا وأن يقول كل امرىء منهم في ذلك على حاله وبقدر هواه ورأيه وموافقته ومخالفته والميل في ذلك إلى بعض والذم لطبقة والحمد لأخرى فيهجنوا كتابنا ويلحقوا بنا ما ليس من شأننا‏.‏

وأحببنا أن نأخذ في ذلك بالحزم وأن نحتاط فيه لأنفسنا ومن ضمه كتابنا ونبادر إلى تفريق نسخ منها وتصييرها في أيدي الثقات والمستبصرين الذين كانوا في هذا الشأن ثم ختموا ذلك بالعزلة والتوبة منه كصالح بن أبي صالح وكأحمد بن سلام وصالح مولى رشيدة‏.‏

ففعلنا ذلك وصيرناه أمانة في أعناقهم ونسخة باقية في أيديهم ووثقنا بهم أمناء ومستودعين وحفظة غير مضيعين ولا متهمين‏.‏
وعلمنا أنهم لا يدعون صيانة ما استودعوا وحفظ ما عليه ائتمنوا‏.‏

فإن شيب به شوب يخالفه وأضيف إليه ما لا يلائمه رجعنا إلى النسخة المنصوبة والأصول المخلدة عند ذوي الأمانة والثقة واقتصرنا عليها واستعلينا بها على المبطلين ودفعنا بها إدغال المدغلين وتحريف المحرفين وتزيد المتزيدين إن شاء الله‏.‏

ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

إنا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى والهوى الذي يتفرع منه العشق والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمداً على فراشه‏.‏

وأول ذلك إدخال الضيم على مروءته واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته‏.‏

ولم نطنب مع ذلك في ذكر ما يتشعب من أصل الحب من الرحمة والرقة وحب الأموال النفيسة والمراتب الرفيعة وحب الرعية للأئمة وحب المصطنع لصاحب الصنيعة مع اختلاف مواقع ذلك من النفوس ومع تفاوت طبقاته في العواقب احتجنا إلى الاعتذار من ذكر العشق المعروف بالصبابة والمخالفة على قوة العزيمة لنجعل ذلك القدر جنة دون من حاول الطعن على هذا الكتاب وسخف الرأي الذي دعا إلى تأليفه والإشادة بذكره‏.‏

إذا كانت الدنيا لا تنفك من حاسد باغ ومن قائل متكلف ومن سامع طاعن ومن منافس مقصر‏.‏

كما أنها لا تنفك من ذي سلامة متسلم ومن عالم متعلم ومن عظيم الخطر حسن المحضر شديد المحاماة على حقوق الأدباء قليل التسرع إلى أعراض العلماء‏.‏

وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب‏.‏

وليس كل حب يسمى عشقاً وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار كما أن السرف اسم لما زاد على المقدار الذي يسمى جوداً والبخل اسم لما نقص عن المقدار الذي يسمى اقتصاداً والجبن اسم لما قصر عن المقدار وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء مستعمل في بيان الحكماء‏.‏

وقد قال عروة بن الزبير‏:‏ ‏"‏ والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء ‏"‏‏.‏

وذكر بعض الناس رجلاً كان مدقعاً محروماً ومنحوس الحظ ممنوعاً فقال‏:‏ ‏"‏ ما رأيت أحداً عشق الرزق عشقه ولا أبغضه الرزق بغضه‏!‏ ‏"‏ فذكر الأول عشق الشرف وليس الشرف بامرأة وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع لجميع الحاجات‏.‏

وقد يستعمل الناس الكناية وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة يريدون أن يظهر المعنى بألين اللفظ إما تنويهاً وإما تفضيلاً كما سموا المعزول عن ولايته مصروفاً والمنهزم عن عدوه منحازاً‏.‏

نعم حتى سمى بعضهم البخيل مقتصداً ومصلحاً وسمي عامل الخراج المتعدي بحق السلطان مستقصياً‏.‏

ولما رأينا الحب من أكبر أسباب جماع الخير ورأينا البغض من أكبر أسباب الشر أحببنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير ليفرق بينه وبين أبواب السبب الجالب للشر حتى نذكر أصولهما وعللهما الداعية إليهما والموجبة لكونهما‏.‏

فتأملنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكمل لذاتها ظفر المحب بحبيبه والعاشق بطلبته ووجدنا شقوة الطالب المكدي وغمه في وزن سعادة الطالب المنجح وسروره ووجدنا العشق كلما كان أرسخ وصاحبه به أكلف فإن موقع لذة الظفر منه أرسخ وسروره بذلك أبهج‏.‏

فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بعدوه المرصد أحسن من موقع لذة الظفر من العاشق الهائم بعشيقته‏.‏

قلنا‏:‏ إنا قد رأينا الكرام والحلماء وأهل السؤدد والعظماء ربما جادوا بفضلهم من لذة شفاء الغيظ ويعدون ذلك زيادة في نبل النفس وبعد الهمة والقدر‏.‏

ويجودون بالنفيس من الصامت والناطق وبالثمين من العروض‏.‏

وربما خرج من جميع ماله وآثر طيب الذكر على الغني واليسر‏.‏

ولم نر نفس العاشق تسخو بمعشوقه ويجود بشقيقة نفسه لوالد ولا لولد بار ولا لذي نعمة سابغة يخاف سلبها وصرف إحسانه عنه بسببها‏.‏

ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال به في جنب ما يهبون للنساء‏.‏

حتى كأن العطر والصبغ والخضاب والكحل والنتف والقص والتحذيف والحلق وتجويد الثياب وتنظيفها والقيام عليها وتعهدها مما لم يتكلفوه إلا لهن ولم يتقدموا فيه إلا من أجلهن وحتى كأن الحيطان الرفيعة والأبواب الوثيقة والستور الكثيفة والخصيان والظؤورة والحشوة والحواضن لم تتخذ إلا للصون لهن والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن‏.‏

وباب آخر‏:‏ وهو أنا لم نجد أحداً من الناس عشق والديه ولا ولده ولا من عشق مراكبه ومنزله كما رأيناهم يموتون من عشق النساء الحرام‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ‏"‏‏.‏

فقد ذكر تبارك وتعالى جملة أصناف ما خولهم من كرامته ومن عليهم من نعمته ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء‏.‏

ولقد قدم ذكرهن في هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فقد نجد الرجل الحليم والشيخ الركين يسمع الصوت المطرب من المغني المصيب فينقله ذلك إلى طبع الصبيان وإلى أفعال المجانين فيشق جيبه وينقض حبوته ويفدي غيره ويرقص كما يرقص الحدث الغرير والشاب السفيه‏.‏

ولم نجد أحداً فعل ذلك عند رؤية معشوقه‏.‏

قلنا‏:‏ أما واحدة فإنه لم يكن ليدع التشاغل بشمها وبرشفها واحتضانها وتقبيل قدميها والمواضع التي وطئت عليها ويتشاغل بالرقص المباين لها والصراخ الشاغل عنها‏.‏

فأما حل الحبوة والشد حضراً عند رؤية الحبيبة فإن هذا مما لا يحتاج إلى ذكره لوجوده وكثرة استعمالهم له فكيف وهو إن خلا بمعشوقه لا يظن أن لذة الغناء تشغله بمقدار العشر من لذته بل ربما لم وعلى أن ذلك الطرب مجتاز غير لابث وظاعن غير مقيم ولذة المتعاشقين راكدة أبداً مقيمة غير ظاعنة‏.‏

وعلى أن الغناء الحسن من الوجه الحسن والبدن الحسن أحسن والغناء الشهي من الوجه الشهي والبدن الشهي أشهى‏.‏

وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية الناعمة الرخيمة‏.‏

وكم بين أن يفدى إذا شاع فيك الطرب مملوكك وبين أن يفدى أمتك وكم بين أن يسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله وبين فم تشتهي أن تصرف وجهك عنه‏.‏

وعلى أن الرجال دخلاء على النساء في الغناء كما رأينا رجالاً ينوحون فصاروا دخلاء على النوائح‏.‏

وبعد فأيما أملح وأحسن وأشهى وأغنج أن يغنيك فحل ملتف اللحية كث العارضين أو شيخ منخلع الأسنان مغضن الوجه ثم يغنيك إذا هو تغنى بشعر ورقاء بن زهير‏:‏ رأيت زهيراً تحت كلكل خالد فأقبلت أسعى كالعجول أبادر أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة أو كأنها خرطت من ياقوتة أو من فضة مجلوة بشعر عكاشة بن محصن‏:‏ من كف جارية كأن بناتها من فضة قد طرفت عنابا .

فصل منه

فأما الغناء المطرب في الشعر الغزل فإنما ذلك من حقوق النساء‏.‏

وإنما ينبغي أن تغني بأشعار الغزل والتشبيب والعشق والصبابة بالنساء اللواتي فيهن نطقت تلك الأشعار ويهن شبب الرجال ومن أجلهن تكلفوا القول في النسيب‏.‏

وبعد فكل شيء وطبقه وشكله ولفقه حتى تخرج الأمور موزونة معدلة ومتساوية مخلصة‏.‏

ولو ان رجلاً من أدمث الناس وأشدهم تلخيصاً لكلامهم ومحاسبة لنفسه ثم جلس مع امرأة لا تزن بمنطق ولا تعرف بحسن حديث ثم كان يعشقها لتناتج بينهما من الأحاديث ولتلاقح بينهما من المعاني والألفاظ ما كان لا يجري بين دغفل بن حنظلة وبين ابن لسان الحمرة‏.‏

وإنما هذا على قدر تمكن الغزل في الرجل‏.‏

فصل منه

والمرأة أيضاً أرفع حالاً من الرجل في أمور‏.‏

منها‏:‏ أنها التي تخطب وتراد وتعشق وتطلب وهي التي تفدى وتحمى‏.‏

قال عنبسة بن سعيد للحجاج بن يوسف‏:‏ أيفدي الأمير أهله قال‏:‏ والله إن تعدونني إلا شيطاناً والله لربما رأيتني أقبل رجل إحداهن‏!‏ وإنما يملك المولى من عبده بدنه فأما قلبه فليس له عليه سلطان‏.‏

والسلطان نفسه وإن ملك رقاب الأمة فالناس يختلفون في جهة الطاعة فمنهم من يطيع بالرغبة ومنهم من يطيع بالرهبة ومنهم من يطيع بالمحبة ومنهم من يطيع بالديانة‏.‏

وهذه الأصناف وإن كان أفضلها طاعة الديانة فإن تلك المحبة ما لم يمازجها هوىً لم تقو على صاحبها قوة العشق‏.‏

وفي الأثر المستفيض والمثل السائر‏:‏ ‏"‏ إن الهوى يعمي ويصم ‏"‏ فالعشق يقتل‏.‏

فصل منه

ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم منه وبالمشي إلى بيت الله وبصدقة ماله وعتق رقيقه‏.‏

فيسهل ذلك عليه ولا يأنف منه‏.‏

فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه وطار الغضب في دماغه ويمتنع ويعصي ويغضب ويأبى وإن كان المحلف سلطاناً مهيباً ولو لم يكن يحبها ولا يستكثر منها وكانت نفسها قبيحة المنظر دقيقة الحسب خفيفة الصداق قليلة النسب‏.‏

ليس ذلك إلا لما قد عظم الله من شأن الزوجات في صدور الأزواج‏.‏

فصل منه

في ذكر الولد وباب آخر‏:‏ وهو أنا لو خيرنا رجلاً بين الفقر أيام حياته وبين أن يكون ممتعاً بالباه أيام حياته لاختار الفقر الدائم مع التمتع الدائم‏.‏

وليس شيء مما يحدث الله لعباده من أصناف نعمه وضروب فوائده أبقى ذكراً ولا أجل خطراً من أن يكون للرجل ابن يكون ولي بناته وساتر عورة حرمه وقاضي دينه ومحيي ذكره مخلصاً في الدعاء له بعد موته وقائماً بعده في كل ما خلفه مقام نفسه‏.‏

فمن أقل أسفاً على ما فارق ممن خلف كافياً مجرباً وحائطاً من وراء المال موفراً ومن وراء الحرم حامياً ولسلفه في الناس محبباً‏.‏

وقال رجل لعبد الملك بن مروان وقد ذكر ولد له‏:‏ ‏"‏ أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك وأرى بنيك فيك ما أراك في أبيك‏!‏ ‏"‏‏.‏

ونظر شيخ وهو عند المهلب إلى بنيه قد أقبلوا فقال‏:‏ ‏"‏ آنس الله بكم لاحقكم فوالله إن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم أسباط ملحمة ‏"‏‏.‏
وليست النعمة في الولد المحيي والخلف الكافي بصغيرة‏.‏

فصل منه

وباب آخر‏:‏ وهو أن الله تعالى خلق من المرأة ولداً من غير ذكر ولم يخلق من الرجل ولداً من غير أنثى‏.‏

فخص بالآية العجيبة والبرهان المنير المرأة دون الرجل كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر‏.‏

فصل منه في ذكر القرابات

وأما أنا فإني أقول‏:‏ إن تباغض الأقرباء عارض دخيل وتحابهم واطد أصيل والسلامة من ذلك أعم والتناصر أظهر والتصادق في المودة أكثر‏.‏

فلذلك القبيلة تنزل معاً وترحل معاً وتحارب من ناوأها معاً إلا الشاذ النادر كخروج غني وباهلة من غطفان وكنزول عبس في بني عامر وما أشبه ذلك‏.‏

وإلا فإن القرابة يد واحدة على من ناوأهم وسيف واحد على من عاداهم وما صلاح شأن العشائر إلا بتقارب سادتهم في القدر وإن تفاوتوا في الرياسة والفضل كما قال في الأثر المستفيض‏:‏ ‏"‏ لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا تقاربوا هلكوا ‏"‏‏.‏

وحال العامة في ذلك كحال الخاصة‏.‏

فصل منه وقضية واجبة

أن الناس لا يصلحهم إلا رئيس واحد يجمع شملهم ويكفيهم ويحميهم من عدوهم ويمنع قويهم من ضعيفهم‏.‏

وقليل له نظام أقوى من كثير نشر لا نظام لهم ولا رئيس عليهم‏.‏

إذ قد علم الله أن صلاح عامة البهائم في أن يجعل لكل جنس منها فحلاً يوردها الماء ويصدرها وتتبعه إلى الكلأ كالعير في العانة والفحل من الإبل في الهجمة وكذلك النحل العسالة والكراكي وما يحمي الفرس الحصان الحجور في المروج فجعل منها رءوساً متبوعة وأذناباً تابعة‏.‏

ولو لم يقم الله للناس الوزعة من السلطان والحماة من الملوك وأهل الحياطة عليهم من الأئمة لعادوا نشراً لا نظام لهم ومستكلبين لا زاجر لهم ولكان من عز بز ومن قدر قهر ولما زال اليسر راكداً والهرج ظاهراً حتى يكون التغابن والبوار وحتى تنطمس منهم الآثار ولكانت الأنعام طعاماً للسباع وكانت عاجزة عن حماية أنفسها جاهلة بكثير من مصالح شأنها‏.‏

فوصل الله تعالى عجزها بقوة من أحوجه إلى الاستمتاع بها ووصل جهلها بمعرفة من عرف كيف وجه الحيلة في صونها والدفاع عنها‏.‏

وكذلك فرض على الأئمة أن يحوطوا الدهماء بالحراسة لها والذياد عنها وبرد قويها عن ضعيفها وجاهلها عن عالمها وظالمها عن مظلومها وسفيهها عن حليمها‏.‏

فلولا السائس ضاع المسوس ولولا قوة الراعي لهلكت الرعية‏.‏

وانفراد السيد بالسيادة كانفراد الإمام بالإمامة‏.‏

وبالسلامة من تنازع الرؤساء تجتمع الكلمة وتكون الألفة ويصلح شأن الجماعة‏.‏

وإذا كانت الجماعة انتهت الأعداء وانقطعت الأهواء‏.‏

فصل منه

ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل‏:‏ إن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر ولكنارأينا ناساً يزرون عليهن أشد الزراية ويحتقرونهن أشد الاحتقار ويبخسونهن أكثر حقوقهن‏.‏

وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن‏.‏

ولولا أن ناساً يفخرون بالجلد وقوة المنة وانصراف النفس عن حب النساء حتى جعلوا شدة حب الرجل لأمته وزوجته وولده دليلاً على الضعف وباباً من الخور لما تكلفنا كثيراً مما شرطناه في هذا الكتاب‏.‏

فصل منه

كما نحب أن يخرج هذا الكتاب تاماً ويكون للأشكال الداخلة فيه جامعاً وهو القول فيما للذكور والإناث في عامة أصناف الحيوان وما أمكن من ذلك حتى يحصل ما لكل جنس منها من الخصال المحمودة والمذمومة‏.‏

ثم يجمع بين المحاسن منها والمساوىْ حتى يستبين لقارىء الكتاب نقصان المفضول من رجحان الفاضل بما جاء في ذلك من الكتاب الناطق والخبر الصادق والشاهد العدل والمثل السائر‏.‏

حتى يكون الكتاب عربياً أعرابياً وسنياً جماعياً وحتى يجتنب فيه العويص والطرق المتوعرة والألفاظ المستنكرة وتلزيق المتكلفين وتلفيق أصحاب الهواء من المتكلمين حتى نظرنا لمن لا يعلم مقادير ما استخزنها الله من المنافع وغشاها من البرهانات وألزمها من الدلالة عليه وأنطقها به من الحجة له‏.‏

فمنع من ذلك فرط الكبرة وإفراط العلة وضعف المنة وانحلال القوة‏.‏

فلما وافق هذا الكتاب منا هذه الحال وألفى قلوبنا على هذه الأشغال اجتنبنا أن نقصد من جميع ذلك إلى فرق ما بين الرجل والمرأة‏.‏

فلما اعتزمنا على ما ابتدأنا به وجدناه قد اشتمل على أبواب يكثر عددها وتبعد غايتها فرأينا والله الموفق أن نقتصر منه على ما لا يبلغ بالمستمع إلى السآمة وبالمألوف إلى مجاوزة القدر‏.‏

وليس ينبغي لكتب الآداب والرياضيات أن يحمل أصحابها على الجد الصرف وعلى العقل وللصبر غاية وللاحتمال نهاية‏.‏

ولا بأس بأن يكون الكتاب موشحاً ببعض الهزل‏.‏

وعلى أن الكتاب إذا كثر هزله سخف كما أنه إذا كثر جده ثقل‏.‏

ولا بد للكتاب من أن يكون فيه بعض ما ينشط القارىء وينفي النعاس عن المستمع‏.‏

فمن وجد في كتابنا هذا بعض ما ذكرنا فليعلم أن قصدنا في ذلك إنما كان على جهة الاستدعاء لقلبه والاستمالة لسمعه وبصره‏.‏
والله تعالى نسأل التوفيق‏.‏

فصل منه في ذكر العشق

ورجلان من الناس لا يعشقان عشق الأعراب‏:‏ أحدهما الفقير المدقع فإن قلبه يشغل عن التوغل فيه وبلوغ أقصاه‏.‏

والملك الضخم الشأن لأن في الرياسة الكبرى وفي جواز الأمر ونفاذ النهي وفي ملك رقاب الأمم ما يشغل شطر قوى العقل عن التوغل في الحب والاحتراق في العشق‏.‏

فصل منه

كثيراً ما يعتري العشاق والمحبين غير المحترقين كالرجل تكون له جارية وقد حلت من قلبه محلاً وتمكنت منه تمكناً ولا يجتث أصل ذلك الحب الغضبة تعرض وكثرة التأذي بالخلاف يكون منها فيجد الفترة عنها في بعض هذه الحالات التي تعرض فيظن أنه قد سلا أو يظن أنه في عزائه عنها على فقدها محتملاً فيبيعها إن كانت أمة أو يطلقها إن كانت زوجة فلا ينشب ذلك الغضب أن يزول وذلك الأذى أن ينسى فتتحرك له الدفائن و يثمر ذلك الغرس فيتبعها قلبه فإما أن يسترجع الأمة من مبتاعها بأضعاف ثمنها أو يسترجع الزوجة بعد أن نكحت‏.‏

فإن تصبر وأمكنه الصبر لم يزل معذباً وإن أطاع هواه واحتمل المكروه فهذا هو العقابيل والنكس‏.‏

فليحذر الحازم الفترة في حب حبيبه والغضبة التي تنسيه عواقب أمره‏.‏

فصل منه

قال ابراهيم بن السندي‏:‏ حدثني عبد الملك بن صالح قال‏:‏ بينا عيسى بن موسى قد خلا بنفسه وهو قد كان استكثر من النساء حتى انقطع إذ مرت به جارية كأنها جان وكأنها جدل عنان وكأنها جمارة وكأنها قضيب فضة فتحركت نفسه وخاف أن تخذله قوته ثم طمع في القوة لطول الترك واجتماع الماء فلما صرعها وجلس منها ذلك المجلس خطر على باله لو عجز كيف يكون حاله فلما فكر فتر فأقبل كالمخاطب لنفسه فقال‏:‏ إنك لتجلسيني هذا المجلس وتحمليني على هذا المركب ثم تخذليني هذا الخذلان وتغشيني مثل هذا الذل ولولا حيرة الخجل لم أستعمل ما لا يقتل‏!‏ وذلك أنه حين رأى أن أبلغ الحيل في توهيمها أن العجز لم يكن من قبله أن يقول لها‏:‏ تعرضين لي وأنت تفلة ثم لا ترخين باديك ولا تستهدفين لسيدك ولا تعينين على نفسك حتى كأنك عند عبد يشبهك أو سوقة لا يقدر إلا على مثلك‏.‏

أما لو كنت من بنات ملوك العجم لألفاك سيدك على أجود صنعة وعلى أحسن طاعة إذ كل رجل ينبسط للتمتع مع التفل‏.‏

فصل منه

ولم أسمع ولم أقرأ في الأحاديث المولدة في شأن العشاق وما صنع العشق في القلوب والأكباد والأحشاء والزفرات والحنين وفي التدليه والتوليه متى تستعر الدمعة ومتى يورث العين الجمود‏.‏

فصل منه

ونحن وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة في جملة القول في الرجال والنساء أكثر وأظهر فليس ينبغي لنا أن نقصر في حقوق المرأة‏.‏

وليس ينبغي لمن عظم حقوق الآباء أن يصغر حقوق الأمهات وكذلك الإخوة والأخوات والبنون والبنات‏.‏

وأنا وإن كنت أرى أن حق هذا أعظم فإن هذه أرحم‏.‏

فصل من احتجاجه للإماء

قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجال من أكثر المهيرات‏:‏ أن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل منها كل شيء وعرفه ما خلا حظوة الخلوة فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة‏.‏

والحرة إنما يستشار في جمالها النساء والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال وموافقتهن قليلاً ولا كثيراً‏.‏

والرجال بالنساء أبصر‏.‏

وإنما تعرف المرأة من المرأة ظاهر الصفة وأما الخصائص التي تقع بموافقة الرجال فإنها لا تعرف ذلك‏.‏

وقد تحسن المرأة أن تقول‏:‏ كأن أنفها السيف وكأن عينها عين غزال وكأن عنقها إبريق فضة وكأن ساقها جمارة وكأن شعرها العناقيد وكأن أطرافها المداري وما أشبه ذلك‏.‏

وهناك أسباب أخر بها يكون الحب والبغض‏.‏

فصل منه

وقد علم الشاعر وعرف الواصف أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الظبية وأحسن من البقرة وأحسن من كل شيء تشبه به ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن ما يجدون‏.‏

ويقول بعضهم‏:‏ كأنها الشمس وكأنها القمر‏!‏ والشمس وإن كانت بهية فإنما هي شيء واحد وفي وجه الجارية الحسناء وخلقها ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب‏.‏

ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أحسن من عين البقرة وأن جيدها أحسن من جيد الظبية والأمر فيما بينهما متفاوت ولكنهم لو لم يفعلوا هذا وشبهه لم تظهر بلاغتهم وفطنتهم‏.‏

فصل منه

ورأيت أكثر الناس من البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة هذا الأمر يقدمون المجدولة والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة‏.‏

ولا بد من جودة القد وحسن الخرط واعتدال المنكبين واستواء الظهر ولا بد أن تكون كاسية العظام بين الممتلئة والقضيفة‏.‏

وإنما يريدون بقولهم‏:‏ مجدولة جودة العصب وقلة الاسترخاء وأن تكون سليمة من الزوائد والفضول‏.‏

والتثني في مشيها أحسن ما فيها ولا يمكن ذلك الضخمة والسمينة وذات الفضول والزوائد‏.‏

على أن النحافة في المجدولة أعم وهي بهذا المعنى أعرف تحبب على السمان الضخام وعلى الممشوقات والقضاف كما يحبب هذه الأصناف على المجدولات‏.‏

ووصفوا المجدولة بالكلام المنثور فقالوا‏:‏ ‏"‏ أعلاها قضيب وأسفلها كثيب ‏"‏‏.